|
رحلتي مع " الكماسرة " وحزني على محجوب عبد الحفيظ
|
رحلتي مع " الكماسرة " وحزني على محجوب عبد الحفيظ
عندما تشاهد برامج الفضائية السودانية ، تجدها تهتم كثيراً بالتغطيات السياسية ، فالضغوط التي يتعرض لها النظام من الخارج ، وطبيعة التعقيدات التي يواجهها في الداخل ، إنعكست على على وسائل الإعلام المملوكة بالكامل للدولة ، فالثقافة السودانية الواسعة في المعنى والمضمون غائبة عن التناول ، مرة سألني أحد الأخوان ، لماذا لا نرى في التلفزيون السوداني غير بروفيسور أو طبيب أو مفكر ، يحكون لنا سير حياتهم الذاتية ؟؟ هذه إحدى الآفات التي أصبحنا نعاني منها في السودان ، هذه الألقاب العلمية أصبحت هدفاً في حد ذاتها ، أصبحنا لا ننظر إلي العطاء الذي يقدمه أصحاب هذه الألقاب الفخمة بل ننظر إلي حرف ( الدال ) الذي يسبق أسماؤهم ، لذلك غابت عن شاشتنا الثقافية والإجتماعية الكثير من فئات الشعب السوداني ، الشماسة ، بائعات الشاي والكسرة ، النقلتية ، باعة المياه المتجولين ، الكماسرة ، المعوقين ، هذه الفئات المُهمشة لم تجد حظها من الإهتمام ، لذلك راسلني الكثيرون على بريدي الخاص وطلبوا مني التوثيق لهذه الفئات المهضومة الحقوق ، والمُجردة من أبسط الحقوق الإنسانية ، لا أحد أحد يسأل من أين جاوؤا ؟؟ وكيف قبلوا بهذه الأعمال التي لا تسد الرمق ؟؟ أين يسكنون ؟؟ وكيف يتلقون العلاج ؟؟ ، أحسبهم مثل الأخ عبد السلام الذي أستضافته قناة العربية ، فقد نقل لنا ما يقوله لهم ديوان الزكاة إذا هرعوا إليه وهم يطلبون الغوث و المساعدة ، يقول لهم مكتب الزكاة : أنتا جاي برجليك وتطلب الزكاة !! أي يستكثرون عليه نعمة الصحة في البدن ، يا هؤلاء ..من الذي قال أن الزكاة تُدفع فقط للمبتورين وناقصي الأطراف ؟؟فإن كان يُدفع منها بدل السكن والإجازة والهاتف للعاملين عليها ..فلماذا لا ندفع للإنسان الصحيح قبل أن يسقط في السقم والمرض !! هذه الفئة المُهمشة من الناس هي أفضل ناقل للمعاناة اليومية السودانية ، لكن رحل المغني ، وحلقت حمائمه في سماء النسيان ، في هذه الوهدة علينا أن نتذكر الإنسان محجوب عبد الحفيظ ، صاحب الصلاة الطيبة والذي نذر حياته للفئات المغلوبة من المجتمع السوداني ، ولو كان من بيننا عشرة اشخاص من لحمه ودمه لما عرف السودان الحروب المتوالية ودعوات المُطالبة بالإنصاف وإرجاع الحقوق ، بكلمة طيبة يمكننا أن نصد زخات الرصاص ، وبإعتراف متواضع بحقوق اللآخرين يُمكننا إسكات صوت المدافع إلي الأبد ، لكن سنة الله في خلقه أخذت الأخيار ، ولم يبقي في الديار الخربة سوى طائر البوم الذي ينعق من جوانبنا ويذكرنا بالحروب الأليمة . عاش الكماسرة مجدهم الذهبي مع دخول باصات " التاتا " إلي السودان ، يقومون بتحصيل المبالغ من الركاب ، وفي العادة يقومون بتسليم الحصيلة النقدية للسواق والذي أحياناً يلعب دور الرقيب ، ومن خلال