|
ثقافة الفيديو كليب!
|
(خيري منصور اذا كانت الكتابة عن الفساد السياسي تشترط مسافة احتفظ بها المراقب، وقرارا بعدم غرز الأصابع في القذارة حسب تعبير شهير لسارتر، فان الكتابة عن الفساد الاقتصادي لا يمكن أن يجازف بها غاسل أموال أو سمسار، أو أي طرف له صلة بالأسواق السوداء، ليس فقط لأن فاقد الشيء لا يعطيه حسب بدهيات المنطق، بل لأن فقدان الصدقية، والقابلية للافتضاح من خلال فتح صناديق باندورا علي اختلاف محتوياتها هي ما يحول الكتابة في هذا السياق الي انتحار، وباستثناء المرات القليلة التي أعلن فيها البعض عن التوبة معتذرين عما اقترفوا، ومطالبين بالعقاب كي يتوازنوا فان الآخرين أخذوا أسرارهم الي القبور بانتظار قيامة آجلة أو عاجلة، تحرمهم من الاعتبار الكاذب وتعيد ما لقيصر لله لأن كل ما كان من حصة الله أعطي للقيصر! وثمة الحاح من قراء أبرياء ومثقفين لم تتسخ أصابعهم في الحبر السام، علي فتح ملف الفساد الثقافي، الذي هو جذر الشجرة كلها بمختلف فروعها لأنه تربوي في الأساس، ووثيق الصلة بالضمير والوجدان، وحين يصاب ملح الثقافة بالفساد فان كل شيء يصبح غارقا في المستنقع.
والكتابة عن الفساد الثقافي لها شروطها أيضا، اذ لا يمكن أن يتورط بها من فرغ للتو من عقد صفقة تليق بالسراخس والطحالب، أو من يعرف بينه وبين نفسه أن قائمة المقالات التي كتبت عنه في الصحافة هي ذاتها قائمة الفواتير سواء تعلق الأمر بسوق النشر أو ببورصة المهرجانات، أو بتقديم الخدمات السياحية لمثقفين يكتبون في الطائرات، ويقرأون في الترانزيت! ولا يبدأ الفساد الثقافي كأي فساد آخر من الرأس كما يقال عن السمكة، أنه يقضمها ويهشم حسكها حتي الرأس، لكن بالمعني الذي جعل سيبويه يموت وفي نفسه شيء من حتي! وأتساءل بدءا اذا كان الشاعر أو الناقد أو القاص ابن العشرين قد رضع حبر الفساد وحليبه قبل صدور عمله الأول فما الذي ننتظره منه عندما يبلغ الخمسين؟ وأية كوارث سوف يتسبب بها لزملائه، وللحقيقة المعرفية عندما يبلغ أرذل الفساد؟
المؤسسات الثقافية الرسمية، والحكومية قدمت للمبتدئين من العرب لائحة تشبه لائحة الطعام بأسعار النصوص، وبالوظائف التي يمكن لهم الحصول عليها اذا تقيدوا بالشروط المدونة اعلاه وليس أدناه، لأنهم يقعون حسب التضاريس المرسومة للمواقع بالنسبة للمؤسسات في أدني المراتب. أما الأحزاب وما يماثلها من التشكيلات الايديولوجية أو ذات الاطار النقابي فقد اقترحت لائحة من طراز آخر، لا تتحدد فيها الأسعار أو المكافآت، بل تصبح فيها القطعنة هي المعيار، والامتثالية هي المرشد والدليل، فبقدر ما يبدي العضو حسن النية نائيا عن المطالب، وبعيدا عن النقد أو اعلان العصيان يكافأ، لأنه يقدم بذلك ضمانة لكونه داجنا يؤتمن، ومنزوع الارادة، لا يمكن له أن يفتح فمه الا لكي يتثاءب لأن حرف لا بالنسبة اليه حول اقرب الاشكال لحبل المشنقة!
