لقد قرأت ما جاء في البوست حول من هي مهيرة ومن هي الكنداكة؟
الكنداكة هو لقب يطلقه النوبة على الملكة، حيث ورد الاسم في أكثر من موضع وفي فترات زمنية متعددة من تاريخ الدول النوبية مقرناً بأحداث جرت وتم التأريخ لها من الجانب الغير نوبي مثل الأحداث التي جرت عام 23 ق.م بين الامبراطور أوغسطس قيصر والذي كان يحكم مصر وقد سحب معظم جنوده من مصر لغزو بلاد العرب وكان على النوبة ملكة تدعى الكنداكة تحب الحرب والفتوح فاغتنمت الفرصة وهاجمت بجيشها مصر وجرت معارك كثير انتصرت في أغلبها إلى أن أعاد أغسطس جيوشه وهاجمها ودحرها إلى الجنوب مرة أخرى ... (المصدر: جغرافية وتاريخ السودان – نعوم شقير – تحقيق د. محمد ابراهيم ابوسليم "ص 40").
كذلك في العام 60 م أي بعد 83 عام من الحدث السابق ظهر الاسم مرة أخرى في عهد الامبراطور نيرون والذي ارسل حملة إلى أثيوبيا (الاسم القديم للنوبة) لاكتشاف منابع النيل وكانت على النوبة ملكة تلقب بكنداكة.
المرجع السابق ص 41.
سائني كثيرة ما ورد من تعليقات جاء الكثير منها إما عن جهل بتاريخ السودان عموماً وتاريخ الشايقية على وجه الخصوص ومنها ما ورد للتشويه والإساءة المتعمدة وبكل أسف كتب البعض منها في كتب سادت وانتشرت وساهمت في التضليل عن عمد ومنها الملحمة المزعومة والتي تصف الشايقية بالمترددين في صد غزو محمد علي باشا (الألباني الأصل) للسودان بجيش جعل على رأسه ولده الغر اسماعيل وكان الهدف الأساسي منه التوسع جنوباً بعد أن هيمن على مصر واستقل بها عن دولة الخلافة العثمانية باستنبول.
دعونا نقرأ التاريخ بطريقة أكثر عقلانية وتجرد بعيداً عن أي حساسيات:
(المراجع لمن أراد التوسع: )
1- تاريخ الشايقية، د.نيكولز، 1914م، ترجمة د. عبد المجيد عابدين.
2- الشايقية في السودان – شعب وتاريخ، د. نسيم مقار.
3- صور من حياة الشايقية – عباس محمد زين.
4- تاريخ السودان – نعوم شقير - تحقيق وتقديم الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم.
5- السودان عبر القرون – مكي شبيكة.
أولاً: من هي مهيرة؟
هي مهيرة بت الشيخ عبود ، شيخ بادية السواراب والسواراب هم فرع أصيل من فروع قبيلة الشايقية التي كانت تتكون من أربعة فروع لكل فرع منهم زعيم يلقب بـ«ملك» عدا السواراب هم «خلال فترة غزوة محمد علي للسودان» وهم:
1- السواراب وعلى رأسهم الشيخ عبود. «لقب شيخ أتخذ لأن معظم السواراب يعيشون حياة بداوة».
2- الحنكاب وعلى رأسهم الملك صبير.
3- العدلاناب وعلى رأسهم الملك شاويش، و اسمه «شاؤوس» وحرف إلى شاويش.
4- العمراب وعلى رأسهم الملك حمد.
ومهيرة لم تكن مغنية كما ذكر فهي إبنة زعيم القبيلة ومن عادات الشايقية في ذلك الزمن وبحكم كونهم قبيلة محاربة كل أفرادها فرسان محاربون ويربون على ذلك منذ الصغر، كانوا في الحروب تتقدمهم أجمل بنات القبيلة في أبهى حلة وكامل زينتها في هودج «شبريه» محمول على جمل تنشد لهم الأشعار الحماسية كما عرف في تاريخهم الكثير من النساء المقاتلات واللآتي يمتطين صهوات الخيل ويبارزن الأعداء ويقاتلن كما يقاتل الفرسان وقد اشتهرت منهن «عديله» والدة الملك عثمان ود حمد العمرابي الذي قاد معركة استقلال الشايقية عن دولة الفونج في القرن السابع عشر، تلك المعركة التي خاضوها ضد العبدلاب بقيادة الشيخ الأمين ود عجيب شيخ العبدلاب الذي كان يحارب نيابة عن دولة الفونج لدور العبدلاب في السيطرة على الجزء الشمالي لعاصمتهم الحلفاية وجمع الجزية التي كانت مفروضة على تلك القبائل وتوريدها لعاصمة الفونج سنار(أكتوبر/نوفمبر 1672م) بحسب رواية الرحالة التركي أولياء شلبي الذي شهد تلك المعركة.
