|
في مناسبة اليوم العالمي للمسرح .. إعلان عن مدينة - بقلم السينمائي عبدالرحمن نجدي
|
المخرج السينمائي و المسرحي الفنان عبدالرحمن نجدي من أوائل رواد حركة الإخراج السينمائي في السودان , و له إسهاماته الكبيرة و حضوره الساطع في المهرجانات السينمائية المتخصصة على المستوى الإقليمي و القاري , استحق عن جدارة نيل عدد من الجوائز و شهادات التقدير عن عدد من اعماله المتميزة التي اشترك بها باسم السودان في تلك المحافل , و هو فوق ذاك من الذين يمتلكون أدوات التذوق العالي للأعمال الفنية بدأً من السينما و المسرح و انتهاءا بالتشكيل , كما أنه ناقد فني ذو دربة و ملكة على الرصد و التحليل قلما توفرت للكثير من النقاد . التحية و التقدير للصديق و الرفيق نجدي .
توطئه .. ولدت فكرة إقامة يوم عالمي للمسرح في هيلسنكي ، ثم في فيينا ، أثناء انعقاد المنتدى العالمي التاسع للمعهد الدولي للمسرح في يوليو 1961 بمبادرة من رئيس المعهد " ارقى كيفيما ". ومن يومها درجت العادة على الإحتفال باليوم العالمي للمسرح في 27 مارس من كل عام ، وهو تاريخ إفتتاح مسرح الأمم عام 1962 فى باريس . أنشئ المعهد الدولي للمسرح عام 1948 من قبل منظمة اليونسكو والمعهد الدولي للمسرح هو المنظمة غير الحكومية الأكثر أهمية فى مجال فنون العرض ، ويسعى المعهد إلى توطيد أواصر التبادل الدولي للمعرفة والتدريب في مجال فنون المسرح ، وذلك من أجل تحفيز الإبداع وإقامة التعاون بين رجال المسرح وذلك لدفع الفكر الجماهيري نحو إدراك ضرورة اعتبار الإبداع الفني واحداً من مجالات التطور البشرى وتعميق التفاهم المتبادل، بهدف تدعيم السلام والصداقة بين الشعوب .
إضاءة أولى: اللوحة الأولى .. ( 1 ) بدور الحق يسود الناس ونبته تقيف تعاند الليل وما نسجد عشان ننداس وما تحكمنا عادة الكهنة والبحكمنا حقو الراس .*
*هاشم صديق ( من مسرحية نبتة حبيبتي )
(2) جعلي ودنقلاوي وشايقي وزاندي إيه فايداني غير ولدت خلاف خلت أخوى عاداني خلوا نبانا يسرى من البعيد والداني يكفى النيل أبونا والجنس سوداني .*
*ابراهيم العبادي ( من مسرحية المك نمر )
اللوحة الثانية.. ( 1 )أينما توجد الدراما ، توجد الكلمة ، كلمات الإنسان يتحاور مع خالقه ، كلمات الإنسان يحاور العالم ، كلمات الإنسان يحاور الإنسان .. إنها كلمات حوار خالدة . ميكائيل إستورياس ( من رسالة اليوم العالمي للمسرح 1968 )
( 2 ) إن ذروة السخرية هي إننا حين نبدأ ننسحق تحت قوى وحشية لا ترحم ، فأننا لا نستطيع أن نحدد ما نطلبه من البطل التراجيدي ،إشارة للترويض ، لحظه للتوافق ، لحظه نكتشف فيها أن المشكلة ليست في نجومنا إنما في أنفسنا ذاتها .. ولهذا علينا أن نمتلك المسرح ، إن المسرح يموضع الإنسان في مركز العالم . *
* آرثر ميللر ( من رسالة اليوم العالمي للمسرح 1963 )
إضاءة ثانية.. كان المسرح في السودان ومنذ مطلع العشرينات له دور في تكوين الثقافة العامة ، وشهدت فترة الثلاثينات والأربعينات ازدهارا ملحوظا قاده مجموعة من الرواد أمثال العبادي ، وعبيد عبدالرحمن ، وأحمد الطيب ، وخالد أبوالروس وسيد عبدالعزيز ، واعتبرت بخت الرضا أنّ المسرح وسيلة لكشف عيوب المجتمع والدعوة الى واقع أكثر عدلاً ، واستطاعت أن تخرج بالمسرح من المدرسة إلى المجتمع. وساهمت في تأسيس جيل من المسرحيين لعب دوراً كبيراً في نشر رسالة المسرح، وبالفعل حقق صديق فريد وجماعته أكثر من 20 عرضاً مسرحياً ساهمت أكثر من أي أداة أخرى في نمو الوعي الأجتماعى والسياسي .
