كنت واحدها وهي إبداعاتك انتشرت أو كلمات في وداع أستاذنا الفكي عبد الرحمن

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 09:31 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-09-2003, 12:34 PM

Elkhawad

تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 2843

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
كنت واحدها وهي إبداعاتك انتشرت أو كلمات في وداع أستاذنا الفكي عبد الرحمن



    كنت واحدها وهي إبداعاتك انتشرت

    أو (كلمات في وداع أستاذنا الفكي عبد الرحمن)




    د. محمد عثمان الجعلي
    [email protected]

    "ذات نهار من شهر يوليو من عام 1938 وحين كانت الباخرة كربكان قصاد ساقية السعداب نزل العربي ود قدورة عن التكم وجرى إلى الشاطيء ورفع يده اليمنى وصاح:

    الشبيلي

    وكانت آخر مرة أسمع فيها هذا التصغير الحبيب لألسن القوم والحبيب إلى أذني"

    (الفكي عبد الرحمن : يا ما كان : الصفحة34)



    شيء من "البراك" :



    بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة بدأً وختماً وصلى الله على سيدنا محمداً ذاتاً وصفاتاً واسماً :

    عليك اعتمادي دائماً كل لحظة بدنياي فـي الرخيا وفي كل شدة

    وعند حتوفي أرتجيك لموتتي لتحضرني تختم لي بالحسن ختمة

    تقر بها عيني إذا الروح تؤخذ

    وتكرم تجهيزي أيا خير مكرما وتنزلني في القبر تحضر عندما

    يجيئا نكير ومنكر يسألان مـا أقـــول تلقني لحجة كيف ما

    ينجيني تفعله فكن لي بلا نبذ



    (من: "فتح الخلاق بشرح النوار البراق في مدح الرسول المصداق" تأليف السيد محمد سرالختم الميرغني إبن قطب دائرة الأكوان السيد محمد عثمان الميرغني رضي الله عنهما(.



    رحم الله أستاذنا الفكي عبد الرحمن وجعل الجنة مثواه وأثابه عنا وعن أسرته وأهله وعشيرته وشعبه عن كل ما قدم من إضافات جمة ومتعددة أنارت العقول ووسعت المدارك ولامست شغاف القلوب فاستكنت في ذاكرة الوطن .. رحيل أمثال "الشبيلي" أو الفكي عبد الرحمن من منارات و"سيمافورات" الأجيال الطليعية يستوجب "الصنة" إجلالاً والوقوف احتراماً والانحناء تقديراً ورفع الأكف ضراعة للمولي وإعمال اللسان بالدعاء له رحمة وغفراناً وأملاً في كريم رحمن رحيم مقتدر أن يجزيه عنا بأكثر مما أعطى وان يجعل الفردوس مثوى له مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً وان يلهم آله وأصحابه وعارفي فضله الصبر والسلوان.



    شيء من التعازي:

    في ذكرى رحيل هرم الشعر العربي الشامخ بدر شاكر السياب أنشد صناجة الشعر السوداني الأصيل محمد عبد الحي :

    "هو الموت يسعى إلينا بلا قدم في الدجى والنهار

    ولدنا له ناضجين ،استدرنا له

    فلماذا البكاء : أتبكي الثمار

    إذا أقبل الصيف يحقنها في الخلايا

    بنار الدمار؟"



    التعازي أحرها لأسرة الفقيد بشمبات ول"لعقاب" في تنقاسي وكورتي واتبرا.



    التعازي أحرها لأخوتي الكبار في كل شيء : حليم شنان ، الطيب محمد الطيب ، محمد عبد الله الريح ، محمود دبلوك ، صالح محمد صالح ، عبد الوهاب الجعلي ، عثمان حمور ، عبد الجبار علي إبراهيم ، معتصم قرشي ، وصديق علي كدودة.

    أتخيل حضورهم وحزنهم الطاغي في سرادق عزاء أهل السودان في الفكي .. صمت وإطراق ..استرجاع للذكرى ودعاء بالرحمة والمغفرة ..ثم صمت وإطراق ..كأني بهم في حالهم ذاك في وجدان العبقري حسن طلب وهو ينشد:

    "كانت قلوب القوم شاخصة

    وكان النيل يدخل ماءه

    ويغيب في أقصى الزحام وينخذل

    فالنيل جوعاً لم يزل"

    نعم، النيل يدخل ماءه إذ يغيب عن الساحة "حماد الراوية" المعروف جوازاً بالفكي عبد الرحمن ..نعم، النيل يغيب في أقصى الزحام وينخذل إذ يقفر الرواق من شيخ الدهاقين العتاق وتاج العارفين المدركين الفكي.

    برحيل الفكي ينهد ركن ركين في "متراس" دار الحكمة وقبلة الشورى التي اتخذت من باحة منزل حليم شنان الباذخة مقراً .. وبرحيل الفكي يسترجع القوم شواهد خليل أفندي فرح من عهد "دار فوز" ومن لدن :

    مجلسك مفهوم شوفو رايق عقدو ناقص زول ولا تام؟

    بفقد الفكي فقدت الجماعة واسطة عقدها بل درة القلادة وسلك نظام الدر .. باحة حليم الزاهية النضرة بصفاء أفئدة الشيوخ وشموخهم تتشح سواداً وكمداً وحزناً .. تتشح الباحة حزناً ويتيتم حليم والطيب .. لهفي عليهما وعلى رهطهما إذ يقفر المجلس من الفكي .. لا أتخيل أوقات الطيب دونه ولا أمسيات حليم دون "نوارة المجلس" ..كان حالهما منه (وحال جمع كثير من معارفه) يحاكي حال إبراهيم ود أبو شوارب وهو يصف أحمد ود أبو سن .. أبدع في مدحه :"سيد جابراً جبارته مجبرة الجبار" وفخر بصداقته و"خوته" :

    "فوق حيا فوق محل فوق القلوب متوطن

    وسلطان صولة الدولة النحاسها اترطن

    فراج كبسة الهم القبايلة إنظطن

    صبر أيوب بتلزم به الليالي إن شتن"

    يرحل الفكي وتنسدل ستارة مجيدة على مسرح عامر وسيرة عظيمة وعطاء ظل يهمي كما العارض الوشمي الوبّال .. ظل الفكي يرفد أهل السودان تعليماً وفناً وثقافة أظلت أهل السودان لما يتجاوز نصف قرن من الإبداع الحقيقي والإنجاز الذكي والقيم المضافة .. ظل عطاؤه يتواصل دون انقطاع ك "سارية تبجبج للصباح ما انفشت" كما قال الحاردلو .. يرحل الفكي وعارفو فضله يتمتمون بالدعاء له وقد احتشدوا نشيداً صادحاً مع الفيتوري في حضرة سيدي أبي الطيب المتنبي:

