الاسلام والديمقراطية .. الجابري مرة اخري

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 10:46 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-14-2003, 06:51 PM

خالد عويس
<aخالد عويس
تاريخ التسجيل: 03-14-2002
مجموع المشاركات: 6332

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الاسلام والديمقراطية .. الجابري مرة اخري

    يبدو أن هذا المفكر المغربي في حوزته من الأفكار والرؤي النيّرة ما يمكن أن يثير جدلا حيويا في أوساطنا نحن السودانيين بما يطرحه من أسئلة واجابات هي في صميم مشكلتنا

    الديموقراطية والإسلام من منظور مختلف
    د. محمد عابد الجابري

    كاتب ومفكر مغربي - أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي بكلية الآداب،جامعة محمد الخامس الرباط www.aljabriabed.com


    7/14/2003
    1- الجانب العام في الموضوع
    جرت العادة عندما نتناول موضوع "الديموقراطية والإسلام" أن يتجه اهتمامنا في الغالب إلى أحد جانبين من هذا الموضوع: إما إلى المرجعيات الدينية الإسلامية (قرآن، حديث، سيرة الخ) لنبين أن الديموقراطية لا تتناقض مع الإسلام، وأنها هي نفس ما يعبر عنه فيه بـ"الشورى". وإما إلى المرجعيات الأوروبية لنبين أن الديموقراطية بمفهومها الغربي الحديث شيء يختلف عن الشورى الإسلامية وأن مضامينها أوسع وأغنى وأكثر تعبيرا عن حاجة العصر الحاضر، وبالتالي يجب أخذها من مرجعيتها مضمونا وتطبيقات.

    إن تناول الموضوع من هذين الجانبين مقبول عندما يكون المخاطب هم العرب والمسلمون، عندما يتعلق الأمر بالحوار الداخلي في ثقافتنا العربية الإسلامية المعاصرة. أما عندما يطرح الموضوع على مستوى "حوار الثقافات"، أعني بالرد مثلا على الأطروحات التي يروج لها بعض الكتاب في أمريكا وأوروبا، الزاعمين أن الإسلام لا يقبل القيم الديموقراطية، فإن الموضوع يجب أن يعالج، في نظرنا، من زاوية أخرى. ذلك لأن هؤلاء الكتاب الغربيين لا يقصدون بـ"الإسلام" في دعواهم تلك الدين الإسلامي كنصوص ومرجعيات، لأنهم يعلمون أن الأديان والمرجعيات الدينية لا تشرع للديموقراطية كنظام اجتماعي وإنما تحث أتباعها على جملة من الفضائل والقيم من بينها تلك التي تدخل في مضمون الديموقراطية، كما لا يقصدون التاريخ الإسلامي والتجربة الحضارية العربية الإسلامية في القرون الوسطى، لأنهم يعلمون أنه لم تكن هناك ديموقراطية، بالمعنى المعاصر، في أي بلد من بلدان العالم قبل العصر الحديث... بل هم يقصدون، في الغالب، بدعواهم تلك: الواقع العربي والإسلامي في العصر الحاضر. إنهم إذ يقولون إن غياب الديموقراطية في العالم العربي والإسلامي يرجع إلى كون الإسلام "الإسلام" لا يقبل القيم الديموقراطية الغربية لا يهمهم، أو على الأقل لا يرتكزون في هذه الدعوى، على النصوص الإسلامية ولا على حوادث التاريخ الإسلامي، وإنما يستحضرون في أذهانهم واقع الحال كما هو اليوم في العالم العربي الإسلامي، حيث النظم السياسية غير ديموقراطية.

    صحيح أن العالم العربي والإسلامي، على كثرة دوله وتنوع شعوبه، يخلو من أية تجربة ديموقراطية يمكن القول عنها إنها ترقى إلى مستوى التجارب الديموقراطية في الغرب. غير أن القول بأن "الإسلام" هو المسئول عن هذا الغياب مسألة فيها نظر. نعم، الإسلام حاضر فعلا في الواقع العربي والإسلامي ولا يمكن تجاهله أو إقصاؤه. والمقصود هنا: الإسلام كموروث حضاري وكمخزون نفسي وكرؤية للعالم (وهذه أمور يصنعها التأويل، وهو متعدد). ولكن "الإسلام" بهذا المعنى ليس وحده العنصر الفاعل رغم أهميته ووزنه. هناك عناصر أخرى يجب استحضارها.

    وإذن فالرد على أصحاب الدعوى المذكورة من الكتاب الغربيين، في إطار "حوار الثقافات" لا يكون مناسبا، ولا مفيدا، إذا نحن وقفنا منها موقف الدفاع، أعني إذا نحن انبرينا نبطلها من خلال إثبات كون الشورى الإسلامية هي الديموقراطية، وأن الإسلام كدين لا يتعارض مع القيم الديموقراطية، فذلك ما يعترفون به أو على الأقل يجاروننا فيه. إن الخصم كما قلنا لا يصدر في دعواه من فهم معين، أو من عدم فهم بالمرة، لنصوص ديننا، ولا عن معرفة أو عدم معرفة بتاريخنا، وإنما يصدر من "واقع الحال" كما هو اليوم في الأقطار العربية والإسلامية.

