|
عبدالله بن محمد الغيلاني :قراءة في رسالة الدكتور حسن الترابي
|
قراءة في رسالة الدكتور حسن الترابي
كان العزم قد انعقد على استئناف الحديث هذا الاسبوع عن الوضع الفلسطيني الذي شهدت ساحته تطورات حادة ولكنني عدلت عن ذلك لما اطلعت على رسالة تقييم ومراجعة صدرت عن الدكتور حسن الترابي الذي يقبع الآن في اقامة جبرية فرضها عليه اخلاء الامس. وقد سولت لي نفسي الاكتفاء بقراءتها على عجل ثم الاعراض عنها عسى ان تجود الايام بقراءة اخرى اعمق استيعابا لمحتوى الرسالة غير ان باعثا ملحا اخفقت في مقاومته دفعني الى العكوف على تلك الصحيفة لارتياد مراجعها والوقوف على ظاهر القول ومحاولة النفاذ الى ما لم تظهره الالفاظ منطوقا ولكن ابانت عنه اللهجة وكشفت عنه ملامح الصوت وقسمات النبرة اذا جاز التعبير فحينما تصدر مثل هذه المضامين عن رجل كالشيخ الترابي وفي لحظة تاريخية تشهد تمزق المشروع الفكري والسياسي الذي حمله على كاهله قرابة اربعين عاما منذ ان تألق نجمه واجتمعت له رئاسة التنظيم الحركي ورئاسة الحزب السياسي المعلن (جبهة الميثاق الاسلامي) عام 1964م فأنت لا تملك الا ان تقف عندها متأملا ناظرا وفاصحا متعظا بعبر الزمان وتقلبات الاحوال سيما وان الحركة الاسلامية على وجه الاجمال يعز فيها ادب النقد الذاتي وتنحسر فيها ادوات المراجعة والتصويب دفعا للشماتة واستتارا عن الخصوم المتربصين.
لك ان تحب الرجل او تبغضه ولك ان تقبل كل آرائه او بعضها وان ترفض بعض آرائه او كلها وكل يؤخذ من قوله ويترك ولكنك في كل الاحوال لا تستطيع ان تعرض عن اطروحاته الفكرية ومرئايته السياسية وذلك لجملة اسباب جوهرية منها ان الدكتور حسن الترابي كاد ينفرد بالقيادة الفكرية للتيار الاسلامي الاكبر في السودان فقد اصبحت مجمل مبادئه ورؤاه الفكرية تشكل محاور ارتكاز لمشروع الاصلاح والتغيير واكتسب هو بمقتضى ذلك رمزية فكرية وقيادية داخل السودان وخارجه ومنها ان التجربة الاسلامية في السودان هي النجاح الاول للاسلاميين في الوصول الى السلطة اذا استثنينا التجربة الافغانية لاسباب ليس هذا مقام تناولها وكان ذلك تدبير الشيخ ورهانه الذي افنى فيه زهرة عمره ومنها ان التجربة السودانية بحلوها ومرها بكدرها وصفائها مما يحمد لها ويعاب عليها بنجاحاتها واخفاقاتها تمر منذ ديسمبر 1999م بمرحلة مفصلية تمزق فيها نسيجها وانشقت عصاها وتفرقت سبلها وحسن الترابي مرة اخرى هو صانع احداث هذه المرحلة ومنها ان الرجل سواء بشخصه او برمزيته الفكرية والقيادية ما انفك يستقطب اهتماما محليا وعالميا قلما يحظى به زعيم اسلامي آخر.
تلكم هي مجمل الاسباب التي تنهض مسوغات لتسليط شيء من اضواء التحليل على ما يصدر عن الدكتور الترابي وخاصة في هذه المرحلة المحورية.
تأتي هذه الرسالة بعنوان (عبرة المسير لاثني عشر عاما) وتبدو فيها لهجة الشيخ عنيفة حادة ولكنها لا تخلو من مرارة ولوعة مردها في اغلب الظن الى طبيعة الابتلاء الذي اصيب به هذه المرة فقد جاءت الضربة من الاصفياء الخلص الذين كان يعتد بهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء ولئن ابدى في رسالته مرارة ازاء من نصبته الحركة اميرا على الناس على حد وصف الشيخ فان مرارته من تلاميذه الاقربين اشد بأسا واثقل وقعا وخاصة من الاربعة اللذين خلفوا فعسى ان يتوب الله عليهم.
وقد ابرزت الرسالة في غير موضع بعد الافتتان بالسلطة واتباع الهوى والسقوط في اختبارات الحكم والتنكر للتربية الايمانية الراشدة كأحد اهم الاسباب التي عصفت بالتجربة السودانية كان الامل ان يتناول الشيخ في هذا السياق ليس فقط النوازع النفسية التي قدر انها العنصر الرئيس الذي قاد الى الاخفاق والتمزق ولكن النظم والآليات التي صاغت العلاقة وحددت طبيعة التواصل بين اجهزة الحزب (الحركة) واجهزة الدولة فقد كان التطاحن بينهما شديدا والفجوة واسعة فهل اسهمت تلك الآليات في الانفجارات التي حدثت لاحقا ان الامر محصور فقط في معاني التربية الايمانية التي ضاقت مساحاتها عند اهل الحكم واولياء السلطة وانحسرت تفاعلاتها في نفوسهم فغلبهم الهوى واستبد بهم الاغراء وجذبتهم مغانم الجاه والاستعلاء؟.
اما موقف المجتمع من التجربة فتقسمه المذكرة الى ثلاث مراحل اولها الترقب والانتظار حتى اذا اسفرت ثورة الانقاذ عن وجهها الاسلامي وبشرت بمشروعها الحضاري ونزلت احكامها وقيمها واقعا ملموسا اقبل الناس عليها بكل طوائفهم انخراطا في صفوفها واسنادا لمشروعها ثم ما لبث الناس بعد ان رأوا بعض التراجعات ان انفضوا عنها ويبرز الدكتور الترابي بعدا آخر في العلاقة بين حركة الاحياء الاسلامي والمجتمع فقد حسبت الحركة السودانية بعد ان تمكنت من الحكم انها بسطت وعيا اسلاميا واسعا وثقافة ايمانية كثيفة اطمأنت الى حدوث تحولات كبرى في اصول الفهم وعمق الانفعال ولكن بين لها ان الامر ليس بمستوى النضج الذي كانت تقدره ولعل ذلك ناشىء في جزء منه كما يقرر الشيخ عن طبيعة النشأة التي صاحبت الحركة الاسلامية وطبيعة الابتلاء الذي يستبد بها في كل مرحلة من مراحل السير فنشأتها السرية واستغراقها في حماية الذات وتدابير الوقاية من الاضطهاد قد افرزت اعتزالا لقضايا المجتمع وانصرافا عن هموم ومن اجل استدراك ذلك يجب الاقبال على المجتمع تزكية لدينه واتصالا برغائبه واشواقه.