    "يمر غيرك فيها وهو محتضر

    لا برق يخطف عينيه ولا مطر

    وأنت..لا أسأل التاريخ عن هرم

    في ظله قمم التاريخ تنتظر

    عن عاشق في الذرى

    لم تكتمل أبداً

    إلا على صدره الآيات والسور

    عن الذي كان عصراً شامخاً

    ويداً تشد عصراً إليها

    وهو ينحدر"

    (الفيتوري : المتنبي: ديوان يأتي العاشقون إليك)

    برحيل الفكي يعيش الطيب محمد الطيب (أطال الله عمره) على أطياف الذكرى الجميلة المحتشدة بصفاء علاقات تأسست على ساقين من وعي تام بقيمة الصلة الإنسانية ومحبة صادقة لله ومن الله وفي الله .. يعيش الطيب ( وكل المجموعة) على الدعاء للفكي بالمغفرة وعلى رؤية على عبد القيوم (غشت قبره شآبيب المزن الهطـّال) حين عاش تجربة فقد أبي ذكرى:

    "كأني بها يا صديقي

    وقد أدمن العاشقون السرى

    أضاءت بشمعات أحزانها كهف حزني

    ويا ويحها طاش منها جناح نفور

    وظلت مع الريح تبكي

    تغني

    تمنت طيور الذرى يا صديقي كثيرا كثيرا

    وهيهات……..هيهات يجدي التمني"

    شيء من العبر والاعتبار:


    "أوقفني في الموت فرأيت الأعمال كلها سيئات ورأيت الخوف يتحكم على الرجاء ورأيت الغنى قد صار ناراً ولحق بالنار ورأيت الفقر خصماً يحتج ورأيت كل شيء لا يقدر على شيء ، ورأيت الملك غروراً ورأيت الملكوت خداعاً وناديت يا علم فلم يجبني وناديت يا معرفة فلم تجبني ورأيت كل شيء قد أسلمني ورأيت كل خليقة قد هرب مني وبقيت وحدي ، وجاءني العمل فرأيت فيه الوهم الخفي والخفي الغابر فما نفعني إلا رحمة ربي وقال لي أين علمك؟ فرأيت النار

    وقال لي أين عملك ؟ فرأيت النار .

    وقال لي أين معرفتك ؟ فرأيت النار وكشف لي عن معارفه الفردانية فخمدت النار .وقال لي أنا وليك ،فثبت.

    وقال لي أنا معرفتك؟، فنطقت.

    وقال لي أنا طالبك فخرجت."

    ( محمد بن عبد الجبار النفري : كتاب المواقف: موقف الموت)

    نعم ، هو الموت وحيث يكون الموت تكون العبرة وتتكون العبرات ويكون الاعتبار ..عند الموت تبدو الحقيقة واقعاً مراً نجابهه باليقين والصبر والاحتساب ..فالله ما أعطى وله ما أخذ .. يظل فينا وبنا ومعنا الموت .. صدئت آلاته فيما وما زلنا نعافر كما قال صلاح ..يتنفس معنا ويمشي بيننا كما "دابي الليل على كبد السهول رقال" كما عبر إسماعيل حسن .. عند الموت نتوقف هنيهة ونسترجع سيرة عظيمة لرجل جليل الشأن ..ملأ حياة أهل السودان تعليماً وثقافة وعمل عام استهدف ترقية الناس مداركاً وإحساسا وتلك سدرة منتهى لا يبلغها إلا العصبة من أولي العزم ومن وهبهم المنان نعمة البصر ونفاذ البصيرة ومزية التبصر.


    صورة الموت بكل ضراوته تأخذ عند الفكي أشكالاً مختلفة ..سكون الموت يكتسب عنده حركة فاعلة وليست بالضرورة في إطار حزين ..تابع هذه الصور معي من "يا ما كان":


    "من مشاهدات الطفولة التي لا تغيب عن ذاكرتي إنني حضرت لحظة خروج الروح عن جسد جدي محمد وراقبت ما فعلوه بعينيه وفمه ، وشعرت بالضيق لكثرة الناس وصراخهم ، وضعوا الجنازة وسط الحوش الكبير وتحزمت النسوة وغنين ورقصن وحاكيتهن وضحكت من اشكالهن وهن يتحركن ويغنين:

    حي ووب حي ووب

    شديرة بنات بتك

    البرعو البرم تحتك"

    سكون الموت يكتسب عند الفكي حركة فاعلة وتعبيرية وليست بالضرورة في إطار حزين على الوجه المألوف ..أنظر إلى تصوير وفاة جده الآخر :

    "يحكون عن جد لعائشة –(والدة الفكي) - حضر المادح الكبير حاج الماحي وهو يؤدي قصيدته البديعة :

    "أسد الله البضرع

    ينهر في المجمع

    كم عوقًا فسرع

    من شوفتو اتفرزع "

    الكلمات ..الإيقاع .. الصوت الشجي..الأداء ..وتطريب وتجاوب وعشق وهيام ووجد وتعبير . وأستبد الطرب فعبر فرقص فأضطرب فسقط فمات ودخل الجنة بأذن الله"!.

    إذن هو الموت ..وما بين التعازي فيه والعبرة والاعتبار منه تبقى دائماً السيرة والسير السرمدي من مهد للحد .. أغلب الناس يعيش تجربة الإنسان المعيارية .هؤلاء هم عموم الناس .. حيواتهم يختزلها ذات النموذج باختلافات لا ترى بالعين المجردة من حيث "الكونتور" العام وأغلب التضاريس .. ولكن يبقى البعض الآخر ..تلك الفئة القليلة النادرة التي سلكت المغاير من الطرق ، والتي امتطت المختلف من المراكب والتي سبحت في المتباين من الفضاءات ..فعلت كل ذلك فخرجت عن المألوف والسائد وما تواطأ عليه الناس فأضافت للتجربة الإنسانية أبعاداً جديدة آخذة إياها لملامسة تخوم بعيدة وآفاق رحيبة يقصر دونها الدوران النمطي على ذات الأفلاك الأزلية .. هؤلاء هم المبدعون الذين دفعوا أثماناً باهظة وأكلافاً عالية للمغايرة والمخالفة الإيجابية … النفس البشرية مع توقها للجديد تمنياً "تتمترس" خلف القديم واقعاً ومعايشة.. الخوف من المجهول يظل دائماً أقوى من نوازع ورغبات التغيير إلى الأجود والأرقى والأنفع ولا تزال موجهات الفعل السلوكي عند اهل السودان تحكمها قواعد من طبقة "جنا تعرفوا ولا جناً ما بتعرفوا".. المبدعون يحبذون جناً لا يعرفونه عسى عن طريقه تنفتح المغاليق وتتهاوى الحواجز .. المبدعون هم رهط أبي الطيب المتنبي روحاً ومسلكاً ، لا يتهيبون المجهول ويرومون ارتياد العلا :

    كل ما لم يكن من الصعب في الأنفس سهل فيها إذا ما هو كانا

    سهل فيها إذا ما هو كانا و"يا ما كان" وقد عشنا زمن الفكي عبد الرحمن.