الخبرة والملاحظة يستطيع أن يعرف ما نسميه في لغة القانون التجاري "cash abstract" ، وهي أن يقوم الكمساري بالتلاعب في النقدية ، لكن الضحايا في الغالب هم الركاب ، فالتعلل بعدم وجود " الفكة " يتسبب في عدم إرجاع الباقي للزبون . أكثر ما يخشاه " الكماسرة " هو العاملين في المؤسسة العسكرية وقطاع الطلاب ، هؤلاء يدفعون نصف القيمة بحكم أن الدولة في السابق كانت تدعم سلعة البنزين ، هؤلاء الكماسرة أيضاً لهم حظ من التعليم في حدود عملهم ، فمثلاً كانوا يرفضون بطاقات الدفاع الشعبي أو الشرطة الشعبية ، ومن المُمكن أن يرد عليهم الكمساري بحدة بقوله : انتو ما مشيتو الجهاد عشان تركبوا بلاش ..انتا مش جيش ، ولا يقبل الكماسرة أيضاً بطاقات الطلاب التي تصدر من المعاهد الأهلية الخاصة ، فيردون على حامليها بقولهم : انتو مش في مدارس حكومية ..انتو بتقروا بقروش " لذلك ينال إمتياز سعر نصف القيمة من هم يعملون في القوات النظامية ، ومن الطلاب من هم يدرسون بالمدارس الحكومية ، هذا الإمتياز قد سقط بالنسبة لهذه الفئات الآن ، وأنحسر دور باصات " التاتا " في الثورات ، فقد قضت الأمجاد والميلاد على أحلام جيل كامل من الكماسرة ، بسبب التردي الإقتصادي وإتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء ، أصبح معظم ملاك المركبات الكبيرة سائقين لها ، وحلّ إبن المالك في مكان الكمساري ، لأن الحصيلة الشحيحة بسبب غلاء الوقود وكثرة المخالفات المرورية أصبحت بالكاد تغطي تكاليف المركبة المباشرة ، هذه الشريحة التي كنا نقابلها في الذهاب والإياب ، وفي الصباح والمساء ، تلاشت من حياتنا من حياتنا الإجتماعية من غير أن يحس بها أحد . كثيراً ما كان الكمساري يواجه الإحتجاجات التي تقابله من الركاب بسبب زيادة التعريفة بشيء من الحكمة والتريث ، فيقول لهم : انتو ما بتقروا الجرايد ؟؟ وعندما يردون عليه بالإيجاب يخاطبهم قائلاً : طيب أسمعوا الإذاعة .. والما عندو ينزل ؟؟ هناك بعض الركاب يحاولون دفع نصف القيمة لأنهم راكبين " شماعة " حسب زعمهم ، لكن الكمساري الفطن لا يقبل بهذه الفرضية المميتة ، لأن معظم الركاب هم من شاغلي مساحة "الشماعة " ، فإن قبل بهذا المنطق الذي يميل إلي التجزئة فإنه سوف يخسر الكثير ، لذلك نجده يرد على أصحاب هذه المقولة : نحن مش في طيارة ..درجة أولى وثانية ...البص دا كلوا واحد ..و في هذه النزاعات يقف السائق إلي جانب الكمساري . الآن ، نحن في زمان مختلف ، أخذ رجال السياسة كل شيء ، صرنا نجهل كل ما يحيط بنا ولكننا نعلم بأدق تفاصيل حياتهم ، فالنزاع لم يعد بين الراكب والكساري حول سعر " التعريفة " ، بل النزاع أصبح بين القطط السمان حول عائدات النفط ، مليارات الدولارات في خانة " الشلن " والريال " و " الطرادة " ، هذا هو السودان الجديد لكنه ليس السودان الذي خصاه الراحل قرنق بثورته . سارة عيسي
|
|
|
|
|
|