اسئلة الذات في ذاكرة المبدع

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-10-2024, 08:40 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-09-2003, 02:26 AM

zumrawi

تاريخ التسجيل: 08-31-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
اسئلة الذات في ذاكرة المبدع

    اسئلة الذات في ذاكرة المبدع - بطاقة تعريف ثانية أم بطاقة تعارف أولي؟ - نصر حامد ابو زيد



    (من انا؟) سؤال يطرحه الانسان علي نفسه، عادة في سياق ازمة تهدد وجوده الشخصي او الاجتماعي او الوظيفي، وهو بذاته سؤال (الهوية) الذي يثور ــ او بالاحري يثار ــ علي المستوي القومي او الديني او العرقي او الاثني حين، تستشعر الجماعة المعنية خطرا ما ــ حقيقيا او وهميا ــ يتهدد وجودها.
    وليس تساؤلي (من أنا؟) نابعا من مجرد الرغبة في اعادة التعرف علي الذات، رغم اهمية ذلك في ذاته، بقدر ما هو نابع من الرغبة في اعادة تعريف الناس بنفسي، خاصة بعد ان عرفوني ــ او بالاحري سمعوا عني وعرفوا اسمي ــ في سياق نزاع فكري وخصومة اكاديمية تحولا الي جدل قضائي وقانوني اتسم بسمة دينية.
    وقد اشتدت هذه الرغبة في تعريف نفسي للناس، حين لاحظت في اكثر من سياق ومن خلال اكثر من تجربة ان كثيرا ممن يقرأون كتبي او مقالاتي او مقابلاتي الصحفية يقرأونها موجهين بما سمعوا وربما تأثروا به من أقوال ومن أحكام صدرت في سياق النزاع المشار اليه.
    ومعني انهم (موجهون) ان فعل القراءة لدي الغالبية منهم لا يبدأ من الرغبة العادية في التعرف، او من نيّة الاكتشاف البريئة، بقدر ما يبدأ من نقطة يقين فحواها ان هذه الكتابات تتضمن شيئا ما (شيطانيا فظيعا) عند من يميلون الي تصديق خصومي، او تتضمن شيئا ما (مدهشا ورائعا) عند من يميلون الي تكذيبهم. والحال كذلك فان كل قارئ يبدأ القراءة باحثا عن هذا الذي يريد ان يجد، حسنا او قبيحا. انها قراءة البحث عن (العفريت)، ونحن نعلم ان الباحث عن (العفريت) يسهل عليه ان يجده في اي شيء وفي كل شيء. فاذا كان القارئ من النوع المتشكك المتسائل، فلم يجد العفريت المطلوب (لا حسنا ولا قبحا)، فما اسرع ما يحكم علي ما يقرأ بأنه (عادي) و(لا قيمة له).
    ومع اقتناعي بان الذي سوف اكتبه، تعريفا بنفسي للقارئ، لن يغير كثيرا من القناعات التي استقرت في وعي غالب القراء، فالامر يستحق المحاولة، خاصة مع نوع القارئ المتشكك المتسائل، فالقراءة النقدية تظل هي الامل اذا تخلص القارئ من وهم (الاستحسان) او (الاستقباح)، وركز علي استخلاص قيمة ما يقرأ استنادا الي دلالته في سياقه الثقافي الاجتماعي التأريخي.
    فليس صحيحا ان هناك معايير كونية عالمية (ميتا ــ ثقافية، ميتا ــ تاريخية) للحكم علي قيمة الخطاب ــ أي خطاب ــ وان كان هذا لا يتناقض مع حقيقة ان (الدلالة) الموجودة به، والمنبثقة عن بنيته، قد تتجاوز النسبي والراهن، اي الثقافي التاريخي، بالفعل. لكن هذا التجاوز مشروط جوهريا بارتباط الخطاب بزمان ومكان انتاجه، لا بانخلاعه العدمي بدعوي الكونية والعالمية.