    عندما يختار طالب ينحدر من أسرة عادية من أسر أهل السودان أن يتخذ من المسرح مجالاً للدراسة ومن ثم مهنة وسبيل غير مألوف لكسب العيش في أربعينات القرن الفائت فهذه مسألة دالة موحية على روح إبداع كامنة وعلى ميل للتمايز واضح .. ولكن الفكي اختار والتزم وصدق فوصل "الميس" .. منذ اللحظة التي التقى فيها الفكي بالدكتور احمد الطيب أحمد في بخت الرضا كان المسرح السوداني على موعد مع التجديد والإبداع …يقول الفكي عن لقائه بأحمد الطيب:

    "قبل الميعاد كنا وقبل الميعاد كان

    رحب بنا مجتمعين وحيانا فرادى قال أسمه وسألنا عن أسمائنا وتحدث عن الأمس حديثاُ بسيطاً فسمعنا وفهمنا وطربنا وكانت بداية للقاء اتصل مودة ورحمة وعلماً وفناً ومرحاً وفرحاً ، وليته كان سرمدياً". ( الفكي : يا ما كان )

    ليته كان سرمدياً ..ليته كان سرمدياً ..ولكن كل أبن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول ..رحل الدكتور في 1962 ولحق به تلميذه النجيب الذكي الفكي في عام 2002 فكانت أربعون عاما من الوفاء السرمدي.. . أربعة عقود كانت برزخاً بين عالم الفعل والإنجاز وعالم العبر والاعتبار والوفاء ..أربعة عقود كان ميسمها التجويد والإبداع وكان عنوانها "يا ما كان ".
    شيء من السيرة :

    حياة الفكي عبد الرحمن الزاهية النضرة تجمع في ثناياها سيرة ذات رونق وألق..تتمدد هذه السيرة لتشمل صنوفاُ من الفنون والآداب قلما تأتت لفرد .. الفكي تربوي معلم ومسرحي وإذاعي وكاتب وراوية وكل ذلك مع فصاحة آسرة وحصافة بادرة ونادرة فاحصة .. تجربته في مختلف مشارب الدنيا أورثته البصيرة النافذة والرأي الحصيف والفكرة الموسوعية.


    عاش الفكي دنياه عاملاً ومتعاملاً بين الناس ومع الناس وبالناس .. رأى وسمع فحفظ ..رأى وسمع وحفظ ففهم ..رأى وسمع وحفظ وفهم فأدرك ..رأى وسمع وحفظ وفهم وأدرك فأنتج ..رأى وسمع وحفظ وفهم وأدرك وانتج ثم تجاوز فأبدع .. إضافات الفكي هي المثال الأوضح على جدلية العلاقة بين "الرأس والكراس" بين الإبداع والاتباع .. وهذا ، في يقيني، لب التفرد وأس المغايرة وعلامة المفارقة.

    ربما لقلة زادي المعرفي وقصور إدراكي الثقافي لا أعرف حقيقة غير قلة جد نادرة من المثقفين المتميزين والمتمايزين الذين جعلوا من محلية الثقافة رأس الرمح في المثاقفة على المستويين القومي والعالمي .. وتحضرني أمثلة من طبقة ماركيز وتشينوا أشيبي وميشيما وفانون ونقوقي ومحفوظ والطيب صالح .. هؤلاء الأفذاذ صاغوا من الواقع الكولومبي والنيجيري والياباني والمارتينيكي والكيني والمصري والسوداني (على التوالي) أمثلة رائعة على النموذج الإنساني الكوني الأسمى ..: ورغم اختلاف الفضاءات إلا أن الفكي ينتمي حقاً وصدقاً لهذه الجماعة النادرة .. ميراث أهلي الشايقية في الفصاحة والتعبير والتصوير كانت قارب الفكي العتيد الذي مخر به عباب الحيوات الثقافية في أتبرا كما في بخت الرضا كما في القسم الثقافي لهيئة الإذاعة البريطانية كما في المسرح القومي بأمدرمان كما في إذاعة هنا أمدرمان و"عمكم مختار" كما في كتاباته (يا ماكان ).

    الإمساك بسيرة مثل سيرة الفكي أمر شاق ولا يخلو من مخاطرة .. ..هذه ليست سيرة فرد عادي بل ليست سيرة مثقف عادي بل هذه منظومة سير متعددة ومتداخلة .. هذه سير تأخذ برقاب بعضها في تناغم فريد مفضية لعطاء متشعب، غني، ثر فريد مفعم بالإنسانية في كل جوانبه..وعلى سبيل المراوغة لولوج بعض حلقات هذه السير المتداخلة لجأت لبعض ما ظننته مفاتيح سر السير .. نثرت كنانة إضافاته فتخيرت الذاكرة الجماعية والمسرح كمقومات أساسية لهذه الإضافات. وفوق هذا فمن المهم إقرار كاتبه بأنه لا يؤرخ للفكي وقطعاً لا يؤرخ للمسرح السوداني بل حسبه أن ينظر بعين الطائر لبعض إبداعات الراحل المقيم.

