حوار البيان مع د. منصور خالد - 3 -بكى صلاح سالم عندما زاره «عدوه» عبدالله

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-11-2024, 05:38 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-18-2003, 12:37 PM

sympatico

تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حوار البيان مع د. منصور خالد - 3 -بكى صلاح سالم عندما زاره «عدوه» عبدالله








    منصور خالد : بكى صلاح سالم عندما زاره «عدوه» عبدالله خليل


    حاوره: كمال حسن بخيت






    الدكتور منصور خالد مفكر وكاتب سوداني غزير الانتاج خصوصاً في شئون السياسة واستراتيجيات التنمية، ويملك قلماً جزلاً رشيقاً مقروءاً ومثيراً للجدل في آن.وفضلا عن علمه وثقافته الموسوعية التي كثيراً ما يبهر بهما خصومه قبل مريديه، وهم كثر في الجانبين، فان الرجل خبير بخبايا واسرار وتطورات واشكالات السياسة السودانية التي خاض اتونها منظراً فكرياً، ووزيرا، ومعارضا شرساً. لكنه في كل الاحوال كان دائماً، ولايزال، مشهوداً له بالكفاءة والتجويد.


    سطع نجمه عند العامة عندما تولى وزارة الشباب في بداية العهد المايوي «نظام الرئيس الاسبق جعفر نميري» الا انه لدى خاصة المثقفين كان معروفاً بينهم.. يتابعون انتاجه الفكري وكتاباته ومشاركاته في المؤتمرات الدولية.. وما تنشره له الصحف من مقالات تحمل وجهة نظره وفكره. كان احد ابرز من تولوا مسئولية وزارة الخارجية عندما كانت مايو في اوجها واعتبر حينذاك احد اعمدة النظام ومنظريه. وفي العام 1979 انقلب د. منصور على مايو بسبب أخطاء لم يتحملها ولا تتوافق مع ما يؤمن به من قيم وما يعتقد ويحمل من فكر..


    وبدأ نقدها وتعريتها في كتابه «السودان والنفق المظلم».. ثم انضم الى الحركة الشعبية لتحرير السودان مستشاراً سياسياً لجون قرنق. ثلاثة عقود او اكثر ظل د. منصور شخصاً مثيراً للجدل كسياسي وككاتب ومفكر متميز وجريء يختلف البعض حول افكاره واطروحاته لكن الجميع يعترف بقوة قلمه وجزالة تعبيره. ما هي علاقاته بالإمام عبدالرحمن المهدي والمحجوب وقبلهما عبدالله خليل، بمن تأثر في بدايات حياته وما هي الظروف التي اسهمت في تكوين شخصيته وما علاقاته بالنخبة او الصفوة.. ما هو تأثير عمله بالأمم المتحدة عليه، وماذا تركت فيه الدراسة والعمل في الولايات المتحدة، كيف ينظر الى الداخل الى الصراع السياسي والبحث عن حل شامل واستقرار للسودان ما هي المحددات التي يراها للسودان الجديد وماذا يأخذ على قادة الاحزاب وكيف يعيش حياته الخاصة هذه الاسئلة وغيرها يجيب عنها د. منصور في اول حوار معه يتطرق الى الخاص والعام في حياته وينشره «بيان الاربعاء» في حلقات.


    في هذه الحلقة الثالثة من حواره مع «بيان الاربعاء» يعود الدكتور منصور خالد الى الوراء الى سني شبابه عندما كان قريبا من عبدالله خليل امين عام حزب الامة ورئيس الوزراء في السنوات الاخيرة من الخمسينيات.. ويعرفنا «بالبيه» كما كان يطلق عليه.. وبالرجال الذين كانوا حوله امثال محمد أحمد محجوب والشنقيطي وكيف كان يتعامل مع الناس. كما يتحدث عن الجمعيات الادبية وأشهر منتسبيها وكيف ذابت تلك الجمعيات التي كانت بمثابة ادوات تنوير في أحضان الطائفية.. ثم نعرج بالحوار مع الدكتور منصور الى دور الفكر في العمل السياسي، وهل اصلا كان هناك مفكرون في الاحزاب السودانية؟ كما يتطرق الحوار إلى حركات الاسلام السياسي وشعار الاسلام هو الحل.


