|
في ذكرى رحيل فنان الطنبور سيف الأراك
|
في ذكرى رحيل فنان الطنبور سيف الأراك أسامة معاوية الطيب [email protected] كان يجلس على عنقريبه الصغير ، الحوش متدحرج يكاد ينكفئ على الطريق ، ينام على بقية هضبة لم تسعها ذاكرة تضاريس جغرافيا الكتب المدرسية ، فقط لأنها لا تداري أو تفضح أي بئرٍ للبترول ولا حتى للماء فقط على درجة ملوحة معقولة لأن المنطقة كانت تشتهر (بالموية المُرَّة) لا يستر الجدار شيئاً ولكنه لا يعرف الفضيحة في بلادٍ أغرقت أهلها بالسترة وأغرقوها بالحبِّ وهي لم تزل تفتأ صعبة ، يجلس على عنقريبه تسكنه ابتسامته الصغيرة الحميمة ترهَف أغنياته حد الذوبان ليس أرهف منها سوى عرّاقيه القديم غائب اللون والذاكرة ، يغني ومن فوق (راس الحيطة) يطل النخل والشتل وصبر الأهالي الطال وتسري نسمة الطريق المروية برائحة البرسيم وزرائب الأبقار ولبن المغارب وعرق الترابلة وونسات الأماسي على الرمل وهمهمات الصبية يلعبون (الرمة والحرّاس) كلهم يحاول أن يكون الحرّاس ويسلمهم الزمان لمسكنة الرمة بعد أن ايبس ضلوعهم بسكر التموين (المافي) ورخّص سعر البلح في مواسم حصادهم الوفيرة حتى خشوا من مشوار كريمة الخاسر فمزجوه بالماء والخميرة وغابوا عن الأمل ، كان يغيب عن داره كثيراً وحين يعود تعود أزمانه كلها لتتحد في المكان حتى لكأنها تراجع أيام غيابه وتعيد حياتها ثانيةً ثانية ، والجبل ، هذه القرية الناعسة ، لا تعرف من نوم الحياة إلا طنبور سيف وهو لا يضنّ عليها بالغمدة ، يظل يشدو وهي تنكع وتدمع من فرحٍ سرّب الدفء لعيون الرجال فمضى (حسين عابدين) يرقص بالعكاز دامعاً وتبسَّم (الجاسر) مهتزاً من فرحٍ يكاد يخترق وقاره و أقبلت (بتول والحجرة) تنادمان الحبّ بالرقص وتخلقان الوجد من همس الغناء وضجيجه والأطفال تحت الأرجل يبحثون عن فرصةٍ يبشِّرون فيها بعيداً عن العِصي والصراخ ، يتدربون على الغناء بالغناء ويحرصون على السمع بانتباهٍ لا يخفى على ليالي الجمعة التي يتوعّدهم فيها السبت وهو يلوّح بكل جداول الضرب وتسميع الأناشيد وألسنة الأساتذة اللاذعة. ومضى سيف يغني كان الجبل يغرق في ألحانه وكان النخل يستلف من غنائه الماء ليقابل مواسم الجفاف التي أسلمت جريده لصفرةٍ قاتلة والنيل يهرب من تحت قدميه ومن بين آماله الكبيرة وهو يحضن أعشاش القمري الحنين ، والليل يرهف السمع (قلبي نزف دم عُزلْتُو وخلاص شيّعت الأماني .. وليه كاساً صداً شربتو يتجدد طعمو تاني ...... خسارة زرعاً زرعتو وسقيتو رحيق الأغاني .. وقدر ما تطعن زهرتو تحتُّو رياح المعاني ) وهاهو الجبل الآن تتجدد بداخله أحزان الدنيا والعالمين وكأنه فقد الناس جميعاً ، وهل الفنان إلا الناس كلهم يولدون تحت أسلاكه وهو ينقرش الطنبور ، يمشون على أوتاره ومقطوعاته الرائعة ويتسامرون بين أبيات أغانيه بينهم المنضدة الصغيرة تكبر ألف مرة وهي تحمل صحن (الفطير باللبن) وتحلُّ محل الطبل بإيقاعٍ أنيق وينامون وهم يقاسمونه كومة الآهات و(قواسيب) الأنين .. مضوا ينتحبون
