حكاية الشقرة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-26-2024, 06:46 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-06-2003, 10:53 PM

nassar elhaj
<anassar elhaj
تاريخ التسجيل: 05-25-2003
مجموع المشاركات: 1129

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حكاية الشقرة

    حكاية الشقرة
    فصل من رواية معتوق الخير للروائي المصري ( النوبي ) حجاج حسن أدول
    وهو مهتم بقضايا وهموم منطقة النوبة في مصر وناشط جدا في هذا الاتجاه
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    هل تعلم أنني وُلدت في مركب شراعي مثل المراكب التي تملكها أنت؟ وأبي مات في مركب شراعي أيضاً! أمي.. أمي مثل الأكتع الذي عرفته أنت والذي لاحظت كم يحبني وكم أحبه, أمي سوداء تكرونية. كانت عبدة عند مملوك طيب كاد أن يكون باشا القلعة يوماً ما, والديها عبدان. لا تقاطعني، سوف تسمع مني كل شئ. D’accord؟. أبوها، جدي كان طباخاً ماهراً محبوباً من المملوك الطيب الذي يملكه هو وجدتي. لما أنجبا أمي فرحا بها، فقد أنجبت جدتي قبلها بطنين لولدين ماتا صغيرين, فكانت أمي قرة عينيهما. أمي كانت جميلة, تقاطيعها tres belle جسدها جميل. تشعر بجمالها وتعتز بنفسها لدرجة كانت تسبب المشاكل لها ولوالديها خاصة أمها التي كانت تخاف من طباع ابنتها وتعمل على تزويجها سريعاً. لكن أمي كانت ترفض الزواج وترفض أن يقترب منها أي رجل اقتراب الذكر من الأنثى. والذي حماها كان المملوك الطيب الكبير الذي يملكها هي وجدي وجدتي.
    عبد ضخم شرس أحب أمي, كان عبداً عند مملوك آخر يسكن في قصر مجاور على شاطئ بركة الرطلي التي تتوسط القاهرة, راودها العبد الشرس فأبت. تقدم للزواج منها عن طريق سيده, فرفضت أمي. فكان هذا العبد الشرس نكبة على أمي سنوات طويلة من حياتها القصيرة, فقلبه لم ينس حبه لها ونفسه لم تنس تكبرها عليه. أمي كانت تحلم بـأن الذي سيكون لها.. رجل أبيض. بكت جدتي كثيراً, لأن هذا معناه أن الذي سيضاجعها سيد أبيض لن يتزوجها, بل سيتخذها عشيقة من درجة دونية, فالنسوان عموماً تكون البيضاوات في الدرجة الأولى عند الرجال, خاصة التركيات, والسوداوات لمجرد التنويع عند السادة المماليك ومن بعدهم في الدرجة من أولاد الناس والمشايخ الكبار والتجار العظام, وحتى عند الناس الرَّكَشْ والصعاليك, تكون السوداوات في بالهم مجرد عَبدات حتى لو كن حرّات! وهن للمضاجعة الرخيصة التي تكسر رتابة حياتهم, ويقولون عنّا نحن السوداوات, أقصد عنهن.. أنهن أكثر سخونة وأكثر حُرقة في المضاجعة, ولذا فالكبار يقلن لبعضهم "أنجِب من التركيات والشركسيات, لكن تمتع بالحبشيات والتكرونيات". لذلك خافت جدتي على أمي أن تصير مجرد فَرْج لمملوك يستمتع بها ثم يلقيها لأي عبد من الدرجات الدونية ليتزوجها, فالعبيد درجات إن لم تعلم, D’ accord؟ وتصير أمي مجرد مِلك يمين شيخ عجوز أو تاجر من كبار التجار, يستدعيها وقت أن يريدها ليضاجعها ثم يهملها حتى يتذكرها بعد فترة ربما تطول شهوراً! جدتي كانت تريد لأمي أن تتزوج عبداً هاماً يعطيها حياة هادئة وينكحها كزوج مسلم شرعي وينجب منها, تماماً مثلما كان حظها مع زوجها.. جدي.
    لكن أمي لم تفكر في ذلك, الخيالات ترقص بها والأحلام تطير بقلبها. أما الثاني الذي أحبها فهو الأكتع رفيقها في القصر الكبير الذي تعمل فيه. هو خصي, ليس له في النساء. لكنه أحب أمي وأحب كبرياءها وهي أحبته كأخ لها. وهو الذي حماها عندما دارت الدوائر عليها. تهجم مملوك شاب عليها, قاومته أولاً ثم كادت تتركه يفعل ما يريد ظانة أنه من تحلم به لولا أن تدخل الأكتع وكاد يقتله المملوك الشاب, لكنه أنقذها منه.
    انقلب حال مصر كلها عندما جاء الفرنسيس واحتلوها وهزموا المماليك وبحتروهم وأذلوا الناس كلهم. هرب المملوك الذي يملك عنده أمي ووالديها. وحاول العبد الشرس التسلل إلى القصر واغتصاب أمي، قاومته بشراسة وكاد أن يتغلب عليها لولا حضور الأكتع الذي لم يكن بذراع واحدة أيامها, الشرس ضرب الأكتع وكاد يقتله لولا أن أمي ساعدته وضربت بقطعة خشب رأس الشرس فكاد يموت. ألقياه خارج القصر. الشرس لم ييأس ولم يهمد ولم يذهب حبه لمن كادت تتسبب في مقتله.