زووم .. في عام 1942 قام المرحوم عبدالرحمن على طه بتأليف وإخراج مسرحية ( السودان عام 2000 ) وفيها يرى السودان بعد 58 عاماً وقد ذهب إلى مصاف الدول المتقدمة ، طبعاً بعد أن نال استقلاله واستلم أبناؤه زمام الأمور وأخذ يبهر العالم بالنهضة التى مست كل مناحي الحياة.....ولا تعليق! .. وجاءت سنوات الستينات حافلة بكل ما تحمله الكلمة من دلالات ... ففيها أعلن عن ميلاد أول حركة حقيقية للمسرح عندما ارتفعت الستارة عن مسرحية ابراهيم العبادي ( المك نمر ) ، وأصبح المسرح هو الجزء الأكثر بروزاً في تكوين الثقافة العامة ، وأستقطب المسرح الناس ، فظهرت الفرق المسرحية ، وتكونت تجمعات متعددة للممثلين ، وبدأت تظهر أجيال من المؤلفين والنقاد ، ثم بدأ المسرح يُطبع في كتب ومجلات ، وانتشرت الترجمة وسودنت المسرحيات ، وقامت تيارات وحركات مسرحية مختلفة من مسرح الشارع والمسرح التجريبي الى مسرح العرائس ، وولدت نوعيات جديدة من العروض المسرحية كالمسرح الغنائي والاستعراضي وفرق الفنون الشعبية والسيرك ، واشتعلت النهضة المسرحية ....وعند أنشاء المعهد العالي للموسيقى والمسرح ظهرت أجيال في منتهى الأهمية وأخذت تلعب دوراً جاداً في صياغة المجتمع وفى التآزر مع الجماهير في مواجهة العداوات التى تترصدها من كل الجهات ، ومن رحم هذا الجو جاء المسرح الجامعي مستنداً الى تنظير علمي وتاريخي من إن المسرح شيء واجب وقدري ..
فلاش باك .. كنت وقتها طالب دراما .. وكانت تتملكني رغبة هائلة – وربما غير قابلة للتحقيق – في تغيير العالم وتبديل شروط الحياة، كان الناس جميعاً يعرف بعضهم البعض، كنا جميعاً أسرة واحدة، مسرحيين وتشكيليين ، وسينمائيين ، ومطربين ، وموسيقيين ، وطلاب جامعات، وحتى الجماهير كانت جزءاً من ذلك النسيج المدهش .. وقد تبنينا أحلاماً كبيرة كبر الأرض، كان كل شيء تقدمي دون لافتة.
إضاءة ثالثة .. مشهد أول .. مع الوقت أخذت التقاليد المسرحية تترسخ وتتطور معها تكنولوجيا العرض لتتناسب مع نوعية وحجم الجماهير التى أقبلت على المسرح بحماس مدهش ، وأخذ المسرح بدوره يستجيب لتوقعات الجماهير ، ومن ثم أصبح أكثر التصاقا بهموم الناس ووجد المسرحيون السودانيون في المسرح سلاحاً يعكس بصدق صراع القوى الاجتماعية ، ويساهم في تحريض الجماهير ، وأخذ معهد الدراما يفرخ كوادره في كل تخصصات المسرح ‘ تلاحمت أرواحهم بصورة عفوية مع أقرانهم في المسرح الجامعي ، ومع أساتذتهم في المسرح القومي ومع زملائهم الذين جاءوا للمسرح كهواة فصقلتهم التجربة والخبرة ، وكان إنسجاماً لا تخطئه العين .. وتنوعت المواسم المسرحية .. مسرحيات الأسطورة والطقوس تصطف إلى جانب الواقعية كعناصر فعالة للمسرح الحديث ، والمسرحيات الاجتماعية تنافس المسرح التجريبي وعروض المجددين ، والمسرحيات المسودنة تتنقل من شكسبير الى وول شوينكا . لم يكن الجمهور يذهب للمسرح ليسترخي ويستمتع بما يشاهده ..إنما كان يصطدم بمواقف إنسانية ويواجه بمشكلات حياتية يخرج منها أكثر تقدماً وعافية .