    لذلك يظل سؤال (الهوية) من الاسئلة الاشكالية، ان علي مستوي الفرد او علي مستوي الجماعة، لان اية محاولة للتحديد ــ في تعريف الذات ــ ستقضي بالضرورة علي نوع من (التثبيت) لها بوصفها جوهرا مفارقا وليست عملية سيرورة. ولأن (الهوية) في رأيي ــ ذاتية فردية ام جماعية ــ مشروع غير منجز الا بالنسبة للحظة انتاج الخطاب المحدد لها او المعرف بها، فان تعريفي لهويتي سيبدأ باستعارة بعض التعبيرات الشعرية التي وضعها الشاعر المصري صلاح عبد الصبور علي لسان (الحسين بن المنصور الحلاج) في مسرحيته الشهيرة:
    انا رجل من غمار الموالي
    بسيط الارومة والمنبت
    فلا نسبي يرفعني للسماء
    ولا رفعتني لها ثروتي
    ولدت كآلاف من يولدون بآلاف ايام هذا الوجود
    لان فقيرا بذات مساء
    سعي نحو حضن فقيرة
    وأطفأ فيه مرارة ايامه القاسية.
    ولدت في قرية قحافة، احدي القري الملاصقة لمدينة طنطا عاصمة محافظة الغربية في وسط الدلتا في العاشر من تموز (يوليو) 1943 لاسرة مصرية عادية. ترتيبي بين اخوتي الثالث اذا حسبنا الاخ الذي مات قبل ان اولد، كانت تكبرني اخت توفيت ــ رحمها الله ــ سنة 1979 وانا مغترب في امريكا للدراسة. لكني في جميع الاحوال اكبر الذكور الامر الذي اهلني لتحمل المسؤولية المبكرة التي فرضتها الظروف. يليني اختان وأخان بالاضافة الي الوالدة ــ رحمها الله ــ اصبحت مسؤولا عنهم في سن الرابعة عشرة. كان الاب مزارعا، لكنه هجر الفلاحة لقلة ما كانت تدره من دخل خاصة بالنسبة لصغار الملاك، او من يسمون ملاكا علي سبيل المجاز. باع قطعة ارضه الصغيرة، وفتح محل بقالة صغيرة، تركه شبه خال من اية بضائع حين توفي في الرابع والعشرين من شهر تشرين الاول (اكتوبر) سنة 1957.
    بدأت تعليمي، شأن معظم الاطفال في الريف المصري، بتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم وبعض الحساب في (الكتاب). كان ابي ــ رحمه الله ــ ينوي الحاقي للدراسة بالازهر الشريف، غير ان المرض الذي ألم به جعله يغير مسار تفكيره فقرر الحاقي بالتعليم المدني العادي، والذي يستغرق مدي زمنيا اقل من التعليم الديني. كنت قد اتممت حفظ القرآن الكريم في سن الثامنة، وهي سن اكبر من سن الالتحاق بالمدرسة الابتدائية، فكان من الضروري اللجوء للتعليم الخاص. هكذا التحقت بمدرسة (العبيدية) الابتدائية بطنطا، وهي مدرسة كان يمتلكها ويديرها الاستاذ عبده اسعد، ويقوم ولداه سامي وأنيس بمساعدته في الادارة والتدريس معا. وما زلت اذكر الاستاذ جرجيس مدرس الحساب والواجبات التي كان يرهقنا بها والعقاب الذي كان يتهددنا دائما عند اي بادرة تقصير. اما مدرس اللغة العربية فهو الشيخ عيسي، وكان نموذجا يحتذي في مظهره وسلوكه معا.
    حصلت علي الاعدادية سنة 1957، قبل عدة شهور من وفاة والدي، وكان من الطبيعي ان التحق بالتعليم الفني الثانوي الصناعي. كان رفض ابي لاصراري علي الالتحاق بالتعليم الثانوي العادي المؤهل للالتحاق بالجامعة رفضا حاسما لم يفلح في تغييره تدخل الاهل والاقارب. كأنه كان علي يقين من دنو الاجل، وما يترتب عليه من مسؤوليات رأي انني يجب ان اكون مستعدا لها بالشهادة المتوسطة التي تؤهل للالتحاق بعمل يوفر الحد الادني من الحياة. ان هذا بالفعل ما حدث، فحصلت علي دبلوم المدارس الثانوية الصناعية ــ قسم اللاسلكي ــ سنة 1960، والتحقت بالعلم بهيئة المواصلات اللاسلكية بدءا من شهر شباط (فبراير) 1961.
    لكن حلم الالتحاق بالجامعة ظل حيّا في نفسي، فحصلت علي الثانوية العامة ــ نظام الامتحان من الخارج المسمي (منازل) ــ عام 1968، والتحقت بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة وتخرجت عام 1972 بتقدير ممتاز، وعيّنت معيدا في شهر تشرين الاول (اكتوبر) من العام نفسه. كان هذا التعيين نقلة في مجال العمل من (فني لاسلكي) ــ من 1961 الي 1972 ــ الي السلك الاكاديمي منذ 1972 حتي الآن.
    من نافل القول ان اقرر ان مرحلة التعليم الجامعي كانت حاسمة في تعميق وعيي النقدي الذي نبع اساسا من التجربة الحياتية والخبرات الاجتماعية المكتسبة قبل الجامعة. ويمكن تلخيص تلك الخبرات في مجموعة من المبادئ هي:
    1 ــ الاعتماد المبكر علي النفس افضي الي الاحساس مبكرا بقيمة (الاستقلال).
    2 ــ المسؤولية الاسرية المبكرة خلقت (الاحساس العميق بالآخرين).
    3 ــ افتقاد الأب، والاحساس المتعاظم باليتم حتي سن متأخرة، خلق الرغبة الحادة في التواصل مع البشر وتقبلهم مهما كانوا مختلفين.
    4 ــ الاقتناع المبكر ان للفقر والغني، وللصحة والمرض، بل وللغباء والذكاء والقبح والجمال اسبابا اجتماعية اساسا، وان الانسان محكوم الي حد كبير بعوامل خارجة عن ارادته، لكن تلك العوامل يمكن ان يخفف من تأثيرها وعي الانسان وارادته.
    انتمي الي جيل الثورة من حيث تشكل الوعي، فقد كنت في التاسعة والشعب المصري يستقبل بكل الحماس قرار (طرد) الملك فاروق من البلاد، ويهلل للمبادئ الستة التي اعلنها الضباط الاحرار للقضاء علي الفساد ومحاربة الاقطاع وطرد الاستعمار وتحقيق العدل الاجتماعي.
    كان من اهم ما تعلمناه آنذاك ان علينا ان نرفع رؤوسنا في فخر وخيلاء، لان مصر الآن يحكمها مصريون لاول مرة في التاريخ. بدأت الاهتمام بالقراءة الحرة ــ خارج اطار المقررات المدرسية ــ في سن مبكرة نسبيا، وكان من الطبيعي ان تبدأ بالفن القصصي والروائي. كانت ترجمات مصطفي لطفي المنفلوطي لبعض عيون الادب الفرنسي ــ وهي ترجمات اشبه بالتمصير ــ من اهم القراءات الاولي، يليها في الترتيب روايات جورجي زيدان التاريخية التعليمية ومن المنفلوطي وزيدان الي يوسف السباعي واحسان عبد القدوس، ثم نجيب محفوظ الذي فتح عوالم جديدة لوعيي برواياته التاريخية اولا ثم بسلسلة (خان الخليلي) و(زقاق المدق) و(القاهرة الجديدة) و(الثلاثية) و(اولاد حارتنا) والمجموعة القصصية الاولي (همس الجنون) ثم (دنيا الله).
    وفي الشعر من الطبيعي ان ينفتح الوعي الشعري بأغاني الرومانسية: ابراهيم ناجي وعلي محمود طه، وجبران خليل جبران، وابو القاسم الشابي. وتلي ذلك الاهتمام الاول الاهتمام بالاحيائيين: البارودي وشوقي وحافظ، ثم التعرف علي اشعار صلاح عبد الصبور واحمد عبد المعطي حجازي.
