دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
شجرة اللهيب:
|
شجرة اللهيب:
ها نحن نلتقى هذا اللقاء الرسمى الاول بعد محاولات كثيرة باءت بالفشل فى نفس هذا المكان المألوف لدى الموظفين وبيننا "نص" مكتوب بخط يده، وهذه الروائح العبقة قيبدو كأنه مكان نطرقه لاول مرة.
كانت أكواب الشاى الاحمر التى وضع بينها (النص) على المنضدة التى جلسنا عليها، تبعث بخارا ناعما برائحة النعناع تندثر سحبه بمجرد ان تلفحه أنسام نهاية خريف ذلك العام، وهى تعبر المناضد المتناثرة فى فناء الكاقتيريا الخلفى ذو الجدران القصبية، والأعمدة الخشبية، حيث خيل الى ان الشجرة الضخمة التى تتكىء عليها قد ألقت بكل ما أنجبت خلال العام من أوراق تحت أقدام الزبائن اذا لم يكن ذلك الصبى العامل يلاحقها بمكنسته اثناء خدمة الزبائن بالشاى والفطور والقهوة والقفشات. رائحة صفق الشجر والفول واللحوم والشواء والشاى المنعنع ما زالت تذكرنى برائحة ذلك "النص" الذى التقينا من أجل مناقشته سويا والعمل على تطويره لفكرة جديدة: اذاعة، مسرح تلفزيون ، سينما.
فهمت منه اثناء حديثى معه انه حرص على ان لا يمس هذا النص شخص آخر، لانه يعنى له الكثير. تساءلت ان كان هل هناك شىء جديد أراد قوله، قال انه نص قديم ولكنه منسى. لم أفهم.
أخذ رشفة أخرى من الشاى مما حفزنى على أن آخذ رشفتى ايضا، وضعت الكوب على المنضدة وأظننى حفزته على وضع كوبه ايضا. كنأ نقوم بهذه الاشياء بتلقائية غير مدبرة.
وفجأة اخذ فى التداعى بدون مشورة من التلقائية وتحدث بحنكة الكاتب:
"هى أمى"
"جميلة وصغيرة" "تزوجت رجلا يكبر عمره عمر ابيها متزوج من أربعة زوجات، أمى كانت اصغرهن" "لا أتذكر ملامحه جيدا" " كانت سمراء وناعمة، جميلة بحسابات القرية، لها ضفيرتين طويلتين تتدليان فى صدرها، ووجه حازم وحزين، على الرغم من ابتسامة غامضة فى عينيها، وكأن عيناها لا تنتميان الى حزنها الذى يبدو فى زمة شفتيها وهى تقوم بالاعمال."
هكذا وضعها معلقة "الأعمال"..اشارة لأعمال كثيرة تقوم بها النساء فى القرى عله ظن أنى اعلمها جيدا.
أما انا فحين كان يصف وجه أمه وملامحها، كنت أستجمع بعض هذه الملامح من وجهه هو. لاحظت ملاحته لاول مرة، شعره الناعم الاسود، وعيونه التى تكاثفت حولها الرموش حتى صارت وكأنها ضاحكة. قلت له:"أظنك تشبهها".
هز كتفيه وواصل:
"أعمال كثيرة تقوم بها أمى ولا يبدو انها تهم احدا الا هى. كان أبى، عندما يعود لمنزلنا بعد المرور على زوجاته الاخريات، يذهب الى الجامع ويعود الى البيت فيتناول الغذاء ويذهب الى الجامع مرة أخرى، وعندما يعود فى المساء يتناول طعام العشاء ثم يذهب للنوم. لا أدرى لماذا كانت أمى ترتجف كلما عاد من الجامع لتناول الوجبات، ولكنى أعرف أنى كنت ارتجف لأنه يسمعنى كل ما لا أود سماعه.
أما هى فقد كانت تدثرنى بين أثوابها المختلطة برائحة الدهن والصندل كلما وجدتنى انتحب فى فراشى فى ظلمة الحجرة، وأظننى كنت اسمعها تنتحب هى الاخرى، فى صمت ومهانة.
لا أدرى مالذى كان يحدث هناك فى الغرفة المجاورة، التى تشبه مسجدا مصغرا ،والتى لا يغادرها أبى ، لكنى كثيرا ما أسمع حوارا لا أحب لهجته، لا أدرى لماذا كنت أقول فى قرارة نفسى وأنا فى هذه السن الصغيرة على اثر سماع هذه المعارك الكلامية تمتمة موجهة له بأن "أمى امرأة شريفة".
كثيرا ما تعود وهى تحمل الفانوس فى يدها، فيرسم ضوؤه لوحة كبيرة من الظلال فى الحائط لسيقانها الجميلة وهى تتقاطع فى حركة المشى، ثم تضعه فى منتصف الغرفة، ثم تدلى شريطه الملتهب لأسفل حتى يصبح نوره شاحبا ولا نكاد نميزه من الظلام، ثم تلتف ببقية الاثواب المتبقية معى ومع أختى الرضيعة.
اتذكر ان أمى كانت أكثر مرحا فى أيام غياب أبى، تحادث جاراتها، وتتناول معهن طعام الغداء، وتتركنى ألعب بالخارج مع اطفالهن، وعندما نكون وحدنا، تخبرنى كيف تريدنى أن أصبح شخصا عظيما، وتربت على عندما أريد أن أنام. لا أذكر انها كانت تزجرنى ولا يعلو لها صوت مع جاراتها.