    السوداوات العَبدات في القاهرة, عرفن أن العسكر الفرنسيس يرغبن في مطلق النسوان، ليس لديهم فرصة للانتقاء. فذهبن إليهم جماعات يقفزن على حوائط القصر الكبير الذي عسكروا فيه. يسعد بهن العسكر, حتى من رفضوا من قبل أن يضاجعوا المومسات بنات البلد لقذارتهن, أقبلوا على السوداوات فكانت لقاءات جنسية محمومة من الطرفين, فكلاهما يشتاق للآخر.. العسكر الفرنسيس تركوا نساءهم منذ فترات طويلة, والنساء السوداوات لا ينظر إليهن الرجال بما فيهم من سود على أنهن جميلات, ففرص الجماع عندهن قليلة, وأن يضاجعهن فرنسيس شقر! فهذا شرف وأي شرف. الفرنسيس لا يقلون بياضاً عن المماليك, بل يفوقونهم بياضاً وشقرة وحُمرة وجه. وكانت الكثيرات منهن يأملن أن ينجبن من الفرنسيس أولاداً وبناتاً شقراً مثل هؤلاء العسكر, ورغم أن أطفالهن منهم سيكونون أيضاً عبيداً, لكنهم سيكونون بيضاً وفرصة الترقي الحر كبيرة للبيض, أليس المماليك المتعاظمون عبيد بيض أصلاً؟
    لم تذهب أمي معهن في الليلتين الأولتين, لكنها سمعت منهن عن الرجال الشقر غُلُف الأعضاء الذكورية! في الثالثة ذهبت مدفوعة بحلمها الذي يراودها.. الذّكر الأشقر الذي يأخذ قلبها وجسدها.. وقد كان. نطت الحيطان مع بقية السوداوات الشابات. الحوش نصف مضاء بالمصابيح الملعقة على أجناب القصر ونوافذه, والعسكر والضباط يضحكون على السوداوات وقد تسلقن الحائط وجلسن أعلاه يصرخن خشية الوثوب من هذا الارتفاع، لكنهن يقفزن رغماً عن خوفهن تشوقاً للجنس. والحرس على الأبواب البعيدة يضحكون عليهن فهم لا يستطيعون تركهن يدخلن من الأبواب! أمي كانت معهن.. لم تتقدم بعد القفز, بل وقفت بجوار الحائط حائرة, تنظر حولها مستطلعة.. العسكر يتقدمون ويلتقطون البنات ويختفون اثنين اثنين في جوانب القصر والفناء الخلفي. عدد من الضباط ينظرون ويضحكون وينتقون الأجمل من السوداوات.. وكان بينهم الضابط "دي فلوت".
    سِعْدَة، هو الاسم الذي أطلقوه على أمي في القصر المملوكي الذي وُلِدت فيه عبدة بنت عبدين, لكنها اشتهرت بالاسم الذي كانت تدللها به أمها.. ماسي. ماسي بقيت بجوار الحائط العالي بعد أن وثبت من فوقه بخفة. الضوء ضعيف, لمحها الضابط "دي فلوت". تقدم منها.. لمحته, راقبته وهو يقترب.. Oh la-la إنه من تحلم به منذ طفولتها. لم تكن ماسي قد تخطت الخامسة عشر. طويلة رشيقة الجسد مشهورة بحلاوة ملامحها ونعومة جسدها وأنفتها التي تناسب زوجات البكوات من كبار المماليك. ودي فلوت كان وسيماً أنيقاً طويلاً به سمو ورفعة.. لم يكن اسمه دي فلوت. اسمه الحقيقي بلسانهم الرقيق "لِوي" لكنه كان عازفاً ماهراً على الناي الفرنسي واسمه عندهم.. Flute. وفي الحروب مثلما معه سلاحه.. معه الفلوت. فكانت شهرته لِوي دي فلوت, و"دي" لقب مثل البك والباشا عند الأتراك المناكيد.. عرفته أمي بـ "دي فلوت" وعرفها بـ "ماسي". شاهدا بعضهما.. وقفا أمام بعضهما ينظر كل منهما إلى الآخر في تعجب وتشوّق وانبهار. أمي ماسي, كانت تحكي لي كثيراً هذا الموقف الذي يشبه الحلم على رأيها, يشبه حلمها الذي كانت تحلم به. تقدم منها دي فلوت وأخذها من يدها فسارت معه كأنها تسبح على سحاب أبيض خفيف. وبجوار باب القصر حيث كان عدد من الجنرالات يقفون مبهورين بجمالها وبالمشهد الذي يرونه بين فلوت ماسي. قال لهم فلوت..