ومهيرة جدة (شقيقة جد والده) للفريق إبراهيم عبود، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي حكم السودان (1958-1964م) واسمه إبراهيم أحمد البشير أحمد عبود وجده أحمد هو شقيق مهيره وأشهر ابناء الشيخ عبود هم: عكود، محمد، أحمد، محمدخير، سليمان، العطا، خرسهم. والبنات: مهيره، هند، الحمراء، الزرقاء، رجب والأخيرة كانت لها خلوة لتعليم القرآن بجزيرة مساوى وكانت تنفق عليها وعلى الشيوخ الذين يقومون بالتدريس فيها والحيران الذين يدرسون بها من مالها.
توفيت مهيرة في قرية أوسلي المجاورة لجزيرة مساوي من الجهة الجنوبية الغربية (غرب النيل) وشمال شرق كورتي ودفنت بها.
ومسألة إفتراش الفروة فهذه عادة عند الملوك والقادة في كل قبائل السودان وهي إذا إنهزم الجيش فإن القائد والذي هو دائماً الملك وكبير القبيلة لا يفر من أرض المعركة ويقوم بالتوضوء والجلوس فوق فروة الصلاة الخاصة به ينتظر الموت بشجاعة غير معهودة في كل العالم وقد يقتل أو يعفى عنه ولكنه لا يفر ويجر الفضيحة والعار إلى قبيلته، أما الإفتراش كما فعل جدهم جاويش «ولا أدري من أين أتيت بهذا يا rummana» فإن شاويش لم ينهزم ولم يفترش فروته وقد ذكر الرحالة وادنجتون بأنه توجه بجيشه جنوباً وعبر النيل من الشرق إلى الغرب وباللعكس 5 مرات من أجل تحريض القبائل ومنهم الجعليين والعبدلاب للإنضمام إليه لتشكيل جبة أخرى لصد الغزوة دون أن يجد استجابة وأعتقد أن ذلك يرجع للعداوات السابقة لهذه القبائل مع الشايقية وما بينهم من حروب وثارات حتى أنه ذكر بأن المك نمر عندما رفض دعوة شاويش تخوف من أن يهاجم الأخير شندي إنتقاماً من عدم الاستجابة لدعوته فإستفر حوالي 20 ألف فارس جعلي لحراسة عاصمته شندي من أي هجوم مباغت من قبل شاويش الذي كان يقود عدة بضع مئات من الفرسان أما العبدلاب فقد تعرضت عاصمتهم الحلفاية للتخريب والحرق على يده بعد رفضهم الاستجابة له، وكان نتيجة هذا أن أرسل إبنه للتفاوض مع اسماعيل على عدم تسليم خيلهم وسلاحهم وهو المطلب الأساسي الذي قدمه لهم قبل معركة كورتي على أن ينضم هو وفرسانه إلى الحملة فوافق اسماعيل بعد أن تلقي خطاب التعنيف الشهير والمحفوظ بدار الكتب والوثائق المصرية بالقاهرة والي عنفه فيه على محاربته للشايقية ذاكراً له بأن مثل هؤلاء القوم لا يحاربون بل كان الأجدى له أن يستميلهم خاصة وأن غايته الوصول إلىسنار عاصمة الفونج وحربهم يشكل خطورة على خطوط إمداده الطويلة وقد يقطعونها بينه وبين مصر فيتعرض للخطر بالإضافة إلى فوائد الإستفادة من فروسيتهم وشجاعتهم، وتم تشكيل أول فرقة باشبزق شايقية من قوات الملك شاويش وجعل قائداً عليها، وبعدها إنضم الكثير من الشايقية للجيوش التركية وما بعد ذلك معروف للجميع.