    و"المنظور المختلف"، الذي نقترحه هنا، يقوم على الانطلاق من نفس منطلق أصحاب تلك الدعوى، أعنى من كون واقع الحال في العالمين العربي والإسلامي تغيب فيه الديموقراطية كنظام في الحكم وكقيم اجتماعية وثقافية، فنقول:

    ليس ثمة شك في أن الديموقراطية والحريات العامة هما من المطالب التي لم تتحقق بعد في أقطار العالم الإسلامي –كلها تقريبا- بالصورة التي تمكن شعوب هذه العالم من ممارسة حقوقها في التعبير وانتخاب الحاكمين ومراقبتهم وإقالتهم، بل ومحاكمتهم، إن اقتضى الأمر ذلك. غير أن هذه الظاهرة ليست خاصة بالعالم الإسلامي وحده. ذلك أن معظم البلدان التي يجمعها تعبير "العالم الثالث" –إن لم يكن جميعها- تعاني من نفس الظاهرة بدرجات مختلفة، تماما كما هو الحال في أقطار العالم الإسلامي. من ذلك مثلا أقطار أمريكا الجنوبية التي يدين معظم سكانها بالمسيحية، وأقطار في شرق آسيا يدين أهلها بالبوذية أو غيرها من الديانات التي لا تعتبر سماوية. لقد كانت هذه الأقطار –وما زال كثير منها- يعاني من غياب الديموقراطية والحريات العامة، وقد عرف بعضها ديكتاتوريات مشهورة. بل يمكن أن نوسع دائرة الرؤية لندرج في هذه اللائحة أقطارا أوروبية عرفت غياب الديموقراطية والحريات العامة في النصف الأول من القرن العشرين، مثل إسبانيا على عهد فرانكو، والبرتغال على عهد سلزار، واليونان في مرحلة حكم العسكر، وأيضا إيطاليا في عهد الفاشية وألمانيا في عهد النازية.

    إن هذه الملاحظة تحملنا على طرح جملة أسئلة، منها: لماذا تخصيص العالم الإسلامي عند الحديث عن غياب الديموقراطية؟ وهل يشكل العالم الإسلامي كلا واحدا بحيث يمكن تفسير غياب الديموقراطية فيه بعوامل وأسباب تصدق على جميع أقطاره؟ وأخيرا وليس آخرا من أين جاء هذا التخصيص، هل من أهله وسكانه الذين يعانون من غياب الديموقراطية، أم أن الأمر يتعلق بوصف وصف أطلق من "الخارج" عليه، وفي هذه الحالة لابد من فحص دوافع ورؤى هذا "الخارج"؟

    هناك إذن، في هذا الموضوع، ما هو عام وما هو خاص. أما العام فهو "غياب الديموقراطية والحريات العامة" في الأقطار التي تجمعها عبارة "العالم الثالث" أو "الجنوب" أو ما أشبه ذلك من الأسماء. وأما الخاص فهو ما قد تشترك فيه أقطار العالم الإسلامي وتختص به، من عوامل وأسباب قد تفسر ذلك "الغياب". وهناك داخل هذا الخاص ما يمكن وصفه بـ"خاص الخاص"، أعني بذلك وضعية كل بلد إسلامي على حدة، وما قد يختص به من عوامل وأسباب يمكن اعتبارها مسئولة عن الظاهرة التي نتحدث عنها. فغياب الديموقراطية في بلد كالجزائر مثلا لا يرجع إلى نفس الأسباب المباشرة –التي تنتمي إلى الخاص وخاص الخاص- التي يمكن أن نفسر بها الظاهرة نفسها بالنسبة لموريتانيا أو المغرب أو تونس أو هذه الدولة أو تلك من دول المشرق العربي. والشيء نفسه يصدق على باقي الدول العربية والإسلامية.

    ثلاث مستويات من التحليل لابد من القيام بها قبل التماس الجواب عن السؤال الأساسي في موضوعنا: لماذا غابت وتغيب الديموقراطية في أقطار العالم الإسلامي؟

    لنبدأ بالمستوى العام، أعني "غياب الديموقراطية والحريات العامة" في الأقطار التي تجمعها عبارة "العالم الثالث، فهو في نظري المنطلق الذي يجب التحرك منه بادئ ذي بدء.

    إن "العالم الثالث" عبارة وضعت عندما كان العالم كله يتقاسمه قطبان: الغرب الرأسمالي من جهة والكتلة الشيوعية من جهة أخرى. إنها تسمية تنتمي إلى مرحلة الحرب الباردة التي تميزت، من جملة ما تميزت به، بالتنافس بين هذين القطبين على هذا "العالم الثالث". وقد استعمل كل قطب من وسائل التأثير في أقطار هذا "العالم الثالث" ما يناسب غرضه، وقد كان غرضا واحدا يتلخص في حرص كل طرف على استتباع أو تحييد هذا القطر أو ذلك. لقد اعتمد الغرب في الغالب أسلوب الانقلابات العسكرية وإقامة أنظمة دكتاتورة في عدد من أقطار "العالم الثالث"، في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقية، أنظمة ترتبط به ارتباطا علنيا أو سريا وتستمد وجودها وقوتها منه. والضحية هي الديموقراطية والحريات العامة، سواء كانت من قبل موجودة على شكل ما، أو كانت غير موجودة إلا على صورة إمكانية ومشروع! أما الطرف الآخر المتنافس مع الغرب في "الحرب الباردة"، الاتحاد السوفيتي أساسا، فقد سلك مسلكا آخر في سعيه إلى اكتساب مواقع في هذا "العالم الثالث". يتعلق الأمر هذه المرة بخلق أحزاب شيوعية أو تقديم الدعم للموجود منها، والترويج لإيديولوجية "ديكتاتورية الطبقة العاملة" وانتقاد الديموقراطية البرجوازية والتشهير بها. ولعلنا نذكر أنه إلى ما قبل ثلاثين سنة فقط كانت سمعة "الديموقراطية والحريات العامة" سيئة جدا، في العالم الثالث وضمنه العالم العربي والإسلامي.