    -Est-ell bell? Oh la-la! أليست جميلة؟ Eet elle une deuge noir? أليست إلهة جمال سوداء؟ هل شاهد أحدكم فتاة في جمالها سواء في فرنسا أو في قبرص أو في الإسكندرية؟
    وكان هذا اللقاء هو أول لقاء. ومن ليلتها كانت له وكان لها حتى ماتا. وطوال الحرب التي استمرت سنتين تقريباً وهما سوياً بقدر ما يستطيعان. تنام أحيانا معه في قصر العسكر الفرنسيس وأحيانا في بيت آخر به عدد من الضباط الفرنسيس وعشيقاتهم أو زوجاتهم, وأحيانا تبقى في قصر مملوكها الهارب مع أمها, أما أبوها فمع سيده المملوك، أين، لا أحد يدري. أمها لم تكن راضية عن هذه العلاقة, فهي علاقة ليست شرعية في رأيها, أما أمي.. ماسي, فكانت تقسم أنها علاقة شرعية أمام الله وأمام زملاء وقادة وعَسْكر حبيبها لِوي دي فلوت. ولم يكن يعنيها أنها على دين الإسلام وأن حبيبها على دين النصارى. قصة حب دي فلوت لماسي اشتهرت بين الضباط الكبار والجنرالات غنوا لها وشربوا الأنخاب وقصوا قصتها Oh la-la , صاروا يحادثون أمي بفرنسيتهم التي يعلمها لها دي فلوت وهي تعلمه بعض الكلمات العربية. وكثيراً ما ركبا الحمير في شوارع القاهرة. يتفسحان ويضحكان ويمصان عيدان القصب. وكثيراً ما لعنها الناس لأنها ترافق الفرنسي الكافر. لكنها كانت تحبه وهو يحبها. فلم تأبه بتشنيع الكثيرين عليها، ولا بتعاليهم عليها لأنها عبدة سوداء مارقة.
    في حالات هياج الناس وقيام العراك بينهم وبين الفرنسيس, كان دي فلوت يختفي عن أمي فترات. وأمي في خلال هذه الأيام كانت حالتها صعبة، فهي بينما تكره في الفرنسيس تعذيبهم للمصرليّة وقتلهم للكثير منهم وتعديهم على الجوامع وكبستهم على الجامع الأزهر بأحصنتهم وأحذيتهم أعوذ بالله، وأيضاً فرضهم الرسوم الثقيلة وإهاناتهم للمشايخ, فهي تحب فيهم.. دي فلوت التي تقول إنه زوجها, وما تحبه في رقة وعلو منزلة الكثير من عسكر وضباط الفرنسيس, خاصة هوجو, الضابط صديق دي فلوت. هوجو أطول من دي فلوت, رغم أن دي فلوت طويل فعلاً, هوجو أطول وأضخم ووسامته مغايرة لوسامة دي فلوت. دي فلوت -أبي فيما بعد- به وسامة تقارب وسامة النساء, بعكس هوجو فهو وسيم في خشونة مثل خشونة جسده وكل حركاته وضحكاته. كانا صديقين حتى مات دي فلوت إثر إصابته ورحل هوجو إلى فرنسا مع كل العسكر حيث له أب هناك شهير, يكتب كتباً مثل كبار علمائنا هنا.
    في القاهرة قامت هوجة كبيرة, حرب بين الناس المصرليّة والفرنسيس, كان دي فلوت وهوجو معاً, حاربا بشراسة واشتهر فيها هوجو باسم الملاك الأشقر L’ angel blonde لوسامته ولجرأته وقوته, خذ بالك.. اسم الملاك سوف يطلقه دي فلوت على مملوك شاب في حربه في الصعيد D’ accord.؟
    في هذه الهوجة الكبيرة تهجم بعض الناس على أمي في السوق وضربوها ضرباً مؤلماً لأنها عشيقة للفرنسيس, وأصيبت أمي في عينها اليسَرى، ولأنها عبدة لن يسأل عنها ويدافع أحد, خاصة أن سيدها المملوك الكبير هارب ولا يعلم أحد أين. بعد أن هدأت القاهرة وعاد أبي دي فلوت لأمي ماسي, ارتعب مما جرى لها, فقد زارها عندما لم تأت له.. زارها في القصر الكبير. استقبلته جدتي استقبالاً عنيفاً حتى يقال أنها ضربته بطاسة نحاس ولولا أنه تفاداها لنالت منه. أكد لجدتي أنه زوجها لكنها لم تصدق, تشتمه بالعربية وهو بما له من قليل كلام مصري يحاول أن يطمئنها حتى عرض أن يدخل الإسلام ويتزوجها. هنا ارتاحت جدتي. لكنه لم يفعل, كان صعباً عليه أن يترك نصرانيته، وكان مستحيلاً على ماسي أن ترتد عن إسلامها. فبقيا هكذا حتى كان ما كان. أخذها وعالجها مطبّب فرنسي وأنقذ عينها، لكن إلى حين، فقد عاودتها آلام عينها بعد ذلك واستفحلت حتى أصابها العمَى قبل موتها وهي مازالت شابة، رحمها الله.
    قائد كبير، un grand generale عند بونابرته القائد الأكبر للفرنسيس, اسمه ديزيريه, كان أهم وأخطر من المملوك الذي كان عنده جدي، أخطر وأهم بكثير بكثير جداً. أرسله بونابرته ليطارد المملوك مراد بك في الصعيد. وكان دي فلوت من ضباط ديزيريه فرحل إلى الصعيد. ماسي كانت تبكي بكاء مرّا وهي تودعه. أصرت أن تذهب معه خاصة أن ديزيريه صحب معه عدة عشيقات بيضاوات وسمراوات جميلات. Oh la-la, لكن دي فلوت رفض. خاف عليها من حياة العسكر خلال المطاردة في الصحراء. خاف أن تصاب فيفقد حبيبته son amour.