ويمضي الدكتور الترابي واصفا قيادة الانقاذ في مراحلها الاولى بأنها كانت معلومة بسبب طائفة من العناصر التي انحازت الى الثورة واردة اليها من مواقع شتى دون ان يكتمل بنائها التربوي او يصلب عودها وفق مقتضيات نهج الاصطفاء الذي ساءت عليه الحركة واتخذته سبيلا للاعداد والانضاج والترقي غير ان الذين قادوا الانشقاق كانوا من ابناء الحركة الخلص الذين قضوا دهرا طويلا في محاضنها وتبوأوا مواقع متقدمة في مؤسساتها.
رغم ما احاط بها من لوعة وغمرها من الم الا ان لهجة الشيخ كانت خالية من الانكسار والذبول بل تبدى فيها كثير من روح التحدي والاصرار على استئناف المسار وتلك سجية غالبة في الرجل فقد خاض عبر مسيرته الطويلة معارك شتى وتعرض لابتلاءات شتى واصابه ومن معه الوان من الفتنة والعناء والخصومات الا انه في كل مرة يحتفظ بقدر من الطاقة تمكنه من الكر ومعاودة الاقتحام ولكن الخصومة هذه المرة تختلف جوهرا وشكلا في عسى ان يكون مصير الشيخ واصحابه الذين انحازوا اليه وهم كثرة كاثرة تنتشر في الاتحادات الطلابية والمؤسسات النسوية والجمعيات العامة ولا يخلو منها الدفاع الشعبي واجهزة الدولة بل ما عسى ان يكون مصير التجربة الاسلامية برمتها في ظل التداعيات الاقليمية والدولية التي تحيط بها.
عبدالله بن محمد الغيلاني
يا نرى متى صدرت هذه الرسالة التي أطلق عليها "عبر المسير لإثني عشر عاما" أي أنها قبل عامين من الآن بإعتبار أن المقصود 12 عاما من عمر الإنقاذ، وماذا حوت، وشنو مافي مؤتمر شعبي هنا.؟؟؟؟
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: عبدالله بن محمد الغيلاني :قراءة في رسالة الدكتور حسن الترابي (Re: nadus2000)
|
نقلاً عن صحيفة آخر لحظة بسم الله الرحمن الرحيم
بمناسبة مرور عام على تأسيس الموتمر الوطني الشعبي
حركة الإسلام
عبرة المسير لاثني عشر السنين
1) الحمد لله الذي اجتبانا في الأزل فأحيانا في السودان لهذا الزمان ولم نكن من قبل شيئاً مذكوراً، والذي وقد ابتلى بني الإنسان كافة بعالم الشهادة دون الغيب والدنيا دون الآخرة هدانا نحن خاصة لحركة إحياء الإسلام في مجتمع غلب على دينه الموت والجمود. والصلاة والسلام على رسول الله وإخوانه بلغونا الهدى بالدعوة وأمّونا إليه بالقدوة في سيرة الحياة تداولت عليهم فيها أحوال العسر واليسر والذل والعز والقوة والضعف كما جرى علينا. وكيف لا نذكر الله ونشكره وقد مر علينا عهد سّراء كانت طاقاتنا فيه مستغرقة في الحركة الدائبة لحياتنا المزدحمة بالشئون الحاضرة التي ألهتنا عن تذكر ما احتجب ماضياً وتبصر ما كان يجري حاضراً والنظر إلى ما كان قادماً مستقبلاً، فلما أصابتنا هذه الأزمة الضرّاء خشيناها إماتة لكل حياة الحركة ولكن صابرها بعضنا بمجاهدات موصولة وفرّغت بعضنا ليصرف بعض جهده من المقاومة المتعسرة إلى آفاق التدبر الراصد لكتاب سيرة الحركة الإسلامية بعبرها وعظاتها فيما سلف والتفكر الراشد نحو مقاصدها المستقبلة في سياق الابتلاءات المنظورة.
فالحمد لله لم يقع علينا هذا العهد فتنة مضلّة مشلّة بل أخذت تتجلى فيه البينة تقويماً للمسير السابق وتخطيطاً للسبيل الأحكم والأرشد للمراحل القادمة. ونذكر في ماضي تاريخ الحركة كيف تعاقبت مثل هذه المقامات والمراحل حرية مسير يتلوها ضيق أسر، وكيف كنا أكثر استعانةً بالصبر أيام الشر والضيق المكروه لنقعد فننظر وندرس ما أدى بنا إليه فندبر خطة الإعداد الحكيم لمرحلة كسب كثير نرجوه للخالفة -كنا عندئذ أكثر منا اغتناماً لدورة الحرية و الخير للتهيؤ لما هو قادم بعدها.
***
2) إن مجمل النظر الماسح الراجع والتقويم المتجرد الجامع لكسب الحركة الإسلامية وقعاً على السودان في اثني عشر عاماً يمكن أن نوجز بيانه لنرى كيف كان لمطلعه مبشراً ثم ارتد بعاقبته منذراً إلا قليلاً مما أنعم الله وحفظ عفواً وحلماً.
إن الأوضاع والسياسات السلطانية لثورة الإنقاذ طلعت أولاً انقلابية مبهمة ثم تكشفت بعد عام ونصف تعلن وجهة إسلامية سافرة ثم تطورت إصلاحاً متوالياً إلى دستور وقانون مرسوم يصدق مبادئها يكفل الحريات الشخصية والتعبيرية والحزبية ويرتب انتخاب ولاة السلطة بحرية وعدل ويهيئ دستورية نظام السلطان مناصب وأجهزة متضابطة متوازنة بلا حكر أو بغي في السلطة و يطور لامركزية التشريع والأمر العام لتعتدل بين شعوب الوطن قسمة السلطة والثروة. ثم سقط النظام من ذلك الدرج الصاعد نحو الرشد والتقوى والحكمة إلى مدارك هوى الطغيان والظلم ليستبد الأكابر، يعربد بهم طائشاً شيطان الفرعنة ويؤمنهم جنود يحرسون مقاماتهم ويجوسون ويدوسون الرعية، ويعلنون مقولات ويرفعون صوراً باسم الحريات والانتخابات والشرعية و اللامركزية، وما هي إلا أعراض زور ونفاق. أما جمهور قواعد الشعب فقد كان لأول العهد ينظر للثورة مراقباً ثم أقبل بولائه العريض لنداء الدين المعلن ورجاء الدنيا الموعودة ثم أخذ أخيراً يدبر وينصرف عن موالاة المتآمرين الذين صاروا إلى افتضاح أو ارتداد.