    شيء من الذاكرة الجماعية : أو حماد الراوية في سوق تنقاسي:

    "للأرض تاريخها
    مثلما للتراب التفاصيل والنخل والذاكرة
    من يقرأ الرمل
    مازال في نرجس البحر شوق
    وياقوتة القلب تغوي الإشارات
    فاستنهضوا سرها
    أي بحر يقود السفائن والريح مرصودة للشراع
    وللدفة النافرة
    للذي جاء للنوم في ليلها
    إن للأرض أحداقها الساهرة"
    )قاسم حداد : ذاكرة الرمل : ديوان يمشى مخفوراً بالوعول)

    الفكي كان "ذاكرة الجماعة" ومستودع رموزها وأمين سر شواهدها وأدلتها .. حمل في وجدانه ووعى في حافظته الخرافية محبتهم وشوقهم وهيامهم بالسادة المراغنة فأنشد مؤدياً مجيداً معهم:

    "يا سيدي وينك ليَ

    دايرين شوفتك الشايقية

    يا سيدي وزنك قاسي

    دايرنك تزور تنقاسي

    يا سيدي"

    ذاكرة الفكي الفذة ، ككل ذاكرة إبداعية، لم تخن العهد ولم تجافي الأصل بل جعلت منهما قاعدة انطلاق راسخة نحو علوم أشمل وعوالم أرحب . أشرع الفكي للإبحار متأبطاً ميراثاً تليداً .. تأمل معي قدرة الرجل الفذة والفائقة على التصوير الفوتغرافي وهو يلتقط برؤية مخرج من طبقة سبيلبيرج ويوسف شاهين تفاصيل زيارة السيد علي رضي الله عنه لديار الشايقية عام 1936:

    "شاطيء النيل "البار" الواسع جداً قصاد تنقاسي السوق هاج وماج بخلق كثير ما اجتمع مثله في مكان واحد لا من قبل ولا من بعد ..زحام –حركة-مديح-ذكر-غناء-رقص وحيث يكون تجمع يكون سوق .. ترقب وتصنت وصمت القوم استعداداً لمتابعة أخبار البابور:

    البابور قامت من صنب

    البابور فاتت خور ابدوم

    البابور مسكت عرق البحر

    البابور وصلت الدبيبي وقامت على فتني

    البابور شرقت بي عن راس جزيرة التلنباب"

    من أراد من أبناء الجيل الحالي إجراء دراسات وتوثيق أحوال أسواق السودان قبيل الحرب العالمية الثانية فليأخذ سوق تنقاسي كمثال وليتوكل على الله ويأخذ من "جراب الفكي الزاخر بالأعاجيب تصويره لحركة ذلك السوق:

    "للبقر كنانيات وغير كنانيات سوق، للجمال بشاريات وغير بشاريات سوق، وللحمر دنقلاويات وغير دنقلاويات سوق، وللغنم سوق ، وللحبوب والبقول سوق، وللتمور سوق ، وللأقمشة ينسجونها ويستوردونها سوق ، وللحوم سوق، وللدهون والزيوت سوق ، وللبروش سوق ، وللسكر من مصر والشاي من بلاد تركب الأفيال سوق ، وللحبال سوق ، وللتبش والبطيخ والقاعون سوق ، وللبهارات سوق، وللنعلات سوق ومبدعون فنوناً ومتفرجون".

    ومن أراد أن يؤرخ لمؤسسات التعليم السودانية والأطر الاقتصادية والاجتماعية التي نشأت فيها فعليه ب "يا ما كان" ليقف على متطلبات الالتحاق ببخت الرضا في بداية عهدها ويراجع ما وعته ذاكرة الفكي عن الاستعداد للسفر لبخت الرضا:

    شنطة صفيح أبو وردة.

    عراقي دمورية وزن تسعة.

    سروال دمورية وزن عشرة.

    عراقي دبلان أبو بغبغان لزوم الأعياد والمناسبات الهامة.

    جزمة باتا بنية برباط.

    بلح وجرم.

    بل أنظر كيف صور الفكي بكاميرته بالغة الدقة كثيفة المعاني اختيار بخت الرضا في عام 1934 من قبل المستر قريفث كجهة لقيام معهد للتربية والتعليم : يقول الفكي في "يا ما كان":

    "الدويم الفاصل بين التصحر واللا تصحر

    الدويم بالماء كثرة يموت الإنسان وبالماء ندرة يموت الإنسان

    الدويم الماء عذب والماء ملح أجاج

    الدويم الزارعة المروية والزراعة المطرية

    الدويم فرس البحر وسفينة الصحراء

    الدويم ويا سبحان من جمع كل قاسيات السودان في مكان واحد فالتقت مفردات بيئات متنافرات نوعاً متجانسات قساوة وشدة وسبحان من سلط عبده قريقث ليختار الدويم مكاناً لتدريب من سيقومون بتربية وتعليم أولاد السودان".

    ذاكرة الجماعة كان الفكي .. تذكارات القرى وإشارات الطريقة وطقوس القبيلة كانت تمائم الوعي عنده ..حافظ عليها وحرص على استدعائها فكانت شواهد حديثه البديع و"شرافات" لوحه الباهر:

    "تنقاسي الغريبة (بضم الغين) وثمانية عشر ميلاً وقرب مكاني وقرب فكري وتقارب فني..

    تنقاسي الغريبة:

    النيل والنخيل

    وساقية تصحي الليل مع الفجراوي

    وشيخاً في الخلاوي ورع

    تنقاسي خلوة التلبناب

    الغريبة خلوة شيخنا ود صديق

    تنقاسي الغريبة وبلاد ، وبكل بلد خلوة ولكل خلوة شيخ وكل شيخ بقية من سلف صالح

    ثمانية عشر ميلاً وبكل ميل مبدعون ومبدعات ، شعراء وشاعرات ، مغنون ومغنيات ، مادحون ومادحات ، وأذكر ولا ادقق أسماء أو إبداعا فذلك شأن الباحثين الدارسين

    يالله هوي ليلي أنا

    الله ليل والليل ليلي انا

    يا الله هوي

    توحيد وتطريب وكل الناس موحدون ومطربون"

    توحيد وتطريب كانت موجز نشرة أخبار وسيرة أهلي الشايقية ..في عمله التوثيقي الباهر "يا ما كان" أستدعى الفكي بحافظة نادرة وجلد محب مشوق مستهام سيرة "أماتي" و"أبواتي" المبدعين في المنطقة.. في الضفة الغربية :السعيدي بت الطاهر وشقيقها النعمان والرسالة بت الطيب وأم الحسين بت إدريس وبشير الخير .. زينب بت مسيك التي أوقفت شعرها على مدح السادة المراغنة.. طاف بذاكرة وقادة الغريبة والكرو والزومة والدهسيرة والقرير والمقل ومقاشي والكنيسة .. عبأ ذخيرته من معين ومناهل الحكمة والإبداع كما عند ود النضيف وفاطني بت همت وعلى ود حسونة وجيب الله قشك وشيخنا علي ود حليب.

