منيف وادب السجون العربية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 10:47 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-31-2003, 06:10 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20497

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
منيف وادب السجون العربية





    الاحد 27 تموز 2003



    --------------------------------------------------------------------------------






    هنا وهناك

    الظلمة تعمّ المكان فضح السجن السياسي بهدف تدميره - عبد الرحمن منيف

    المثقفون ومنابر السلطان - حبيب صادق

    هل السافل من شؤون الدنيا نقيض الخير؟ - فواز طرابلسي

    الشعراء سيعودون في أحد الأيام - عقل العويط

    التلفزيون مصدراً للمعرفة طبقات المعاناة - بلال خبيز

    جديد كونديرا يكرر نفسه - ملاك جعفر

    متى نخرج من عُـزلة التاريخ الى المعاصرة - الياس الزيات

    عن فضائح "المدينة" وافلاس اهلها - زياد ماجد

    أحياناً أتحشّر بما لا يعنيني - ريمون جبارة

    على الاقل



    الدليل

    الملحق الثقافي

    سلامتك

    الاغتراب اللبناني


    --------------------------------------------------------------------------------

    الصفحة الرئيسية

    مساعدة




    الـظــلـمــــة تـعـــــمّ الـمـكــان

    فـضــح الـســجـن الـســيـاســـي بـهــــدف تـــدمــيـــره

    عبـد الرحمـن مـنـيــف



    رفعة الجادرجي.


    بلقيس شرارة.


    "جدار بين ظلمتين" (دار الساقي)، جزء من سيرة ذاتية لرفعة الجادرجي عن فترة السجن التي تعرض لها في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن العشرين. هذه السيرة تعتبر اضافة نوعية مهمة لأدب السجون، لأنها كتبت بكثير من الرهافة والشعور بالظلم، وصورت السجن من زوايا عديدة وفي أوقات مختلفة.



    من مزايا هذه السيرة أيضاً انها كتبت بقلمين ومن منظورين. واذا استوحينا العنوان: "جدار بين ظلمتين" لوجدنا ان جزءاً من الوقائع والمشاعر كتبت من خلف الجدار. كتبها الجادرجي وصوّر خلالها ما عاناه في زنزانة المخابرات أولاً، ثم في السجن بعدما صدر عليه الحكم بالاشغال الشاقة المؤبدة.

    أما الجانب الآخر من الجدار، وما شهده، فقد تولت كتابته بلقيس شرارة، زوجة رفعة الجادرجي، إذ صوّرت الفترة نفسها والأحداث نفسها، لكن من الخارج. وتعاقبت الوقائع والفصول لترسم مشهداً عريضاً لمرحلة من تاريخ العراق.

    ان الكتابة عن السجون العربية أحد الحقول المهمة في الأدب العربي المعاصر. فقد كُتب حول هذا التجارب - المحن عدد غير قليل من السير الذاتية والروايات، ولاقت هذه الكتابة اهتماماً ملحوظاً من القراء، وخصوصاً ان ظاهرة السجن السياسي من أكثر الظواهر اتساعاً على امتداد المنطقة، وتتبارى الأنظمة العربية، من أجل الحفاظ على بقائها واستمرارها، لتطوير وسائل القمع وزيادتها، حتى ليمكن القول ان نسبة كبيرة من مواطني هذه المنطقة عانت، ولا تزال تعاني، بشكل مباشر أو غير مباشر، من هذه الظاهرة. فمن لم يسجن حتى الآن، معرّض لذلك في أي وقت، والأسباب دائماً موجودة او يمكن تلفيقها. ومن يقدّر له أن يفلت شخصياً من هذه المحنة لا بد أن يكون له قريب او صديق تعرّض لها. وبالتالي فإن هذا الوباء لحق الجميع بمقدار ما، في مرحلة ما، ومن لم يصبهم حتى الآن، لا بد ان يلحق بهم ويطالهم في وقت لاحق، وتحت أي عنوان، وخصوصاً ان الدولة الشمولية تزداد حضوراً وهيمنة، ويتراجع في المقابل حكم القانون ويغيب القضاء المستقل وتنعدم وسائل الرقابة والحماية بالنسبة الى المواطن الفرد.

