[qb]
هي الذاكرة، مشعل الحنين المضيء على بقعة اتفقت البشرية على تسميتها بالوطن. فهل نشتاقه في فعلنا اليومي ونحن ندب بكل روتيننا المتعب على طرقاته وبين أحضانه، أم يزداد ايماننا بأهميته حين نغادره الا من صورة عالقة ما بين القلب والعين؟ ما هي العلاقة الحقيقية المحسوسة بالامكنة، وهل المكان هويتنا الفعلية، وكيف يكون انتماؤنا للاشخاص، للشوارع، ام لسنوات عمرنا الضائعة؟ ضمت الكتب والاصدارات آلاف الطروحات والافكار التي نقبت في مفهوم الوطن ونبشت في قدرته على اختصار القومية، واستمر الجدل قائما وراح يزداد يوماً بعد يوم مع الترحال والاختلاط الانساني الهائل والمتداخل الذي غذّى التنوع المسالم والصراع المتأجج في آن معاً. ونتج عنه اذكاء للعنصرية التي ألّمت داء بمعظم البلدان التي فتحت ذراعيها للهجرة. فنقرأ عن عنصرية فرنسية ضد المغربي والجزائري، وعن نازية ألمانية جديدة تعتقد أنها ستنتصر للعرق الآري المتعالي على الجميع. ولن نغوص في هذه النقطة مع أمين معلوف في هوياته القاتلة واشكاليته الازدواجية، لكننا نسأل عن هويتنا الداخلية والرابطة التي تلزمنا بجنسيتنا وملامحنا حتى نصبح في موقع الواثق عند اطلاق الاحكام المسبقة والمطلقة على شعب من الشعوب. اماكن الطفولة تشكل قالباً أساسياً فيه تصبّ شخصية الفرد وميله العاطفي، فلو سألت أحدهم عن معنى الوطن الذي لم يره الا على شاشات التلفزة او عبر البطاقات السياحية وحكايات الأهل، قد يقلب شفتيه عاجزاً عن تحديد شعوره، هو الذي اعتاد على مناظر البلد الاجنبي (ليس الغربي بالضرورة) وعيش سكانه ونمط حياته. قد تراوده فكرة الزيارة الاستطلاعية، لكنه يستبعد بحتمية شبه مطلقة ان يقضي بقية ايامه فيه، بينما الحنين يأكل فؤاد ابيه مستعيداً طفولته وشبابه ومستعرضا وجوه ناسه. ونلحظ اصراراً أكبر لدى هذا الأب لو كان من وطن محتل مثل فلسطين على سبيل المثال او معرضاً لمحاولات السيطرة وانتزاع السلطة كما حصل في يوغسلافيا السابقة او الجمهوريات السوفييتية السابقة (الشيشان مثالاً). وفي حالات الحروب والنزاعات والاحتلال تبرز بقوة قضية »الوطن« فمن مدافع مستميت يأبى ان يترك أي شبر من ارضه ولو على حساب عمره، الى متمسك بالحياة قابل للسفر حتى اخر العالم لينجو بروحه موقناً ان وطنه هو نفسه ذاته. ويدخل البعض مسألة المجتمع كأثر فاعل في هذه الناحية حيث ان النمط الزراعي يوحي بالتصاق اكبر بالتراب مختلف عن الخدمات والسياحة. ويغدو الوطن احياناً بحجم مارد في دواخلنا فيتقدس في خيالاتنا من غير ان يضبط مقاسه على الواقع، وها نحن نقرأ للشعراء صدمتهم في الوطن ــــ الحلم، يقول محمود درويش في »سرير الغريبة: »فعمّا قليل ستنتقل الطير من زمن نحو آخر هل كان هذا الطريق هباء على شكل معنى ـــ وسار بنا سفراً عابراً بين أسطورتين« ليس الوطن اسطورة وهو ليس حقيبة سفر او حلم في حنايانا، انه اكبر منّا ومن طفولتنا. ليس بطاقة شخصية تدوّن انتماء حاملها، وتزج اسمه بين ملفات الحكومات المتكدسة. الوطن هو ما نريده كذلك، انه ذاتنا المنتمية والحالمة والساخطة في اوقات والراضية في أخرى، الوطن اكبر من عمود افتتاحية وتنظيرات قد لا تعني بأي حال مزارعاً جنوبياً ضاع موسمه عدة أعوام أو مقاتلا تسرب الى عينيه نعاس التماهي مع التراب، انه ليس مجرد تراب!
[/qb]
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست