|
الخــســوف ... قصة قصيرة .... للكاتب عمر عبد الماجد ..
|
قصة قصيرة
الخـســوف عمر عبد الماجد
اختياري للوردية الثانية والتي ينتهي العمل بها في الثامنة مساء لم يكن اعتباطاً .. إذ تتيح لي فترة النهار زمناً كافياً لإنجاز بعض المهام والالتزامات كالمرور على مكتب العمل الخارجي عسى ولعل أن أصادف معاينة ما ... أي معاينة ولا يهم أن تكون في نفس مجال تخصصي أو غيره ولكن معاينة قد تعبر بي إلى الشط الآخر حيث المال والرفاهية .. هذه الفترة أيضاً قد تتيح لي دخلاً إضافيا بالولوج إلى سوق الله أكبر ، والأهم من ذلك ، عندما أخرج في الثامنة مساءً ، نسبيا تكون المواصلات متوفرة قياساً بفترة الظهيرة ..
كالعادة خرجت هذا المساء من العمل في الثامنة تماماً - لست متسيباً في مواعيد العمل أو ربما طبيعة عملي تحتم عليّ هذا الالتزام - وتوجهت لميدان أبو جنزير حيث موقف معظم المواصلات الداخلية للعاصمة الخرطوم ،خلافاً للأيام الأخرى وجدته مزدحماً ومكتظاً بالناس وكلهم انتظار لحافلة أو بص أو حتى لوري طوب .. الموقف ساكن ، حتى عملية المطاردة التي اعتاد الناس على ممارستها ، مع القليل من البصات والتي تأتي في فترات متباعدة لم تحدث هذا المساء .. كالعادة المبرر معروف والكل يحكي عن طول الصفوف والمبيت عند محطات الوقود . عند التاسعة أصابني اليأس ومع كثيرين غيري بدأت ممارسة رياضة المشي على أسفلت شارع القصر جنوب .. عندما أدركت مسجد شروني بالخرطوم ثلاثة ومروراً بالديوم الشرقية ، استرعى انتباهي جلوس الناس أمام المنازل المشرعة الأبواب مع وجود حركة غير عادية .. ضوضاء تكاد تغطي أصوات مولدات الكهرباء المتناثرة في كل أنحاء المدينة والتي لا يتوقف هديرها إلا لحظات عمل المحطة المركزية ، وكم هي قليلة ونادرة .. بعض النسوة يجلسن خلف المواقد ، أيديهن والهبابات تتحرك باهتمام كسول ،، تارة نحو اليمين وأخرى نحو اليسار لخلخلة الهواء الساكن في واجهة فتحات المواقد .. لهب الجمرات الفاتر أسفل القدور بتصاعد مدركاً الوسط .. رائحة البليلة تغمر المكان وتسكن ذرات الهواء المغبّر .. الرجال عند النواصي في جماعات متفرقة بعضهم صامت كأنه يترقب حدث ما وآخرون يضجون حركة ، وأصواتهم مزيج من مواويل أدعية .. صراخ وأيضاً شيئاً من الذكر الحكيم . وبين فينة وأخرى ترتفع تكبيرات متشنجة كالتي تُسمع في حلقات الذكر والموالد .
تحت عمود النور المنتصب عند ركن المنزل كانت تجلس كجزء من الصورة العامة للشارع المضطرب . يدها كبندول الساعة في رتابة الحركة ، عيناها في سفر لا نهائي خلف شيء ما .. تابعت بنظري مسار عينيها في الفراغ فلم يتعد حدود الدائرة المرسومة بضوء المصباح الكهربي واصطدم بحلكة الليل .. عدت إلى وجهها وقد تناثرت فوقه حبات العرق ، أحسسته منهكاً ومكابراً يجسد انفعالاً ، لا هو للحزن يميل ولا للفرح ينتمي . - عيناك زائغتان .. عما تبحثين ؟ - (......) - أنفاسك متسارعة .... ماذا تسابقين ؟ - ( أنا ... !! ..... !! ....) ارتفعت أصوات الجماعة المتمركزة عند الناصية المقابلة بصورة حادة ومفاجئة أجهضت رغبتها في الكلام ونَمتْ منها ارتعاشة تفصح عن فزع عابر أكثر مما توحي بالخوف . أحسست الرعشة في اضطراب يدها الذي أخل برتابة الحركة الأولى مما أدى لتصاعد اللهب وتطاير بعض الشرر .. حبات اللوبيا العفنة بدأت في التقافذ مخترقة الرغوة السميكة والتي تكونت بفعل النار الهادئة ..أمسكت يدها وعيناي تفصحان عن سؤال حائر .. سؤال عن كنه الصورة الكاريكاتورية والتي تظهر في كل شيء ، حركة الناس توحي بأن حدثاً ما يوشك على الوقوع ومظاهر سلوكهم ترسمه وكأنه عرساً أو أي شيء مفرح .. إلا وجهها ، ينسكب منه اعتذار مقهور ينبئ غير ذلك .. تلك النظرة المحايدة ما اعتدت أن أراها إلا وكان للحزن حضور . نظرت في عينيها وأنا أرفع حاجبيَّ لأعلى مفرداً لعيني مساحة للاتساع مع تقطيبة في الجبين ترسم علامة استجداء لمعرفة حقيقة الطقوس المبهمة والتي يمارسها الجميع ، وحالة صمتها وذهولها – ثغرها كان لا يعرف غير الابتسام ونظراتها كانت تبعث الأمل والفأل عندما يحاصر النفس الإحباط .. في عينيها انكسار وبريقهما يكاد أن يزوي ويزول . هذا الوجه الضاحك دوماً هو طوق نجاتي من الغرق في تلافيف الكآبة واليأس أوقات الشدة .اليوم أراه على غير ما كان عليه من قبل .