لهذا السبب، استقال أو أقيل كتاب مبدعون منذ الخطوات الأولي علي الطريق، لأن الأحزاب اختنقت بهم، وهو ما اختصره سارتر بمثال أفعي البوا التي تصاب بالغثيان اذا تورطت بجسد يفوق قدرتها علي الابتلاع، وكان ذلك المثال السارتري بمناسبة الخلاف الأول بين بابلو بيكاسو والحزب الشيوعي. وتكرر الأمر مع البير كامو عندما استقال من الحزب الشيوعي الفرنسي أيضا احتجاجا علي معسكرات الاعتقال، وأخيرا قدم جارودي باسهاب هذه الاشكالية في كتابه المسألة كلها ! فالحزب أو التشكيل الايديولوجي يبحث منذ الخطوة الأولي والسطر الأول عن بوق لشعاراته وبرامجه، بحيث يتحول مثقفوه الي طبول مفرغة تماما، وبلا أي مضمون، لأنها كلها فرغت وجوفت ارتفع صوتها، ولا مكان للنايات الأسيانة وحقول القصب الحزين في هذه الوليمة، التي سرعان ما تتحول الي حفلة تنكرية، لكنها حفلة من طراز خاص، تلتصق فيها الأقنعة علي الوجوه طوال الوقت، ويصبح من المحظور علي من تقمص كلبا أن يعود الي صهيله! ولكل تشكيل من هذا المستوي نقاده أيضا، وهم المتعهدون الذين توكل اليهم مهمة الفرز والمفاضلة، فالتراتبية بين الشعراء مثلا هي تبعا لقدرتهم اللغوية علي اعادة صياغة الشعار، أو عدد المرات التي يتردد بها اسم الزعيم.
وقد أفسدت هذه الكيمياء الملفقة من فضلات العناصر حتي العلاقة البافلوفية بين القافية الصوتية والتصفيق، فمن كانوا يصفقون بافلوفيا ويسيل لعاب آذانهم علي القوافي الرتيبة والمتواترة أصبحوا يصفقون عندما يرد اسم ما، لزعيم أو بلد أو حزب أو شعار! ينفرد الشاعر العربي عن زملائه من الروائيين والقاصين وكتاب المسرح والتشكيليين، بالرعب من أية شوائب تهدد صفته، ويبدو أحيانا مفرطا في الحذر من هذا الالتباس، كما لو أنه ينقل زجاجة قنديل هشة من طراز رقم أربعة من الحمام الي المطبخ، لكنه يتوهم بأنه يحمل آنية نادرة من الكريستال المطرز، ولهذا اضافة الي التكوين السايكولوجي أسبابه التاريخية فالشاعر يريد أن يبرئ صفته من شوائب النثر كي لا يكتشف ما اكتشفه بطل موليير الساخر عندما عرف أن الكلام الذي يستخدمه في الشراء ومخاطبة الآخرين هو النثر ! أحدهم قال لي ذات يوم انه يتمني لو يكتب نثرا سواء كان في السياسة أو النقد أو الفلسفة لكنه يخشي علي صفة الشاعر الهشة من الانكسار وأجبته قائلا: لماذا لم يشعر اليوت وبوشكين وصلاح عبدالصبور ومحمود درويش وأدونيس ونزار قباني بهذا الهلع من فقدان الصفة؟ ومنهم من كتب نثرا يوازي شعره من حيث الكم علي الأقل، كما أن منهم من احتشدت شعريته في أداء نثري يفوق القصيدة.
