|
ليلة اغتيال ( فيل ) حديقة مدينة الخرطوم
|
عُلقت ورقة صغيرة علي حائط كلية العلوم بجامعة الخرطوم ، بالقرب من طاولة التنس ، كان هناك مبرد للمياه يطل علي شارع الكلية ، في تلك الورقة كُتب بخط جميل : يُقام اليوم حفل تأبين للفيل بقاعة كلية العلوم .. والدعوة عامة ترحمت علي الميت ، ودعوت له من وراء الغيب ، فكلنا سوف نسلك هذا الطريق ، وشعرت بأشد الحزن والأسف ، وعاهدت نفسي أن أحضر هذا الحفل ، وأن أسمع لأحباء هذا الميت وهم يذكرون محاسنه و أفضاله ، تبادر لذهني أن هذا الميت هو أستاذ جامعي ، يملك رسالة علمية في تطوير النفس الإنسانية ، حرياً بي أن أشارك في هذا الحفل . اشتريت مجموعة من المناديل الورقية ، ربما احتاج إليها إذا قرر المعزون اتباع المراسم السودانية في التعبير عن حالة الحزن الناتجة عن فراق الأحبة ، دخلت القاعة والتي كانت تقع تحت المكتبة الرئيسية ، في هذه القاعة كان الدكتور شداد يشرح لطلابه حالة الخسوف والكسوف ومواعيد صوم رمضان ، بدأ علي الحاضرين الحزن الشديد ، وكدتُ أقع علي الأرض من الحزن ، أحسست بأن القاعة تحوّلت إلي قبر كبير . ولكن لاحظت شئ آخر جذب انتباهي ، نحن السودانيين في أيام العزاء لا نستخدم العطور الصارخة ، ولكن القاعة كانت تفوح منها مختلف الروائح العطرية ، تألمت لذلك اشد الألم ، فحتى الفراعنة القدماء كانوا يحترمون موتاهم ، ويضعون لهم اللبن والخبز والحلي النفيسة في قبورهم ، فكيف بهؤلاء يقيمون تأبيناً للسيد الفيل ولكن النساء يضعن الكريمات والمساحيق ، المهم في الأمر أنني تقبلت الوضع ، فالميت لن يفيده شيئاً إذا تطيبنا أو سكبنا عليه دموع الألم . بدأ إلقاء الكلمة ، ووقف أمامنا شاب مهذب ، وبصوت خافض مملوء بالخجل بدأ يقرأ من ورقة وُضعت أمامه ، كان يفرك عينيه قبل أن يضع نظارته السميكة فقال : لقد كان للفيل دور هام في حياتنا الاجتماعية ، كان يلهي الصغار ويداعبهم ويطرد عنهم الملل والكآبة ، لم نكن نتوقع له هذه النهاية المحزنة ، أن يموت حبيساً وطريداً وجائعاً في الحزام الأخضر ، لا مكان لأصحاب العطاء في وطننا السودان ، وما حدث للفيل أمر يُستغرب له ومُستهجن ، ولا أحد يتوقع حدوثه ؟؟ شعرت بأنني خارج الزفة ، فالسيد الفيل لم يمت من جراء ذبحة قلبية ، أو تناوله جرعة زائدة من المخدر ، فأنا أمام جريمة قتل ، فصرت أتساءل فهل هي من الدرجة (First degree Murder) ، أم أنها من الدرجة الثانية وبغير قصد (manslaughter) ، جلست بقربي سيدة غربية ، قيل أنها من وحدة اللغة الفرنسية بجامعة الخرطوم ، طبعاً لم تكن تفهم ما يقوله الخطيب ، ولكن بإحساسها كانت تعرف بأنه يقول : Our lord in the heaven ..and our lord on the earth ..we bring your lamb to you ..from dust to dust . سألتها : is there is something missing me?? فردت علي باقتضاب : hussssh شعرت بأن لا أحد يريد أن يتكلم عن المرحوم الفيل ، فيا تري ماذا جري له ؟؟ هل شارك في مؤامرة تسميها الحكومة انقلابية ؟؟ أم أنه تعرض لعملية اغتيال غامضة ؟؟ دارت كل تلك الأسئلة في ذهني ، توهمت بأنني غير مرحب بي في هذا الحفل ، قطع الهدوء صوت آنسة تطلب منا زيارة معرض الفيل ، كدت أطير من الفرح ولم تسعني الدنيا ، أخيراً حُل اللغز وبإمكاني رؤية الفيل وهو يرتدي بدلة( كحلية ) وبربطة عنق حمراء ، فيظهر في صورةٍ محلاةٍ بإطار ذهبي وهو يتسلم شهادة الدكتوراه من جامعة غربية ، يمكنني الآن أن أري زوجته وأبناءه ومن أين المناطق ينحدر . تجولت في المتحف وزرت كافة الأجنحة ، ولكني لم أجد صورةً للفقيد ، بل صور لحيوان الفيل وهي تملأ المكان ، عدت من جديد لمنظمة المتحف وسألتها وأنا يتملكني الاستغراب أين صورة الفقيد ؟؟ ردت علي بسخرية : يظهر انطبق عليك المثل السوداني .. عينك في الفيل وتطعن في ظله ..أن الفقيد يا أختي فيل (elephant) وليس رجل كما تعتقدين ، الحكومة طردته من وطنه حديقة حيوان الخرطوم ونقلته إلي منطقة ملوثة في الخرطوم (3) ، وبما أن الفيل حيوان في غاية الحساسية شعر هناك بالضجر والسأم فمات نتيجة لذلك ، وبعد موته جاء رجال البلدية وقاموا بنزع أنيابه الغالية ورموا بجثته في العراء لتنهشها الكلاب ، ونحن طلاب كلية العلوم نقوم بهذا العمل تكريماً للفيل وامتناناً له في عالم أصبحت قواعده الخيانة والغدر والجحود . هذه كانت البداية ، فيل يحس ويشعر ولكنه كان لا ينطق ، قبل أن يأتي الدور علي أهل دار السلام وسوبا ، فمات أهلها كما مات هذا الفيل ، ولكن لم يؤبنهم أحد ، فقد انتهي العزاء بنهاية مراسم الدفن .
|
|
|
|
|
|