أما الحياة الاجتماعية للسودان عهد الإنقاذ فالوظائف الحرة الذي تولاها المجتمع طوعاً من تلقائه أثمرت تطوراً مبشراً. التدين امتد في أوساط الناس وتعمق في نفوسهم بشعائر عبادتهم وقرآنياتهم وصوفياتهم، والنساء فضن في الحياة تحرراً وهدى ونشاطاً. وفي معاشه نشط المجتمع تعمر بُنى ثورته العقارية وتتكثف مناشطه التجارية الحرة. أما ما اتصل من شأن المجتمع بسياسة السلطان قانوناً أو رعايةً فقد تأخر وتدهور. فترت منظمات المرأة والشباب المرعية رسمياً، وحوصرت بالضوابط الرسمية انطلاقة العمل الخيري التي بادر بها إسلاميون وقبعت في مستوى أشكال أغلبها بلا أعمال. ومقيسة إلى مبلغ المجتمعات الأخرى ركدت في حالها مناشط الفنون والرياضة لم يدفعها تأصيل دين لتصعد ولم يكيّفها لتبرز ولم تتحرر لتنتشر حية حيثما كان.
وفي الثقافة توالت بعد الثورة دفعات مقدرة من انتشار مؤسسات التعليم العام والعالي، لكن تجمد الأمر إذ تعّوق المعلمون محرومين وشح الإنفاق. أما الإعلام صحفاً أو صوتاً وصورة فقد اتسع لكن لم تتحرر الإذاعة اتصالاً عاماً بالمبادرات الخاصة من كل الناس ولا سلمت الصحف إلا شهوراً من الرقابة.
أما مكاسب الثروة في السودان وأسبابها وعلاقاتها التي يسوسها الحكم فقد انغمرت وما عمرت روحها الدينية. واضطربت مكاسب الثروة ما نهضت صُعداً محصولاتها الدنيوية المنشودة. فالبنى الأساسية لحركة الاقتصاد بدأت تنبسط أول العهد طرقاً ومطارات مفتوحة وناقلات في الجو وعلى سكة الحديد ناشطة، ثم ارتد ذلك بإدارة الحكم إلى جمود. وكما تكاثرت وسائل الحركة الخاصة انفجرت ثورة في الاتصال الهاتفي لمّا مسه التخصيص. كانت حرية التجارة و المناشط الاقتصادية قد انفتحت مباحة للقطاع الخاص الوافرة طاقاته. والنيات في ذلك اختلطت: تاب البعض من النزعة الاشتراكية في السودان إلى منهج إيماني شرعي، المعاش عبادة بدوافعه الغيبية الإيمانية التي تباركه وضوابط علاقاته أحكام معاملات شرعية أو تقوى وأخلاق من صدقة وتكافل ومناهج تعاون وعدل وتجنب لأكل الأموال باطلاً وحراماً، والبعض اعتد بفشل التجارب السودانية الاشتراكية وانساق مع تيار الحرية الاقتصادية الغالب في العالم الصادر من المذهب الغربي المادي غايته متاع الدنيا الأعجل والأكثر ولو إسرافاً وحراماً ووسيلته المنافسة المطلقة لا يضبطها عدل ولا تقوى. لكن رغم شعار الاتجاه في تخصيص المملوكات العامة فقد احتال القطاع العام باسم المؤسسات والشركات الحرة حتى تورم وتضخم وأصبح يغشاه الفساد و الإخفاق لأنه لم يتب إلى الملك الخاص بالنهج الشرعي وظل شاذاً حتى عن اتجاه المنهج الوضعي السائد. وكذلك السياسات والنظم المالية نشطت ونمت أول الأمر تقصد هدى الإسلام لكنها انحبست دون ذلك في عالم الربا ومقامرات التمويل والتأمين والضرائب الفاحشة. ولئن عرف الاقتصاد بعض عافية استقرار بعد تضخم هائج أفسد قيمة دخول المال المحددة ومغزى آجاله المسماة، فقد اضطر حيناً ما لتجميد في حركة المال واستمر راهناً نظامه لسياسات مهيمنة واندرج بها في نظم الأطر الربوية المادية التي يديرها طغاة العولمة الظالمة.
إن الصناعات الكبرى خاصة وعامة لم تفتح لها سياسات الحكم السبل أن تتقدم، ولذلك لم تصعد إلا الصناعة الحربية التي نهض بها رجال ومال من خارج السلطان طوعاً في سبيل الدفاع والجهاد. ووازى ذلك بذل المجاهدين طوعاً وحباً للشهادة دفعة فاعلة لقوى الدفاع النظامية الرسمية أمدتها حياة ونصراً بذكر الله. وإذ غابت مقاصد الجهاد وبردت روحه شيئاً فشيئاً فلا مأمن لمصائر صناعة السلاح القائمة ولا مطمع أن تتعبأ لصناعة الدفاع الطاقات الخاصة كما في سائر البلاد القوية.
مهما كان مكسب النمو في الاقتصاد فان مسلك العدالة بين حظوظ الأقاليم والطبقات في متاع الثروة كان شعاراً واعداً أول الأمر زكوات وخيرات وصدقات ثم لا مركزية، ولكنه لم يتسارع توطداً وانتشاراً. ذلك بينما اشتد الوعي بالظلم والفقر النسبي في مجتمع كان أمس غافلاً عن فضل الثروة معنياً بفضل الدين والنسب، و فتر نشاط الصدقة والتبرع والخير وهو خلق المجتمع المؤمن المسلم، واحتدت واشتدت وطأة الضرائب والرسوم وقست بوقعها غير المباشر النافذ إلى فقراء الناس.