    وإلى جانب الديكتاتوريات التي قامت بتحريك من المعسكر الغربي من جهة، والأحزاب والأنظمة التي كانت تدور في الفلك السوفيتي من جهة أخرى، كانت هناك أنظمة حكم وطني، عمدت إلى تأجيل الديموقراطية أو تجميدها بدعوى أن الحياة السياسية التي تعتمد الليبرالية تفتح الباب للعمالة للمعسكرين المتنافسين، وفي ذلك خيانة للمصالح الوطنية والقضايا القومية.

    يمكن القول إذن إن "الحرب الباردة" هي المسؤولية إلى حد كبير عن غياب الديموقراطية في العالم الثالث عموما. أما قبل نهاية الحرب البادرة فإن معظم بلدان هذا العالم كانت ترزح كلها –تقريبا- تحت الحكم المباشر أو غير المباشر للاستعمار. وباستثناء الهند التي قامت فيها ديموقراطية لم يقف ضدها المستعمر الإنجليزي، لغرض في نفسه، فإن الأغلبية الساحقة من البلدان المستعمرة، و التي كانت قد وضعت تحت نوع من الاستعمار المخفف (حماية، انتداب) لم تكن في وضع يسمح لها بالاتجاه نحو حياة سياسية مؤسسة على الديموقراطية والحريات العامة. فالحكم الاستعماري هو أصلا عكس هذا الاتجاه. والبلدان التي أراد المستعمر إقامة نوع من الحياة "الدستورية الديموقراطية" فيها لم يكن هدفه الديموقراطية لذاتها بل إضفاء "الشرعية الديموقراطية" المزيفة على الاستعمار الاستيطاني، أعني تحويل المعمرين إلى مواطنين، إلى أهل البلد! وهذا ما وقفت ضده الحركات الوطنية في كثير من بلدان العالم الثالث، فكان "تأجيل الديموقراطية" في الحقيقة رفضا لتحويل الاستيطان إلى مواطنة.
    2- المستبد العادل ... بديلا للديموقراطية!
    أبرزنا في القسم الأول من هذا المقال كيف أن "غياب الديموقراطية" يجب أن لا يؤخذ كخاصية في الأقطار العربية والإسلامية وحدها دون غيرها، فمعظم بلدان العالم الثالث لا تتوافر فيها الديموقراطية بالصورة التي نجدها في البلدان الغربية، وقلنا إن هذا يفرض التمييز في عوامل غياب الديموقراطية في العالم العربي والإسلامي بين ما هو عام لبلدان العالم الثالث كلها، وما هو خاص بالعالم العربي والإسلامي، وما هو مرتبط بوضع كل قطر من أقطاره، وسميناه خاص الخاص.

    ناقشنا، في المقال السابق، "العام" في هذه الظاهرة، وأرجعناه إلى ظروف "الحرب الباردة" والتنافس على النفوذ على العالم بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الشيوعي الخ، وسنخصص هذا المقال للمظهر الثاني مظهر "الخاص"، فنقول:

    إن ما يشكل "الخاص"، في ظاهرة "غياب الديموقراطية" في العالمين العربي الإسلامي يمكن التماسه أولا في بعض ردود الفعل التي أثارها التدخل الاستعماري الأوربي إذ قامت حركات وتيارات توظف، في كفاحها ضد الاستعمار، الشعور الديني سواء في صورته العقدية العامة أو في صوره المحلية كالطرق الصوفية. وكانت حركة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده أكثر هذه التيارات دعوة إلى العودة إلى سيرة السلف الصالح، لاستدعاء مقومات تأكيد الذات ووسائل التعبئة. وهكذا طرحت التجربة الحضارية الإسلامية في مقابل الحضارة الغربية ومنتجاتها، وقام سجال في الموضوع بين هذا التيار وتيارات أخرى داخل العالم الإسلامي وخارجه، سجال قدمت فيه "الشورى" الإسلامية بديلا للديموقراطية الغربية. ومنذ ذلك الوقت والجدال متواصل حول هذه المسألة.

    على أن الذين يطرحون الشورى بديلا للديموقراطية لا يفعلون ذلك من منظور يضع الديموقراطية ككل ولا كأجزاء في منطقة المحرمات الدينية بل هم يعبرون عن مخاوف ترجع إلى ظروف مرحلية، مخاوف لا يصرحون بها وبمبرراتها الحقيقة، وإنما يسكتون عنها أو يعبرون عنها بما ليست هي إياه، تماما كما يحدث في كل صراع إيديولوجي. فالمسألة إذن تنتمي إلى مجال الصراع الاجتماعي وبالتحديد "صراع النخب". ومعلوم أن من الظواهر البارزة في العالم العربي والإسلامي ظاهرة الصراع بين نخبتين لكل منهما مرجعية ورؤية خاصة:

    - نخبة ترتبط بالمرجعية الأوربية الحديثة التي ترسخ فيها نموذج خاص في الحكم هو ما يعبر عنه بالديموقراطية، أي الحكم الذي يعتمد في شرعيته على رأي الأغلبية من الشعب والمعبر عنه بواسطة انتخابات حرة نزيهة. ونخبة ترتبط بالتراث العربي الإسلامي، وبنوع الحكم الذي تكرس فيه كنموذج، أعني "المستبد العادل".