مشهد ثاني.. ولعل أكثر المسرحيات ارتباطا بالجماهير هي تلك التى وظفت الأسطورة والتراث لصياغة الحاضر وربما أبرزها مسـرحية ( نبتة حبيبتي ) التى استلهم هاشم صديق فكرتها من مجموعة الحكايات السودانية ( سالي فو حمر ) التى حققها جمال محمد احمد ، وقد تركت المسرحية بصماتها أكثر من أي مسرحية أخرى على المسرح في السودان ، وقد دفع هذا بعض المسرحيين لتقديم أعمال مرتبطة بالأسطورة والتراث فقدم يوسف عايدابي مسرحية ( حصان البياحة ) ، وخالد المبارك مسرحية ( هذا لا يكون – وتلك النظرة ) ، ويوسف خليل مسرحية ( الخضر) .
مشهد متكرر.. وجاءت المسرحيات الاجتماعية لتفضح بعض القيم السائدة في المجتمع السوداني آنذاك ففي مسرحية ( على عينك يا تاجر نتعاطف مع بنت يجبرها أهلها على الزواج من رجل في عمر والدها . وفى ( الرفض ) يهرب شاب من زيف الحياة الاجتماعية الخانق ، وفى ( المنضرة ) نستخلص الكثير من المعاني من قصص الخيانة الزوجية ،ويقوم الصراع في مسرحية ( العلاقة ) بين القديم والجديد ، وتكشف الخفافيش عن فشل الإنسان وأنانيته ، وتتناول ( سفر الجفا ) بعض القضايا المرتبطة بالأرض والاغتراب والضياع ،
مشهد متكرر آخـر .. عكست مسرحيات الموسمين الثالث والرابع تأثير المسرح الجامعي الذي كان بالفعل يمثل ظاهرة متجانسة ، وربما يكون المتفرج قد سئم من تناول قضايا العصر عن طريق التراث ، وضجر من تداخل صوت الماضي في صوت الحاضر ، فصار ينشد قضايا العصر بصوت العصر، فظهرت مسرحيات مثل " حفلة سمر لأجل 5 حزيران " و" السود " و " مراصد " وتجاوزت مسرحية عمر براق " نحن نفعل هذا – أتعرفون لماذا " كل أساليب وتقنيات الإخراج والأداء المسرحي التى كان متعارفا عليها ، ووسع من نطاق المسرحية داخل مسرحية كي يخلق تركيبات مزدوجة المستوى ، وأعلنت هذه المسرحيات عن ميلاد المسرح الطليعي وشغلت الناس لحين من الدهر .. فلاش باك .. فى الأمسيات كان حوش المسرح يمتلئ عن آخرة بكل ألوان الطيف من المبدعين والفنانين .. كنا أشبه بأبطال الملاحم ، تعلمت من قيم ومفاهيم الستينات إن الحرية هي الفهم ، وإن العمل الإبداعي كيفما كان هو شهادة على عقلية منتجه ، كنت أعايش كل شخصيات المسرحيات التى أشاهدها ، وكنت أشاهدها كلها ، وبالمقابل كنت أعايش هذه الشخصيات بحيث كانت تبدو لي وكأنها من الحياة .. ببساطة ، كان المسرح صوتاً لطموحات ذلك الوقت ومخاوفه ..