إن السعي الدؤوب لاستغلال ما في باطن الأرض من سائل الطاقة الأسود المبارك قد أفلحت، ومن حيثما تيسر ذلك رأينا أثر بركة الإسلام في مستثمر غربي مسلم كندي لم يصده النهي وفي جود ذي سلطة شرقي إسلامي ماليزي وفي إقبال ذي شأن شرقي صيني يوّفي بعد الإنقاذ بصداقة سابقة مع الحركة الإسلامية. وقد أصبح البترول فتحاً من الله محجوباً عائده بينما لم تفلح إلى جانبه سياسات دعوة الاستثمار من طلاب الكسب والربح في الخارج، ولم يورد شعار السياحة من تلقاء السلطان وارداً يذكر أصلاً، بل إن محاولات السلطة باحتكارات وتصرفات تجارية شتى لم تقدم صادرات السودان شيئاً لكل السنين.
وسلطان السودان أو مجتمعه أو ثقافته أو معاشه لن ينطلق نامياً بالخير والعدل إلا إذا استقام بهدى الدين الموحد وحب الوطن الجامع للمواطنين كافة حيثما كانوا شمالاً وجنوباً. وأول عهد الإنقاذ سرت تلك المعاني عبر فتوحات عسكرية بقوة الجهاد الذي كان يتوجه بتقواه لوحدة عادلة ويهدف إلى أن يؤلف ويجمع لا يصدع المواطنين بالعنف ولا ينفرهم عدواً. ولقد أخذت دعوة الإسلام تمتد في الجنوب تذكيراً وتبشيراً وتمهد فيه للمسلمين مجال نصيب عادل في رتب السلطة، وبدأت نظم اللامركزية التي كانت مطلباً وشوقاً جنوبياً تتنزل لتبسط الرضا، وكانت الوعود والعهود تعطى لتتمكن الثقة بين شقي الوطن تنفي الريب وسيئات الظنون ونزعات الانفصال. ولكن ارتدت الأمور أخيراً لأن روح الدين ضعفت وتلاشت عند المتأخرة من العناصر المتصرفة في شأن الجنوب. الجهاد يبرد روحاً والأمن الدفاعي يفتر دفعاً والأرض تتبدل أمناً والتبشير بالإسلام يخفت صوتاً واللامركزية تنقبض واقعاً والوعود والعهود تنقض جهاراً والثقة الناشئة تتضاءل وأهل الجنوب يرون أنفسهم في ظلم بيّن و فقر وجهل ومرض ملازم إلا لمن نزح وخرج من أهله وأرضه، والذين يحاربون يقومون معزولين لأن من يتفاهم معهم رجاء سلام وبناء يعتبر خارجاً مثلهم عند بغاة السلطان الذين لم يفلحوا حرباً ولم يجنحوا سلاماً. ولم يبق للجنوبيين الخوارج من مناص إلا التماس العون في عالم غربي وإفريقي ينسب الأزمة فرية إلى أصل الدين، وكنا نريد أن نشهد العالم أن الإسلام يوحد ذوي الملل ويساوي الأقوام في وطن ينفتح إنساناً وأرضاً من حوله إلى العالم.
وكذلك بدأ عهد الإنقاذ لأول عهده يُفرح الأمة الإسلامية بتوبة الإسلام السياسية والمتكاملة فيه نموذجاً ينفتح لمن يهاجر إليه لاجئاً وناصراً ومن يزوره تحية وائتماراً جامعاً، ويعلن همه بقضايا الأمة المضيّعة. ولقد فزعت منه العصبيات والقوى المرتدة عن الإسلام والكارهة له وكان يمكن بالصبر والمجادلة بالحسنى والمجاهدة أن يتجاوز كيدها، ولكن شهوة السلطة الطاغية على حدود الشرع السلطاني تناصرت مع تحريضات الكائدين من الخارج فارتد النظام على الإسلام الظاهر وعلى المسلم الزائر والمؤتمِر والمناصر ابتغاء ترضية أعدائه. لكن الكفار يريدون السعي قدماً لتمام القضاء على مولود الإسلام مهما عقّ وسارع إليهم. فالعلاقات الخارجية الرسمية مع العرب والأفارقة في سكون بارد ومع الغرب بين جفاء وتوتر.
***
3) لقد كان هم الحركة الإسلامية الأول أيام ميلادها وغربتها التوبة بحياة السودان عموماً وبالسياسة خصوصاً إلى أصول الدين بعد أن مرق كسائر الأمة عهداً طويلاً عن إسلام السلطان والمال العام لله و شرعه. وحسبنا عندئذ أن اللادينية في السياسة والحكم ما تمكنت فينا نحن المسلمين إلا بغزوة الكفار ظهروا علينا بالقوة هزماً وحكماً ثم نفذوا إلى قلوبنا بالثقافة العابرة إلينا تعليماً وإعلاماً، حتى لما غادرتنا وجوههم ما استقلت عزتنا بل تركوا فينا خلفاءهم منا ولاة أمر عام ومذهبهم في الحياة ثقافة غالبة. وما زالت حركة الإسلام الصاحية المتجددة عقوداً من السنين في السودان داعية مجاهدة حتى استوت فتأكد لها في السنوات السبعين أن الكفر لن يخليها بل سيصد عن حكم الشريعة بالقوة منه مباشرة أو من أوليائه فينا. ورأينا أن قد حق لنا أن نتقي تلك القوة ونردّها بالقوة نثور على السلطان الجاثم علينا انقلاباً ونقاتلهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين حراً لله. فانتصبنا على السودان بثورة الإنقاذ هجمة مبهمة لمقدمها، حتى استغلظ عودها صدعت بالحق جهاراً ورفعت رايته حاكماً. وقامت نفرات بالجهاد نحو عقد من السنين لتأمين مشروع الإسلام حتى ارتسم هديه المتكامل في خطة الحركة ووضعت معالمه في الشرع الدستوري الحر، حسباناً أن قد أمنت الإرادة الوطنية ورسخ فيها الدين وتمكن حكمه فما يكون لأحد من الموالين للكفار أن ينزعه بضربة قوة. وعندئذ انفسحت حالة الضرورة للعود إلى أصول الإسلام، إلى بسط السلام والحرية والتنافس بين سائر الناس حيثما اتجهوا ولو كان فيهم كفر وكيفما قاموا ولو كان فيهم نفاق اطمئناناً أن قد آمن بالإسلام السواد الأعظم الغالب، واستبشاراً بقدوم مثال المدينة المنّورة الذي قام بهدى القرآن وإمارة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يرتفع الإكراه والجبر وتسود الحرية وتتنافس الخيارات طوعاً وسلاماً وبإجماع الشعب يظهر الإسلام يتنامى ويتبارك وتزهق الجاهلية الباقية والثقافات الغازية.
