|
ما بين حادثة اختفاء الصحفي /رضا هلال ومقتل الأستاذ/محمد طه
|
سابقاً كنت أقول ، أن قبيلة الصحفيين في كل العالم تتعرض للضرب والاعتقال والقتل ما عدا السودان ، في هذا الوطن الذي أشبهه بالقارة ، أقصي ما يتعرض له الصحفي هو مصادرة مقاله قبل الطبع ، أو أن تقوم السلطات الأمنية باعتقاله لمدة لا تزيد عن بضع ساعات ، يخرج بعدها حراً طليقاً ، بعد أن يوقع عهداً بعدم مقارفة الجرم للمرة الثانية ، صحافتنا في السودان هي صحافة مستأنسة ، وغير مصادمة ، ودائماً تتخلّف عن رغبات الشارع الراهنة ، ليس لأننا لا نعرف الكتابة ، أو أن هناك شح في ورق الطباعة ، بل السبب يعود إلي أن معظم أصحاب الأقلام في السودان يكتبون بحبر سياسي ، بعضهم دخل إلي هذه المهنة كما يقول المصريين ( بالعافية ) ، ففيها بعض الفوائد التي تجعلها جاذبة ، التعرّف علي المسؤولين الكبار واكتساب الشهرة وغيرها من المحفزات الاجتماعية ، جعلت بعض المهنيين مثل الموظفين والأطباء والمهندسين يهرعون إلي مهنة الصحافة ، فيكتبون عن كل شيء ، عن العولمة والاحتباس الحراري ولماذا دخلت أمريكا العراق ؟؟ ويا تري من الذي نفذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر ؟؟ لذلك انهارت الصحافة في السودان ، لأنها أصبحت مطية كل راكب ، وعدد الصحفيين في السودان أصبح أكثر من باعة المياه المثلجة وماسحي الورنيش ، ومعظمهم يحرصون علي وضع صورهم في أعمدة الصحف ، وأحياناً يكون حجم الصورة أكبر من المقال المكتوب ، لا أريد الخوض في شأن المواضيع التي تُكتب ، أو مستوي لغة الكتابة ، إذا أردت أن تتأكد أن هوية السودان غير عربية فأقرأ الصحف الصادرة في الخرطوم ، فسوف تجد بعض كتابها يحملون رسالات أستاذية ولكنهم يجهلون أبسط قواعد اللغة العربية ، وتجد مقالاتهم تعجُ بالأخطاء الإملائية ، وكأن السودان يدرّس اللغة العربية لغير الناطقين بها . كان المرحوم محمد طه يختلف عن غيره في الكتابة ، فروحه المتمردة جعلته يطرق أبواباً غير مألوفة ، ويتخاصم مع الكل ، وليس بوسعنا الإنكار ، أن خصوم محمد طه هم من أكثر الناس قراءة له ، وهم أكثر الذين يردون عليه ويستشهدون بكتاباته للنيل من نظام الإنقاذ ، يُعتبر المرحوم محمد طه حالة استثنائية في الصحافة السودانية ، فقد أعطي أكثر مما أخذ ، ويكفيه أنه مات شهيداً من أجل أفكاره ، فهو أول صحفي سوداني يتعرّض للقتل بسبب القلم والفكر ، لقد مات محمد طه بسبب تعقيدات السياسة السودانية ، وعلي الأقل ، إن الذين قتلوه كانوا من قرائه . حاول بعضنا تجيير الحادث لصرف الانتباه عن الجناة الحقيقيين ، بعضهم قال أن الجناة من دارفور ، مستشهدين بأقوال زوجة محمد طه عندما ذكرت بأن وجوه الجناة كانت سمراء ، أن السمار صفة لازمت السودانيين وتغنوا بها في الأفراح : الليلة يا سمرا يا سماري الليلة ..