لمتين نتجارى على الأيام لهفة وأشواق
وما يسكن جوفنا بلا الحسرة
وتتشعبط فينا ليالي الفاق
والوجعة تقِّيل في الغنوات ، والقلم اشكدي على الأوراق
وعارف يا سيف
مع انك رحت في غمدة عين ، لكنك ساكن في الأعماق
بدأ حياته الغنائية يغني لأصحابه على مضارب الطريق المخنوقة بحجارة الجبل والتفاف النيل ، تقرِّب المسافة بين المنازل وحواشات الزرع وتقارب اكثر بين أهلها يتقابلون كثيرا ويصيحون من أقصى أطراف جزيرة أم سيوف إلى أقصى منازلهم ، يكاد الصياح يطبع القرية باللون والروح ، والعمدة يفترش الصالة المطلة على أعين المارة تنام وتصحو على أخبار وحوادث القرية والمنطقة والعالم من وجهة نظرٍ كاملة الخصوصية والبساطة ، كان سيف واحداً من كثيرين أحبوا النعام أدم وتشكلوا على أنغامه وبدأ الغناء بألحانه ورددها طويلاً وعشق الرواويس الذين علَّموا الطنبور ما لم يعلم وعلَّمهم الطنبور أصول الحياة فذابوا بين رحلات المراكب وأسفار القلوب الهائمة يكتبون على أسطر الماء حروفاً لا يمحها الموج والتيار وتصبغ الجروف بورود اللوبيا الخضراء وروائح (البليلة) الشهية يبيعون أزيار المحس ويشترون أذواق المحبين من الرجال وأحلام الصبايا العاشقات ، وعندما غنّى سيف أوائل أغنياته الخاصة كان لابد له أن يغني (الجروف والتمر الطوال ليكي كم غنيت كم مقال .. داير أسافر فيهو بالنيل بي مريكب عند الأصيل .. داير أشوف شتلة مع العليل زي عروس ترقص في التقيل ) كان للصور أن تحضر في عالمه وهو يهوّم مع أسلاكه ، يوقد ذاته فوانيس من الوعد في ليالي الأراك شديدة الظلمة كأنها تستعجل الصباح أو كأنها تنام في ديمومة السكون تخشى الصحو ، يرهق قلبها الطنبور في يديه بالغناء فتفيض مجالساً وونسات ، وتحلّق مع النسمة الهادئة أنغاماً (يا حليل فتحة كتابك يوم نضوي النار نذاكر .. انت في ريعان شبابك دخري لي دنيايا باكر) وللنسيم أيامها رسائل لا تخطئ المحبوب وهو يتقلَّب على جمر دمعه يرقد على ساعده - في زمن اللا مخدات - تنقِّز فيها ألياف الحبال القاسية وهو يسرح (ساعة الضفاف بالفرحة تبسم للغروب .. والنيل بعد يتحدى يستغفر يتوب .. جوف كل دارة السكر الجوّا اليدوب .. داك الوتر والدايرو فينا ينفّذوا .. أدوني رايكم في بلادي وقولوا ما تتحيزوا) رسم لوطنه خرطةً جديدة تمتد على أمياله المليون معانٍ بالغة الرقة والجدة والأمل الذي يصل درجة التطرف حين ينشده (أمونة ماني غريب إلا البلد غربة .. زي شافعاً مع الأيام في حضنك اتربّى .. كيف تسلب الأعوام ماضيه من شبّ) ويوصف لنا الوطن الذي ينتظره على محطات الأغاني (أوصفلك قواسيبنا .. امرقي وسط رواكيبك يلاقنك بقر نفَّس تخلّيهن.. وبعد إنقاية إنقايتين تشوفي البتِّق الفيهن .. تِبِن شيخنا الشفيع ايداك .. محل رايات وهوّابين .. محل نتلاقى نتقالد