    ومن المهم ان اذكر ان الادب قراءة وابداعا كان بمثابة (البوابة) لعالم الثقافة والفكر، وقد مارست لفترة ليست قصيرة من شبابي المبكر كتابة الشعر والقصة القصيرة، وهي فترة طالت حتي سن السابعة والعشرين تقريبا حيث بدأت الدراسة تستغرق كل اهتمامي. هذا رغم اني حصدت بعض الجوائز الجامعية في الشعر والقصة.
    وقبل مرحلة الدراسة الجامعية ــ التي بدأتها متأخرا كما ذكرت من قبل ــ انخرطت في النشاط الثقافي الذي كانت تحتضنه (قصور الثقافة) الجماهيرية التي انشأتها الثورة في كل المدن المصرية تقريبا.
    في مدينة طنطا طورنا (جماعة الادب) التي بدأت نشاطها اصلا في قرية قحافة بالقاء الشعر وعقد الندوات الثقافية في المناسبات الدينية والوطنية وسط تجمعات الفلاحين الذين كانوا آنذاك يحتضنونا بفرحة غامرة. وفي مدينة المحلة الكبري ــ حيث عملت فنيا لاسلكيا من 1961 ــ 1968 ــ كوننا (نادي الادب) في قصر الثقافة ايضا. كنا مجموعة من الهواة الجادين تتفاوت اتجاهاتنا واهتماماتنا السياسية والفكرية، ولكن يجمعنا الاهتمام بالادب بصفة خاصة وبالثقافة بشكل عام. كنا نختلف ونتفق يمينا ويسارا او محافظة وتجديدا. وكانت قضية الشعر العمودي وشعر التفعلية من القضايا الساخنة في الحياة الادبية خاصة بعد البيان الذي نشر آنذاك يتهم الشعراء الجدد بافساد اللغة العربية وهدم الاسلام.
    وجدير بالذكر في هذا السياق الاشارة للمعركة الفكرية التي اثارتها مقالات لويس عوض عن ابي العلاء المعري في الملحق الادبي لجريدة (الاهرام) وردود محمود محمد شاكر عليه في مجلة (الرسالة).
    كنا نتابع تلك المعارك يوما بيوم ونختلف بين مؤيد ومعارض لشاكر او للويس عوض. كنت آنذاك اقرب الي فريق المحافظين فكريا في (نادي الادب)، وكان تعاطفي مع الاخوان قد بلغ اقصاه في تلك الفترة، خاصة ابان حملة القبض والاعتقالات الثانية سنة 1964.
    وقد تعرضنا جميعا ــ اعضاء النادي الادبي ــ للرقابة والمتابعة اليومية المنهكة من جانب اجهزة (المباحث العامة) في محافظة الغربية لدرجة انني بدأت استعد عمليا للاعتقال. وكان السبب في ذلك ان زميلا لنا في النادي كان قد تم اعتقاله بصفته كان عضوا في التنظيم السري للاخوان. كان من اقربهم الي قلبي لدرجة انني لم أبال بالخطر المحدق، فكنت ازور ابويه بشكل منتظم في الوقت الذي تحاشاهم فيه اقرب الناس. وقد امكنني بسهولة مدهشة ــ عن طريق حاجب المحكمة ــ الحصول علي تصريح بحضور بعض جلسات المحاكمة بصفتي ابن شقيقته. وبنفس الصفة استطعت ان ازوره في السجن عدة مرات بعد ان صدر الحكم بسجنه خمسة عشر عاما.
    كان مصير (نادي الادب) الاغلاق، كما تم نقل مدير قصر الثقافة بالمحلة الكبري كنوع من العقاب علي احتضان النادي.