يا سمرا ، صحيح أن صحيفة محمد طه خاضت في بعض القضايا الحساسة والخاصة بشأن المجتمع في دارفور، لكن هذا النوع من الانتقام والتشفي ليس من شيم أهل دارفور وهم الذين أطلقوا سراح قائد الدفاع الجوي السوداني بعد أن أسروه ، ولم ينتقموا منه لأجل آلاف القرى التي أحرقتها طائراته بالقصف ، فقد سلبتنا الإنقاذ من الأمن والاستقرار والحياة ولكنها لم تسلبنا من الإنسانية والرأفة والشفقة . وقد اعتمدت جريدة الوفاق علي دراسة علمية مصدرها معتمد الخرطوم في عهد النميري أكّد فيها أن معظم الداعرات اللائى قُبض عليهن في حملات المداهمة هن من نساء دارفور !! هذا المقال كان أشبه برمي عود الثقاب المشتعل في صفيحة البنزين ، لكن غضب أهل دارفور لن يصل إلي مستوي قتل محمد طه والتمثيل بجثته ، الإحصائيات العنصرية ربما تكون قد كشفت عورة من عورات أهل السودان في الصحافة ، ولكن هناك إجماع بين الناس الآن يفيد أن كامل المجتمع السوداني قد انحرف عن الجادة ، وبسبب الفقر والكبت والإرهاب انتشرت شبكات الدعارة في الخرطوم ، ليس دعارة بين طرفين ، مبنية علي دفع الثمن مقابل إرضاء النزوة كما كان يحدث بين في أيام الرئيس النميري ، بل هي دعارة مؤسسة ، تتوفر لها التقنية الرقمية وكاميرات الفيديو ،و يقف من ورائها أجانب تحبهم الحكومة ويحبونها ، المستور منها أكثر من المكشوف ، كل ذلك يأتي علي حساب قيم المجتمع السوداني وكرامته . أن من قتلوا محمد طه محمد أحمد ليسوا بغرباء ، ويحملون فكراً لا يخفونه عن الجمهور ، ربما تكون هذه الجريمة هي الأولي من نوعها في السودان ، الضحية فيها رجل مرموق ومعروف بين الناس ، ولكن هذا الفكر الظلامي الرجعي هناك من وفّر له المناخ المناسب ، ورعاه حتى قام من بين الأكمة ، فأصبحت له جذور وعروق وأغصان ، إعلان السودان كبلد هجرة للمطاردين العرب كان هو بداية الشر ، واستخدام الشعارات الدينية في الخلاف السياسي جعلت القتل والذبح هما الحل المناسب لتسوية الأزمات ، دفع أهلنا في الثورة الحارة الأولي والجرافة وود البخيت ثمن مغامرة استقدام الثقافة العنيفة التي لا تعرف التسامح . إذا أردنا أن نعرف من الذي قتل محمد طه فلننظر شمالاً ، ليس شمال السودان بل ابعد من ذلك بكثير ، أعني مصر التي نسميها مهد الثقافة والحضارة ، وهي العش الذي طارت منه جماعات الإسلام السياسي إلي السودان ، فقد طُعن نجيب محفوظ بسبب رواية كتبها قبل أربعين عاماً ، قتلٌ بلا رحمة ، لا يستثني أحداً ، طال حتى شيوخ الأزهر ، قبل عامين هناك صحفي مصري اسمه القمني أعلن توبته في الصحف وطلّق الكتابة بلا رجعة ، رضا هلال مساعد رئيس تحرير جريدة الأهرام ، أختفي قبل ثلاثة سنوات ومصيره ظل مجهولاً وغامضاً حتى كتابة هذه السطور ، وبيان منسوب للجماعة الإسلامية تبني إقامة الحد عليه ، لم يكتب رضا هلال مثل مقالات محمد طه ، التي تُعتبر مثالاً للاستفزاز وجذب الخصوم ، ولم يكن له العديد من الأعداء والخصوم السياسيين ولكن العدالة الناجزة خلقت له ذنباً وعقاباً علي الطريقة الزرقاوية ، الفارق الوحيد أن الأمن المصري لم يعثر علي جثته ، والتي ربما تكون قد نهشتها الكلاب أو أخفتها نفايات مدينة كبيرة مثل القاهرة ، ولا زال اختفاء رض هلال لغز يحير الكثيرين ، أن من أقام الحد علي الأستاذ/رضا هلال هو نفس المجرم الذي قام بقطع رأس الأستاذ طه ، إنها جرائم يقف من ورائها فكر ومنهج ، ولكن هناك من يري غير ذلك . سارة عيسي
|
|
|
|
|
|