    ذاكرة الجماعة كان الفكي .. أحب قومه بأشيائهم كلها .مديحهم ، فنهم ، أغانيهم ، سواقيهم مشربهم ومأكلهم :

    "اللوبا العفن يلذ وهو اخضر ويصلح بالتمر والبصل وحين خلطوه بعيش الريف قالوا في ذلك شعراً :

    البليلي أم حباً نضيف

    حبة لوبا وحبة عيش ريف

    البشوفك يحرن يقيف

    ويا حلاة ملحك في الشلاليف"


    من غير ذاكرة الجماعة الفكي يردد حباً ووداً وفرحاً :

    " قرعة ترمس وهينين كريق

    وست عصاصير اللات مريق

    ناكلن في فكة الريق

    ويا الغدي نرجاك بالضيق"

    ذاكرة الجماعة كان الفكي .. تصوير شخوصه الآسرة تبلغ في النفس مبلغاً عظيماً .. أسرتني شخصيات "زينب رحمة" و"ود عبيد الله" و"هله" والزلال وبتد شقلة والزين حرس وود الأسطى .. أنظر للفكي ينحت بأزميل فدياس ملامح شخصية زينب رحمة في جناح سوق الدهون والزيوت في سوق تنقاسي :

    " تجلس على عرشه بالقامة والقدرة والمقام زينب رحمة وينادونها " الانقتيرا" نسبة لملكة إنجلترا ..زينب في البيت عصارة وفي السوق جزارة وتجربة وقدرة مهنية على ضبط الجودة ومعرفة التكلفة وهامش الربح" ..

    الفكي كان ذاكرة الجماعة .. أنظر تصويره لود الأسطى وجمهوره من العانسات اللائي انقطعت عنهن أسباب بعض ملذات الحياة فاكتفين بممارستها شفاهة:

    "ود الأسطى يؤلف حكايات مثيرات عن عاشقين وعاشقات ويمثل الأحداث ولا يتحفظ كثيراً في جلسته أو في كلامه وتعبيره فيلامس ما سكن بذاكرتهن ، فيدغدغ مشاعرهن فتتحرك قدرات التخيل عندهن ، فيتضاحكن ، ويتغامزن، ويتلامزن ويتلامسن ويتململن فيجحظن ويلهثن ويهدأن وينهضن متثاقلات ويمشين إلى بيوتهم خامدات شاكرات ويتمنين أن تكون كل أيام الله ثلاثاء وان يديم الله على الشيخ الصحة والعافية".

    ذاكرة الجماعة كان الفكي .. أقرأ ما دونه عن حال مدينة عطبرة أبان الحرب العالمية وقد هجرتها النساء وبقي الرجال يجتهدون لتدبير شئون بيوتهم من غير النساء :

    "حاكيت وجربت وتعلمت وعست الكسرة وفركت البامية والويكة اليابسة وأعددت الشاي الأحمر كما عين الديك ..ولما عز السكر صنعت وشربت البانجقلي وهو شاي يستعمل البلح بديلاً للسكر .. كنست وغسلت وبعت وتعلمت لغة الدناقلة لا أتقاء لشر فيهم ولكن جلباً لخير فيهم فأغلب زبائن الدكان يرطنون ولن أفهم

    "أمبدك دانا وأمبد تعني الملح ودانا تعني موجود والمعنى عندكم ملح

    عرفت أجود التمور ومطايب اللحم مثل بيت الكلاوي وسن البرك التي يستأثر بها الجزار فيضن بها على أخيه وامه وأبيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الارض جميعاً".

    ذاكرة الجماعة كان الفكي .. أنظر تدوينه المشوق لدفعته في بخت الرضا وقدرته على التعامل الذكي مع درجات التفاضل والتكامل والمقاسم المشتركة للطلاب:

    "أثنان وسبعون ولداً من أثنين وسبعين بلدأ يختلفون سحنات ولهجات وعادات يحملون أحلامهم وآمال أهلهم ومدارسهم وبعض ما تنبت الأرض وما يصنع الانسان:

    من الرباطاب: التمور ودلقاي وود خطيب.

    من المحس: القنديلة.

    من الشايقية: البركاوي والجرم.

    من كسلا : الدوم.

    من الغرب القريب : الهالوق والنبق.

    من الغرب الغريب جاءوا بأشياء ما رأيناها أو سمعنا بها من آبائنا الأولين:

    حمدان والباقر وتنقو حلفوا بخليفة المهدي

    لا جاي أقعدوا طولا ، استريحو ، دوغو هناي غرب دا

    هاي عيال بحر أقربو كنجلو أيديكن ".

    ذاكرة الجماعة كان الفكي .. الحافظة والرواية سنامان عظيمان أمدا أهل السودان بالمفيد النافع من المواد التربوية والتعليمية التي وظفها الفكي لتنشئة أطفال السودان سنين عددا .. نسأل الله ان يجعلها في ميزان حسناته .. قيل لسيدي الجنيد (أبو القاسم الجنيد بن محمد المرزوي ) : ما للمريدين وسماع القصص والحكايات؟ قال : الحكايات جند من جنود الله تعالى يقوي بها قلوب المريدين..قيل له هل لك في ذلك شاهد؟..فتلا قوله تعالى: "وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك". (هود: آية 120)

    شىء من المسرح :المشخصاتي أو : سفوكليس مشلخ شايقي

    "سجلوا انه

    قبل أن ينتهي المشهد

    ماتوا جميعاً

    لم يكن دورهم أن يموتوا

    ولكنهم مثل ما قلت ماتوا

    وها إنني أقف في مهب الحكاية وحدي

    ولا شيء حولي

    سوى الأقنعة

    عبثاً تبحث عن وجهك في مرآة الأيام

    فالأيام قناع لا يكشفه غير الموت

    "والناس نيام

    فإذا انتبهوا ماتوا"

    ( محمد على شمس الدين: الممثل: ديوان يحرث في الآبار)

    قبل ميلاد الفكي بعامين كتب رائد حركة التنوير السودانية عرفات محمد عبد الله في "النهضة" معلقاً على مسرحية وفاء العرب التي قدمتها فرقة نادي الخريجين بأمدرمان بقيادة صديق فريد يوم الخميس 12 نوفمبر 1931 فقال في ختام تعليقه : "ونتقدم في النهاية إلى أفراد الجوقة عموماً بالشكر على تبرعهم بهذا المجهود في سبيل تعليم البنت إذ أن ريع الرواية مخصص لإعانة مدرسة البنات بالخرطوم البحرية. وهم كهواة ومتبرعين يجب أن يقابلوا من النظارة والنقاد بالتسامح والتشجيع".