    ـ كنت قريباً من عبدالله خليل سكرتير حزب الامة ورئيس الوزراء.. كيف كان يدير امور الحكم، وماذا تتذكر من مواقف له.. ولماذا لم ترث عنه انتماءه لحزب الامة؟


    ـ لا يرى الناس في عبدالله خليل الا الرجل العام المتفرد برأيه، والذي كثيراً ما كان يسبح ضد التيار حتى داخل حزبه. يعود الى ذاكرتي في هذا المجال خلافه مع وزير الخارجية محجوب، والذي كان لا يجادله في ادارة وزارته احد. الخلاف كان حول موقف السودان من احداث المجر عند مناقشتها في الأمم المتحدة موقف المحجوب كان هو التصويت ضد قرار الادانة للاتحاد السوفييتي، وهو الموقف العربي العام بسبب تأييد الاتحاد السوفييتي يومذاك للمواقف العربية. رأي رئيس الوزراء كان هو ان الحق لا يتجزأ، فنحن لا يمكن ان ندين العدوان البريطاني ـ الفرنسي على مصر، ونصمت عن العدوان السوفييتي على المجر مما اضطر معه المحجوب الى التراجع. هذا امر ذهب اليه حتى اندروبوف والذي احسبه واحدا من اكثر حكام الاتحاد السوفييتي تفتحاً. ومن المفارقات المذهلة انه بينما كان كل اليسار يقف مؤيداً لذينك الاعتدائيين انبرى الحزب الشيوعي الايطالي ـ اكبر الاحزاب الشيوعية خارج الاتحاد السوفييتي يدين التدخل.


    ولعل هذا احد الاسباب التي اكسبت الحزب المستقل برأيه قدرا كبيرا من الاحترام في اوروبا، ومصداقية مع خصوم الشيوعية فيها. اما الرجل الخاص في عبدالله خليل فيجهله الكثيرون، يجهلون مثلا اهتمامه بذوي الحاجات حتى ان يساره لم تكن تدري ما صنعته يمينه. ويجهلون ترفعه عما يشين في الشأن العام. اذكر في هذا اصراره على احالة طبيبين للمعاش لاتهامهما بتهمة سخيفة هي الاستخدام الشخصي لممتلكات تخص المستشفى «اللبن المخصص للمرضى» ما يعطي الامر اهمية ان احد الطبيبين كان شقيقاً لأحد وزراء عبدالله خليل الاقربين. واذكر له ايضا قراره بشطب اسم ابنه من قائمة الطلاب المقبولين بالكلية الحربية بعد ان نما الى علمه بأن تجاوزاً قد تم في نجاحه في امتحان القبول، وكان البيه يومها وزيراً للدفاع، اصر وزير الدفاع على رأيه رغم الحاح اللواء حسن بشير نصر عليه بأن لا يحرم الفتى من تلك الفرصة. ولعل اخي امير سعيد اليوم بقرار البيه، اذ ان اقصى ما كان سينتهي اليه وضعه في السودان المنقلب هو ان يصبح لواء بالمعاش يدير فرنا آليا.


    الرجل الخاص كان ايضا على قدر كبير من التسامح، استذكر له في زيارته الوحيدة لمصر كرئيس وزراء السودان طلبه من عبدالناصر التمهيد له لزيارة صلاح سالم ومحمد نجيب وكان كلاهما قيد الحجز التحفظي في داريهما. وان كانت بين البيه ونجيب علاقة قديمة طيبة تستوجب التواصل، الا ان حرصه على زيارة صلاح سالم كان غريباً، اذ لم يؤذ رجل في السودان على يد صلاح بقدر ما اوذي عبدالله بيه في الحملة الانتخابية، كان اللقاء بين الرجلين لقاء غريباً فبعد عناق طويل قال صلاح وعينه دامعة: «انت آخر شخص كنت اتوقعه هنا، فيكم حاجة غريبة ياسودانيين». ثم مضى يقول للبيه «هل تصدق ان الشخص الوحيد الذي يزورني بانتظام هو سوداني اخر.. جمال السنهوري حتى زملائي هجروني، لا يزورني منهم الا زكريا محيي الدين وعبداللطيف البغدادي».


