|
ما بين معركة القادسية والميل أربعين
|
ما بين معركة القادسية والميل أربعين
أقل ما يُقال عن حرب الجنوب الماضية أنها كرّست ثقافة العنف والكراهية ، ومهّدت بشكل مباشر لتقسيم السودان وتوزيع أراضيه وفقاً للمكونات الجهوية ، وما فشل فيه المستعمر البريطاني خلال عقود من الزمن ، نجحت فيه الإنقاذ ببراعة خلال عقد واحد ، فالقول الشائع بيننا أن السودان ورث أزمة الجنوب من المستعمر البغيض ، لكن أزمتي دارفور والشرق وما سيأتي من أزمات قادمة هو صناعة سودانية خالصة ، وعندما جمع الغريب أغراضه ورحل عن بلادنا فإنه لم يترك لنا خمسمائة ألف قتيل ، ولم يشرّد مليونين ونيف ، ولم يحرق ألفي قرية ، ولم تسجل في شباكه حالات اغتصاب جماعي أو تصفية عرقية ، هذه الفظائع اُرتكبت في العهد المُسمى بالعهد الوطني ، أو كما يصفه البعض بعهد التحرر والاستقلال ، فقضية التحرر هي قضية مشروعة ، والحرب من أجل الوحدة والحفاظ على تماسك التراب الوطني هي أيضاً حرب مشروعة إن تحقق شرطي العدالة وتقاسم السلطة والثروة بين أبناء الشعب الواحد ، لكن الإنقاذ في حربها الأخيرة على الجنوبيين صنفت المجتمع السوداني بين مسلم حريص على نشر قيم دينه وبين كافر يجب قتله وسحله ، هذا ما كنا نسمعه في خطب الجمعة ، ومن خلال متابعتنا لبرنامج ( في ساحات الفداء ) ، لن نحتاج لعناء كبير لنعرف أن الإنقاذ عرّفت حرب الجنوب بأنها حرب بين الكفار والمسلمين ، تماماً كما حدث في حرب القادسية بين العرب والفرس ، كان المجاهدون يرفعون شعار الله أكبر في وجه الكفار ويحسنون قتلهم ، فهذا العمل يزيد من قربتهم لله ويكسبهم رضاه ، فهم يجدون في هذه الحرب ريح الجنة ويتطيبون المقامات الحسنة في جنات الخلد ، وهناك ظلال غامضة يستحي الناس من ذكرها عندما يستوجب علينا الحديث عن حرب الجنوب ، فإذا قرأنا قوائم الشهداء التي ترد من ميادين القتال ، من خلال أسمائهم نستطيع أن نعرف أن يمثلون طينةً واحدة من المجتمع السوداني لا تزيد عن واحد في المائة ، ففي حرب الجنوب الأخيرة استنفذت الإنقاذ كافة حيل الحرب من دين وعرق ومال ، وهناك من القادة العسكريين من أعطتهم الإنقاذ شيكاً على بياض من أجل الفتك بالجنوبيين وكسر شوكتهم ، وكان هؤلاء القادة يمثلون السودان الوطن المصغّر ، وهو قرية صغيرة يحتضنها النيل في الشمال ، قرية صغيرة آمنة ومطمئنة يأتيها رزقها من كل مكان ، تحفها أشجار النخيل ، و تطل منها قبة الشيخ المدفون منذ عقود طويلة من الزمن ، لذلك كان الدبابين في حربهم الأخيرة يهزجون بالمديح النبوي ويصبرون نفسهم بلقاء الموت بصورة تليق بشرف المهمة ، في الحرب الأهلية الأمريكية ، وهي حرب من أجل الوحدة والاستقلال ، قام الرئيس الأمريكي ابراهام لنكولن ببناء مصالحة مع المجتمع الأفريقي في الشمال قبل أن يقود الحرب ضد الجنوبيين وحلفائهم من الإنجليز ، فالنتيجة كانت هي أمريكا التي نراها اليوم ، لم ينتصر ابراهام لنكولن على الجنوبيين وكفى ، بل نصره الحقيقي الذي تضمنته صحائف التاريخ هو اعترافه بحقوق السود ومساواتهم مع البيض ، ومهما تحدّثنا عن قصور التجربة الأمريكية من ناحية المشاركة السياسية ، إلا أنها تأتي في مقدمة الدول في مضمار