وما جاز الدستور الإسلامي شورى واستفتاء لكل الشعب إلا توجهت الحركة الإسلامية من بعد تنزل أحكامه صدقاً ووعداً على واقع السلطان وتفصلها بالقوانين والسياسات. وما أوشك الدين في الحياة العامة أن يتم وتتكامل نعمته إلا انبرى عليه طاغية هو الذي نصبته الحركة أميراً على الناس، ومن حوله زمرة من المفتونين بالجاه والسلطان والمال العام، قاموا يهدمون أركان المشروع الإسلامي يزلزلون بنيته السلطانية ويفسدون أصوله السياسية والاقتصادية بينما يحفظون صورة الإطار زيفاً وأصوات الدعوة خداعاً. وقد جلت مع انفعالهم بشهوة الملك الجبار بيّنات تحريض لهم من الكفر الناقم من الخارج على الإسلام.
***
4) ما كان لعصابة سلطة أن تخون مواثيق شعبها الدستورية وتنتهك حرياتهم وتستبد دونهم، ما كان لهؤلاء أن يمضوا على الناس هذه الردة البالغة لولا الاستخفاف بمجتمع ما زالت واهية قواه بالية حباله أن تجتمع إرادته وتصلب وتنفذ فوراً، قاصرة مداركه أن يتجاوز بالهمّ حاجات المعاش البائس المباشر إلى عموم القضايا وبالنظر واقع الهموم الشاغلة والأحوال المشهودة إلى مصائر حركة الحياة المتطورة، منسية أصوله لا يرتفع بالضوابط والعلاقات والأعراف الجامدة المتقادمة إلى أصول القيم ومعالي المثل. و هان المجتمع سياسة لأن ثقافته ما انفكت ساذجة قد تغشاها عدوى التقليد لفرعيات السلوك الجميل الظاهرة من الثقافات الغربية لكنها لا تُشرب بمعاني الحرية العامة وأصول نظمها وسننها التي تتقي الطاعة للاستبداد. وقد كانت ظنت الحركة الإسلامية بحملاتها الماسحة للمجتمع دعوة وتذكيراً أن قد أحيت قوته ونشّطت عراه ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر و ليقيم الحق ويغير الباطل مجاهداً، وأن قد بصّرته بعموم القضايا وقبلة المصائر للحياة العامة ليدفع نحو البُنى والآفاق الكلية، وأن قد بيّنت له شمول مدى العبادة والدين لكل مساقات الحياة وأوقفته على عبر من سنن البشر وعظات من تاريخ المسلمين لئلا تنخرق في الإسلام ثغور السياسة و الاقتصاد العام. وكأن الحركة قد اطمأنت إلى أن المجتمع نضج وعيه وسيهب مسارعاً لتقويم أيما عوج يصيب مشروع الإسلام.
لقد بدا الآن أن مجتمع السودان ما هو إلا من سائر المسلمين الذين تطاولت جهالتهم وغفلتهم عن أصول الدين الهادية وفقه أحكامه الضابطة في شئون السلطان وغاب عن واقعهم نظام الحكم الإسلامي خسفته نظم عرفية من الجاهلية أو مفروضة من الكفار أو مبتدعة من هوى الحكام. وذلك قد أضعف عقيدة التوحيد التي تبسط الدين في الحياة كلها عبادة، فقد قصر في غالب أوساط المسلمين مصطلح العبادة على الشعائر الشخصية الراتبة التي صارت هي أشكالاً وأصواتاً راتبة لا يدرك مغزاها في سائر الحياة، واستبدت بذلك الفراغ الباقي الأهواء خواطر رأي قاصر و نوازع شهوة عاجلة وقوى عرف أو طاغوت. بل إن أصل الانتماء إلى الدين عند غالب الناس لم يبق إيماناً حياً تصدقه الفعالية بل عاطفة انتساب باردة لهوية تاريخية تحملها شعارات مبهمة. فغالب أبناء الملة لا ينشطون بحوافز إيمان للاجتهاد فكراً ينشدون الهدى المتجدد مع تحول الظروف بل هم عالة على المنقول والموروث. وهم لا يقومون بالجهاد لإصلاح ظواهر علو أو فساد أو ظلم استقوى واستكبر عليهم بل يرضون بالواقع ويسكن فيهم الشعور بضعف الحيلة ويجدون في نفوسهم الرهبة من الجبروت المشهود ويركنون له استسلاماً لحظهم المقدر في حياتهم من الله فيما يظنون. إن إسلامهم أصبح دون تمام الدين المستنصر بالله فكراً وفعلاً الموحد الرغبة والرهبة إليه تعالى الصارف أوهام التعذر الباطل بالقضاء والقدر. لقد بعُد عن واقع تدين المجتمع المسلم أن يفقه أهله أن أصل الإيمان وشرع الإسلام يجعل علاقاتهم كلها عهوداً توفى وأكبرها عقد الموالاة الأجمع لأمة الإسلام والوطن، وأن الولاية لأيما أمر عام على الناس أمانة وأخطرها الولاية الكبرى، وأن حياتهم العامة كلها حرية واختيارات وشورى وإجماعات ومسئولية وتكليفات. ولذلك لما تأزمت مسيرة المشروع الإسلامي في السودان إذ أصيب في أصول شرعيته وأمهات أوضاعه كانت الغفلة ضاربة في كثير من الأوساط بين الناس وتوهموها أعراض صراع بين أهل المشروع حول أيلولة السلطة بينهم، كما عهدوا في صراعاتهم العرفية على الولاية القبلية والطائفية والحزبية أهواء لا يضبطها عهد أو نصح أو دين.