    وكما كتبت السير الذاتية والروايات حول السجن السياسي، فإن النقد واكب هذه الكتابات، واستخرج منها مجموعة من الصفات التي تميزها. فأغلب الأحيان تكثر مثل هذه الكتابات في اعقاب الأحداث الكبرى. وهكذا نلاحظ ان احدى اكبر الموجات التي تناولت السجون العربية ظهرت بعد هزيمة حزيران، وتتالت بعد ذلك تبعاً لمدى الاحتقان والشعور بالاحباط، او نتيجة ضعف الانظمة بسبب ما لحق بها من هزائم.

    من الصفات التي لفت النقد اليها، ان السجون العربية تكون، في أغلب الأحيان، في الصحراء أو على تخومها. واذا صدف ان اقيمت بعيداً عن الصحراء، فإن المنطقة التي تقام فيها تتصحر وتكتسب مقداراً من الجهامة يجعلها غريبة منفّرة، أي تفقد في المطلق صفة المكان الأليف، او الذي يمكن ان يتعوّد عليه الإنسان. وينعكس ذلك أيضاً على الرجال الذين ينتدبون للعمل في هذه الامكنة، أي السجّانين ومن في حكمهم، إذ يكتسبون صفات تجعلهم مختلفين عن بشر العالم الخارجي، من حيث السلوك واللغة وطريقة التعامل.

    ومن الصفات التي تميّز السجون العربية أيضاً، كما يشير النقد، ان تكون باللون الأصفر الترابي، أو بألوان أخرى مشابهة، بحيث تخلق انقباضاً في النفس لمن يعيش فيها او لمن يراها، حتى من بعد. ولعل ذلك أمر مقصود، وهو نابع من الغرائز المريضة، او من دهاة محترفين بهدف التأثير النفسي وكسر ارادة البشر.

    هذه الصفات، وما يماثلها، طبعت تلك السجون بطابعها نتيجة للمناخ العام المسيطر، اذ تنتقل الى داخل السجن اسوأ القيم والاساليب الموجودة خارجه، وتصبح هذه القيم والاساليب القانون السائد والسلوك الطبيعي. فغياب الديموقراطية وحقوق الانسان مثلاً داخل المجتمع بصورة عامة، وغالباً ما يموّه هذا الغياب بإجراءات شكلية ومظاهر زائفة لاقناع العالم الخارجي، في الدرجة الاولى، فإن غياب أي مظهر من مظاهر الديموقراطية وحقوق الانسان داخل السجن يعتبر امراً بديهياً، بل ويعتبر مصدراً للقوة واثبات الوجود، ومجالاً للزهو والشعور بالتفوق.

    ان اصغر سجان قادر على اهانة أي انسان سجين. يفعل ذلك من دون شعور بالذنب او بالخطأ، بحيث يتحول السجين رقماً، اولاً، ثم انساناً مكسوراً يستجدي الحد الادنى من الوسائل للحفاظ على البقاء، ومن اجل المعاملة الرحيمة والتقليل من الاذى قدر الامكان. كما يعتبر السجان ان ما حصل عليه من موقع وطريقة تعامل، حقوق مكتسبة له لا يجادل فيها، وهو مستعد لان يحارب من اجل بقائها وتوسيعها، مستغلاً مداهنته لرؤسائه ورضاهم عنه لقدرته على انتزاع الاعترافات من المتهمين، ثم لقدرته على فرض النظام والهدوء في السجن.

    ان المهانة التي يواجهها السجين، ومنذ البداية، مدروسة ومدبرة، وهي تهدف الى كسر معنوياته واذلاله قبل التعامل معه، اذ يُعرض لحظة وصوله، الى مقدار كبير من المعاملة القاسية والمذلة والجارحة، بالكلمة والنظرة والتصرف، وحول ابسط المطالب الحياتية: حين يقدَّم له الاكل او يحرم منه. حين يذهب الى المرحاض. حين يسمح له بالاستحمام. حين يحشر مع كثيرين في مساحة ضيقة جداً تفتقر الى الحد الادنى من الشروط الصحية والنظافة. هذا عدا الصور والقصص الشائعة التي سمعها، وهي تملأ الذاكرة حول ما يلاقيه الانسان اذا وقع بين ايدي المخابرات.

    بعد ان يستوعب الموقوف هذه الدروس الاولية، يبدأ التحقيق معه، وغالباً ما يتم ذلك في الليل المتأخر، ويستمر ساعات طويلة بلا نوم، ووسط اجواء مشحونة بأصوات الذين يتعرضون للتعذيب، ووسط التهديد بالتصفية الجسدية اذا لم يُدل الموقوف باعترافات دقيقة وكاملة، وبإشعاره ان المحقق يعرف عنه وعن القضية التي يحقق فيها كل شيء، وهناك من شهدوا عليه ومستعدون لمواجهته!