كنت أفرح للوقت الذى تضىء فيه الفانوس، وتسخن فيه اللبن على النار ثم تبرده وتسكره لى. كنت أرقب وهج النار فى الفحم واضواء اللهيب من الفانوس فى سماء الغرفة، وكلماتها ورائحة اللبن، وصوتها الدافىء وعيونها الضاحكة وأعلم أننى أحبها كثيرا. كثيرا ما شبهت الفانوس بشخص يلف جسده بثوب ويلبس عمامة فى رأسه، وتختلط نحوه مشاعرى بين الحب والنفور.
وفى يوم عاد أبى فى المساء، فلجأت الى سريرى حتى لا تقع عيناه على، وتدثرت بأثواب أمى، فى انتظار أن تعود هى من معركته المهينة وتتدثر معى وأختى الرضيعة بعد أن تدلى الشريط المضىء ويختلط ضوؤه بالعتمة ويرسم ظلا ضخما لثلاثتنا ، تبدو على الجدار كجبل داكن فى مكان مقفر مجهول ، يضاعف من مخاوفى فازداد التصاقا بها حتى أنام.
لكن فى هذه المرة مان الصراخ يعلو و يعلو. كان أبى يلاحقها باتهامات خطيرة، ويتهدج صوته ويهددها بافشاء سرها لاهلها، وكانت هى تبكى وتصرخ وتوبخ وتستنكر حتى لم استطع أن احتمل المكوث بالغرفة. فحضرت الى الباب أرقبهما وهما لا ينتبها لوجودى، كان يجرها من شعرها ويلقى بها على الارض وهى تصرخ وتنادى، "
صمت برهة دون أن يتنهد ثم واصل الحكى وعيناه لا تنظران فى اتجاهى:
"وفجأة انفكت من بين يديه، وحملت الفانوس واندلعت الى الغرفة. فتحت الاناء الذى يحتوى على سائل الكيروسين اسفل الفانوس، وصبته فى أعلى رأسها فابتل شعرها الاسود الطويل، وتدفق السائل فى كل جسدها. بعدها فتحت الزجاجة التى تحتوى على الشريط الملتهب، وعرضت شعرها للهيب، وجرت الى خارج الغرفة، فلفحتها الانسام وتسربت النار الى كل جسدها، كنت أعدو خلفها وأصرخ لكنها لم تعد تسمع صراخ أحد فقد كانت تصرخ هى نفسها وتجرى الى اطراف القرية هربا من الجموع التى جرت خلفها لانقاذها."
"شجرة من اللهيب، كانت تلك هى أمى كما رأيتها آخر مرة وأنا فى السابعة من عمرى."
قال هذه الجملة الأخيرة بوضوح متماسك، كان وهو يقولها قد عاد أديبا أورجلا عظيما.
لم أكن أدرى أن دموعى قد ضرجت وجهى كله الا عندما ناولنى منديل الورق الذى كان أمامه، وأتبع قائلا:هذه الحكاية، أحكيها لاول مرة.
ناولنى النص وذهب. لم تعد أبخرة الشاى المنعنع متصاعدة كما من قبل، وكذلك بقية الروائح كانت قد خفتت.وخفتت الاصوات، وخفت الوقت.
لم يكن هنالك الا "النص"وصوت خطواته المتباعدة. وقعت عيناى على عنوانه لاول مرة وقد كتب بعناية:
"شجرة اللهيب" ______________
حاشية: هذه القصة مهداة الى صديقى الكاتب الأديب الذى لن أذكر اسمه معزة واحتراما، وأتمنى أن يكون بخير سعيدا فى حياته، اينما كان.
حشوة نشرت فى مجلة أوراق وموقع مدد
http://www.mdaad.com/vb/showthread.php?t=4676
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: شجرة اللهيب: (Re: ابو جهينة)
|
الشجرة الوريفة تماضر
كم جميل هذا النص
طوفتينا في عوالم خارج الجاذبية الارضية وفوق الانجم
سلمت ايها الرائعة
وتحياتي
Quote: "شجرة من اللهيب، كانت تلك هى أمى كما رأيتها آخر مرة وأنا فى السابعة من عمرى." |
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شجرة اللهيب: (Re: sudania2000)
|
جمال نبيل ينثال فوق إعتام الروح.. يتدثر بالحكي و التصاوير، و تداعي الأحزان الماحقة. يصقلها، تلك الأحزان، لتلتمع في فضاءات العمر الفائت.. القادم.. و المنسي أنينا أكيدا يتربع بلا هوادة في سوح النص برغم عبير الصندل و فنجاني قهوة في غربتهما، و الأخت الصغيرة و نبوءات المستقبل الواعد.
الرواة في النص تتداخل أصواتهم و تتلون رؤاهم في إصرار مؤكدة هذا الموات الذي يعصف بأرواحهم جميعا.. منداحا إلى القارئ و معيدا الجميع إلى جبروت العسف و هذا القهر المقيم في حياة المرأة الشابة و الابن و الطفلة الرضيعة، و حتى الأب المستسلم لسلطة الدين الذي يظنه خلاصا يغافل الروح.
من جماليات النص، رغم شيوع الحزن الغاشم فيه و هو حزن مشروع، أنه قلما يحوج قارئه لقراءة أخرى.. بل يعبق في جنبات النفس، باعثا صورا من ماض بعيد و حاضر نتوهم غيابه، و مستقبل نجاهد لجعله الأفضل. فهل تُرى سنفلح؟
شكرا جزيلا للجميلة تماضر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شجرة اللهيب: (Re: Tumadir)
|
الاستاذةالرائعة التحية و التقدير
أن تحكي أمر يعرفه الجميع ، أما أن تنقل مشاعر أبطالك و خلجتهم بهذه الروعة فهو أمر لا يملكه إلا الا مبدع ، شكرا لهذا الألق الذي غمرت به دواخلنا .
إحترامي
| |
|
|
|
|
|
|
|