|
يا لـلـمـسـكـيـنـة ( فـرنـســا ) !
|
...
ياللمسكينة ( فرنسا ) ..!
" نشر بالمستقلة 17 مارس "
يضج المكان بالحركة ، وتكثر الأصوات وترتفع ، ويشتد الزحام حتى أنك لا تستطيع المشي إلا بجهد كبير. وبينما تتأرجح عيناك يميناً ويساراً بحثاً عن هدفك تكون عشرات الأصوات قد إنتقلت عبر أذنيك فترتفع درجة الحرارة في رأسك لأن دماغك المسكين يحاول تحليل وتمييز ما تشير إليه كل هذه الأصوات التي تأتيه بلا إستئذان!. وليس بعيداً عنك وفي ذات الزمان والمكان يحاول سائق حافلة أن يخرج من تلك الفوضى العجيبة فيراوغ بحافلته بين صفوف العابرين بطريقة لو أستطاع ان يفعلها لاعبو الهجوم في فرق كرة القدم عندنا لأرتفع عدد الصحف الرياضية إلى ستين ! وربما يكون ذلك السائق قد قضى خلف (الدرسكون) عشرين عاماً ولكنه مع ذلك لا يملك إلا أن يضغط على الفرامل بكل قوة ليتجنب في اللحظة الأخيرة اصطداماً مع شخص دفعه ذلك الزحام أمامه فجأة، تماماً مثلما يفاجئ فصل الخريف ناس (المحليات) والمجالس البلدية في عاصمتنا البديعة! .. (اللبسة كاملة بـ جنيهين).. يرتفع هذا النداء من بائع قريب وتختلط معه نداءات كثيرة بكل أنواع السلع: (جرائد اليوم!).. (أروى عطشك!).. (الفايل وتغليف البطاقة بـ ألف).. ثم صوت آخر : (التفاحة بـ خمسمية)..! إذا كانت التفاحة تباع على رصيف الخرطوم بـ خمسمية فلا بد أن دولة لبنان ينتظرها مصير مظلم إذن! وعلى ناس (الباوقة اللذيذ تفاحها) أن يبحثوا عن شيء لذيذ آخر..! .. (اللبسة كاملة بـ جنيهين).. يصّر هذا النداء على الإرتفاع فيجبرك على التوقف لتنظر وتفكّر.. كيف تكون اللبسة كاملة بجنيهين فقط؟ ربما تكون لبسة وهمية! ولكنك تنظر إليها فتكتشف بدهشة أنها لبسة أطفال حقيقية وجميلة أيضاً ومصنوعة من القطن! هكذا إذن! كم كلفة صناعة هذه الملابس؟ وكم كلفة ترحيلها جواً أو بحراً؟ وماذا عن رسوم الجمارك؟ وأرباح التاجر الذي إستوردها؟ ثم تاجر الإجمالي؟ ثم تاجر القطاعي؟ ثم هذا الشخص الذي يبيعها مفروشة على الأرض هنا.. كم يربح منها؟.. وإذا عرفنا بعد كل هذا أنها مصنوعة من القطن .. فسنفهم لماذا أصاب الفشل مشروع الجزيرة! وبينما تفكر في كل ذلك إ ذا بالأمور تتبدل فجأة فتنظر بدهشة إلى قطع الملابس وقد تطايرت في الهواء بينما أخذ الباعة يفرون بسرعة وهم يحملون بضاعتهم وقد تساقط بعضها على الطريق.. وفي دقيقة واحدة بدا ذلك المكان وكأنه مسرح لمعركة من معارك المهدية! ثم يرتفع صوت أحدهم ليفسر كل ما حدث: ( الكشة جات ) ..! إنها الكشة إذن..! وبعد دقيقة واحدة يختلف المشهد تماماً فيقل زحام الناس و تنساب حركتهم بينما يكون الباعة المتجولون قد تجمعوا في أماكن بعيدة ينتظرون. تمر بضع دقائق ويذهب رجال شرطة البلدية (بدفار كشتهم) ويمكنك ان تعود أنت إلى ذلك المكان مرة أخرى لتستمع إلى تلك الأصوات وقد أخذت ترتفع مرة اخرى : ( العطر الفرنسي من باريس بي تلاته ونص !) .. يا راجل ! عطر فرنسي بثلاثة جنيهات ونصف ؟! مسكينة فرنسا ! يبدو ان زمن النهضة الفرنسية قد ولى ! وسحر باريس قد تلاشى ! وواضح تماماً ان الفرنسيين لم يعودوا قادرين على تحمل العناية بمتحف اللوفر الشهير ، فاضطروا ان يصنعوا العطور بسعر رخيص جداً ، ثم ينقلونها من باريس ويعبرون بها البحر الابيض المتوسط حتى تصل الى قلب السوق العربي في الخرطوم ، لتباع بثلاثة جنيهات ونصف فقط..! يتكرر مشهد ( الكشة ) ربما اكثر من مرة فى اليوم الواحد ، وفي كل مرة تعود الأمور الى ما كانت عليه وتغرق البلد فى الفوضى ... وقد توصلت شخصياً بعد دراسات متأنية ، وتحقيقات كثيرة ان السبب فى كل هذه الفوضى والكشات العبثية ليس تقصيراً من السلطات في المحليات او المجالس البلدية , او حتى حكومة الولاية ، فهذه المؤسسات تدير عملها بكفاءة تامة .. تصل الى ان تحدث ( الكشة ) بطريقة منتظمة وطبق الاصل للمرات التى تسبقها ! ولكن السبب الحقيقي لكل ذلك هو ان الاخوة فى المحليات والمجالس البلدية والولاية يعشقون تماماً مسلسل الكرتون الشهير ( توم اند جيري ) ..! ففي ذلك المسلسل تحدث مطاردة ابدية دائمة بين القط ( توم ) والفأر ( جيري ) .. وهذه المطاردة لا تنتهي ابداً .. لأن نهايتها تعني نهاية المسلسل .. وطبعاً إذا حدث هذا فلن تحقق الشركة المنتجة لمسلسل المطاردة هذا اى ارباح ..! وهل سمعتم في حياتكم بمجلس بلدي يبلغ به الجنون حداً يجعله يتخلى عن الأرباح ..؟! ....
|
|
|
|
|
|