    نتيجة هذا الجو يسقط الكثيرون، ويدلون بأقوال واعترافات كما يريد المحقق، علها تكون وسيلة لتخفيف تعذيبهم وانهاء التحقيق معهم. لكن هذه الاعترافات غالباً ما تصبح سبباً لابتزازهم، وربما دليلاً للحكم عليهم في وقت لاحق، وخصوصاً ان المحاكمات تكون شكلية وسريعة، بحيث لا تتاح للمتهم الفرصة في محاكمة عادلة وعلنية. اما المحامون الذين يعّينون للدفاع عن المتهمين، فالعادة ان تعيّنهم المحكمة، وهم في معظم الاحيان عملاء لدوائر الامن.

    "جدار بين ظلمتين"، تصوير لما عاناه رفعة الجادرجي واسرته طوال عشرين شهراً، وهي الفترة التي امضاها وراء جدران السجن قبل ان يُفرج عنه. حتى الافراج نفسه تم نتيجة الحاجة الماسة الى جهده ومشاركته من اجل اعداد بغداد كي تكون مكاناً لائقاً لاستقبال رؤساء الدول في مؤتمر عدم الانحياز الذي كانت بغداد تنوي استضافته.

    لقد سجّل الجادرجي من وراء الجدار ليس ما عاناه فقط، بل ما رآه ايضاً. وكان في ذلك يمارس الهواية التي شغلته طويلاً، ولا تزال، وهي هواية التصوير. فقد اصطحب معه في رحلته الى داخل السجن اداة المصور الاساسية، عينيه، وكانت بمثابة الكاميرا، التي صوّرت الحياة داخل السجن لحظة بلحظة. لم يكتف بتسجيل معاناته الشخصية بل اضاف اليها التفاصيل المتعلقة بالآخرين. ولعل هذا الجانب ما كانت تفتقر اليه الكتابات التي تناولت السجون العربية سابقاً، اذ كانت تحصر النظر في زاوية. على شخص او حالة. وتهمل الجوانب الاخرى، الامر الذي جعل اغلب الكتابات في الموضوع تتشابه، مع فروق بسيطة بين سجن وآخر، بين مرحلة واخرى.

    هذه السيرة لم تهمل ما لاقاه السجين، من حيث الالوان والروائح والعتمة والاصوات. وصوّر شركاءه في هذه الزنازين، ثم السجانين والمحققين، والفروق التي لا تكاد تُلمح بين واحد وآخر، وكيفية التحقيق، والتي يظهر من خلالها ان الرجل بريء، لكن هناك قضايا، لعل مكانة والده، كامل الجادرجي، واحدة منها، اذ يراد الانتقام من الوالد بعدما غاب، عبر الانتقام من الابن. ان التحقيق الذي يفتقر الى الادلة والقرائن يدور في الحلقة المفرغة نفسها طوال فترة التوقيف في المخابرات، وينتهي هذا التحقيق بمحاكمة صورية خلال دقائق قليلة ليصدر الحكم المؤبد!

    حين ينتقل السجين من زنازين المخابرات الى السجن فكأنه انتقل الى الحرية، لان ما يتاح له في المكان الجديد، من حيث استقبال الزوار، خاصة من الاهل والاصدقاء، ومن حيث تلقيه الكتب والاكل وبعض الملابس، وايضاً من حيث سعة المكان، والقدرة على تبادل الحديث مع الآخرين، وممارسة انواع معينة من الرياضة، كل هذه "المزايا" بالمقارنة مع ما كان يلاقيه سابقاً في دوائر المخابرات، تجعله يحس الفرق، وبالفرق الهائل بين الامس واليوم. هذا رغم عدد لا يحصى من المضايقات في المكان الجديد.

    سلسلة طويلة من الوقائع والشخصيات في المكانين يصوّرها الجادرجي كأنه يرسم استكشات او يلتقط الملامح التي تميزها عن غيرها، كما يفعل رسام الكاريكاتور. من خلال هذه الاستكشات او الملامح تنطبع الصور التي يراد لها ان تبقى، باعتبارها وحدها التي تميز واحداً عن آخر، حالة عن غيرها. وهكذا تبقى في الذاكرة التضاريس الاساسية للحياة والاماكن والبشر.