    تعلمت من البيه ايضا ان اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. كان هذا قبل زمان صراع الديكة. فأصدقاؤه الذين كانت تهفو نفسه اليهم في ساعات صفائه كانوا جمعاً غريباً يشمل اكثر خصومه السياسيين معاندة، الدرديري احمد اسماعيل، كما كان يضم زعيم المعارضة مبارك زروق والنائب العام اتحادي التوجه احمد متولي العتباني من بين زوار البيه في الصباح الباكر وبصورة منتظمة عبدالخالق محجوب. وكان يناديه «الولد محجوب». في احد اللقاءات قال عبدالخالق للبيه: «ياعم عبدالله الشارع السوداني بيقول انك عاوز تبيع السودان للاميركان «كان ذلك ابان مناقشة مشروع المعونة الاميركية». رد البيه: «يا ابني بلدكم محتاجة لفلوس عشان نبنيها، شوف لي الجماعة الروس بتوعك لو يدفعوا اكثر حأبيعها ليهم».


    الانتماء الحزبي لا يورث


    ـ لماذا لم ترث عبدالله خليل في انتمائه الحزبي ـ حزب الامة؟


    ـ الانتماء الحزبي لا يورث، وعلى أي فلو عاد عبدالله خليل للحياة لأنكر ما يراه في حزبه، ولي في ذلك شواهد. عبدالله بيه كان يقود حزباً يتصدر قيادته رجال بحجم الشنقيطي، ابراهيم احمد، عبدالرحمن علي طه والمحجوب في الصف الاول وعبدالرحيم الامين، امين التوم، زين العابدين شريف، حسن محجوب وعبدالله نقد الله في الصف الثاني. لم يكن الامام في ذلك العهد يفتي في امر دون مشورة هؤلاء الكبار. اهل الحل والعقد كانوا كما لم تكن القيادة السياسية تجادل في امر اجمع عليه هؤلاء. القيادة العليا ايضا كانت تستمع اكثر مما تتحدث، وتطلب النصح اكثر مما تفتي على رجال ليسوا هم من اهل الاشارة بأي حال. اذكر وقفة البيه الصلبة وراء ترشيح عبدالرحيم الامين لدائرة النهود. وقد اراد بعض سادة الاسرة يومذاك ترشيح احد ابناء الدائرة «الطيب عبدالله الفاضل» بل قدم اسمه في سجل المرشحين. بجانب البيه وقف الامام وهو يقول «انا كلما لقيت راجل عاوزين تبعدوه عني».


    المحجوب غريب بين اهل السياسة


    ـ ننتقل بك من البيه الى المحجوب احد المثقفين الذين ارتبطوا بحزب الامة وعلاقتك به؟ ـ ولج المحجوب ميدان السياسة كرجل مستقل


    «انتخابات الخريجين الاولى» ثم انضم من بعد لحزب الامة كداعية للاستقلال ولكنه ظل فيه متفرداً. واحسب ان المحجوب اصيب بجرح لم يندمل حتى مات، خاصة بعد خطابه البليغ عند اختلافه مع الصادق ومقالته الشهيرة فيه «لقد استبدلتم سيفاً صقيلاً بسيف من خشب». ومع اختلافي اليوم مع كثير من افكار المحجوب حول الهوية السودانية خاصة الآراء التي افصح عنها مرة في لقائه مع الدكتور طه حسين، وقد آثرني بصحبته الى ذلك اللقاء في نادي محمد علي. في ذلك اللقاء ظللت مشدوداً يتلقف سمعي الكلمات من العميد والمحجوب وثالثهم رئيف ابو اللمع نائب الامين العام للجامعة العربية. كان المحجوب يضمن احاديثه، المرة تلو الاخرى ابياتاً من شعر ابي الطيب مما حمل العميد على ان يقول له: «مالك وهذا الشحاذ، اصدق منه قولاً أبي تمام» وبين طه حسين والمتنبي عداء غريب عبر عنه الدكتور طه في كتابه «مع المتنبي» وفي الكتاب ظلم بالغ للشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، اذ لا مكان للتمييز بين الشاعرين. فالمتنبي وابو تمام فرسا رهان، قدما لديوان العرب خلاصة المعنى الشعري للانسان والكون. ودار سجال ممتع بين الرجلين حول الشاعرين اطرب الدكتور طه فقال للمحجوب: «دعك عن السياسة.. ديوان شعر واحد خير لك من الحاكمين والمحكومين» وكان رد المحجوب بديعاً: انا في امة تداركها الله.