    النخبة الأولى تبرر اختيارها بكون العالم الإسلامي يواجه تحديات الحداثة وأنه بدون الانخراط في العالم المعاصر وتنبي الأسس التي قامت عليها الحداثة الأوربية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا يمكن أن يتقدم ولا أن يحتل المكانة اللائقة به وبوزنه التاريخي وإمكانياته في الحاضر والمستقبل.

    أما النخبة الثانية فتنظر إلى الموضوع من زاوية أخرى: هي ترى أن العالم الإسلامي يواجه فعلا تحديات، ولكن ليس تحديات الحداثة والتحديث بوصفهما نتاج التطور التاريخي للبشرية ككل فحسب، بل هو يواجه الوجه الأخر لهذه "الحداثة" والمتمثل في الاستعمار والهينة والتوسع والاختراق الثقافي وغيره. ومن هنا كانت المهمة المطروحة باستعجال هي التصدي لهذا الوجه السلبي للحداثة الأوربية التي جعلت من الغرب العدوَّ الذي يفرض نفسه كعدو وليس كصديق. والاضطلاع بهذه المهمة المستعجلة والمصيرية يتطلب استعمال الإمكانيات الموجودة، وفي مقدمتها تعبئة الشعوب لمقاومة التدخلات الأجنبية الاستعمارية. وبينما اختار فريق اعتماد الفكرة القومية والوطنية كوسيلة لتغذية هذه التعبئة، ارتأى فريق آخر أن العقيدة الدينية هي أكثر قدرة على تعبئة أقوى وأوسع، تعبئة تخترق الفوارق الطبقية والحدود القومية.

    وفي كلتا الحالتين فالتعبئة إذ تحتاج إلى عقيدة قومية أو دينية تحتاج أيضا إلى من يقودها ويجسم أهدافها خطابا وسلوكا. ومن هنا أهمية القائد أو "المرشد العام" الذي يستمد شرعية القيادة في مرحلة الكفاح وشرعية الحكم في مرحلة النصر، من خاصتين أساسيتين : الحزم والعدل، ومن هنا مقولة "المستبد العادل" التي تكرست في الخطاب العربي الإسلامي منذ العصر الأول للحضارة العربية الإسلامية، مع العلم أن كلمة "الاستبداد" لم يكن لها في المرجعية العربية القديمة ذلك المضمون السلبي الذي لها اليوم. لقد كان "الاستبداد" يعني الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار وتنفيذه. ومن هنا تلك العبارة الشهيرة : "إنما العجز من لا يستبد". هذا هو معنى الاستبداد في المرجعية العربية خصوصا عندما يقرن بـ "العدل". فالعدل بفقد مضمونه مع العجز عن تطبيقه. أما الاستبداد بدون عدل فكان له اسم آخر في المرجعية العربية وهو "الطغيان".

    وهنا لا بد من وقفة قصيرة نبحث فيها مصدر هذه الفكرة، فكرة "المستبد العادل" كنموذج للحكم الصالح. في المرجعية العربية الإسلامية المحض تحيل عبارة "المستبد العادل" إلى السيرة التي عرفت عن الخليفة عمر بالخطاب في الحكم. ولكن التراث العربي الإسلامي، خصوصا الفكر السياسي منه، كان ذا مرجعيات متعددة. وأول مرجعية تفرض نفسها على الباحث بعد المرجعية العربية الإسلامية المحض مباشرة، هي المرجعية الفارسية. وقد أوضحنا في كتابنا الأخير "العقل الأخلاقي العربي" أهمية هذه المرجعية في تكريس نموذج "المستبد العادل" من خلال الأدبيات المترجمة والموضوعة حول حزم "أردشير" الذي استطاع أن يلم شمل الأمة الإيرانية بالتحالف مع رجال الدين، مما مكنه من تأسيس الدولة الساسانية على مبدئين: الدين والملك. الدين كأساس الملك به تكون التعبئة وجمع الشمل ووحدة الهدف، والملك كحارس للدين، بمعنى الحفاظ عليه كأساس للملك أي حراسته من أن يستعمله المعارضون الثائرون على الملك. فالثورة على الملك باسم الدين تفرق الناس إلى فريق وشيع، فيتمزق الدين بتمزق الملك. وكما شيدت الأدبيات الفارسية التي راجت في العصرين الأموي والعباسي نموذج "المستبد الضروري للدين"، من خلال صورة أردشير الملقب بـ "الموحد" لكونه وحد الدين والأمة، شيدت تلك الأدبيات نفسها نموذج "العادل الضروري للدنيا" من خلال صورة كسرى أنو شروان الملقب بـ "العادل"، لكونه ألغى القرارات والتدابير التي اتخذها سلفه بتأثير من المزدكية ذات النزعة "الشيوعية"، القرارات التي صودرت بموجبها أملاك الأغنياء لتوزع على الفقراء، فكان في ذلك إخلال بـ "العدل" الذي كان يعني في الفكر القديم: "إنزال الناس منازلهم". لقد أرجع كسرى أنو شروان للأغنياء أملاكهم وأعادهم إلى منازلهم في هرم الدولة فاستحق بسبب ذلك أن يلقب بـ "الملك العادل".