    ان الكثير من هذه التضاريس كانت تفتقر اليها كتابات السجن السابقة، اذ غالباً ما تتركز الاضواء على فرد او على عدد محدود من الافراد، وتغيب التفاصيل الاخرى، مما لا يخصص السجن ولا يحدده، كما لا تُحدد المرحلة التاريخية التي جرت الوقائع خلالها، الامر الذي يقلل من الشعور بالادانة، بل ويجعلها قابلة للغفران، باعتبارها مسجلة ضد مجهول. اما ان نرى الوجوه والملامح والاسماء، وقد نعرف منها قسماً غير قليل، فعندئذ نقبض على الاشخاص والحالات بالجرم المشهود، ونتساءل مرات كثيرة لماذا كان هؤلاء هكذا؟ وما هي بواعث هذه السادية التي ميزت تصرفاتهم؟ اكثر من ذلك: يبقى هؤلاء الجلادون معرضين للمساءلة ذات يوم، ويمكن ان يكونوا عبرة لغيرهم، لان الحياة دولاب كما يقال، ومن كان جلاداً في الامس يمكن ان يتحول الى ضحية اليوم او غداً، وقد يتعرض للتعذيب والاذى والانتقام اذا ظل القانون غائباً والقضاء معطلاً.

    تنبع اهمية كتابات دوستويفسكي، وفي هذا المجال تحديداً، خاصة في "ذكريات بيت الموتى"، من خلال البساطة والتفاصيل التي سجّل بها حياة السجن. كان كل سجين قدّمه لنا يحمل اسماً وملامح ومجموعة من الصور الشعاعية لكي يتميز عن غيره. كيف يبيع بعض السجناء اشياء لا تخطر في بال، وكان هناك من يشتريها. كيف يصلّي بعض السجناء بإيمان وخشوع. ثم كيف يسرقون. كيف يبكون في الليل المتأخر ويستغفرون لانفسهم ولسجانيهم، وعشرات التفاصيل الاخرى. لقد فعل دوستويفسكي ذلك بحيث اصبحت "ذكريات بيت الموتى" لا تفارق الذاكرة.

    كانت رواية السجن العربي تحتاج الى نموذج مماثل لكي تبقى في الذاكرة حتى آخر سجن عربي، وجاءت "جدار بين ظلمتين" لتفعل ذلك. صحيح ان رفعة الجادرجي وبلقيس شرارة لا يدعيان انهما روائيان، لكن ما دوّناه في هذا العمل يعتبر عملاً فنياً وتوثيقياً في آن واحد. وهذا ما يعطي العمل اهميته وفرادته، وربما يساعد في هدم الزنازين والسجون، ويجعلها جزءاً من تراث الماضي.

    ان تحشيد القوى من اجل فضح ظاهرة السجن السياسي، بهدف تدميرها، قضية تفوق في اهميتها اي ظاهرة اخرى، لان الوطن ليس مكاناً فحسب، انما هو، وفي الدرجة الاولى، مواطن حر، مواطن غير خائف، مواطن مصونة كرامته وحقوقه. ومثل هذه الامور ليست منة من احد، وانما تولد مع الانسان وتستمر الى النهاية، من دون ان يستطيع احد انتزاعها او التقليل منها، لانها ثابتة بحكم القانون، والمجتمع ككل يدافع عنها ويحميها ويحاسب أي انسان، مهما كان موقعه، اذا حاول ان يتجاوزها او يجرحها.

    بعد ان تستقر هذه القيم والحقوق بالقانون، بالعرف، بحرص المجتمع كله عليها وحمايتها، فعندئذ يصبح المكان جديراً باسم الوطن، ويصبح ارتباط الافراد بهذا الوطن مصيرياً، وتصبح مسألة الدفاع عنه وحمايته غير خاضعة لطلب الحكومة او تحريضها، وانما نابعة من قلوب الناس وعقولهم. عند ذاك تكبر الاوطان بمواطنيها، وتشمخ بتعلق المواطنين بها، بحيث تصبح غير قابلة للسقوط، ولا يمكن اجتياحها او احتلالها.