    لم يمر وقت طويل حتي تم وقف اصدار مجلات وزارة الثقافة (الرسالة والثقافة والشعر والقصة والمسرح) بدعوي (عجز الميزانية). ثم كانت (الهزيمة) في 1967 تتويجا دراميا فاجعا انهي قدراتنا ــ نحن شباب الثورة ــ علي حلم معانقة المستقبل، لقد تحولت الاحلام الي كوابيس.
    كان عام 1968 بداية تحولات بدأت مع الالتحاق بالجامعة، وكانت اول مشاهداتي في القاهرة اضرابات الطلاب اعتراضا علي الاحكام العسكرية الخفيفة جدا ضد المسؤولين عسكريا عن الهزيمة ــ اذا قورنت بالطبع باحكام الاعدام ضد المتآمرين علي قلب نظام الحكم.
    من خلال الادب انفتح الباب الي القراءات الفكرية: بدأت التعرف علي العقاد وطه حسين من خلال اعمالهما الابداعية، والتي نقلتني بدورها الي اعمالهما الفكرية، فقرأت (الله) للعقاد كما قرأت كل عبقرياته، وقرأت لطه حسين (علي هامش السيرة) و(الفتنة الكبري)، و(حياة محمد) لمحمد حسين هيكل، وكتابات نظمي لوقا عن الاسلام. كانت كتابات خالد محمد خالد (من هنا نبدأ) و(هذا او الطوفان) و(حتي لا تحرثوا في البحر) و(مواطنون لا رعايا) ــ تثير كثيرا من النقاش والاختلاف خاصة مع الشيخ محمد الغزالي. ومن هنا بدأ اهتمامي بالفكر الديني وبدأت قراءة سيد قطب ومحمد قطب في الستينات ــ في الوقت الذي كانت فيه كتبهما ممنوعة ــ. وأثار اعجابي بصفة خاصة (العدالة الاجتماعية في الاسلام) و(معركة الاسلام والرأسمالية) لسيد قطب.، كان الخطاب الديني في ذلك الوقت ــ وقت انتاج تلك الكتب في نهاية الاربعينات وبداية الخمسينات ــ جزءا من مجمل الخطاب الوطني، تحركه هواجس التحرر الوطني والعدل الاجتماعي ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي كله. الدليل علي ذلك كتاب مصطفي السباعي ــ القيادي الاخواني السوري البارز ــ (اشتراكية الاسلام).
    وتجاوب مع اهتماماتي الادبية منهج التحليل الادبي للقرآن في (مشاهد القيامة في القرآن) و(التصوير الفني في القرآن) لسيد قطب، هذا بالاضافة الي التساؤل الذي اثاره محمد قطب في كتابه (منج الفن الاسلامي) حول امكانية استخلاص نظرية جمالية اسلامية. لم انتبه الي ان هذا السؤال وذلك المنهج كانا مطروحين في الدوائر الاكاديمية الا بعد دخولي الجامعة.
    كان المنهج الذي طرحه أمين الخولي لضرورة الدرس الادبي للقرآن الكريم، واسبقيته لاي درس آخر، تطويرا لارهاصات محمد عبده وتعديلا لمقولات طه حسين. وهو المنج الذي حاول تلميذاه شكري عياد ومحمد احمد خلف الله تطبيقه في دراستين، الاولي منهما تتناول (العذاب والجحيم) بينما تتناول الثانية (الفن القصصي)، وهذه الاخيرة اثارت ضجة شديدة قبل مناقشتها او اجازتها فانتهي الامر بعدم اجازتها وطرد صاحبها من السلك الجامعي.
    وليس من قبيل الاستطراد ان نذكر ان التناول الادبي للقصص القرآني قد عبر عن نفسه ابداعيا في رائعة نجيب محفوظ (اولاد حارتنا) التي لقيت اعتراضا من الشيخ محمد الغزالي ــ ممثل الفكر الديني التقليدي، والذي سبق ان تصدي للرد علي كتابات خالد محمد خالد ــ فاستطاع ان يقنع السلطة بمنع نشرها.