    ـ كان المحجوب الغريب بين اهل السياسة سيكون اكثر بلاغة لو قال «تداركني الله».


    كان للمحجوب زملاء في الجمعيات الادبية التي مهدت للحركة الاستقلالية بمن كنت تعجب من ذلك الرعيل من رجال النهضة؟ ـ المدارس الفكرية «مدرسة ابي روف، ومدرسة مدني، ومدرسة الهاشماب ـ الفجر ـ» لعبت دوراً مهماً في ارساء ارضية للعمل السياسي وبلورة الاهداف الوطنية. وستظل اسماء رجال مثل احمد خير وعرفات محمد عبدالله والاخوين الكد والمحجوب وحليم والاخوين عشري اسماء ذات رنين في تاريخ الحركة الوطنية. كما اضفى انفتاح هؤلاء الفكر العربي «جماعة الفابيان بالنسبة لمدرسة ابي روف والاشتراكية الانسانية كما عبر عنها جون رسكن بالنسبة لمدرسة الفجر خاصة المحجوب» بعداً حداثياً لاطروحات تلك المدارس.


    الا انني اخذت بآخره اقرأ تاريخ تلك الفترة قراءة تحريفية ـ ان شئت. طغت على الافكار يومذاك نظرة قاصرة للشخصية السودانية اذ لم تر فيها غير البعد العربي الاسلامي حتى الاثر النوبي اسقط من خريطة الوعي القومي كما قلت، هذا القصور لم يكن قصوراً معرفياً فحسب بل ساد ايضا الممارسات، مثال ذلك التعامل مع ابناء من كانوا يسمون الزنوج المنبتين. هؤلاء لم يجدوا لهم موقعاً في مراقى المؤسسات الوطنية بالرغم من دور بعضهم المتميز في تلك المدارس مثل محمد وعبدالله عشري الصديق في مدرسة الفجر.


    المتميز، مثلاً ـ الدراسة الضافية التي اعدتها عفاف عبدالماجد ابو حسبو حول الحركة الوطنية ـ مطبوعات دار النشر جامعة الخرطوم ـ الى ان اهل الحل والعقد لم يجدوا مكانا لأي واحد من هؤلاء في لجان المؤتمر الستينية على مدى خمس دورات بالرغم من ان هذه اللجان ضمت اناساً ادنى منهم فكراً واسهاماً في العمل الوطني لا لسبب ـ في نظري ـ الا لانهم من «اولاد البلد».


    اما التصور المعرفي ابانه بجلاء المرحوم خالد الكد في رسالته للدكتوراه في جامعة ريدنق، وقد نشأ خالد في حمى ابوين لعبا دورا مهما في تلك المدارس ولهذا كان تحليله لصيقاً بالواقع وعلى قدر كبير من الامانة، بل اقول الفحولة الفكرية. قراءاتي التحريفية ايضا قادتني الى استكشاف الكثير من الرومانسية في الافكار التي كانت تطرح، فبدلا من محاولة تطبيق الحلول على المشاكل الحقيقية التي كان يجابهها السودان، خاصة المشاكل الاجتماعية تبدى لي ان مفكري ذلك الزمان كانوا كمن يملك حلا يبحث له عن مشكلة. فاعجاب المحجوب برسكن كنت اتمنى لو ذهب به الى فلسفته الاجتماعية بدلا من الوقوف عند رومانسيته التي اهلته لأن يلقب بنبي الجمال. فلسفة رسكن الاجتماعية جعل منها غاندي دستوراً.