    * * *

    هذه السيرة في حاجة الى اكثر من قراءة واحدة وبأكثر من اسلوب، لانها بالاضافة الى الوقائع والاحداث التي تجعل منها عملاً فنياً، تقارب قضايا كثيرة تسود في المجتمع. فالاستلاب الذي يعمّ معظم، افراد المجتمع، إن لم يكونوا جميعهم، يعتبر ظاهرة جديرة بدراسات معمقة وواسعة بالاستعانة بعلم الاجتماع وعلم النفس. ظاهرة خوف الابرياء تحوّل الجميع متهمين في نظر انفسهم علاوة على نظر السلطة اليهم، بحيث يتطلب الامر معرفة اسباب هذه الظاهرة وكيفية التخلص منها، ليكون الانسان قادراً على الدفاع عن نفسه لانه ليس مجرد فرد وانما هو واحد من مجموع، وهذا المجموع مكلف الدفاع عنه. ثم هناك قناع الرضا في العلاقات الاجتماعية. ما دام الانسان مرضياً عنه، فإن الكثيرين يضيفون الى هذا الرضا رضاهم الخاص، من خلال الزيارات، من خلال التضامن، من خلال الدفاع عنه. اما ان يتوارى اغلب هؤلاء عندما يقع الانسان، وخاصة في ايدي السلطة ويصل الى المخابرات، فإن صفة التخلي والابتعاد، ظناً منهم ان ذلك ينجيهم ولا يعرضهم للمساءلة، فذلك عامل اضافي يقوّي السلطة ويجعلها تفرض شروطها واساليبها من دون ان تجد من يعترض او يقاوم، الامر الذي يفترض معرفة جذر هذا التحسب، والذي يصل الى حدود الجبن، في سلوك الافراد والجماعات.

    البانوراما التي رسمها رفعة الجادرجي اكتملت من خلال عدد غير محدود من الملاحظات والتصرفات التي سجلتها بلقيس شرارة، ورصدت تالياً مواقف الاصدقاء وطريقة تعاملهم، والحسابات الظاهرة والخفية التي يلجأون اليها لتبرير مواقفهم. اذ تبين ان ظاهرة الكذب تضاف الى ظاهرة الجبن لتميز الكثير من تصرفات الافراد، وبعض الاحيان من دون مبرر كاف، او ضرورة تملي مثل هذا السلوك.

    ربما يقال ان الرهبة التي فرضتها السلطة بأساليبها القاسية، بالمناخ الذي ولّدته لتضمن حماية النظام واشخاصه، ولغياب القانون والقضاء المستقل، جعلت الكثيرين يبالغون في التنازل عن حرياتهم وحقوقهم، ويفقدون غريزة الدفاع عن النفس، ويسلّمون بما تريده الدولة وبإقرار اساليبها، وغالباً ما تكون مزاجية او بدافع الاذلال والانتقام، بحيث يتحول البشر الى قطعان، ويتحول الحاكم وحاشيته الى آلهة، يعطون ويمنعون من دون القدرة على مناقشتهم او الاعتراض على ما يفعلون.

    الحاكم الفرد هو الذي يدير المجتمع. بكلمة واحدة منه يمكن ان يُزجّ الانسان في السجن والى الابد. وبكلمة منه يمكن ان يُفرج عن السجين مهما كان الجرم الذي ارتكبه. والى ان تصدر من لسان الحاكم هذه الكلمة او تلك، تبقى مصائر الكثيرين معلّقة، ومؤجلة، وخاضعة لشتى الاحتمالات.

    لقد سجلت بلقيس شرارة مقداراً كبيراً من تفاصيل المساعي والجهود التي بُذلت خلال توقيف رفعة ثم اثناء سجنه. من اجل معرفة مكانه اولاً، ثم عن التهمة الموجهة اليه، ولتأمين الحاجات الاساسية اليه من ملابس وادوية، وكيف تفشل جميع هذه المحاولات وتتكسر قبل ان تصل الى اعتاب المخابرات او علم المسؤولين. وحين يُقابَل بعض هؤلاء المسؤولين، يمثّلون ادوار البراءة وعدم المعرفة ويعدون بأن يتابعوا الامر بأنفسهم. لكن الايام والشهور تنقضي من دون ان يتغير شيء. وحتى الافراجات التي تتم، نتيجة لقاء او زيارة مفاجئة، فإنها تكون مرتبة ومدبرة، بما في ذلك التسجيل التلفزيوني، بحيث يحس الانسان ان كل ما يجري عبارة عن مسرحية كبرى ومستمرة!