    وأضيف انني مواطن مصري ورث في جيناته التاريخ والثقافة ذات الطبقات المتراكمة منذ فجر التاريخ الانساني. تعلمت من تجربتي في الحياة اشياء تحدثت عن بعضها وأشياء سأتذكرها وأتحدث عنها في سياقها، لان الانسان لا يستطيع ابدا مهما حاول ان يختصر ثراء تجربته في مقولات كلية او في جمل قصيرة مفيدة. هذه الاشياء التي تعلمتها تمثل المكونات الاساسية للاختيار، وحين بدا انني في سن الاختيار فقد اخترت الانحياز للفقراء لانني منهم، وللانبياء لانهم كانوا جميعا فقراء منحازين للفقراء. ومن ينحاز للفقراء ينحاز بالضرورة للعدل، ولا يتحقق العدل الا بالحرية، والحرية بما تضمنه من الاختيار بين البدائل لا وجود لها في غياب العقل.
    ليس الحديث هنا عن مطلقات بل عن افعال اجتماعية في الواقع والتاريخ. تلك الاختيارات للمواطن كانت قاعدة الاختيار عند الباحث، من هنا يمكن ان اقول في محاولة لسبر هويتي انني اخترت (عقلانية) التراث من المعتزلة وابن رشد الي محمد عبده وطه حسين وقاسم امين وامين الخولي.
    واظن ان هذا الاختيار اعتمد منهجا نقديا لا نقليا في التعامل مع هذا التراث، منهجا منفتحا علي الفكر الانساني في مجال العلوم الاجتماعية خاصة الالسنية والتأويلية والسميولوجيا.
    استطيع ان اقول ان النزعة النقدية في التعامل مع التراث ــ اي تراث وكل تراث خطاب والعكس صحيح كذلك ــ تمثل عصب المنج الذي لا استطيع الزعم بأنه اكتمل، لانه كالهوية في حالة انجاز لا يتوقف. حتي في حالة (الوفاة) يموت (باحث) ويتوقف (خطاب)، ويظل (المنهج) يواصل سيرورته منسربا في خطابات جديدة متجددا دائما فلا شيء يفني لأنه لا شيء يوجد من عدم.
    في تقديري ان (قتل القديم بحثا) مقدمة اساسية لاي تجديد، وهي مهمة لم تنجز بعد. وليس المقصود بالقديم ما مرت عليه دهور، بل كل ما تم انتاجه من فكر وما تمت صياغته من خطابات، تفكيك بنية الخطابات وتعريتها من اثواب القداسة التي ألبست لها بفعل ملابسات وعوامل غير معرفية.
    المهمة الثانية فتح الباب للاسئلة التي تم كبتها سياسيا او اجتماعيا او دينيا: من ذلك علي سبيل المثال: ما هي طبيعة الخطاب الالهي وعلاقته بالتاريخ والثقافة واللغة؟ وما هي علاقته بالنصوص او الخطابات الالهية السابقة كلها؟ الترتيب الحالي للقرآن ــ وهو غير ترتيب النزول ــ تم علي أي اساس: نصي؟ لغوي؟ ديني؟ اجتماعي سياسي؟ وما هي الدلالات الناجمة عن هذا الترتيب؟ هل الخطاب النبوي والخطاب الالهي نصان ام نص واحد؟
    وما موقع (الاحاديث القدسية) في هذا النص الواحد او بينهما ان كانا نصين؟ اذا كانت قضية قراءة التراث في تجلياته وخطاباته العديدة (الفقه وأصوله/ علم الكلام او اصول الدين؟ الفلسفة/ التصوف، علي سبيل المثال وليس الحصر) لم تنجز بعد رغم كثرة الكتابات فيها فان اسئلة الخطاب الالهي ما زالت اسئلة مكبوتة. وقد آن أوان فتحها.

    AZZAMAN NEWSPAPER --- Issue 1499 --- Date 8/5/2003

    جريدة (الزمان) --- العدد 1499 --- التاريخ 2003 - 5 - 8

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de