ألسنة اللهب واصلت الارتفاع متجاوزة وسط القِدر والفقاعات طفتْ على سطح الرغوة السميكة .. رائحة البليلة المحترقة تهاجم خيشومي . حاولت إمساك يديها حتى تهدأ حركتها لم أتمكن إذ كانت تشير بها صوت القمر .. والقمر تحاصره هالة غبراء ترسل ضباباً رصاصي اللون يكاد يحجب ضوءه .. كم هي تحب القمر وصفاء ضوئه ، كانت تحزن كثيراً قبل وبعد اكتماله بدراً لأنه سيعود هلالاً .. وفي كل مرة كانت تنتظر ملهوفة دورة اكتماله بدراً .. حزنها مضاعف هذه المرة لأنه اختفى في أوج دورة اكتماله . - إنه خسوفٌ عادي ، ما يلبث أن يستعيد القمر ضوءه وبهاءه . - (الأمر مختلف هذه المرة .. خبراء الارصاد يقولون إنه خسوف كلي ) - وكم من مرة كان كذلك ... و ... - ( الظروف مختلفة .. محطة الكهرباء الرئيسية شبه متعطلة ، والبيت خالٍ حتى من الشموع ). صحيح إن ضوء القمر هو الشيء الوحيد المتبقي لنزين به فرح الأمسيات رغم ندرتها بعد أن فقدت القناديل القديمة زيتها وأصابها البلى ، إلا أن ذلك لا يبرر حالة اليأس هذه .. - إن الخسوف ظاهرة طبيعية ، ثم إن عملية خنق ضوء القمر لم تكتمل بعد وأن ... و ...!! ... و .....
لم تسمعني جيداً مع الضجيج الذي صاحب خروج جيوش الصبية من الأزقة والحواري وهم يقرعون الطبول والصفائح والعلب المعدنية الفارغة في محاولة منهم لإفزاع التنين الذي يواصل غير عابئٍ ابتلاع قرص القمر .. والقمر جمرة تقاوم الانطفاء .
جدة نوفمبر 1987م
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: الخــســوف ... قصة قصيرة .... للكاتب عمر عبد الماجد .. (Re: اميري باراكا)
|
اولا ، شكرا لباراكا لاسباب كثيرة ، من بينها تعريفنا بكتابات الصديق عمر عبد الماجد . وفي تقديري ، أن قصة الخسوف ، مكتملة البناء وموفورة بعناصر القص زمانا ومكانا وحدثا وتعبيرا ومفارقة. وما لفت انتباهي وشدني الى القصة ، لغتها السهلة ( ولكن الممتلئة ) المتحللة من التباس المفردات كما في كتابات بعض القصاصين المعاصرين . وبدا لي أن عمر يمسك، جيدا ، ببوصلة لغته ، هو الذي يقودها ويهديها الاتجاه . ومن هنا تبقى قصته، بالنسبة لي في القراءة الأولى على الأقل ، متينة بما تتوفر عليه من وصف دقيق لحالة كونية تدخل ، ببساطة وامتلاء ، في تقاسيم قصة انثى ينغمر فيها الخفوت ولا تتعب من هز الهبابة أيقادا لجذوة لا يجوز لها الانطفاء سنسمح للبليلة أن تضيئ أمعاءنا يا عمر ، ونقرع الطبول لقمر السماء لعله ينتصر على جيوش الخسوف الزاحفة ـ منذ أزمان ـ في تفاصيلنا هناك .. والى الامام أيها الصديق الجميل ،، اميري باراكا ، لك الود دائما في حوزتي اكثر من قصة ، لأحد السوداتريين ، كما نحتّ أنت المصطلح ، وأعني الصديق الرائع عبد القادر حكيم .. وهو صاحب لغة عالية ، وتصوير مبالغ في الإدهاش . أتمنى أن أجد الوقت ، لأنقلها لكم في البورد ، لأن القصتين مكتوبتان على الورق مما يقتضي أن اصفهما على الكمبيوتر أولا .. وهذا ما يحتاج الى وقت لا يتوفر لدي الآن لكم ، جميعا ، الود والمحبة
| |
|
|
|
|
|
|
|