    انقطعت أخبار دي فلوت, والناس الذين يعملون مع ماسي هدءوا بعد أن ادعى دي فلوت أنه أسلم وتزوج منها. في هذه الأيام كنت أنا في بطن أمي نطفة تنمو فزاد قلق أمي, قلبها أحس بأن المأساة حانت. ذهبت لأصدقاء دي فلوت من ضباط الفرنسيس والجنرالات, ساعدوها خاصة هوجو. ركبت مركب إمدادات لجيش ديزيريه. وصلت الصعيد. هبطت معهم وركبت الحمير في الصحراء الهجير. تعبت كثيراً لكن ماسي كانت مصممة على رؤية دي فلوت. وصلت في وقت صعب.. عركة في عز النهار والشمس حارقة والرمال لينة لم يتعود عليها الفرنسيس فكانت عليهم وبالا. أحاط المماليك فيها بالفرقة الفرنسية وكادت أن تبيدها وفيها دي فلوت, لولا أن وصلت الإمدادات وخلصّوا الفرنسيس على آخر نفس. في هذه المعركة كان هناك مملوك شاب قمحي اللون شديد الجرأة, قتل الكثير من الفرنسيس سواء وهم على خيولهم يهجمون على الفرنسيس ويطلقون النار عليهم من بعيد, وأيضاً عندما تلاحم المتعاركون بالسيوف وحراب البنادق والبنادق والغدّارات. اسمه l’angel noire الملاك الأسمر, أطلق عليه لوي دي فلوت -أبي- هذا الاسم بعد أن أصابه خنجر هذا المملوك! فقد بهره هذا المقاتل وذكَره بصديقه الضابط هوجو والذي أطلق عليه الناس l’angel blonde. أما l’angel noire فكاد أن يقتل دي فلوت مرّة لولا أن أنقذه ضابط آخر وأطلق النار على l’angel noire فأصابه.
    دي فلوت إعجابه وذهوله من تهور l’angel noire ووسامته في نفس الوقت, جعلاه ينسى الحذر فاقترب من جثة الملاك الأسمر, لكن الملاك لم يكن جثة, كان جريحاً جرحاً بالغاً وفي طريقه للموت. وثب وهو مصاب إصابة الموت خطوتين وألقى بنفسه على دي فلوت, فكان خنجره من نصيب من أعجب بجرأته وحرفنته في ركوب الخيل واللعب بالسيف والتنشين بالبندقية والغدّارة وبث الحماس في العسكر.. كان الخنجر من نصيب بطن دي فلوت. وفي نفس الوقت كانت حربة بندقية دي فلوت قد اخترقت قلب l’angel noire لتخرج من ظهره. كان أبي طيباً جميلاً. أووه.
    جمعوا الجرحى في ظل بسيط وتقدم المطببون بسرعة من بعيد, وكانت بينهم ماسي. لم تتقدم ناحية العسكر والضباط، بل اتجهت مباشرة ناحية الظل الذي يرقد أسفله الجرحى. رأته والدماء تغطي كل ملابسه ويديه, خاصة بطنه.. مصارينه كانت ممزقة, عيناه مغلقتان ووجهه شاحب ملئ بالرمال وبقع الدم مثل شعره الأشقر. نزلت على ركبتيها تصرخ وترفع الرمال وتضعها على شعرها وقد ظنت أنه مات. حملوها بعيداً وقد أغمى عليها. سمحوا لها برؤيته في الليل, أفاق من غيبوبته. لم يستطع أن يتحدث ولم يتركوها معه إلا بعد إلحاح منها ووعود بأنها لن تصرخ ولن تحادثه, وهو أشار لهم أن يتركوها بجانبه. كانا يحبان بعضهما حباً جماً, وكان الفرنسيس يعرفون ذلك. الفرنسيس يحبون الحب ويحبون العشاق.. les amoureux .
    عندما تجدني أبكي لا تقاطعني d’accord؟
    عادت معه ماسي في قافلة الجرحى. رحلة ربما كانت السبب الأساسي في موت لوي دي فلوت. أن يركب على حمار مسافات في الصحراء وهو جريح جرحاً صعباً وفقد الكثير من دمه! كانوا مضطرين لإبعاد الجرحى فمراد بك يلاعبهم بخباثة وبعض المماليك مثل l’angel noire والعديد من العسكر على استعداد للموت في سبيل قهر الفرنسيس الكفرة دفاعاً عن دينهم.
    وبعد رحلة الحمير القاتلة, ركبوا مركباً شراعياً كبيراً به جنود للحراسة ومدفع. في هذا المركب كانت المناجاة الأخيرة بين دي فلوت وماسي. بطنه هو ممزقة تنزف ورأى بطنها وأنا كَبَرت فيها قليلاً، فضحك وبكي. كان يتمنى أن يرى من بداخل بطن ماسي. عرف أنه ميت ميت. وماسي تؤكد له أنه سيعيش وسيرى وليدهما.