    ذلك باختصار هو نموذج "المستبد العادل" الذي انحدر إلى الثقافة العربية الإسلامية من الموروث الفارسي. وقد كان أوسع انتشارا وأعمق تأثيرا كما يلمس ذلك كل من له صلة بكتب السير والأمثال والقصص، وبالخصوص تلك التي تندرج تحت مفهوم "الآداب السلطانية".

    وقد كرس الموروث اليوناني –ولو في دائر أضيق- النموذج نفسه من خلال الترجمات والمختصرات والمؤلفات التي تحدثت عن "سياسة أفلاطون" أي ما يسمى اليوم بـ "جمهورية أفلاطون". لقد انتهى أفلاطون في كتابه هذا إلى النتيجة المعروفة التي يلخص فيها فكره السياسي ونظريته في الحكم. نقصد بذلك قوله : إنه ما لم يسند الحكم إلى الفلاسفة، أو يتحول الحكام إلى فلاسفة، فلن تكون هناك مدينة فاضلة. وإذن فرئيس المدينة الفاضلة لابد أن يكون فيلسوفا. والفيلسوف بهذا المعنى هو الذي يجمع بين الفلسفة النظرية، أي المعرفة المجردة من ابتغاء شيء آخر غير المعرفة، والفلسفة العملية التي تتلخص في حسن التدبير. غير أن أفلاطون الذي رسم الحكم "المثال" انتهى إلى أن هذا الحكم لا مكان له في هذا العالم، لأن الفلاسفة نادرون وإذا وجدوا فالناس لا يسلمون إليهم أمورهم. ويأتي الفارابي ليقرأ هذا النموذج اليوناني بالنموذجين العربي الإسلامي المحض، الذي يمثله هذه المرة النبي (ص)، والنموذج الفارسي الذي يمثله "الإمام"، الذي يحيل إلى "أردشير" صاحب "المدينة الإمامية" التي تجمع بين الملك والدين كما رأينا، والتي من خلالها تتحقق المدينة الفاضلة الممكن تحقيقها واقعيا. لقد اشترط الفارابي في المدينة الفاضلة أن يكون رئيسها نبيا أو فيلسوفا. وإذا لم يوجد أي منهما فمن الممكن قيام "مدينة إمامية" قريبة من "الفاضلة" يرأسها "إمام" يتولى الإمامة الدينية التي تجعل الإمامة السياسية إمامة عادلة. ها نحن هنا إذن أمام نفس النموذج "المستبد العادل".

    نجد هذا النموذج أيضا عند المتفلسفة من المتصوفة وذلك في فكرة الولاية الصوفية والقطبية، وهذا معروف، والمجال لا يتسع لتفصيل القول فيه. لنكتف بالقول إذن إن فكرة "المستبد العادل" التي ارتبط بها كل من التيار السلفي والتيار القومي، (وإن بأسماء مختلفة مثل "القائد الملهم" و"الزعيم البطل" في الخطاب القومي من جهة، والخليفة والأمير والإمام في الخطاب الإسلامي من جهة ثانية)، عنصر أساسي في اللاشعور السياسي في العالم العربي والإسلامي. وقد قفز هذا العنصر إلى ساحة الشعور تحت تأثير تحدي الاستعمار الأوربي كما بينا.

    وواضح أن الارتباط بهذا النموذج، سواء من منظور قومي أو من منظور ديني، يبعد الديموقراطية بمعناها الغربي من مجال المفكر فيه. إن شرعية الحاكم يستمدها من استبداده لتطبيق "العدل"، سواء في التعامل مع المهاجم من الخارج أو مع الاعتراضات في الداخل. ولكن هذا الحاكم هو في جميع الأحوال إنسان يعرض له الخطأ والنسيان كجميع البشر. ولتلافي ذلك عليه أن يقبل النصيحة ويقوم بالمشورة. والاسلام يحث على ذلك : "الدين النصيحة" "وأمرهم شورى بينهم" و"شاورهم في الأمر". من هنا جاء النظر إلى النصيحة والشورى كبديل للديموقراطية بالمعنى الغربي للكلمة. والحجة الصريحة أو الضمنية التي يصدر عنها أصحاب هذا الموقف تتلخص في أن الديموقراطية تكمن كلها في اختيار من يصلح للحكم. والذي يصلح للحكم –في نظرهم- بقطع النظر عن اختيار الناس، علما بأن الناس لا يختارون الأصلح دائما، هو "المستبد العادل"، فهو أصلح من أي شخص يختاره الناس. ولكي يكون رأي الناس حاضرا ومؤثرا تكفي النصيحة والمشورة.

    جميع ما قلناه عن نموذج "المستبد العادل" ينتمي إلى "النظرية" أعني إلى تصور الأفضل والمثال، إلى "اللاشعور السياسي". وهو مسؤول بهذه الدرجة أو تلك عن غياب الديموقراطية، على الأقل من حيث إنه يقدم بديلا عنها يعتبره أفضل منها. ولكن بما أن هذا البديل النموذج قد بقي ومازال مجرد نموذج، مجرد مطلب، فالبديل الواقعي القائم هو شيء آخر غير "الاستبداد المقيد بالعدل"، إنه "الاستبداد المطلق" الذي هو النقيض للديموقراطية.