الحمد لله بدا ذلك في تجربة السودان وتشخصّ المرض السياسي لا في أعراضه عند الرعاة الطغاة يتمتعون بخيانة العهود وطلاقة الغدر و بالوطء على الحريات واستبداد الرأي وباحتكار المال العام وتصريفه فساداً، بل في جذوره عند الرعية حيث لا تشفى علاجاً ولا تكفي الكلمات المبسوطة في حملات الأقوال والندوات. إنما الدين المتعافي اعتقاد يصدقه الفعل ويقويه العمل، مثل ما أن آيات الله المنزلة هدياً مسموعاً تعززها آياته في الكون طبيعية واقعة مشهودة وآياته وسننه في تصاريف حياة البشر تجربة وواقعاً. إن الوعي السياسي والرأي والتجديد والحرية المنطلقة والشورى الحية وغلبة الإجماع الشعبي توجيهاً وضبطاً ووضعاً وخلعاً لولاة الأمر العام -ذلك لم يتمكن في حياة المسلمين لصدر تاريخ الإسلام إذ لم يتداركهم بعد كافي العلم والعمل الصالح بل تكاثروا مثقلين بجاهليات باقية وتقاليد رومانية وفارسية غالبة أرست في نفوسهم منكرات من مذاهب السياسة. ولذلك مضت الخلافة السنية الراشدة عهداً قصيراً سنة حملتها خيرة مصطفاة ثم انهار مشروع الحكم الإسلامي الحق سريعاً تسارع انفراج الإسلام لأفواج القادمين. وكذلك في تجارب العالم الغربي كانت تسود قديماً القوة لا الحرية والأمر لا الشورى والطاعة الذليلة للملوك لا الحرية الحية العزيزة والإجماع للشعوب. وذلك الحال لم ينته بفشوّ نظريات من مذاهب الإحياء الفكري والتجديد والحرية والمساواة وورود دواعي الإصلاح الديني والعقد الاجتماعي من الإسلام بل بعد تحقيق ذلك و تعزيزه فعلاً بالمدافعات والثورات الشعبية القاصمة لقوة المستكبرين قداسة وسياسة. و منذئذ قامت الإعلانات لحقوق الإنسان والمواثيق والدساتير عهوداً تنشئها وتحرسها قوة الشعوب التي يراعيها ويخشاها ولاة السلطة وتتمثل إرادتها في القوانين مهما نسي الحكام حكم الله وغفلوا عن رقابته وقوته.
إن مجتمعنا ما انفك غالبه في حال أمية فاشية ووعي محدود وفي أوضاع معاش غالبها كسب فردي بائس زراعة ورعياً بعيداً عما يجري في ساحة السلطة. والواحات في صحراء الجهالة الريفية هي خلاوي قرآن لا شأن لها بشئون السلطة ولا تتلوا آيات القرآن إلا أصواتاً. والقطاع الحديث تعليماً واقتصاداً محدود وما فيه من بعض خصوصية حرة للناس تحاصرها المرافق والمملوكات الرسمية وترهنها السياسات الآمرة. ولذلك المجتمع بعيد أو ضعيف يخلىّ السلطان متمتعاً بتصريف سياساته بغير كثير سميع ذي وعي ينصحه فارضاً سلطاته بغير كثير رقيب ذي قوة يضبطه ويصده عن الطغيان محتكراً بغير كثير شريك يقاسمه ويعادله. والديمقراطية في الغرب إنما توطدت حريتها ومشاركتها السياسية مع نهضة الاقتصاد الخاص للإنسان حراً وشريكاً بل الثورات السياسية إنما قادتها الطبقة ذات الكسب الحر والمال الحديث. والعصر الحاضر شهد أشد النظم صلابة في مقامع كبت شعبه وأشملها إطباقاً على حياته -في روسيا وحولها، لكن ما تطور الوعي والعمل الثقافي والاقتصادي إلا وأبصرت الجماهير أمرها وحميت حملتها على النظام فانهار فوضى انتقال في سبيل الحرية. وأنّى لمجتمعنا بحاله الراهن أن يتحرر ويتجدد حتى ينبعث فيه الدين الذي يفرض العلم على كل مؤمن متفكر حراً لا يُحتصر، ويوصى بالضرب في الأرض ابتغاء الرزق لمن يستخلفه فيه الله لا يُحتكر، ويؤتى الملك لمن يمكنهم الله من السلطان ويستخلفهم سيادة في الأرض شركة بالرأي و التناصح والتشاور والإجماع لا يستبد بالأمر أحد. إن المساهمة والمشاركة والمداولة بين الناس حرية لكل أحد ينبغي ألا تكبت وتكليف ينبغي ألا يعطل في العلم أو المال أو الحكم -ذلك هدى متناصر موحّد، أيما ثغرة في مجال تهوي به نحو الاحتكار في المجالات الأخرى. هكذا كانت قداسة الكنيسة تخصها دون المؤمنين بأسرار العلم واللاهوت فلا تنتشر العلوم بالعقول، وناسب ذلك أن يختص الإقطاع بالثروة فلا يتسع الكسب بالجهد المسخر، وكامل هذا وذاك استبداد السلطة خالصة للملوك والأمراء لا شريك فيها. وانهار الاحتكار بضروبه كلها التي كانت تقوم معاً، وذلك في نهضة أوربا صحوة علمية وبرجوازية اقتصادية وديمقراطية سياسية. والمسلمون كذلك نهضوا بالحرية في كل مجال ثم انسد باب الاجتهاد لتقليد السلف، وسقط حكم الخيار والشورى الراشد لطغيان الخلافة والسلطة والإمارة العضود، وسلم المعاش الحر ولكنه تدهور عموماً وبرز المترفون، وتداعى نكران الحرية صلة بالله لا في كنائس بل في شبيه منها عصبيات شيوخ فقهية وطرقاً صوفية متعصبة وفي عقيدة قدرية وجبرية عزلت مذهب المعتزلة في حرية كسب الإنسان.
***
5) منذ أن نشأت الحركة الإسلامية إذ كانت في قلة وذلة غريبة بأطروحات دعوتها عن إطار المجتمع حولها، كان شأن علاقتها بالمجتمع مجال جدال. بدأت معتزلة سرية تجافي حياة المجتمع العامة وسلطانه بخروجه قروناً من الدين ونأيه الأبلغ حاضراً وتتقي تدابير الاضطهاد المعهودة قروناً ضد أهل الحق الناصح والمشهورة بشراستها حاضراً على الحركات الإسلامية. ولكنها كانت حركة دعوة يلزمها أن تتصل وتنفتح وتهدي فتضم إليها من سواد الناس مهما كان منبتها الأول في بيئة صفويه خاصة. وظل الجدل دائراً: البعض يوصي بواجب فتح الدعوة جهاراً للناس عموماً لأن الدين يوصي بمخاطبة الإنسان كله مدى أقرب فمدى حول الدعاة حتى يبلغ الخطاب الناس كافة لا سيما أن الموالين متى أصبحوا كمّاً كبيراً أرجح وأفعل لنشر الدعوة ثم لتحقيق مقولات الحق بالفعل وإنفاذه بالقوة في وجه الباطل المتمكن قبلاً. والبعض يذكرَّ بأن الكمّ لا يجدي ولا يغني بعدّه وإنما التعويل على الكيف تزكياً موصولاً بالله هادي القلوب وناصر الحق بقوته سبحانه فكم من فئة قليلة غلبت كثيرة بإيمانها وصبرها. ولذلك كانت الحركة لأول عهدها تدعو الأفراد فتزكي دينهم وتربي قوتهم. أما بعد ثورة الإنقاذ فقد استمر أول العهد التعويل على طلائع الوعي المتجدد وعلى شريحة القيادة في الحركة الإسلامية التي غالبت قوى الباطل التي كانت تطارد الإسلام قهراً من ساحة السلطان فقلبتها وسيرت الأمور بعد الفتح سراً بدائرة محدودة من أعضائها. ولربما راودنا الغرور بحركتنا إذ آثرنا الاستغناء عن المجتمع بالعكوف عنه تفرغاً لتطهير ساحة حياته العامة وتأسيس أركانها وتأمين مشروع التوجه الإسلامي والانصراف عن هدايته وتزكيته لأجل مسمى والاكتفاء بتعبئته ومخاطبته جولات حينما لزم ليبذل أو يصبر في شأن ذي بال. ومن بعد أحطنا الشعب وأظللناه بأشكال وهياكل صورية من "المؤتمر الوطني" لا تحيا بإجامع رأي حي وولادة صف قوى مخلص بل تعلّق الناس بخيوط ولاء إلى الجهة الأعلى الحاكمة لتقطع وشائج الولاءات المهزومة.
هكذا فرطنا سنين في الإقبال على المجتمع بالهداية والتزكية الصبورة وغفلنا عن أن الشريحة الفوقية مهما كانت زكية قوية لن تقوم إلا على قواعد متينة عريضة من صفوف الشعب، ومهما فرضت سلطانها لا تنزع من الشر ولا تدفع الخير إلا قليلاً لأن السواد العظيم من المؤمنين أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتعمر وتنصر بما لا تبلغه قلة. وقد أُوصى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو ويجمع ويصلح الناس على ألا يكرههم زجراً وترهيباً ولا يحاول شراء القلوب كلها بإنفاق المال العام ولو تحصل له ما في الأرض إذ لا يؤلفهم إلا الإيمان. إن الدين هو كسب مجتمع المؤمنين لا كسب شريحة فاضلة. لا تُبنى حياة وحضارة تامة متكاملة نموذجاً يمتد في الأرض والزمان إلا بعطاء كل أفراد المجتمع أو غالبهم إن اعتل أو ضل بعضهم، لابد أن ينتشر العلم ثقافة شاملة وتتعبأ الطاقات نهضة فاعلة. كان ينبغي علينا لأول العهد أن نقبل على المجتمع قوام الحياة بالتذكير والتزكية والتربية، يسوح فيه الإسلاميون الناضجون كفاءة معلمين وقدي حتى تنتج من المجتمع الكفاءات الأكثر وتصدر منه الطاقات الأجمع ولا يحرم المشروع الإسلامي من ذلك القدر المتبارك الجليل باحتكاره للقليل.
والحركة الإسلامية لما مكنت نظامها واتجهت في العهد الخير لفتح الحريات العامة مطمئنة من حذر خطرها انداحت على الجماهير لتنفذ بالدعوة الدينية يحملها نفوذ السلطة إليهم إذ كانت السلطة منذ الاستعمار إلى خلفائه هي التي صدتهم عن الدين. ولكن ذلك الانتقال العاجل إلى الكافة أزّم ترتيب العلاقة بين الباطن الخفي الذي كانت تسيره خاصة الحركة والظاهر الذي أقبلت عامة الجمهور من تلقائه. وكانت التراتيب تضطرب لتنظيم قيادة المؤتمر الوطني بما يجمع ويوفق مغزى الانطواء على صميم الحركيين الخلص وجدوى الانطلاق في سيق الولاء الجامع، وبما يتجاوز التقية والباطنية النفاق ويكف التسيب والانحلال والانبهال سدى. وحتى قبل إقبال الجماهير بعامتهم وأعلامهم كانت أوضاع القيادة في ثورة الإنقاذ معلولة إذ انضاف إلى صف قادة الحركة الإسلامية المزكين والمدربين طائفة من عسكريين كانوا على ولاء بعيد معزول عن حياة الحركة، وآخرين ما ترقوا بسلم الاصطفاء المعهود في الحركة بل بدواعي الوظائف الرسمية في الدولة، وآخرين انحازوا إلى الثورة واردين من القوى الحزبية والسياسية الأخرى أو من الخدمة العامة والأوساط التي كانت مستقلة لكنهم جميعاً انتقلوا بمرتبتهم القيادية التي جاءوا بها مما سبق. ولإفساح المواقع في القيادة لهؤلاء جميعاً ولضرورات الابتلاء الجديد مع السلطان تأخر إخوان صلّح كانوا أو أصبحوا جنوداً مجهولين. وذلك كله من دواعي الفتنة والارتجاج في قوامة الأمر، وقع فجاءة لم تتهيأ لمقتضياته رؤى أو تتقيه خطة، وهكذا لم تكن قيادة الحركة سليمة تحتمل البلاءت النازلة.
إن وهم الغرور الذي ولّي الحركة كل تكاليف المشروع الإسلامي بناء وتأميناً والتعويل على السلطة في تمكينها من كل التغيير والإصلاح الاجتماعي اللازم، ذلك هو الذي دعا لدفع الأكثر من خيار أبنائها إلى دواوين السلطة، بل توسعت الدواوين والمرافق للحكم مركزياً ولا مركزياً و تكثفت مؤسسات المال العام وشركاته حتى تستوعبهم ويكون الأمر والمال العام كله بأيدي الأفضلين أمانة ورشداً. وأولئك بهموم تلك المناصب انشغلوا عن هداية المجتمع وإصلاحه حتى عندما نشأت ضرورة الإقبال عليه و إشراكه في الأمر. وهم أنفسهم تعرضوا لفتن السلطان لسطوته وثروته وما كانت مناهج تزكيتهم الحركية تعدهم علماً وخلقاً لخوض تلك الساحة الفاتنة بل أن الثقافة الإسلامية الموروثة عموماً لم تكن تزود أحداً بأهلية كافية فالفقه والتصوف كله في ذلك فقير معتزل، ثم إن في صفوفهم كثيرين من الدخلاء الغرباء وفيهم من قد يغويهم بما استورد من غواية.