    اسمي أنا قمر La Lune. لأن تلك الليلة كان القمر في السماء يطل على الحبيبين وأنا داخل بطن الحبيبة. دي فلوت يعزف قليلاً لكن في صعوبة. أكدت لي أمي أن عدداً من الحرس المرافقين والجرحى بكوا مع عزف دي فلوت على مزماره! بعدها قال La Lune. أشار على القمر فقالت ماسي.. قمر. فكان أن ضحكا وقد أطلقا على من في بطنها قمر La Lune, سواء كان ولداً أم بنتاً. لكن.. ماسي لم تنطق بشيء كانت تخشاه.. ماذا لو كان الذي في بطنها من لونها.. أسود غطيساً؟ سيكون اسمه نكتة. اسم قمر La Lune على بني آدم في سواد ليل! كيف؟ المركب تتدحرج شمالاً إلى القاهرة وروح دي فلوت تعوم صاعدة إلى خالقها.
    هبطت ماسي مع جثة حبيبها. عويلها أسمع كل من في ميناء بولاك, وقصتها مع دي فلوت كان العديد يعرفونها والقليل من الناس بدأ يسامحها لأنها ليست متهتكة ولا شرموطة مثل اللاتي كن يبعن أنفسهن مقابل هدايا ودراهم الفرنسيس. ماسي كانت معه وهو يدفن. أعطوها الفلوت الخاص به داخل أنبوبة من ورق سميك قوي، وعادت ماسي إلى أمها لتتحول إلى مناحة في جسد ما كان فتاة جميلة تحلم وتحلم ولا تسع الدنيا أحلامها. تخيّل.. لم تضحك من يومها إلا حين كانت تضحك رضيعتها قمر، أنا. حتى وصلت قمر إلى سن الفهم القليل, فلم تعد تضحك مع ابنتها, فهذه –أي أنا- كانت مأساة أخرى على رأس ماسي. حين قرر جيش الفرنسيس أن يأخذ أمي معهم, رفضت ماسي، فكيف تترك أمها وحدها، وأبوها الذي لا تعلم إن كان حيَا أم ميتاً! وهي علمت من دي فلوت ألا سود بشرة في فرنسا. فكيف ستعيش مع البيض والبيض في تاريخها كله متعالون على السود. كيف ستعيش هناك ودي فلوت قد مات؟ رفضـت. رفضت رغم التأكيد لها بأنها ستعيش في France معززة مكرمة وسيخصص لها جيش الفرنسيس مالا كل شهر لها ولمن في بطنها. رفضتْ. ورحل الفرنسيس. ودعها الضباط والجنرالات الكبار بعد أن أصروا على تحريرها من المملوك الكبير الذي عاد. أعطوه بعض الذهب فحرر ماسي ومعها الأكتع الخصي الذي أيضاً لم يكن أكتعاً حتى ذاك اليوم. أبوها كان مريضاً. وألح عليها أن تترك القاهرة لأن الناس لن تتركها حتى لو كانت حرّة. بعض المستشيخين سوف يحاسبونها حساباً عسيراً وربما قتلوها شر قتلة، كان أبي بعيد النظر، فهذا ما حدث بعد ذلك مع ابنة شيخ كبير، قتلوها لأنها أحبت بونابرته شخصياً! ماسي كانت مرعوبة على من في بطنها.. ابن أو ابنة حبيبها دي فلوت. فرحلت مع الخصي هاربين على ظهر حمارين وبغل يحمل متاعهما, لكن.. العبد الشرس لم يكن يهدأ. عنده le desir sexuel طاردهما ليلاً مصراً على مضاجعة ماسي رغم أنها حامل في شهور أخيرة ومرهقة بدنيّاً وقلبيّاً. فحدثت معركة بين الشرس والخصي, الشرس لم يتوقع أن الخصي يحتفظ بحربة وضعها بحيث يأخذها بسرعة من ظهر البغل, المفاجأة ساعدت الخصي فأصاب الشرس إصابة في كتفه, الشرس هجم في غل على الخصي بسكينه الكبيرة وأصابه في ذراعه.. ومن ليلتها صار أكتعاً ومن ليلتها ابتعد الشرس عن ماسي سنوات طويلة. لكنه تقابل مع الخصي وهما في سن الشيوخ, فكانا أن احتضنا بعضهما وبكيا وطالب الشرس بأن يسامحه الأكتع بحجة أنه كان محباً لماسي ففعل ما فعل. عرف أنها ماتت وأن ابنها قد مات قبلها. كذب عليه الخصي الأكتع لأنه كان حريصاً جداً على سرّي الخطير ويخاف من مطاردة البك التركي لي. والبك التركي أظن أنه لا يعرف قصتي الحقيقية ولا يدري عن أمي شيئاً ولا عن الأكتع الذي عمل في قصره ليكون بجانبي. ولو عرف ربما كان ينجح في مطاردته لي وقبض على, وساعتها كان سيقتلني شر قتله.