هنا القيساب .. يبين اتر الغبش ديداب .. هنا القيساب) ويشير إلى حيث ننتظر الوطن جميعاً ولكنا نغرق في دوامة (الدخول والخروج) من أجل الوطن - كما يبررون - الذي يتمزق من أجلنا ، ويمزق فواتير الحلم بعد أن أنهكته فواتير الصبر ومضى سيف يباشر مشروعه الغنائي الجاد ونحن ننهكه بآذان مثقوبة كثرة ما ملأها الغلب و(الغنا المائل) وكثرة ما حلمت بنشيد جديد في زمانٍ قديمٍ .. قديمٍ .. قديم ، أرهقه الحلم درجة المرض وأنهكه المرض درجة الموت وأنهكه الموت درجة هذه الذكرى الحارقة ، تتسرّب من بين أيدينا السنين ولازالت أغنياته تنزف (دسِّيني دسِّيني شوق العمر غلاّب والريح مزازيني دسِّيني في الأهداب .. لو لحظة يا وادي من غيمك الكضّاب تتحدى ترويني .. دسِّيني في الأهداب) ونحن فقط نطالع من بين طشاش الدمع ونغني
والشدر القبلك متصبّر محّنتو صبر وضويتلو صباح
وشطّفتو نسايم غنواتك ونسّيتو زمانو الكتّاح
وعلمت عصافيرو تغني وكيف صبّت مطر الأفراح
وآمنبك وراح
يدعوبك ضد الأتراح
في دار الأرقم ويتعلم كيف يبقى صحابي ويرتاح
من قسوة دهرو اللفّاح
وياك انت رسولو صحيح
وأنا سامع صوتك بتغني
في السما غنواتك ضد الغم والشقا والهم والزمن القيح
وأنا شايفك لابس إحرامك في كعبة عشقك لي مغناك
وطايف والهوى قدّامك وبي وراك
ومليان تبريح
ونمضي لنملأ كؤوساً أخرى من الفقد ونشربها على مهل الوجع وعلى كيف الألم فينا ندفن رؤوسنا في رمل الصبر ونتعزى بقِدم الدنيا .. آه ..(دنيا قديمة من ضحكاتا لي بكياتا .. مطمورة الأسى النازفات أسف غنواتا .. يات قلباً جبل ما بيحملن دكماتا .. لكن الصبر قادر على عوجاتا) هكذا نحن .. نندسُّ خلف الصبر .. يندسُّ خلف السنين .. تندسُّ خلق القدر .. يندسُّ خلف باب الكون الموارب على الغيب .. وعنده سدرة مُنتهانا .. فقط الذكرى للبكاء .. والبكاء للعجز .. والعجز لمواويل المناحات الكسيرة .. إذن يا سيف أعذرنا فقدناك حتى فقدنا القدرة على الصمت وضيّعنا الكلام .. وذكرناك حتى جفّت الحروف من المعاني وخجلت الذاكرة ، فأمض لا تكترث لنا .. نحن الموتى يا صاحبي في زمانٍ تموت فيه أنت ويعيش الصغار ، ونقرأ في مانشيتات الصحف أن الخرطوم عاصمةً للثقافة في 2005 وهي التي أوقدت الموت فينا ، طوال سنين الخلق كان الموت خافتاً .. الخرطوم فقط من أوقده منذ عقدٍ ونصف ..كنا نهزأ بصفوف الرغيف حين الأزمات المصنوعة.. نهرب من عجزنا ونردد (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان) .. الآن نتزاحم صفوف الموت .. فما عسانا نردد .. تداخلت علينا المعاني يا صديقي .. أمض وأعلم أن الذي ينشد الحياة لابد وأن يموت .. وإلا لماذا فارقنا العميري ومحمد عبد الحي وعلي المك ومصطفى وكثيرون غيرهم .. أولم ( يفوتوا قنعانين من خيراً فينا) كما بكى أزهري محمد علي؟ الخرطوم الآن .. آهٍ عليها .. الخرطوم الآن قبرٌ كبير وكلنا شاهدٌ عليه.
|
|
|
|
|
|