إن أبناء الشريحة القيادية لحركة الإسلام كانوا قد عاشوا عهداً طويلاً أيام الدعوة الأولى في غربة وجدال وخصام إذ أحاط بهم طيف من عشاق المذاهب الاشتراكية و الليبرالية. ثم لما بلغوا أشدهم فاقتحموا السياسة عهدوا صنوف المشاقة والمؤاذاة من متعصبة الطائفية رمياً بالحجارة وضرباً بالعصى ليصدوهم ويحموا الاتباع من الوعي والانصراف. ثم تعرضوا لسنوات طوال أيام مايو لملاحقات ومراقبات وتشريدات وسجون وصنوف أذى في الإعلام. فما عجب لما استوى لهم الأمر منقلباً وتمكنوا من القوة بثورة الإنقاذ أن يأخذوها حاملين رواسب الثارات المستفزة فيقابلوا الآخرين جميعاً بروح المقاصة والمجازاة بالمثل، لا سيما أن الدفاع عن الأرض والولاية التي استخلفوا عليها دعتهم إلى الجهاد والاستشهاد وذلك لغير المتفقه التقىّ يهيج روح الثورة الغاضبة تصويباً على الأعداء لإهلاكهم والقضاء عليهم انتقاماً أو كبت معارضة بما يكاد ينسى مقاصد الجهاد ووصايا القرآن للمتقين الصابرين بكظم الغيظ والعفو والسماحة وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاق العدو المغلوب والمعارضين المؤذين، وثمة هدى الحكمة بأن التعايش والتدافع سلماً بين الحق والباطل مهما شق الصبر إنما هو منبت الصلاح، فالرأي إذا لم يقابله بالجدال الحر رأي معارض يستفزه فيفجر فيه ما يغذيه ويثريه إنما يخمل ويفقر، والقوة مغالبة أو محاربة إذا لم تقابلها قوة تهيجها تفتر وتهي، بل إن الفطرة المنطوية على بعض شر المستعدة لأن تقذفه في وجه من يصارع إنما تلهم أصحابها إن لم يجدوا عدواً أن يتخذ بعضهم بعضاً عدواً لأوهى أسباب الخلاف. فالذين احتكروا السلطة من أبناء الإسلام انصرفوا عمن قد ينتقدهم أو يباريهم فيضطرهم لتجويد أدائهم وتخريج حيثيات سياساتهم وثمراتها حقاً وخيراً على الناس أصبحوا يسيئون ولا يخاطبون أو يبالون بأحد، فسري بين الناس سوء الظن بهم وتضاءل الرضا بما يفعلون، وأجهزة تأمين سلطتهم غدت تظلم وتستبد حتى إذا حسبت أنها قضت على الأعداء انقلبت على الأقربين لتصوب عليهم شرها البالغ. والذين احتكروا مؤسسات المال العام محصنةً لا ينافسها أحد كان يثاقل جهدهم ويخفق كسبهم.
والأخطر من الصمم عن الرأي الناقد أو المعارض أن الحركة أخلت ساحة الحياة العامة من كل القوى الأخرى. ولربما تبين لهم أنهم إنما اسكتوا أصوات القيادات وإن بعض القواعد ما تزال على عهدها القديم، لكنهم استخفوا بذلك وتنطعوا في تقدير جدوى حكر الساحة مطمئنين أن رواسب القديم إلى تلاشٍ محتوم. ولذلك أطبقت الغفلة عن هدى القرآن والسنة في علاقات قد تقوم مع آخرين مهما كان بعدهم عن الدين الحق. وانقطعت كذلك التجربة التي عرفتها الحركة قديماً لضرورات الحياة السياسية وحاجاتها. هكذا تعتزل الحركة عن غيرها تعصباً واستغناء وتلجئ الآخرين إلى التماس التحالفات صفاً عليها. لكن ما انفتحت الحركة على الجماهير وفرّجت حرية العمل السياسي للآخرين إلا أدركت أن الدين من أكل الفرد وزواجه ومعاملاته إلى مجاهدات جماعة الدين في منافسات الحياة ومواقعاتها ومقاتلاتها يفتح أسباباً للتعامل مع الآخرين من أجل حفظ الدين في الإنسان والمجتمع ومن أجل الدعوة إلى الدين ومن أجل دفع الشر وجلب المصلحة للإنسان كله. الدين حق ينبغي ألا تشوبه شائبة غريبة لكن حملة الدين مبتلون في الأرض بوجود الناس منهم كافر ومنافق وليس لهم أن يستأصلوا أولئك بل عليهم أن يقدروا حكم الدين نصاً وحداً وهدّية اجتهاداً فيما يلزم فيه التبرؤ والمفارقة والاعتزال ومايجوز فيه من الخلاف التآلف والتحالف لمدى. أما الهجر للإنسان بالقطيعة المطلقة فلا مجال لها. تلك ظواهر تصور الدين تعصباً يصد أهله عن بنى الإنسان ويقيم بينهم سداً من خلاف مطلق وسبباً لأن يتفاقم الخلاف - سنة البشر الفطرية - فيتحول إلى صراع بالقوة والظلم، كأن لا مجال فيه للجدل بالحسنى و التناظر بالسلم والوفاق والتعاون على شئ ورد النزاع إلى المجتمع يحكم فيه بالمذهب الأغلب إيماناً أو كفراً لئلا تلتهب العلاقات كلها صراعاً أعمى تحسمه القوة الأبطش، وكأنه لا منافسة في الدين ولا عبره بالحسنى ولا عقد صلة بين بنى الإنسان إلا بالعقيدة الإيمانية المشتركة إلا بالمذهب الواحد داخل الملة، وذلك ألا جد في الحياة ولا تدافع بل يخمل الفكر والسياسة والجهاد والاقتصاد وتنحط الحضارة وتموت.
يتبع ..
| |
|
|
|
|
|
|
|