    بقي الأكتع في قرية مع أمي مدعياً أنهما زوجان, لم يعلم أحد بأنه خصي. بمجرد أن أحس بالشفاء تحرك موكبنا إلى الشمال ليستريح في قرية أخرى وهكذا أخذنا مركباً عريضاً فهو أريح لأمي في أيام حبلها الأخيرة بدلاً من ظهور الحمير. ولدتني في المركب! فهبطنا في قرية بالقرب من الإسكندرية. كان عمري ساعات. يومان وكان الفرار من القرية إلى الإسكندرية. رغم ضعف أمي وخطورة أن تتحرك. لماذا؟ لأن من ولدتها كانت blonde وأهالي القرية يعلمون أن زوج هذه الحبلى السوداء هو الأكتع الأسود المرافق لها، فكيف تولد لهما ابنة شقراء؟ فكان يجب الفرار حتى لا يتدخل شيخ البلد ويقبض عليهما أو يراقبهما ويبلغ عنهما أحد بصّاصي الوالي في الإسكندرية التابع للباشا الكبير في قلعة القاهرة. هذه المرّة كان الفرار السريع لإلحاح أمي.. تخاف على بنتها أن ينالها أي ضرر.. إنها عهدة معها.. عهدة حبيبها دي فلوت.
    في الإسكندرية. أظهر الخصي ما كان معه ومع ماسي من ذهب, ابتاع بيتاً متوسطاً على مشارف الإسكندرية وفعل ما أرادته أمي "إن هذه الطفلة يتيمة لشاميين ماتا, وإن من يقومان بتربيتها هما شقيقان كانا خادمان لأسرتها"، وعلى ذلك كبرت أنا وفهمت القصتين.. القصة الحقيقية والقصة الكاذبة. فكانت الكاذبة أحب إلى لأنها تعطيني مكانة طيبة, أما الحقيقية فتجعلني ابنة لجارية سوداء. دللتني أمي رغم تحذيرات الخصي الأكتع، الذي صرت أناديه.. خالي فيما بيننا, ثم لم أعد أناديه حتى لا أقول له خالي! لم أكد أبلغ الثالثة عشر حتى اكتشفت روعة جمالي فكان الغرور يأخذ عقلي وقلبي, تكبّرت على الأكتع, تكبّرت حتى على أمي التي عاودتها آلام عينها اليسرَى.
    اختلطت La Lune،قمر.. أنا، بأكابر الناس خاصة عائلات الأتراك. سلاطين.. اسم قمر اختاره لي أبي وأمي، أطلق عليّ ناس جزيرة أسوان اسم الشقرة، لكن.. أحن أنا إلى اسم قمر، La Lune هلا ناديتني أنت، أنت وحدك باسم La Lune؟ ادعيت أن أمي والخصي مجرد خادمين كانا لوالديّ وهما الآن في خدمتي. أمي انجرح قلبها مني, ليس لهذا الادعاء فهي التي اقترحته, ولكن لأنني عشت هذا الإدعاء خارج البيت وداخل البيت وصرت أعاملها أحياناً وكأنها عبدة عندي, كنت أشعر بالخجل فعلاً من أنها أمي! أزعق فيها وأهددها ولما حاولت أن تمنعني من سهرة مع بنات الناس الأكابر ثم مع بنات الأتراك – فأنا أجمل منهن كلهن- ذات مساء.. رفعت يدي عليها لولا تدخل خالي وإمساكه بيدي. فنال مني سباباً فظيعاً. كنت على رأي أمي.. قليلة الأصل. بعد هذا الحادث تأسفت لها فقبلت أسفي بعد إلحاح مني ومن خالي, لكن الحزن رزح على قلبها, وأيامها وثب الألم ووضع قدماً ثانية في عين أمي اليمنَى. لم تعد تريد الحياة, كرهتها وصارت تحن لملاقاة حبيبها.. أبي لوي دي فلوت.
    وتماديت في مصاحبة بنات الأتراك وذهبت إلى ما كنت أريد الذهاب إليه ذات مساء. وكانت هذه السهرة بداية ما أنا فيه من رعب وقلق.. رآني قوّاد شهير. تتبع أخباري وأبلغ والي الإسكندرية التركي العجوز والذي له أربع زوجات.
    فرحت لما أتى القوّاد وطلبني زوجة للوالي! لم أهتم ببكاء أمي ولا بحزن خالي. لم يكن باستطاعتهما الرفض. طلق الوالي التركي واحدة من أربعته وأخذني مكانها. قصره un grand chateaux فخم على شاطئ البحر. ومن لحظة أن رأيته ندمت على عدم سماعي نصيحة أمي وخالي. كان طويلاً عريضاً كرشه كأنه سيقع منه لضخامته. جاحظ العينين قاسي الملامح. عيناه بنيتان ولونه واضح البياض. رائحة الخمر لا تفارقه. حديثه كله شخط ونطر وسب وهجاء. وأوقات يقذف من يعكننه بأي شئ في متناول يده. لا يهمه مدَى إصابة المصاب.