أما ما ورد عن كشف مهيرة لصدرها عند إنهزام الشايقية ففيها قول وفي الأساس الشايقية لم ينهزموا بمعنى «فروا حتى تكشف لهم مهيرة عن صدرها لتدعوهم لإنقاذ شرفهم وعرضهم» والذي يغمز بخبث إلى أن الشايقية منذ البدء كانوا مترددين بين القتال أو االتسليم هذا لن أرد عليه من عندي فقط سأورد شهاداتي الرحالة «وادينجتون» الذي مر بالمنطقة بعد الحملة مباشرة والرحاله الأمريكي «إنجليش» الذي رافق جيش اسماعيل باشا وكتب عن معركة كورتي:
وادنجتون:
«ذكر أن أول صدام بين الشايقية والحملة وقع قرب دنقله العجوز بهجوم مباغت من فرسان الشايقية على اسماعيل نفسه كادوا أن يقضوا عليه فيه لولا التدخل السريع الذي قام به عابدين كاشف بفرقة الفرسان التي يقودها، ثم أمر الباشا بإطلاق الصواريخ النارية ليلاً لإخافتهم فاستقبلوا ذلك بإستهزاء رغم أنهم لم يروا مثل هذه الأسلحة من قبل وكان تعليقهم "هل جاء الباشا لمحاربتنا أم محاربة السماء". » وهذا يدل على أن الشايقية كانوا هم المبادرون في الهجوم وبعيداً عن أرضهم. ثم يقول «بعد بضعة أيام على الحادثة الأولى أقام الباشا معسكراً في الصحراء وقابل كورتي، فإستيقظ صباح يوم على هجوم وصياح من الشايقية "أين الباشا أين الباشا" حيث بدأت معركة كورتي الشهيرة».
الرحالة الأمريكي إنجليش:
أما إنجلش الأمريكي فقد وصف شجاعة المقاتلين الشايقية خاصة أمام المدافع حيث كانوا يهاجمون في موجات وكان جيش اسماعيل يطلق عليهم المدفعية لتحصد المئات وبالرغم من ذلك كانوا يواصلون التقدم وكأن شياً لم يحدث بل وصف وصول المقاتلين إلى المدافع وذبحم للجنود الذين يديرونها "الطوبجية".
وإذا أعدنا عجلة التاريخ قليلاً إلى الوراء نجد محاربة الشايقية للمماليك الذين فروا من مذبحة القلعة على يد محمد علي وأقاموا في مراغة (مدينة أنشأوها على الشاطيء الشرقي مقابل دنقلا) بإعتبار أن المماليك استولوا على الجزية التي كان يدفعها الملك في دنقلا في ذلك الوقت لملوك الشايقية نظير عدم مهاجمة مملكته والذي حدث أن الشيقية بدأوا في مناوشة المماليك الذين كان لديهم جيش مدرب ومدجج بالأسلحة النارية والتي لا يعرفها الشايقية في ذلك الوقت فنظموا حملة تحركت جنوباً في محازاة النيل لمحاربة الشايقية ولكن الذي حدث أن أرسل الشايقية فرقة من الفرسان عبرت الصحراء عند منحنى النيل ووصلت إلى مراغة وخربتها وأحرقتها واغتنموا ما بها مما أجبر المماليك على قسمة الجيش نصف واصل إلى مناطق الشايقية والقسم الآخر عاد لحراسة مراغة.
ومن شهادات وادنجتون التي جمعها من الجنود الأتراك:
- أن مقاتلاً ظل يقاتل رغم إصابته بأكثر من 5 طلقات نارية إلى أن خارت قواه ومات وهو يصيح «أين الباشا».
- مقاتل آخر أصيب بالرصاص وفقد حصانه الذي أصيب بطلقة قاتلة فسقط من تحته ظل يزحف على الأرض رغم اصابته إلى أن وصل إلى خيمة السلحدار فقضى على السايس الذي كان يجهز الحصان لسيده وإمتطاه وعاد إلى المعركة.
كل ما سبق وكثيراً لم أذكره لضيق المجال يثبت عدم تردد الشايقية في مواجهة الحملة وأن ما ورد غير ذلك ما هو إلا كتابات صدرت عن حاقدين أو مأجورين أو جهلة.
والمؤسف أن الملحمة الشعرية المشار إليها كانت تدرس بطريقة أو أخرى في المدارس الإبتدائية منذ زمن بعيد حيث دائماً ما كانت تؤدى على المسارح المدرسية كمسرحية ضمن النشاط الفني للطلاب والطلبات ولا أرى أي قصد من ورائها إلا الاساءة إلى تاريخ الشايقية والذي هو جزء لا يتجزأ من تاريخ السودان.
والمؤسف أيضاً أن الذين أنصفوا الشايقية هم من غير السودانيون مثل الرحالة الأجانب الذي عاصروا الأحداث الكبيرة في حياة الشايقية وكتبوا عنها بأمانة وتجرد وكذلك المؤرخون مثل نعوم شقير (رغم المآخذ على كتابته لتاريخ السودان وتحيزه للمستعمر) ود. نيكولز الذي ألف كتاب تاريخ الشايقية وترجمه المغفور له الأستاذ الدكتور عبدالمجيد عابدين أستاذ التاريخ وعميد كلية الآداب بجامعة القاهرة فرع الخرطوم وهو مصري الجنسية قضى فترة طويلة من حياته بالسودان وأحب السودان وأهله وكتب الكثير من البحوث والمقالات في تاريخ السودان وفند الكثير من الأكاذيب والمغالطات للمؤخين الأجانب وفي اعتقادي أن ما قدمه د. عبدالمجيد عابدين فاق ما قام به الكثير من الباحثين السودانيين.