    إن دلالات هذا النص متعددة حقاً فنحن من جانب لسنا فقط أمام حركة مسرحية (أي كان مستواها) بل أيضاً أمام حركة نقدية (أي كان منهجها) .. من جانب آخر نحن أمام مسرح ملتزم بالقضايا الوطنية .. مسرح يعمل ضمن منظومة حركة التحرر الوطني ..مسرح يعمل لتنوير المجتمع والمساهمة الفاعلة في نهضته من خلال دعم المجهود الوطني لتعليم البنات.. إذن ، وبكافة القيم والمعايير كان لنا في بداية الثلاثينات مسرحاً ملتزماً وطليعياً.

    في عمله التوثيقي الكبير "المسرح في الوطن العربي" (سلسلة عالم المعرفة)أفرد الدكتور على الراعي فصلاً للمسرح في السودان وقد استندت مادة الفصل على ثلاث مقالات كتبها الأستاذ بدر الدين حسن علي لمجلة "الأقلام" العراقية خلال الفترة بين مارس 1977 وفبراير 1978. . ركزت المقالات على جهود إنشاء مسرح سوداني منوهة بأعمال الخواجة لويزو وإضافات إبراهيم العبادي في "عروة وعفراء" مروراً ببدايات المسرح في كلية غوردون وجماعة صديق فريد بنادي الخريجين ومن ثم عبيد عبد النور وجهود عرفات محمد عبد الله ومحمد عشري الصديق في النقد المسرحي وخالد أبو الروس وأمين التوم وسيد عبد العزيز. .. هؤلاء الرواد ، في تقديري، لعبوا –بدرجات متفاوتة – ذات الدور الذي لعبه رواد المسرحي العربي مارون نقاش (في لبنان) واحمد خليل القباني (في سوريا) ويعقوب صنوع ( في مصر).

    فترة الأربعينات شهدت ظهور الفرق المسرحية كما في أعمال ميسرة السراج وتجربة بخت الرضا.. ونقف عند تجربة بخت الرضا حيث أنها لم تكن حركة عابرة بل نهضة حقيقية تأسست على وعي بقيمة المسرح وعلى منهج علمي لتناول قضاياه..على هذا الصعيد تتبدى واضحة إضافة الدكتور أحمد الطيب وتلميذه النجيب الفكي عبد الرحمن.

    تجربة بخت الرضا المسرحية كما دونها الفكي في "يا ما كان" تستحق وقفة متأنية باحثة ودارسة .. ثنائي أحمد الطيب والفكي عبد الرحمن ثنائي نادر ..يتميز هذا الثنائي بقدرة إعجازية على المزاوجة بين العالمي والسوداني في تناغم عبقري .. لقد اعملوا فكرهم الثاقب وأحاطتهم ببيئتهم السودانية في التعامل مع نصوص عالمية .. قدرة أحمد الطيب غير المسبوقة في المزاوجة بين روح النصوص الشكسبيرية والواقع السوداني بلغت شأوا بعيد من حيث الخيال الدرامي .. يقول الفكي عن دوره كحفار القبور في هاملت لوليام شكسبير:

    " مارس 1945 مثلنا مسرحية هاملت وقمت بدور حفار القبور ، حفرت وشربت وغنيت وعبثت بجماجم الموتى ..ضحكت وغنيت :

    "يا بانة ..ما شفتي محبوبي العيونيو نعسانة"

    وكانت أغنية جديدة غناها صاحبها الفنان سيد خليفة لتوها..

    "يا بانة" جزء من سيناريو هاملت .. عن قدرات أحمد الطيب يقول الفكي: "قرأ علينا كلام بعض الشخصيات حسب أبعادها فبهرنا وشدنا .. العربية وآدابها والإنجليزية وآدابها وفنونها وفهم عميق للمكتوب وإدراك لغير المكتوب والمفردات وما تقول لفظاً مباشراً وما لا تقول وتفيد معنى .. القرآن الكريم والحديث الشريف والقول المأثور والمثل السائر وفصيح الفصيح ودارج الفصيح وفصيح الدارج والشاعرية والتناغم والسهل الممتنع .. كان احمد الأقدر على ترجمة وليم شكسبير لممثل معلوم وجمهور معلوم في زمن معلوم وكانت بخت الرضا وكان المسرح العتيق وكانت البداية وعملان مسرحيان كبيران كل عام".

    أحمد كان الشيخ الذي تتلمذ عليه الفكي .. شيخ عالم إلتزمه حوار "نظج" ذكي فكسب المسرح السوداني شيء من الاستمرارية يعوضه عن فقده الكبير في احمد الطيب.

    عند توثيق وتدوين تاريخ المسرح الحديث في السودان لا بد من الوقفة الطويلة المتأنية لجهود الفكي عبد الرحمن ..يقول الأستاذ بدر الدين حسن علي :" إن الفكي عبد الرحمن تولى إدارة المسرح القومي عام 1967 وكان قد عاد إلى البلاد يشتعل حماساً وينبض أفكاراً تدور كلها حول ضرورة النهوض بالمسرح السوداني الذي كان لا يزال تنقض ظهره المتاعب الكثيرة : فانتشاره محدود وقضية المسرح غير مطروحة بشكل إيجابي على مستوى القطر والنظرة العامة إليه هابطة ولم يبرز بعد الكاتب المسرحي المتمرس ولم تهتم الحكومات المتعاقبة بالمسرح ولا معهد هناك للمسرح لإخراج الطواقم المسرحية اللازمة ولا تزال المرأة غير حاضرة بالشكل المطلوب في نشاط المسرح ولا فرق نظامية في البلاد تحكمها لوائح وقوانين معروفة فضلاً عن المنافسة التي كان يلقاها المسرح من قبل السينما والتلفزيون ".

    لقد كان هذا السرد الطويل لمشاكل المسرح السوداني عند تولي الفكي لمسئولية إدارة المسرح القومي ضرورياً جداً لتقدير عطاء الرجل وإنجازاته .. واقع مثل الذي ورثه الفكي كان قمينا بطرد أي مغامر عن الساحة فالبعد عن الشر بل الغناء الصادح له كان الحل الطبيعي لغالبية البشر إلا الفكي .. فأمثاله من الرواد المقتحمين تتفجر طاقاتهم الإبداعية عند التحدي ويتعملقون عند الأزمات.