    من الليلة الأولى ودخل الغم قلبي كما دخل قلب أمي من قبل. متوحش. حيوان وعاملني كأني حيوان مثله لا يحس. كنت صغيرة مازلت، وخلال لقائه بجسدي، مزقني، وكلما صرخت كان يفرح ويضحك ويزيد من فعله, وبعد أن يتركني يذهب عارياً تماماً إلى البلكونة لينجعص على دكِّة وثيرة فيأتي له عبديه بالشيشة وزجاجة الخمر. يدخن ويشرب ويتناول الفاكهة ويضحك على الكلمات المنافقة من عبديه. يضحكان عليه ويبالغان في مقدرته الجنسية العظيمة حتى إن أعظم امرأة مجربة يجب أن تصرخ تحته وتستعطفه.. وإن عضوه من العِظم بحيث يجعل النسوان يغمى عليهن تحته. يضحك هو ويقهقه رغم أنه عار أمامهما وعضوه غير ما يصفانه به! لكن.. كلما أعجبه تملقهما، يعطيهما بعض الهبات الفورية مع بعض السباب واللطمات على قفاهما. فهكذا هو وهكذا هما. لم يرحمني لا من أمامي ولا من خلفي. الحقير. يتعمد حين يأتيني أن يجعلني في وضع صعب حتى أتألم وأصرخ وأستعطفه، وإن كتمت آلامي ولم أصرخ وأستعطف.. نهض من فوقي ولكمني وركلني ولعنني ثم يعود لي فأصرخ وأستعطف وأترجى حتى ينسجم هو ويخور وينتهي, ليذهب إلى البلكونة يدخن ويشرب الخمر ويأكل الفاكهة ويضحك على تملق العبدين.
    ثلاثة شهور كنت أنا المفضلة عنده, حتى تركني بعدما ظهر الحَبَل علي وكبرت بطني. بطني رحمتني منه. تزورني أمي وخالي في أوقات هادئة. أمي مازالت غاضبة, تتحسس ملامح وجهي وعنقي وتمسك بخصلات من شعري وتشمني وهي تبربش بعينيها، إنها تتحسس ملامح أبي وتشم رائحته في ابنتها. تقول لي إنها تزورني لأجل خاطره.. لوي دي فلوت.. أبي.
    لكنها بدأت تحسب لمقالب الدنيا ألف حساب وحساب, والسبب من في بطني. تعود لتتحسس بطني والدموع تنزل من عينيها التي لا ترَى بهما سوى طشاش وخيالات. صارت تنتظر من سأنجبه في رجاء وهلع. لم تحدثني عنه, لكنها كانت تحادث خالي كثيراً وطويلاً. رعبها أن يأتي من في بطني noir مثلها ومثل أهلها.. أسود!
    ألح الأكتع علىّ أن أدبر له عملاً, أخذوه مساعداً للطباخين في القصر الذي أنا مكانتي فيه زوجة البك التركي الكبير. لم يكن أحد يعلم بعلاقتي الحقيقية به. وأتى يوم الولادة.. ووقع ما كانت أمي وهو يخشيانه.. وقع ما كانت أمي مرعوبة منه. أنجبتُ طفلاً أسود غطيساً مثل لون أمي, صحيح كان في وسامتها, لكن هل الوسامة تعتبر وسامة إذا كان الوجه أسود؟
    لم يكن البك زوجي مهتماً بأن إحدى زوجاته على وشك الولادة, فقد حدث هذا الأمر له كثيراً. لكن عندما استجمع العبيد والخدم الرأي وقرروا من سيخبره بهذا الخبر المشين, كان خالي قد نفذ ما خطط له, من النافذة التي لا تعلو سوى قامة رجل, أخذني وابني وخرجنا من باب القصر الجانبي والحرس نائم, فلا خطورة من شئ ولا خطورة على شئ. وعلى عربة كارو أسرعنا مبتعدين عن الإسكندرية. أمي معي ترعاني وهي تبكي, فها هي ابنتها تهرب وهي بالكاد وضعت حملها, تماماً كما جرى لها من قبل. كانت هي السوداء وقتها ومن أنجبتها بيضاء شقراء, الآن الشقراء ابنتها تنجب ولداً أسود!
    البك التركي بركلة عصبية أطاح بالعبد الذي أخبره, وهذا ما كان يتخوف منه العبيد, وهو سبب تأخيرهم في إبلاغه, سوف يضربهم وهم لا ذنب لهم. وهذا التأخير هو ما ساعدنا على الهرب وقطع مسافة كافية للابتعاد عن القصر لكنها لم تكن كافية للابتعاد عن الإسكندرية.
    على ظهر الخيول، مع بعض عسكره الغلاظ يبحث عنّا, اضطروا للتفرق هنا وهناك لأنهم لم يعلموا أي طريق أخذنا. وكان من حسن حظنا أن البك افترق عن عسكره وأتى في الطريق الذي كنا متخذينه مهرباً. الصباح الباكر وبين أجمات نخيل كنّا نستريح حين داهمنا وقع سنابك الحصان. كان البك بنفسه. هجم علينا. لكن في وسط دغل النخيل لم يستطع أن يستخدم حصانه. هبط منه بصعوبة لتخنه وصعوبة حركته. معه سيفه الثقيل. تقدم منَا.. يسبنا بالخنازير وخرسيس أدب سيس أولاد شراميط. كان غاضباً غضباً شديداً. فكيف وهو المدعي الفحولة والمتباهي بأصله التركي العظيم وحلاوته, تنام زوجته مع عبد أسود؟ هل كان أحد سيصدق أن البك التركي هو من أنجب الطفل الأسود, وأن أبي فرنسي رغم أن أمي تكرونية! من سيصدق؟ هجم علينا واقترب منّا وأنا وأمي قلنا خلاص.. انتهينا. فإذا بخالي يستل حربته ويهجم على البك التركي.. زوجي ذو الكرش الهائل حاكم إسكندرية الفرحان بنفسه والمغتر المتشجع بها. حصل منه العجب العجاب. بمجرد أن رأى الحربة مع خالي وخالي يتقدم مسرعاً عليه غير هيّاب, حتى توقف البك وخار وانهار وصاح..