وكان الشاعر والناقد ادمان قد تنبه لهذه الظاهرة، عندما قال ان سوء حظ الشاعر أن قماشته هي الكلام، الكلام الذي يستخدمه في التعامل اليومي، ويتشاجر به مع الآخرين ثم يريد منه أن يتبرأ من تاريخه الاجتماعي ومن بعده السياسي في الشعر الخالص! لكن ملاحظة ادمان هذه لا تنطبق عل نماذج يظن مؤلفوها أو ملفقوها أنها شعر خالص لأنها مفرغة من المعني والهدف، فهي ليست شعرا خالصا ولا نثرا خالصا، وقد تكون هذيانات محموم، لا ينتظمها نسق، ولا تقبل التأويل لأنها مكتفية بذاتها كالزفير أو الزبد! ومثلما يعيش العرب الآن عادات ما قبل الكهرباء رغم أن مدنهم مسقوفة بعناقيد المصابيح الكهربائية، حيث الليل لا يزال ليلا، وله هزيع أول وثان وأخير، فان قرائن ما قبل الحداثة تواصل نفوذها هي الأخري وتتمدد الي ما بعد الحداثة وأدبياتها القائمة علي النسخ الشكلاني والمحاكاة، ان الأشباه هي النقائض العضوية والحقيقة للأصول وليس العكس، لأنها تذكرنا بغياب تلك الأصول، فالدمية المطاطية التي تحمل تفاصيل جسد المرأة وملامحها، هي تجسيد لغياب المرأة، كما أن الوردة الورقية تذكرنا علي الفور بغياب الوردة الحقيقية حتي لو كانت منقعة في العطر ومتقنة التويج. ليس كل روائي أو شاعر يباع من كتابه وهو علي قيد الحياة عشر نسخ هو كانكا الذي فوجئ بأن النسخ العشر الناقصة من مخزن ناشره هي التالفة وليست المباعة، وليس كل روائي أو شاعر يعزف الناس عنه حيا لمن هم أقل شأنا وأكثر رواجا هو مارسيل بروست، كما أن ليس كل فنان تشكيلي لم يصل ثمن أهم لوحاته وهو حي الي عشرين دولارا هو فان غوخ أو ديلاكروا.
ان مجال الأوهام لا حدود له في عالم الكتابة والابداع لكن المفارقة في ثقافة الفيديو كليب السائدة الآن هي أن الشاعر الذي يحضر أمسيته عشرة ثلاثة أرباعهم من أصدقائه، يريد اتقان المشيتين معاً كالغراب، فهو ينتظر خمسة آلاف زبون لأمسيته، لكنه لا يظفر الا بعدد أصابع اليدين، فيلوذ بالمستقبل لعله ينصفه، مادام قد تفوق علي زمانه، واغترب عن ذائقة معاصريه، وذات يوم قالت شاعرة عربية لها موقف راديكالي من الشعر الموزون، ان الأمسيات الشعرية يجب أن تقسم الي نوعين نوع للغنائيين المنبريين ونوع لشعراء الحداثة وما بعدها الذين لا يعتمدون علي اجادة الالقاء، لكنها في اليوم التالي كانت تمد كتابها لشاعر غنائي ممن أشبعتهم هجاء كما لو أنها مراهقة تقدم أوتوغرافا للحصول علي توقيع، كيف نصدق الأطروحات المصنوعة بعناية فائقة لحجب الحقائق؟ اذا كان مُتشاعر أصدر عشرة دواوين تخلو من ومضة شعرية واحدة، قد وجد من يكتبون عنه عشرة كتب لأسباب يليق بخبراء الفساد أن يحللوها، ولعلماء الأحياء المتخصصين في فحص المقايضات بين السرخسيات والطحالب ان يعيدوها الي جذورها الغريزية، والي منطق الحاجة وفائض الفقر والرغبة في السفر والاقامة في فنادق مدفوعة الأجر!
لن استطرد كثيرا حول ثقافة الفيديو كليب كما هي رائجة الآن، لكن مشهدا واحدا أثار دهشتي قبل أيام أمام أحد الفنادق كان بمثابة المفتاح السحري لحل اللغز، فقد رأيت مطربة تشغل رقصتها الثعبانية المشاهدين عن صوتها، وقد بدت هزيلة الجسد وحين سألت صديقا يعمل في الحقل السينمائي عن الظاهرة، ضحك وقال انها الكاميرات والعدسات المقعرة والمحدبة التي تضيف للبعوضة ردفين، وللأفعي ساقين وللسلحفاة جناحين. تلك هي أوهام الثقافة التي دخلت الي الفيديو كليب من ثقب ابرة.)
(القدس العربي)
|
|
|
|
|
|