    الطائفية والفكر


    ـ بم تفسر وقوع تلك المدارس في احضان الطائفية؟ ـ انتهاء تلك المدارس الى احضان الطائفية امر لا يمكن تفسيره بالانتهازية ٍَّيَُُُِِِّّْ وانما بالذريعية Expediency ولربما كان التمييز سيما نقيطياً. في تقديري ان نشأة الحزبية في السودان تحت وطأة الحزبية في مصر قادت الى ان تتمثل احزاب السودان المنهاج المصري. وكان في مصر اتجاهان للعمل السياسي الاتجاه النهضوي التدريجي الذي ترتكز فيه السياسة على الفكر يقوده احمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل من بعده، والاتجاه الشعبوي الذي قاده سعد زغلول والنحاس من بعده. غلب الاتجاه الثاني لشعبويته وطبيعته التعبوية الجماهيرية، في حين باء الاتجاه الاخر والذي اخذنا اليوم بعد ثلاثة ارباع قرن نعود الى المباديء التي كان يبشر بها الاحزاب الشعبوية في المنطقة يغلب عليها شيئان: الاول: الاستهانة بالفكر فلا مجال للتمايز الفكري عندما يكون الشعار المعلن هو «لو رشح الوفد حجراً لانتخبناه». وفي السودان كنا نقول: «الفحامي ولا المحامي». الشيء الثاني كان في لغة التخاطب التي تتيح للرجل ان يعتلي المنبر ساعة من زمان يثير فيها الاحاسيس والانفعالات دون ان يقول شيئا، والعربية لغة فصاحة كما روى الجاحظ. لكل هذا ما كان لمن اراد ان يترجم رؤاه ترجمة عملية الا ان يتعامل مع الواقع.


    وقد كان للمرحوم الوسيلة رد لطيف عندما سأله احدهم لماذا يتعامل الحزب الشيوعي مع الطائفية. قال الوسيلة: «السودان ده ما فيه غير السيد علي والسيد عبدالرحمن وبوث ديو وسنتعامل معهم». على ان الطائفية ليست كلها شر، اذ كان لها دورها في توحيد اهل السودان فوق الاواصر القبلية، وبهذا وضعت لبنة في البناء الوطني في الشمال في مجتمع ظل يسوده ـ في ظل الزمان ـ الوعي العشائري. ما عجزنا عنه فيما بعد هو تحويل الوطنية الصغرى «الشمالية» الى وطنية جامعة كبرى، نعبر عنها في ادبياتنا اليوم باسم «المواطنة» ولا نريد بذلك الا انسحاب الوطنية الصغرى بكل قسماتها ومميزاتها على بقية القطر.


    ـ هل للفكر مكان في السياسة السودانية.. بالرغم من هيمنة الشفاهية على المجال الثقافي؟


    ـ بالطبع رغم ما قلت فان العالم يتطور، والذي لا يتطور مع العالم سينقرض حزباً كان ام طائفة. الثقافة الشفاهية مازالت تهيمن على مناهج ادائنا حتى بين المثقفين، فاخطر القضايا يتداولها الناس بالمعرفية الحكائية «مهلمٌٌَُّث ٌفُُّلمكَء» على ان مشاكل الاحزاب بنيوية ووظيفية، ولهذا فهي ليست بحجم التحديات. يصدق هذا على احزاب الجنوب والشمال. وان كان لاحزاب الجنوب عذرها بسبب ضعف البنى التحتية الاجتماعية وضمور النخبة المثقفة، فليس لاحزاب الشمال من عذر، ففي الشمال بنى تحتية راسخة. المدارس الفكرية، مؤسسات المجتمع المدني، الصحافة، تنظيمات المرأة. لا سبيل لتطور الاحزاب ما لم تعالج الاختلالات البنائية بتعميق الديمقراطية الداخلية، وارساء قواعد الشفافية في الاداء والمحاسبة، وضبط الاداء وفق برامج تتناول القضايا الحياتية كما هي على الارض ووفق احصاء رقمي لها لا عبر تدبيج مشروعات يتوفر على صنعها بضعة اشخاص ويفرغون منها في بضع ساعات دون كتاب منير.الجانب الاخر هو الوعي بصراع الاجيال وما يتطلبه من تبديل في المناهج والافكار.


    فالجيل الجديد لا يلهم خياله التغني بأمجاد الامس، كبنى تغلب نحن، اغنتهم عن المكارم قصيدة «قالها عمرو بن كلثوم» الوعي ايضا ضروري بالمتحول في العالم الذي نعيش فيه، في هذا العالم اصبح الفضاء المعرفي فضاء لا نهائي «Cyper Space». واصبحت المجتمعات مجتمعات تخيلية «Virtual Societies» فالتعليم يمكن ان يتم من البعد والتكنولوجيا اصبحت بديلاً فعلياً عن الايديولوجية لانها تلقي بظلالها على كل ما يحيط بك وبالتالي تؤثر على تفكيرك وردود افعالك ورؤيتك. ولكيما تصبح الاحزاب حاملاً اجتماعياً للتغيير ـ اذ لابد للتغيير من حامل اجتماعي ـ لابد لها من تطوير بنيتها واعادة النظر في وظائفها. وبحمد الله في الاحزاب كثر من الذين يدركون معاني الجديد. على الاحزاب ايضا ان تستلهم من الجبهة القومية شيئاً، استفادتها الكاملة من ادوات التواصل الحديثة في تنظيم نفسها وفي اعلامها خاصة الاعلام المضاد.