    -لا. لا. لا سيدي لا. لا لخاطر ربَك لا.
    استند على نخلة ويداه مرتخيتان.. يبكي ويستعطف خالي الأكتع. وخالي يتقدم ناحيته في هدوء وإصرار ولمس مكان قلبه بسن حربته. أمره بأن يترك السيف, فألقي البك السيف ثم خلع حزامه وألقى بالجراب الفضة, ثم إذا بكيس قماش ملئ بالذهب يستقر عند قدمي خالي! خالي بيده الوحيدة يتقدم ووضع مقدم الحربة في رقبه البك.. فترة.. البك يشهق ويبكي ويبول على نفسه. خالي لطيبته لم يستطع قتله. ليته كان قد قتله. صحت فيه..
    -اقتله يا خالي. اقتله فقد عذبني كثيراً.
    وزوجي البك المتعافي الشرس في حالة ذل يستعطف خالي باكياً..
    -لا أفندم. أبوس رجلك لا.
    أبعد الحربة عن قلبه بعد أن أخذ منه حِلفاناً بأنه لن يطاردنا ولن يكون له شأن بنا. طلقني البك ثلاثاً ليطمئن خالي. أخذ خالي سيف البك وجرابه الفضي والذهب, أمره بخلع ملابسه كلها فصار عارياً بشعاً, ثم أخذنا الحصان معنا وتركناه في خميلة النخيل لا يستطيع الخروج منها عارياً. وابتعدنا ثم تركنا الحصان ليذهب حيث يذهب. ابتعدنا كثيراً ثم اتخذنا مركباً نصعد به ناحية القاهرة التي لم ندخلها مطلقاً.. من بعيد واصلنا الاتجاه جنوباً. حتى مرضت أمي فبقينا بها في قرية صعيدية ثم دفنّاها هي وبعدها ابني الأسود مثل أمي والذي لم يتحمل مشاق وهلاك الرحلة. فكرهتُ الحياة. لم يبق لي إلا خالي وحزني أنني لم أوف بحق أمي عليّ, صحيح أن خالي يهون عليّ بأن حياتي أنا أيضاً ليست سهلة, حياتي معقدة ما بين أبيض وأسود, سادة عظام وعبيد, فقر وغنى, وعدم استقرار منذ مولدي.. لكني حزينة أني لم أعط أمي حباً يوازي ما عانته من أجلي ومن أجل أبي. أبي لوي دي فلوت الذي لم أره.. أحبه كثيراً وأحلم وأفخر به.
    خالي لم يأمن للبِك التركي الذي كان زوجي, واصل الصعود بي جنوباً حتى بقينا في جزيرة أسوان حيث كان لقائي بك. كنت قلقة, طلاقي من الحيوان التركي. كنت أتمنى أن يبدلني الله زوجا قوياً حنونا يمنحني الأمان والراحة, بدلاً من زوجي الأول، فتقبل الله مني وأعطاني إياك. خالي مصمم على أنه قد أدى واجبه ويجب عليه أن يستريح. لقد أبر بوعده لأمي أن يحميني من البك ومن غروري بجمالي ومن طيشي وتهوري. هل تعلم لماذا يصر على الابتعاد عني؟ لأنه يموت. هو يداري مرضه عني, ولا يريد أن أحمل همّه, يريدني أن أشق سِكَّتي في الحياة بدون أن يعطلني. أنا أعلم أنه مريض وأنه يداري آهاته عني, لكنني ضبطته مرّّات يتألم وكان يظنني بعيدة عنه. كم أحبه. يقول لي زوريني في بيتي هذا قبل فيضان النيل القادم, وأنا متأكدة أن العام القادم سيكون قد لحق بأمي.أووه.
    أحيانا أحتار، من الذي أَحبّ أمي، من الذي أحبها أكثر، أبي لوِي دي فلوت الفرنسي الأشقر، أم الخصي الأكتع الطيب الأسود؟ وكيف أحب الأكتع أمي وهو خصي؟ وماذا كان سيفعل بها إن هي أيضاً كانت قد أحبته ورافقته كحبيبة؟!دُنيا! Ce la vie!
    الحمد لله أن زوجي سلاطين طيب, تعرف.. لقد راقبتك وأنت تتكلم وأنت تأكل وأنت تتحرك وأنت تعامل خالي وصديقك التاجر الأسواني. لقد ساعدت خالي في ركوب المركب وساعدتني. عطفك ظاهر, بعكس البك زوجي الأول, التركي الغليظ لعنه الله. سلاطين، يا ذا العيون العسلية.. كم أنا مستبشرة بأيامي معك.

    ***
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de