|
الإنقاذ : البداية والنهاية
|
معسكر الشهيد عيسي بشارة ، يقع بالقرب من النيل الأبيض ، وفي حضن مدينة القطينة ، من هذا المعسكر بدأت عملية عسكرة قطاع الطلاب ، وكان جهابذة الحركة الإسلامية ومنظريها يحضرون إلي هذا المعسكر ، ويقومون بإلقاء الخطب الطويلة علي مسامع الطلاب ، يحدثونهم عن اقتراب موعد الفتح ونهاية أمريكا علي يد الثلة الأخيرة من أبناء السودان ، انتهت عمليات غسيل المخ في أوروبا الشرقية ، ولكنها وجدت من يعيدها إلي الحياة في السودان . مدير المعسكر سأل أول الشهادة السودانية لعام 90 ..هل أنت أول الشهادة السودانية ؟؟ فرد عليه : نعم أنا أول الشهادة السودانية فطلب منه مدير المعسكر أن يجري بين الطلاب ويهتف : أنا الطيرة أو الطيور اشتهرت مدينة القطينة بالعلم والتسامح ، وبحب أهلها للحرية والديمقراطية ، قبل أن يحل عليها معسكر الشهيد عيسي بشارة ، بمدينة القطينة مستشفي تفتقر للكادر الطبي والدواء ، ومدرسة ثانوية كبيرة بها سكن للطلاب ، المستشفي أصبحت تحول معظم حالاتها المرضية للخرطوم ، أما المدرسة فأصبحت مأوي لقوات شرطة المرور والتي تفرض جبايتها علي السيارات المارة وهي تتعلل بأتفه الأسباب .أما الحياة في المعسكر فتجري علي ما يرام ، هناك مطبخ وصالة طعام ومغسلة لخدمة المسؤولين . ليست مصادفة أن تنشأ في مناطق الهامش معسكرات الدفاع الشعبي ، والتي قامت علي هيكل المؤسسات التعليمية ، فما حدث في مدينة القطينة تكرر أيضاً في مدرستي خور طقت وحنتوب ، هذه ليست مصادفة ، بل عملية مدروسة ، قُصد منها محو الأثر الثقافي القديم ، وحرمان الطلاب من التلاقي والتلاقح الثقافي ، ما ميز هذه المدارس هو نظام الداخليات ، والذي كان يجمع طلاباً من مختلف أنحاء السودان ، وهي كانت البوابة التي تُدخل المهمشين إلي المراكز الرفيعة ، وسياسة التعليم السياحي في عهد الإنقاذ هي التي اقتضت إغلاق هذه المدارس ، وتحويلها من مؤسسات تعليمية إلي ميادين للتدريب العسكري ، ولكن لماذا ؟؟ لأن السودان كان ينوي محاربة أمريكا ؟؟؟ في هذه المعسكرات كان المجندين يهتفون : أمريكا روسيا قد دنا عذابها و يا الأمريكان ليكم تدربنا وقال شاعر القوم : أمريكا لمي جدادك !! ولكن أمريكا لا تعطي دجاجاً مجانياً كما زعم شاعرنا ، ولكنها تبيعه كوجبات سريعة في هارديز وكنتاكي وماكدونالد ، والشعب السوداني لم يسمع بمثل هذه المسميات ، وما تمنحه أمريكا هو القمح وليس الدجاج ، ولكن علي ما يبدو أن من يصممون ترانيم الإنقاذ يختارون الأناشيد كما تقتضي القافية وليس كما يقتضي واقع الحال . فحرب الإنقاذ لأمريكا هي حرب نوايا ، وليست حرب أكيدة تُستخدم فيها الطائرة والدبابة ، هي حرب وهمية مكانها الصحيح في أفلام الخيال العلمي وليس أرض المعركة الحقيقية ، ولكن من يدفع ثمن هذه الحرب هو المواطن السوداني ، الذي يدفع الأموال ويقتطع من وقت راحته مساحة يخرج فيها للشارع ويقول : فريزر أغربي عن وجهنا ، فالمواطن السوداني يخرج مكرهاً للتظاهر ضد أمريكا ، وليس أمامه مفر من ذلك . وأنا أؤمن بنظرية ثابتة ، كلما كانت الحرب بعيدة المنال بين الولايات المتحدة والسودان ، زاد عدد أبطال الفضائيات والعنتريات ، والذين يتحرقون إلي لقاء الأمريكان ومنازلتهم في أرض الوغى ، يكثر عدد الذين يرتدون الزي العسكري ويقرضون الشعر ويلقون الخطب الحماسية ، كوالي النيل الأبيض مكرم نور الله ، وهو من الداخلين إلي نظام الإنقاذ عن طريق مركب التوالي ، ولكنه يريد معركة حقيقية يكون الخيار فيها بين حياة تسر الصديق وبين موت يغيظ العدا ، ربما لم يسمع والي النيل الأبيض أن هناك منطقة في ولايته عندما تصلها اللوارى يقول السائقون : الكلاقي والحي بلاقي ، ذلك من شدة وعورة الطريق وخطورته . وولاية النيل الأبيض تكثر فيها حالات الموت بسبب الولادة المتعسرة والأمراض السرطانية ، وفي الطريق الغربي المحاذي للنيل الأبيض تُوجد ثلاثة مستشفيات هي العلقة والصوفي وشبشة ، ولكن هل يعلم الوالي أن هذه المستشفيات تحولت إلي مزارات أثرية ، بعد أن هجرها الأطباء ونفذ من مخازنها الدواء ، والي النيل الأبيض والذي دخل في الثلث الأخير من عمر الإنقاذ كان جاهزاً لمحاربة أمريكا ، ولكنه ليس مستعداً لمحاربة الفقر في ولايته ، من السهل جداً إطلاق الهتاف ، والصياح بصوت عال الله أكبر .. الله أكبر ، من السهل جداً دخول معركة كبيرة من وراء الحدود ، ولكن من الصعب بناء قطية من القش ، تأوي الصغار من الزواحف والحر وبرد الشتاء . والآن قد صمت الكل ، والجميع في انتظار ساعة الصفر ، هل ستكون الحرب في دارفور ؟؟ كما تخطط الإنقاذ والتي فتحت هناك ثلاثة معسكرات للتدريب العسكري ، وعاد خيالة الجنجويد وهم يلوون عمائمهم ويتبخترون بخليهم أمام الكاميرات ، والولاة قد طلقوا الزي المدني ولبسوا الزي العسكري ، بمنتهى السرعة تم حشد الجيوش وفتح المعسكرات ، هناك جاهزية لخوض الحروب ولكن ليست هناك جاهزية لصنع السلام ، وهذا هو قدر أهل السودان ، عندما استلمت الإنقاذ السلطة في يونيو 89 لم تكن علي أراضينا قوات أفريقية أو أممية ، لم يكن هناك مندوبون دوليون ولا جلسات خاصة لمجلس الأمن تتناول الشأن السوداني ، لماذا ندفن رؤوسنا في الرمال ؟؟ ونتغاضى عن فرضية مهمة ، أن الإنقاذ كانت أشبه بالحمار الذي دخل سفينة نوح متأخراً وكان في معيته الشيطان ، حل أزمات السودان يكمن في رحيل نظام الإنقاذ ، لقد منحهم الشعب فرصة كافية ، فأوصلونا إلي ما نري ، ولم يعد في وسعنا تحمل الحصار إرضاءً لنزواتهم . سارة عيسي
|
|
|
|
|
|