    أما حين يصدر الحكم بالمؤبد على رفعة الجادرجي ويُنقل الى سجن ابو غريب، ويُسمح بزيارته في ايام محددة، ويصبح تأمين الاكل والملابس ممكناً، وكذلك الكتب والورق، فعندئذ تتغير حياته. يصبح العمل همّه الاساسي، وهكذا ينجز اعمالاً مهمة، وفي اكثر من مجال، بعد ان تؤمّن له بلقيس ما يحتاج اليه من مصادر، وتتحول رقابة الكتب، ما يُسمح به وما يُمنع، احد التحديات التي يجب مواجهتها والتغلب عليها. وهذا ما يتم بعمليات تمويه يقوم بها اكثر من طرف.

    ورغم ان السجان يبقى سجاناً، فإن عدداً من هؤلاء لا يغفو الانسان داخلهم في شكل كامل، اذ يبدون بعض التسامح في احيان معينة، ويغضون النظر عن "المخالفات" الصغيرة، وقد يساعدون في بعض الحالات! أما آخرون فإنهم لا يشعرون بوجودهم واهميتهم الا من خلال القسوة وبذاءة اللسان وفظاعة التعامل. ويظهر مثل هذا السلوك، واغلب الاحيان اثناء زيارات الاهل والاصدقاء، ويزداد من خلال استسلام السجناء ورضاهم عما يجري، وايضاً بتقديم المزيد من التنازلات في محاولة الاسترضاء السجانين. وهكذا نجد ان عالم السجن يمور بشتى انواع التصرفات، وبخليط غير محدود من البشر والامزجة.

    ولا بد من الاشارة في هذا المجال الى ان رفعة، لم يفقد روح الفكاهة رغم المعاناة. كان يلتقط لحظات المفارقة سواء على نفسه او تجاه الآخرين، ويعرضها رغم قسوتها البالغة. فحين يتلف سرواله مثلاً لا يجد حرجاً في ذلك، ويبقى كذلك فترة، وحين يصله سروال بديل وسليم يشعر انه غريب وزائد! اما حين يُطلب منه ان يحلق لحيته بعدما طالت كثيراً، فإنه يبلّغ الحارس ان لديه "موافقة" من المحقق بالاحتفاظ بلحيته! ويأسف انه لم تلتقط له صورة باللحية او بوجود القيود في معصميه. وهناك مقادير اخرى من السخرية السوداء بثها رفعة في ثنايا كتابه، وتبدو لاول وهلة بريئة. لكن التمعن بها يُظهر كم تحمل من احتمالات ومرارة.

    واذا كنا قد عرفنا رفعة الجادرجي من قبل، من خلال عدد من الكتب التي صدرت له، مثل: صورة أب، وشارع طه وهمرسميث، ثم الاخيضر والقصر البلوري، وجدلية العمارة، واخيراً مقام الجلوس، فإن الاكتشاف الكبير كان: بلقيس شرارة. صحيح انها كتبت مقدمة طويلة لرواية "اذا الايام أغسقت" لحياة شرارة، لكن عبر اشتراكها مع رفعة الجادرجي في صناعة هذا النص، يدل على ان لديها الكثير لتقوله، وان لديها القدرة على ذلك.

    ولا بد من الاشارة اخيراً الى ان الصمت، في احيان معينة، يمكن ان يكون طريقة بالغة الدلالة والقوة في التعبير، وهذا ما مثلته أم رفعة منذ لحظة اعتقاله والى لحظة الافراج. كانت ترى كل شيء، وتتابع كل شيء، ولديها الكثير لتقوله، وقد قالته فعلاً من خلال الصمت المدوّي الذي لفها وهي تتابع هذه المهزلة المأساة!





    --------------------------------------------------------------------------------



    PDF Edition (Arabic) | HTML Edition (Arabic) | Listen to An-Nahar | Ad Rates | naharpost | Classified Ads | Archives | Contact us | Feedback | About us | Main | Help


    --------------------------------------------------------------------------------




    Copyright © 2003 An-Nahar Newspaper s.a.l. All rights reserved.
                  

07-31-2003, 06:53 AM

Kabar
<aKabar
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 18537

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منيف وادب السجون العربية (Re: osama elkhawad)

    صديقي أسامة ..حبابك
    و التحية من عبرك لرفعة الجادرجي و الى كل الشرفاء
    نعم ستظل المسألة في نطاق التدمير النفسي و السياسي ، بغرض التدجين
    و مثل هذه التجارب دوما ما تستصحب اللمحات الغنية
    و في رأينا ، كان أجدى بالعلوم الإجتماعية الأخرى الدخول الى حلبة الظاهرة و دراستها بتمحيص ، خصوصا ثيمة الإقصاء
    و كتر خيرك

    و دمت
    كبر
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de