المشهد قبل الأخير .. تحيه خاصة إلى كل المسرحيات التى وضعت بصماتها على خارطة المسرح السوداني ، وأشعلت النهضة المسرحية ، المك نمر موسم 67 ، مجلس تأديب موسم 69 ، الزوبعة ، حفلة سمر من أجل 5 حزيران ، أحلام جبره ، عودة شايلوخ، موسم 70 ، الخضر موسم 71 ، الرفض ، أحلام الزمان ، في انتظار عمر ، نحن نفعل هذا – أتعرفون لماذا؟، موسم 72، نبتة حبيبتي ، حصان البياحة ، جوابات فرح، موسم 73 ، العلاقة ، هذا لا يكون , سفر الجفـا ، موسم 76 ،الشماسه ، بوابة حمدا لنيل ، قصة حديقة الحيوان، مركب بلا صياد، موسم 77، ضريح ود النور ، الأسد والجوهرة، موسم 87 ، المهدي في ضواحي الخرطوم، موسم 79 ، حكاية تحت الشمس السخنة، موسم 82، نقابة المنتحرين ، طار فوق حي المطار ، موسم 84 .. مسرح الأطفال : سعدون المكار ، ود الحفار ، الأميرة الحزينة ، فاطنة الهندل .
كلوز أب ... تمّ أول عرض رسمي لمسرحية حفلة سمر من أجل 5 حزيران في العالم العربي على خشبة المسرح القومي بأمد رمان ، فالمسرحية كانت ممنوعة رقابياً فى كل البلدان العربية ( والكلام لسعدالله ونوس ) . مشهد متكرر.. وكانت المرأة موجودة باستمرار في المسرح السوداني .. أحنى رأسي إجلالاً للمبدعات .. سارة محمد ، آسيا عبدالماجد ، نعمات حماد ، تحيه زروق ، فتحية محمد أحمد ، فايزة عمسيب ، نفيسه محمد محمود ، فاطمة الحاج ، رابحه محمد محمود ، تماضر شيخ الدين ، سعاد محمد الحسن ، ناهد محمد محمود . مشهد متكرر... تحية خاصة الى كل المسرحيين الذين أثروا الحياة المسرحية لثلاث عقود من الزمان .. تحية خاصة الى مسرح بخت الرضا والمسرح القومي ، والمسرح الجامعي ، ومسرح الفنون الشعبية ، وفرقة السودان للتمثيل الموسيقى ،وفرقة أنصار التمثيل وفرقة ميسرة السراج ، وفرقة الفاضل سعيد ، وفرقة عازه ، وأضواء المسرح ، والخليا 79 ، والمسرح الحر ، وفرقة عثمان حميدة وجماعة ابادماك ..
المشهد الأخير.. أربعون عاماً بالتمام والكمال مرت منذ أن بدأ المسرح السوداني في تقديم عروضه المسرحية الموسمية ( 1967 – 2007 ) آن الوقت لأن نقف قليلاً نسترجع حال المسرح في السودان ، فالمسرح يحتل بين كل الفنون مكاناً يستحقه ، وذلك يعود لالتفاف الجماهير حوله وتفاعلها معه ، وهى علاقة ظلت مميزة منذ عصر النهضة ، والمسرح إبداع واجب وضروري ، والسبب في اعتقادى بسيط للغاية فالقاعدة الأولى والأخيرة في المسرح هي الإنسان .
ما كتبته الآن مجرد مشاهد للذاكرة ، وهى قد تكون أشبه بالسيرة الذاتية ، استحضرتها والعالم يحتفي بعد عدة أيام باليوم العالمي للمسرح .. ربما لأذكـِّر زملائي المسرحين بأنها خير مناسبة لنعود لتلك الأوقات القريبة من النفس ، والمليئة بالمعاني .. وربما لأقول لكل المسئولين أن المسرح يعود لهم أيضاً بالنفع ..ينبغي أن لا ننسى يوماً ، أو يغيب عن أذهاننا إن ثقافتنا مبنية على الكلمة ، وإن المشروع المسرحي لا يمكن أن يكتمل ويتقدم إلا إذا استقامت منطلقاته .. تلك التى افتقدناها قبل عقدين من الزمان .
عبدالرحمن نجدي ـــــــــــــــــ
نقلاً عن موقع حركة القوى الجديدية الديمقراطية ( حق ) http://www.haq-nfdm.com
|
|
|
|
|
|