    ذلك، في نظرنا، أهم مظهر في "الخاص" الذي يفسر غياب الديموقراطية في العالم العربي والإسلامي، وواضح أنه لا يرجع إلى الإسلام كدين، بل إلى الموروث الإسلامي الذي يتشكل من فهم المسلمين للإسلام وتأويلهم له. ولكن هل يمكن عزل الدين، أي دين، عن فهم أهله وتأويلهم؟
    سؤال يتجاوز نطاق موضوعنا.

    3- الكلام في غياب الديموقراطية .... واستراتيجية الخطاب
    ميزنا في أسباب "غياب الديموقراطية في العالم العربي والإسلامي" بين ثلاث مستويات: ما هو "عام" يشمل بلدان العالم الثالث كله، ويتعلق الأمر بالسياسة الاستعمارية التي تسلكها الدول الغربية بقصد الهيمنة والحفاظ على المصالح، وبين ما هو "خاص" ويتعلق بالموروث العربي الإسلامي الذي تهيمن على الفكر السياسي فيه فكرة "المستبد العادل"، وبين ما أسميناه "خاص الخاص" ويتعلق الأمر بالمعطيات الخاصة بكل قطر، عربيا إسلاميا كان، أو غير عربي ولا إسلامي. وقد تناولنا في المقالين السابقين المستوى الأول والثاني ويبق علينا أن نقول كلمة عن المستوى الثالث.

    الواقع أن أقطار العالم العربي الإسلامي، وإن كانت تنتمي كلها إلى العالم الثالث الذي هو موضوع هيمنة الغرب واستغلاله، وترتبط كلها بنموذج "العادل المستبد" باشتراكها في الموروث المنحدر من التجربة الحضارية الإسلامية بمكوناتها المختلفة، فهي لا تعيش وضعية واحدة: إنها ليست على مستوى واحد من التطور، ولم تخض تجربة تاريخية واحدة، ولا نوعا واحدا من المواجهة مع الغرب. وهكذا ففضلا عن اشتراك العالم الإسلامي ككل فيما أسميناه العام والخاص، هناك خصوصية قطرية لا بد من اعتبارها. فلا يجوز التسوية مثلا بين أقطار الخليج العربي وبين المغرب، ولا بين المغرب والجزائر، ولا بين تونس وليبيا ولا بين مصر والعراق... ولا بين تركيا وإيران ولا بينهما وبين باكستان وأفغانستان، ولا بين نيجريا وإندونيسيا وماليزيا الخ.

    وغني عن البيان القول إن هذه الخصوصيات القطرية ترجع إلى الظروف التاريخية والاجتماعية الخاصة بكل بلد، كما ترجع إلى نوع علاقته بالتحديات الخارجية التي تأتي من "الغرب" أساسا. وهكذا فلا يمكن تفسير حضور الديموقراطية في الهند أكثر من حضورها بباكستان، مع أنهما كانتا بلدا واحدا، بدون استحضار الاحتكاك والصراع بين الهنود والمسلمين من جهة، وهذه مسألة داخلية، وانحياز الإنجليز للهنود في هذا الصراع، مما كان لابد أن ينظر إليه على أنه تصرف عدائي ضد الإسلام. ومن هنا سيادة التشدد الإسلامي في باكستان ورفض الغرب، ليس وجهه الاستعماري فحسب، بل أيضا ما يروج لـه من أفكار حول الديمقراطية والليبرالية. وعندما حصل الانقلاب الشيوعي في أفغانستان لم يكن من الممكن مقاومته بالديموقراطية والليبرالية رغم وقوف الولايات المتحدة الأمريكية بصورة أو أخرى وراء "ثورة المجاهدين" على الروس. لقد كان البديل عن الشيوعية العدو، وعن الديموقراطية الغربية -التي لم يكن لها موقع قدم في وضعية قبلية منغلقة ومعقدة- هو "الإمارة الإسلامية". أما في إيران التي ارتبط تدخل الغرب فيها بالملكية الشاهنشاهية المستبدة من غير عدل، والتي تشكل الشيوعية فيها خطرا على الوجود الديني الشيعي فقد كانت "الجمهورية الإسلامية: هي البديل.

    وهكذا فكل قطر من أقطار العالم الإسلامي له وضعيته الخاصة التي تساهم في تحديد وضعية الديموقراطية حضورا وغيابا.

    وإذا نحن أردنا الآن أن نستخلص نتيجة عامة من التحليل الذي قدمناه، على صعيد المستويات الثلاثة، أمكن القول إن "غياب الديموقراطية" في العالم العربي والإسلامي ترجع إلى ثلاثة عوامل متداخلة، تتشكل منها ثلاث دوائر ذات مركز واحد: الدائرة المحيطية وهي الغرب ونزوعه نحو الهيمنة والاستغلال، والدائرة الوسطى وقوامها الموروث الثقافي الإسلامي الذي يتخذ شكل إيديولوجيا الصراع والعراك بسبب تدخل الغرب (هيمنة الدائرة المحيطية). أما الدائرة الأخيرة وهي الأقرب إلى المركز فتمثل الخصوصية المحلية وخصوصية العلاقة مع الدائرتين الأخريين.