    إضافات الفكي المتعددة شملت البدء بالعمل بنظام المواسم المسرحية .. على يد الفكي انتظمت الحركة المسرحية في نسق محدد معلوم .. الفكي علم الناس احترام المسرح والتزام القيم المسرحية حضوراً ومشاهدة .. يكفيه فخراً انه برمج وأنجز تسعة مواسم مسرحية متواصلة ..يكفيه إبداعاً إنشاء المسارح الإقليمية كما هو الحال في مسرح تاجوج بكسلا ومسرح بور تسودان ومسرح الجزيرة بمدني ومسرح عطبرة ومسرح كردفان .. ساهم الرجل في إنشاء هذه المسارح فنقل المسرح لحواضر السودان ومدنه ودساكره ..يكفيه إنجازاً وإبداعاً الجماعات التي وظفها للعمل بالمسارح كمسار مهني لم يكن متوافراً من قبل .. الفكي لم يكتفي ببرمجة المواسم وإنشاء المسارح وتعيين المسرحيين بل جعل المسرح قضية عامة تناقش في المنتديات الثقافية وتعقد لها وحولها ورش العمل وحلقات النقاش وندوات التنوير ..في عهد الفكي الزاهي نمت فرق مسرحية وشبت أخرى عن الطوق.

    الفكي تتلمذ كذلك على يد عباقرة المسرح العربي .. في القاهرة بمعهد التمثيل بالمبتديان تعهده الشامخان عزيز أباظة وجورج أبيض ..يقول الفكي عن هذه التجربة:" تعهداني مسرحاً وتعلمت الكثير الكثير عليهما" .. في بخت الرضا تتلمذ على يد من أشرفوا على نهضة السودان التعليمية حيث كانت بخت الرضا معقل العلم ودار التربية وكعبة التنوير والإبداع .. "أعطني مسرحاً أعطك أمة" قالها شكسبير وعمل احمد على تحقيقها عن طريق من أحبوه فأحبوا المسرح والناس وسينتشرون بين الناس يربون ويعلمون . .شكسبير واحمد والمسرح والإنسان موضوعاً والإنسان أداءً والإنسان فرجة وفن الجماعة أبو الفنون .. الممثل مدرس بلا فصل والمدرس ممثل بلا خشبة" ..هكذا تحدث زرادشت أو الفكي عبد الرحمن .. عدد الفكي عن أساتذته من الأعلام والمنارات الشامخة :

    أحمد الطيب احمد ، عبد الله الطيب ، عبد الرحيم الأمين ، محمود نمر ، محمد توم التجاني، شفيق شوقي، فخر الدين محمد ، عبد اللطيف عبد الرحمن، مبارك إدريس، عبد الغفار الحوري، عبد الرازق عبد الغفار، المستر كولستول، عبد العزيز علي أحمد ، إدريس جماع والطاهر شبيكة .. وقال عنهم "هؤلاء وعطاء يتصل خيره حتى اللحظة فنوناً مسرحية واستعراضية علموها لحيرانهم وعلمها حيرانهم لحيرانهم".

    من لمسات الوفاء النادرة ما سطره الفكي عن هؤلاء : يقول:"على الذين يزورون المسرح القومي والمسارح الأخرى وعلى الذين يزورون معهد الموسيقى والمسرح وعلى الذين يزورون الفنون الشعبية وعلى الذين يزورون فرقة الأكروبات وعلى الذين يزورون أوركسترا الآلآت الشعبية وعلى الذين يزورون قاعة الصداقة وعلى الذين يزورون كلية الفنون الجميلة والتطبيقية عليهم جميعاً واجب التحية والتقدير والإجلال لبخت الرضا".

    عن إضافات بخت الرضا يقول الفكي : "خلال الفترة (1945-1961) قدمت جماعة المسرح (ببخت الرضا) بقيادة احمد الطيب مسرحيات لوليام شكسبير منها هاملت، العاصفة ، الملك لير، روميو وجوليت، تاجر البندقية ، حلم منتصف الصيف، هنري الرابع ، زوجات ونسور المرحات ، ماكبث.. وقدمت الجماعة مسرحيات لكتاب آخرين منهم: شو ، شوقي ، توفيق الحكيم، باكثير، عبد الغفار الحوري، عبد اللطيف عبد الرحمن، مبارك إدريس ، مولير ، سوفكليس ، انطون شيخوف وعزيز أباظة".

    يكفي الفكي ريادة وسبقاً للولوج لعالم المسرح من باب المنهج والدراسة ومن باب حرفة كسب العيش أن لا يتقدم عليه سوى العبقري أحمد الطيب أحمد .. ورحم الله عثمان حسن احمد وجعل الجنة مثواه إذ حفظ حق الرجل بجمعه ل"أصوات وحناجر" وطباعتها .. أحمد الطيب وحيد زمانه –فيما اخبرنا الفكي غشت قبره شآبيب المزن الهطال .. موقف أحمد الطيب وحاله من أهل جيله على صعيد المسرح كموقف أبي الطيب من شعراء العربية من لدن الصعاليك وحتى عفيفي مطر وعاطف خيري.. تتلمذ الفكي على يد أحمد الطيب وحفظ له الجميل على نحو يدعو للأعجاب والاحترام ..ظل كثير التوقير لعطائه وعبقريته حتى لحق به .. ولا اعرف متعلماً كتب وتحدث عن معلمه كما فعل الفكي عبد الرحمن مع سيرة احمد النضرة .


    ريادة أحمد الطيب في المسرح السوداني كانت كريادة أبي الحسن الحصري في أدب الأندلس ..يقول أبن بسام في الذخيرة أنه كان " بحر براعة ورأس صناعة وزعيم جماعة..وانه طرأ على الأندلس منتصف المائة الخامسة من الهجرة والأدب بأفق الأندلس يومئذ نافق السوق معمور الطريق فتهاداه ملوك الطوائف تهادي الرياض بالنسيم وتنافسوا عليه تنافس الديار بالأنس المقيم" .. وهكذا كان حال الفكي ورفاقه حين أسعدهم الله بلقاء أحمد الطيب .. يقول العلامة البروفيسور عبد الله الطيب –شفاه الله وعافاه- عنه: "كانت وفاته في أوائل 1962 مصاباً كبيراً أحس فقده أقربوه وكان بهم ذا بر ومودة وأحسست أنا وأصدقاؤنا في المجتمع وفي المدرسة ومن قبل تلاميذنا ببخت الرضا وبالمدارس الوسطى وزملاؤنا المعلمون وأحس الوطن الكبير لأنه رزيء في أحمد عبقرياً فذاً .. جزى الله الأخ والزميل الأستاذ الفكي عبد الرحمن خيراً إذ يهدي إلى أبناء وطنه كلاماً عن رجل من كبار بناة حضارته وفكره وأدبه ورحم الله احمد وأسكنه دار الخلود مع الطبيين الأبرار من أسرة الغبش الصالحين الأخيار ، وأذكر لطفه وأدبه ووده إذ وقفت على تربته وعليها الحصحاص في مقبرة الغبش التي فيها الفكي عبد الماجد ود حمد وأشرت إلى ذلك في "بانات رامة" بالبيت:

    وزرت ضريح الأغبشي بقفرة مواء وقلبي للسباريتي يركن"

    رحل أحمد الطيب ومن ثم رحل "حواره" الفكي..رحل الفكي بعد أن ترك بصمات جليات بائنات على مجمل الحركة الثقافية السودانية .. بصمات الفكي تتوافر في مقاسم و"اميات" و"توربينات" الدفع الثقافي .. تجدها في المسرح القومي ومسارح الأقاليم ..تجدها في أبنائه المسرحيين ..تجدها في المسرح الاستعراضي والفنون الشعبية ..وإذاعة "هنا عمكم مختار".. ستظل إسهامات الفكي بيننا ما رفعت ستارة لعرض مسرحي .. ستظل آثاره معنا ما تحلق الصبية حول مذياع في انتظار عمهم مختار.. ستظل ذكراه العطرة ماثلة ما صدحت الآلآت الشعبية وقد تناغم فيها "طمبور" مع "أم كيكي" وما تلاحم فيها أيقاع للدليب مع "البالمبو" وما أصطف على إيقاعها الراقصون يزاوجون بين قرون الكمبلا وسيوف البني عامر .. ستظل إبداعات الفكي بيننا ما امتد سامر بحلو حديث يجلو الصدأ ويزيل الكلال.

    شيء من أعمال الخروج والدعاء : أو :الشعور بالقبض بعد البسط:

    "عجبت لكلي كيف يحمله بعضي ومن ثقل بعضي ليس تحملني أرضي

    لئن كان في بسط من الأرض مضجع فقلبي على بسط من الخلق في قبض"

    (أبو مغيث حسين بن منصور الحلاج : الديوان)

    رحم الله الفكي عبد الرحمن .. في ذكرى رحيله تتداعى الصور وتنداح دوائر العبر مستدعية أزماناً ولت ولن تعود وأقلاماً جفت وصحائف رفعت وبقي منها ما ينفع الناس ويمكث في الأرض وما اكثر ما سيبقي من عمل الفكي تنشئة للأطفال وتعليماً وتوسيعاً لمدارك الإنسان السوداني .. ستظل الذاكرة السودانية الوفية المقدرة لعطاء أبنائها محتفظة للفكي بإبداعه ومساهمته الواعية في حركة التنوير .. وسيبقى لمن عرفوه عن قرب أطياف لوفاء وعرفان كانا سمة التعامل معه .. وروح دعابة وظرف قل أن يجود الزمان بمثلها .. سيظل الأقربون يتنادون مع إسماعيل حسن :

    "وما تاهت

    مراكب الغربة

    ما لجت

    تصارع في رياح الشوق

    وريح الشوق

    يولول

    في الدجى مجنون

    ومات الكان على الليدين

    ونحن نهاتي للبيكون!!"

    (إسماعيل حسن : "قلب الزمان الراح" :ديوان :ريحة التراب")

    سيظل الأقربون كما هو الحال يراوحون بين "ما كان وما سيكون "..ينشدون مع "سفينة" ومادحي الرسول من خلفاء السادة الختمية وهم يختمون ألواح "المولد" بالهاء البهية والنون نصف دائرة الأكوان :"اللهم صلى وسلم على الذات المحمدية وأغفر لنا ما يكون وما قد كان ".. ينشدون معهم ويطالعون" يا ما كان" .. يطالعون "يا ما كان" وهم يراوحون ما بين استعادة زمن الفكي البهيج .. وأيامه البهية ومواقفه الإنسانية وحقيقة الفقد الكبير ..يتوقفون عن المراوحة لحظة التجلي الأسمى ..لحظة ما زاغ البصر وما طغى .. يستغفرون المولى وهم يرددون الشفيف الرقيق من شعر أبن الفارض:

    قلبي يحدثني بأنــــك متلفي روحي فداك عرفت ام لم تعرف

    لم أقض حق هواك إن كنت الذي لم أقض فيه أسى ومثلي من يفي

    مالي سوى روحي وباذل نفسه في حب من يهواه ليس بمسرف

    فلئن رضيت بها فقد أسعفتني يا خيبة المسعى إذا لم تسعف

    اللهم يا رحمن يا رحيم يا منان .. يا مخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي .. يا رافع السماء دون عمد نراها ويا خبير يا لطيف يا باريء يا مصور يا عفو يا حليم : إن عبدك الفكي بن عبدك عبد الرحمن بن عمر بن الشبلي ..عبدك الفكي ولد أمتك عائشة بنت محمد بن سعد الكرسني قد جاءك فقيراً مفتقرأ تائباً عابداً ذاكراً .. نسألك اللهم بجاهك وعدلك ورحمتك أن تتقبله القبول الحسن وتكرم مثواه .. وتجعل مقامه في عليين .. وأصلى وأسلم على حبيبنا و سيدنا محمد بن عبد الله وعلى أهل بيته وعترته الطاهرين عدد ما أمطرت السماء منذ بنيتها وعدد ما انبتت الأرض منذ دحوتها وعدد النجوم في السماء فإنك أحصيتها وعدد ما تنفست الأرواح منذ خلقتها .. اللهم صلي عليهم عدد خلقك ورضاء نفسك وزنة عرشك وسلم تسليماً.

    وبمثل ما كان المبتدأ نعيد الكرة خبراً فنختم من "النور البراق":

    بحقك يا طه نرجي المقاصدا لأنك بك الأخيار تعطى المناجدا

    ومنك ينال الواصلون المعاهدا وعنك يحوز العارفون المحامدا

    فمن تدنيه أدنى ومن لا فلا صبغ

    وأقبل لمدحي وألبسنه لبهجة واجعله مقبولاً بدنيا وجـــنة

    جزائي عليه الجوار بطيبة مماتاً وفي الجنات أتبع بنوتي

    وصحب عليك الله صلى مسبغ

    وأختم قولي بالصلاة معظماً أيا ربنا صلي وبارك وسلما

    على المصطفى والأهل والصحب دائماً صلاة تفوق المسك عطرأ مفخما

    يطيب بها كل الوجود ويتلألأ

    محمد عثمان الجعلي : دبي

    الجمعة 26 يوليو 2002

    http://www.sudaneseonline.com


                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de