مثلاً فند مقولة بعض الكتاب بأن الشايقية في معركة كورتي كانوا في حالة سكر شديد لذلك لم يأبهوا بالموت؟؟؟
ورد على ذلك في هوامش ترجمته لكتاب د. نيكولز، وأنا كذلك أورد تفنيداً آخر خاص بي وهو أن لي جد يدعى ود عوض وهو جد جدي لوالدي ولولدتي مباشرة وقد كان شيخاً وفقيهاً ومعلماً للقرآن وخلوته ومسجده ما زالا قائمان حتى يومنا هذا ومعروفة بجامع العوضاب بالقرير وله مصاحف مخطوطة بخط يده وقد استشهد في معركة كورتي وترك مصحفاً كان قد بدأه ولم يتمه حيث تركه حتى يعود من المعركة ولكنه لم يعود وما زال المصحف على حاله لم يكتمل وسيفه ودرعه وسرج الحصان ما زالت محفوظة كآثار نتوارثها أباً عن جد، فهل يعقل بأن يدخل مثل هذا الرجل الحافظ للقرآن معركة حياة أو موت وهو في حالة سكر؟؟؟؟
القصص والروايات كثيرة وكلها من جانب الأعداء وجميعها تشهد بشجاعة وإقدام هؤلاء القوم الذين تربوا على الحرب كسائر قبائل السودان في ذلك الزمان والذي لم يكن فيه كيان بإسم السودان بل ممالك منفصلة متقاتلة ومتحاربة حيناً ومتحالفة حيناً آخر مثل ممالك الشايقية الأربعة سالفة الذكر (كانت في أوقات السلم تتحارب مع بعضها وكما ذكر نيكولز: وكأنهم خبروا أن التدريب على القتال واكتساب الخبرة في لا يتأتى إلا من القتال الفعلي "وهذا ما تفعله الجيوش الحديثة في المناورات الحربية التي تجرى بالزخيرة الحية") ومملكة الجعليين والسلطنة الزرقاء (الفونج) ومملكة الفور كذلك الدينكا والشلك والنوير في الجنوب وممالك النوبة المتعددة في الجبال وأشهرها مملكة تقلي وفي أقصى الشمال مملكة دنقلا وفي الشرق البجه والبني عامر .... الخ .
ولا يجي زول بعد ده ويقول لي الشايقية عملاء بل هذا حال ذلك الزمان كل قبيلة ترى أنها دولة قائمة بذاتها ولها كيانها الخاص والسودان كدولة لم يعرف إلا بعد الإحتلال الإنجليزي المصري 1897م لأنه حتى في التركية السابقة كان يعتبر جزء من مصر، وقد عاش الشايقية قبل ذلك كفرسان مقاتلين في أغلب عصورهم هيمنوا على المناطق الواقعة شمالهم حتى حلفا وتقاضوا الجزية مقابل ضمان سلامة هذه الممالك من الغزو وقد أمتدت غزواتهم حتى حدود البجة شرقاً ووصوا إلى حدود دارفور غرباً وإلى الحلفايه جنوباً وهذا وقع الحال في ذلك الزمان.
حتى أبان الثورة المهدية كان منهم من حارب ضدها لوجوده بجانب الحكومة التركية وبحكم عمله بالجيش التركي ومنهم من حارب إلى جانبها ومن أشهرهم وقد تكون هذه مفاجأة للجميع القائد الشهير في المهدية الأمير النور عنقره والذي كان قائداً لحامية تركية قبل المهدية فهو شايقي أيضاً.
وكذلك الأمير أحمد ود علي أمير القلابات في المهدية وهو جد والد الدكتور محمد خير عثمان الخليفة طه لأمه وزير التعليم الأسبق في عهد نميري والسفير في بريطانيا في ذات العهد والمستشار للسلطان قابوس فيما بعد أطال الله في عمره وهو إبن عم أخونا في البورد طه جعفر.
نتوقف عند هذا الحد وأعد بالمواصلة في الكتابة عن تاريخ الشايقية كلما سمح لي الوقت.
________________________________
وا مغستي رحل تلوت الليل ،،،
________________________________
(عدل بواسطة Al-Shaygi on 11-27-2003, 07:24 PM)
(عدل بواسطة Al-Shaygi on 11-28-2003, 09:20 AM)