    وانطلاقا من هذه النتيجة العامة التي تعبر عن واقع لا يمكن نكرانه ولا الجدال فيه: ومن يستطيع أن ينكر هيمنة الغرب؟ وهل يمكن التشكيك في وزن المورث الحضاري العربي الإسلامي الذي يربط الحكم الأمثل بـ "المستبد العادل"؟ ثم هل يجوز إغفال دور المعطيات المحلية الخاصة بكل قطر؟ أقول، إذن، انطلاقا من هذه النتيجة العامة يجب النظر إلى الدعوى التي راجت وتروج في الغرب منذ عقود والتي تفسر "غياب الديموقراطية" في العالم العربي والإسلامي بكون "الإسلام" لا يقبل القيم الليبرالية الغربية وعلى رأسها الديموقراطية بكل أبعادها. إن هذه الدعوى باطلة مرتين (إن جاز التعبير): أعني على المستويين اللذين يمكن طرحها فيهما: هي باطلة، من جهة، على مستوى تحليل "الإسلام" كمعطيات واقعية، كشعوب وأقطار، كتجربة تاريخية. وهذا ما بيناه في هذا المقال والمقالين السابقين. وهي باطلة على مستوى مضمون "الإسلام" كعقيدة وشريعة، ليس لأن هذا المضمون يقبل الديموقراطية أو لا يقبلها، بل لأن أصحاب تلك الدعوى لا يبنون حكمهم ذاك على تحليل ذلك المضمون! إنهم لا يحتكمون إلى النصوص الدينية الإسلامية بالمرة، بل لعل معظمهم –إن لم يكن جميعهم- يجهلون هذه النصوص.

    ***

    وبعد، فإن "غياب الديموقراطية" في العالمين العربي والإسلامي واقعة لا ريب فيها، وأما أسباب هذا الغياب فهي لا ترجع إلى الإسلام كدين، إذ بوسع المرء أن يسرد من الشواهد (آيات وأحاديث وسوابق تاريخية) ما يجعل مضمون الديموقراطية يدخل في دائرة المندوب إليه بل ربما في دائرة الواجب، من وجهة النظر الشرعية! وفي جميع الأحوال فلن يستطيع أي "متشدد" الإدعاء بأن مضمون الديموقراطية يدخل في دائرة المكروه بله في دائرة الحرام؟

    حكم الإسلام في مثل هذه الأمور، كما في غيرها، يرجع إلى مبدأ "المصلحة العامة". وبما أن هناك طرقا كثيرة لتحقيق المصلحة العامة فإن ما يحققها بصورة أفضل هو السبيل المختار. كلنا نعلم أن الشورى التي مورست على عهد الصحابة، لتعيين الخليفة، لم تكن على طريقة واحدة. لقد بويع لأبي بكر بعد نقاش حاد في سقيفة بني ساعدة في المدينة. ولم يكن ذلك النقاش الذي تروي لنا كتب السيرة تفاصيله الدقيقة تدور حول نص من القرآن أو الحديث، بل كان يدور كله حول موضوع واحد هو: "من يصلح لها"، أي للخلافة، للحكم؟ من هو أكثر حظوظا في النجاح في هذه المهمة، سواء من حيث التجربة والأداء، أو من حيث الحصول على رضا الناس وإذعانهم؟. وقد انتهى الاجتماع باختيار أبي بكر الصديق. وعندما شعر هذا الأخير بدنو أجله سلك طريقة أخرى في اختيار من يخلفه: استشار الصحابة، وهم أهل الحل والعقد يومئذ، أي ممثلو "الرأي العام"، فكان الاتفاق على اختيار عمر بن الخطاب. وعندما طعن عمر الفاروق اختار ستة من كبار الصحابة ورشحهم للفصل في أمر من سيخلفه بعد القيام بما يلزم من مشاورات مع جميع القوى والاتجاهات، واشترط أن لا يرشحوا ابنه عبد الله، حتى لا تكون وراثية. وكانت النتيجة اختيار عثمان بن عفان. وبعده اختار الناس علي بن أبي طالب، وبه انتهت تجربة الشورى في الإسلام، إلا ما كان من حالات جزئية، وهي أيضا قد اختلف وتنوعت باختلاف الظروف.

    نخلص من ذلك إلى أنه ليس هناك في الإسلام، سواء الإسلام كعقدية وشريعة أو الإسلام كتجربة حضارية، ما يفرض على جميع الشعوب الإسلامية سلوك طريقة واحدة بعينها لإقامة الحكم العادل. إن مسألة "نظام الحكم" هي من المسائل التي تتغير وتتبدل بتغير الظروف والأزمنة والأمكنة، والشيء الوحيد الثابت الذي تجمع عليه جميع الشرائع، الدينية منها العقلية، هو ضرورة "الحكم بالعدل": الحكم الذي يحفظ كرامة الإنسان ويحقق المساواة بين الناس. وبالتالي فمسألة الديموقراطية في العالم العربي والإسلامي لا تختلف في جوهرها عنها في بقية بلدان العالم الثالث.

    وبما أنه ليس هناك إلا نوعان من أنظمة الحكم: الحكم الديموقراطي والحكم غير الديموقراطي، وبما أنه لا أحد يستطيع الدفاع عن صلاحية الحكم غير الديموقراطي، فإن النتيجة التي تفرض نفسها هي أن نظام الحكم الديموقراطي وحده الصالح. هو صالح إما لأنه أكثر احتراما للحقوق وأقدر على إقامة العدل وتحقيق المصلحة العامة برضا الناس، وإما لأنه أقل أنواع الحكم ضررا وإضرارا، وأخفها وزرا.

    والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، بعد كل ما قدمنا، هو التالي: كيف يمكن تحقيق الديموقراطية في العالمين العربي والإسلامي؟ وبعبارة أخرى: بما أن الديموقراطية غائبة في الأقطار العربية والإسلامية، الشيء الذي يعني أن السائد فيها هو الوضع غير الديموقراطي، فكيف يمكن الانتقال فيها إلى الديموقراطية؟

    من البين بنفسه أن سؤال "الانتقال" يطرح ثلاثة أسئلة جوهرية، بدون طرحها ومناقشتها، يبقى "الانتقال" كلمة جوفاء لا معنى لها. هذه الأسئلة هي: من أين؟ وإلى أين؟ وكيف؟

    أما سؤال "إلى أين؟"، بخصوص موضوعنا، فالجواب عنه جاهز بحكم موضوع الكلام هنا، إنه: "الانتقال إلى الديموقراطية". ولكن يبقى تحديد مضمون هذه "الديموقراطية" التي يراد الانتقال إليها.

    وأما "من أين؟" فهذا هو المسكوت عنه غالبا، باعتبار أن الانتقال يكون من الوضعية التي "نحن فيها"، والتي يفترض أنها معروفة.

    غير أن هذا السكوت يصبح غير محتمل، بل غير ممكن، عندما يطرح السؤال الثالث نفسه: "كيف ؟"، إذ كيف يمكن تحديد "كيفية الانتقال" بدون معرفة دقيقة وصحيحة للوضع الذي يكون منه هذا الانتقال؟ وتزداد المسألة تعقيدا عندما تكون المسافة بين الوضع الذي يراد الانتقال إليه والوضع الذي يراد الانتقال منه تفتقد إلى عناصر الاتصال التي تقيم جسورا بين الوضعين، مما يجعل من مطلب "الانتقال" إشكالية نظرية وعملية، وليس مجرد مشكل.

    ويبدو أن نوعا من التدرج يفرض نفسه عند طرح أي مطلب. ففي المرحلة الأولى، عندما تكون "القضية" هي المطالبة نفسها -أعني طرح الطلب- فقد يكفي تعيين المطلَب. والشعارات السياسية هي في الغالب مطالب من هذا النوع، على الأقل في بدايات طرحها؛ فهي تركز على "المطلب" الذي يقع في جواب "إلى أين؟" وتغيِّب، لسبب أو آخر، السؤالين الآخرين: سؤال "من أين" وسؤال "كيف"! أما عندما يكون الـمَطْـلَب بصدد تجاوز مرحلة المطالبة إلى مرحلة الإنجاز فإن سؤال "كيف؟" يفرض نفسه. وواضح أن تحديد الكيفية التي يتم بها الانتقال يتطلب المعرفة بالمعطيات التي يكون عنها. إن طرح سؤال "من أين؟" يغدو حينئذ ضروريا.

    وبالنظر لما قدمنا في هذا المقال والمقالين السابقين فإن سؤال "من أين" مجاله هو المستوى الثالث، أي ما أسميناه "خاص الخاص". هنا، في هذه الحالة، يدخل كل من "الخاص" و" العام" في "خاص الخاص"، أعني بوصهما جزءا من الوضعية الخاصة بكل قطر. إن هذا يعني، بل ويفرض، تجنب طرح ذلك السؤال الذي يتردد كثيرا في ضيغة "الديموقراطية في الوطن العربي" أو في "العالم الإسلامي"، إلا إذا كان الأمر يتعلق بكل قطر على حدة. إن "العرب" إسم واحد، ولكن المسمى متعدد. وكذلك "الإسلام"، هو اسم يشمل عالما من الأقطار والتجارب وأيضا من المذاهب!

    مسألة الديموقراطية إذن يجب أن تطرح، أولا وأخيرا، في إطار التجربة القطرية، أما ما يقع خارجها فيجب اعتباره هنا، لا في نفسه، بل من حيث علاقته بتجربة خاصة معينة.

    إن كل كلام في الديموقراطية، سواء في العالم العربي والإسلامي أو في غيرهما، لن يكون له أي مضمون واقعي إلا إذا كان عنوانه يتضمن عبارة : "القطر الفلاني نموذجا". وبدون هذا يكون الكلام "هروبا" إلى التعميم. وإذا كان صحيحا أن "المصيبة إذا عمت هانت"، كما يقول المثل، فقد يكون صحيحا أيضا أن الكلام عن "العرب" أو "الإسلام" هكذا بدون تعيين، هو من قبيل الهروب من "المصيبة"، الهروب من الأسئلة التي تطرح الموضوع في إطار الملموس المشخص من خلال الأسئلة الثلاثة: "من أين"؟ و"كيف"؟ وإلى "أين"؟. فلنواجه مسألة الديموقراطية، إذن، من خلال هذه الأسئلة، وليس من الضروري أن تؤدي هذه المواجهة إلى "مصيبة"، فكل شيء في هذا المجال يتوقف على استراتيجية الخطاب.


    نقلا عن الحقائق اللندنية
                  

07-16-2003, 10:47 AM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلام والديمقراطية .. الجابري مرة اخري (Re: خالد عويس)

    up
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de