الحريات والتسامح والديمقراطية ، حرب الجنوب الأخيرة في السودان ليست من الحروب التي تقود الناس للوحدة كما حدث في بلاد العام ( سام ) ، فهي حربُ قامت من أجل إرضاء الشعارات الذاتية ، وقامت أيضاً على أسس غير واقعية مجافية للحقائق ، فهي لا تُقارن بمعركة القادسية التي وقعت بين الفرس والمسلمين ، فحرب القادسية كانت بين جمع من المسلين وإمبراطورية لها جذور ممتدة في عمق التاريخ ، فقرنق ليس بكسرى بن يزدجرد ، والفريق سلفاكير لا يُمكن تشبيهه بالهرمزان ، وهم لم يقولوا أن الجنوب هو إمبراطورية يتوارث حكمها الأبناء عن الأباء ، فالحروب في عقيدة التاريخ تتشابه في النتائج لكنها تختلف في الأسباب ، فالحركة الشعبية هي كيان شعبي ، متواضع في ناحية الإمكانيات إذا قسناه بمدى كثرة الجيش السوداني وتنوع مصادره العسكرية واللوجستية ، رغماً عن ذلك صمدت الحركة الشعبية ، وقبلت بالتحدي لأنها كحركة شعبية استطاعت أن تخلق توازناً مع الجيش السوداني الذي يفوقها عدداً وعدةً ، ومن ثمرات هذا الصمود هو اتفاق نيفاشا الذي أعترف بحقوق الجميع وعدالة قضاياهم ، وهي نتائج تختلف كثيراً عن نتائج حرب القادسية التي انتهت بقطع رأس ( رستم ) واسر ( الهرمزان ) وغياب شمس تلك الإمبراطورية والتي قال المؤرخين عنها أن المسلمين أطلقوا عليها رصاصة الرحمة الأخيرة، فقد كانت منهارة قبل أن يصل إليها المسلمون بسبب الفساد والظلم والطغيان ، عملاً بالقول المأثور: ((إن الله يقيم الدولة الكافرة إن كانت عادلة ..ويزيل الدولة المؤمنة إن كانت ظالمة )) بيت القصيد من هذا المقال هو الاحتفال الذي أقامه التلفزيون السوداني قبل أيام عن معركة الميل أربعين ، تعداد مآثرها والإشادة ببطولة شهدائها ، فكأن عقارب الزمان عادت بنا إلي ما قبل ستة عشر عاماً ، بالتحديد إلي حقبة الكراهية والقتل والدمار ، فيا ترى من الذي يحقد على أهل السودان ويريد أن يعيدهم مرةً أخرى إلي ميدان الحرب عن طريق استرجاع الخطاب الخشبي القديم الممزوج بلغة العنف والكراهية ، صحيح أن اتفاق نيفاشا لم يفي بكل ما وعد به لكنه في أقل الظروف سمح بإيقاف الدماء وأعطى الأجيال القادمة بصيصاً من الضوء بأن المستقبل واعد ، وأن السلام يُمكن أن يحقق نتائج إيجابية أفضل من الحرب إذا صدقت النوايا . لأول مرة اسمع بجامعة الرباط الوطني لأن المسمى يشبه مسميات الأحزاب السياسية ، طلاب كلية الدراسات البيئية ودرء الكوارث بهذه الجامعة ،كادوا أن يجلبوا لنا كارثة بيئية مثل فيضان النيل و ثورة أمواج تاسونامي ، في برامج ( نبع المعارف ) عرضت المذيعة المبتدئة على طلاب هذه الجامعة مسابقة على النحو التالي : المذيعة : متى وأين وقعت معركة ( الميل أربعين ) ؟؟.. وما هو وجه الشبه بينها وبين معركة القادسية ؟؟ يقف طالب ، ومن تصرفاته بدأ أن هناك من لقنه الإجابة الصحيحة فقال ؟؟ في 16 مارس 97 ، في منطقة ( ياي ) ، ووجه الشبه هو كثرة ( الكفار ) وقلة ( المسلمين )!!! هنا تدخلت المذيعة وقالت : في معركة القادسية كان عدد الكفار كبيراً وعدد المسلمين ضئيلاً ..أما في معركة الميل أربعين فقد كان عدد المسلمين ضئيلاً وعدد ( جنود الطرف الآخر ) كبيراً !!!! سارة عيسي
|
|
|
|
|
|