    مشكلة الجبهة هي انها انشأت حاملاً اجتماعياً بكل ما انجزه القرن العشرون من ابداعات ولكنها حملته افكاراً تنسبها للاسلام. مع هذا دعني اقول انني غير متشائم او محبط والا لبحثت عن الخلاص الشخصي وهو متوفر لي اكثر من غيري، ومنذ زمان بعيد نحن نسير في طريق مسدود كما يقول بعض اصحابي الناصحين. حالنا كتلك التي وصفها الشاعر سعدي يوسف: اوغلت قافلة في الرمل حتى لم تعد تبصر غير الرمل.


    هذا مأزق تاريخي، قلت عنه القديم مات والجديد لم يولد. انا لست من الذين يرفعون ايديهم ويقولون: «ما فيش فايدة» اقول: «فيه فايدة» سيولد الجديد المستحيل على يد جيل جديد متصالح مع نفسه وواقعه ومواريثه ومستجدات عالمه. فمع سعدي يوسف انا اقول: «مستحيل لك ان تطلب في المأزق المستحيل».


    الاسلام وصدام الحضارات


    ـ هذا سؤال يقودنا لسؤالك عن شعار حركات الاسلام السياسي.. «الاسلام هو الحل» الا ترى في هذه الدعوة، ما يعتمل تحتها من صحوة اسلامية تحقيقا لنبوءة هنتنغتون حول صدام الحضارات وحتميته؟ ـ «الاسلام هو الحل» شعار مثل كل الشعارات. انا ايضا اقول قد يكون الحل في الاسلام ولكن اي فهم في الاسلام؟ الشعارات التي تبنى على حتميات وثوابت يفصّلها بعض البشر كجلباب على مقاس لا يصلح الا لهم. تنتهي الى هيمنة هذا البعض الى اوجه كل الحياة، هيمنة لا مكان فيها لاخر معهم. بل تنتهي تلك الهيمنة دوماً الى اداة الاضفاء الشرعية على انظمة هي غير شرعية اصلاً، بدلا من التوسل بها لتحقيق الاهداف المدعاة. لعلك تذكر شعارات «لا حرية لأعداء الحرية» و«لا صوت يعلو على صوت المعركة». كان من سوء الخلق في الماضي ان لا يتبنى المرء هذه الشعارات. اما اليوم فقد اصبحت القلة التي تستمسك بها لا تفعل هذا الا خفية كاستخفاء المرأة المستحاضة عندما تقذف بخرقة استنفرت بها.


    ذلك هو حال شعارات الحتميات الدنيوية. فما بالك بالتي تتوسل بالاديان. تلك امرها جد مختلف لان الخلاف في كلياتها او جزئياتها يقود ـ في حالات التطرف المذهبي ـ الى أبلسة الآخر. والابلسة في ميدان السياسة حيث اليقين برهاني لا ايماني تصبح تلبيساً. في عهود التنوير الاسلامي كانت مساحة الحرية ـ حتى فيما يفترض ان يكون فيه اليقين ايمانياً لا برهانياً ـ فسيحة فمن يجرؤ اليوم ـ في اي جزء من بلاد الاسلام ـ ان يقول ما قاله عمرو بن عبيد شيخ المتكلمة في زمانه في «تهذيب الكمال» حول ما لا يقبله العقل مما ينسب للاسلام.


    شعار «الاسلام هو الحل» شعار تزيد به كثر على غيرهم من المسلمين وما عاد منه على الاسلامي غير الوبال منذ صفين. اول ضحايا تلك الشعارات كان علياً امام العادلين. وفي راهن الاسلام ما ينبيء عن النهايات المأساوية التي يقود لها التزيد. يتجه ذهني الى ايران والى مذكرات آية الله حسين منتظري، الرجل الثاني في الثورة الايرانية بعد الخميني قبل ان تقصيه صراعات الحوزات في تلك المذكرة تحدث منتظري عن الوان القمع غير المبرر الذي لجأ اليه النظام ضد كل من دعا لرأي مناهض لرأي الولي الفقيه. كشف منتظري ايضا عن نفاق الذين يؤبلسون خصومهم من دعاة احترام الرأي الاخر بنسبتهم الى أبليس هذا العصر، الولايات المتحدة الاميركية. ذلك النفاق كان اوضح ما يكون في ان الذي كان يقود الاجتماعات السرية مع ماكفرن مستشار الرئيس ريغان لاكمال اجراءات بيع الاسلحة الاسرائيلية لايران ابان حربها ضد العراق هو احمد الخميني. تلك الصفقة التي اماط منتظري اللثام عن خوافيها اسمتها الصحافة الاميركية ايران جيت. ومازال المتطرفون يلاحقون ذوي الاستنارة مثل الرئيس خاتمي بمثل هذه الاتهامات حتى في مساعيه لبسط التسامح الديني مع اهل الملل الاخرى «اليهود والارمن والزورادشتيين».. حقيقة الامر ان العنف ليس محايثاً للاسلام ولا هو أصل منه ولا شرط من شرائطه، وانما هو لصيق بمن يمارسه باسم الدين. وقلما يخشى هؤلاء عاجل العار او آجل النار.


    فرضية صدام الحضارات عند هنتنغتون فرضية لا تقوم على ساق ان كانت الحضارة التي تحدث عنها هي الحضارة الاسلامية التاريخية.


    فبدون تلك الحضارة لاندثرت الحضارة الهيلينية، تلك بقيت بفضل من ترجمها ونقحها وابقى عليها من فلاسفة الاسلام، الاول في الشرق والغرب. هؤلاء هم الذين ابانوا ما في فلسفة يونان من حكم قولية وفعلية، وما تداولته بالبحث في الطبيعيات والآليات والرياضيات. وبفضل هؤلاء ازدهرت المعاجم العربية بكلمات لم يعرفها العرب من قبل مثل الانالوقطيا «تحليل القياس» والطوبيقا «الجدل» والسوفوطيقا «الحكم المموهة» والريطوريقا «الخطابة» كما حفظت فهارسهم اسماء تاليس الملطي، وفيثاغورس وسقراط وافلاطون وفلوطرفيس وانسكاغورس، الذي يتحدث عنه هنتنغتون هو حضارة اسلامية جديدة او فلنقل مشروع حضاري اسلامي جديد يريد ان يعيد تشكيل العالم كله على صورته وبالشدة. هذا النهج لا يمثل غلوا في الدين فحسب وانما يعكس نرجسية فكرية غريبة، خاصة عندما يظن البعض ان بلداً مغلوباً على امره يمكن ان يكون هو رأس الرمح في هذه الثورة الاممية، ينتابك ارتباك عندما تسمع هذا وتتساءل هل هذا هو البلد الذي نعرف ام ان الله حباه بقوة لا ترونها.


    وهل العالم الذي نسعى لتغييره هو نفس العالم الذي نعيش فيه كالايتام في مأدبة اللئام ام هو عالم اخر: في ابان الحرب الباردة كان الرئيس ماو يصف الولايات المتحدة «ألفة» هذا العالم «بأنها نمر من ورق» وصدقه اهل الصين حتى ادموا انوفهم الى ان جاءهم دينغ شاوبينغ ليقول: «قد يكون نمر من ورق ولكنه نمر ذو اسنان ذرية» فهل لنا بدينغ شاوبينغ سوداني. لمثل هذه الظنون ذهب الخليفة عبدالله عندما أنس في نفسه كفاءة تؤهله لان يتجاوز برسالته الى مصر والشام الى فكتوريا ملكة انجلترا. بيد ان للخليفة عذره اذ عاش في زمان لم يعرف الـ «سي ان ان» ولا الصواريخ عابرة القارات والرجال الذين يمشون على سطح القمر.



    ====

    http://www.albayan.co.ae/albayan/alarbea/2003/issue189/papers/1.htm



                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de