|
التين والزيتون وطور سينين......
|
التين والزيتون وطور سينين في "مروج الذهب"، نقل المسعودي رواية تقول إن عمر بن الخطاب كتب إلى حكيم من حكماء العصر طالباً منه وصف المدن التي فتحها المسلمون، "وما تؤثِّره التربة والأهوية في سكانها"، فقال هذه الحكيم في وصف الشام: "سحب وآكام، وريح وغمام، وغدق ورُكام، ترطب الأجسام، وتولّد الأحلام، وتصفّي الألوان. والشام، يا أمير المؤمنين، وإن كانت على ما وصفت لك، فهي مَسْرَح خصب، ووابل سَكْب، كثرت أشجاره، واطَّرَدت أنهاره، وغمرت أعشاره، وبه منازل الأنبياء، والقدس المجتبى، وفيه حَلَّ أشراف خلق اللّه تعالى من الصالحين والمتعبدين، وجباله مساكن المجتهدين والمنفردين". تتكرر هذه الأوصاف في كثير من "كتب البلدان" حتى تبدو الشام كأنّها "صفوة الله من بلاده"، كما جاء في حديث للرسول ذكره ياقوت الحموي في "معجم البلدان".
الأرض المقدسة
في "آثار البلاد وأخبار العباد"، يستعيد القزويني التحديد الجغرافي الخاص بديار الشام في العصر الإسلامي، وهي ممتدة "من الفرات إلى العريش طولاً ومن جبلي طيء إلى بحر الروم عرضاً". جبلا طيء هما اليوم جبلا شمر في منطقة حائل، شمال غرب الرياض، أما بحر الروم، فهو بلغة عصرنا البحر الأبيض المتوسط. الشام، بحسب القزويني، "هي الأرض المقدسة التي جعلها الله منزل الأنبياء ومهبط الوحي ومحل الأنبياء والأولياء. هواؤها طيب وماؤها عذب وأهلها أحسن الناس خلقاً وخلقاً وزياً ورياً". وفيها قال البحتري: عنيت بشرق الأرض قدماً وغربها/ أجوّب في آفاقها وأسيرها فلم أر مثل الشّام دار إقامة/ لراح أغاديها وكأسٍ أديرها مصحّة أبدان ونزهة أعين/ ولهو نفوسٍ دائمٌ وسرورها مقدّسةٌ جاد الرّبيع بلادها/ ففي كلّ أرض روضة وغديرها يجعل هذا الوصف من الشام أرضا مقدسة، ويتقاطع مع ما ذكره كبار الأئمة في تفسير الآية الحادية والعشرين من سورة المائدة: "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين". وكما أشار الطبري في "جامع البيان في تأويل القرآن"، فقد اختلف أهل التأويل في تحديد هذه "الأرض المقدسة"، فمنهم من قال إنها "الطور وما حوله"، ومنهم من قال إنها "أرض أريحا"، ومنهم من قال إنها "دمشق وفلسطين وبعض الأردنّ"، ومنهم من رأى أنها الشام. وقيل في المقابل إنّ "الأرض المقدسة" هي "المطهرة المباركة". استعرض الطبري هذه التأويلات وكتب في خلاصتها: "أولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: هي الأرض المقدّسة، كما قال نبي الله موسى صلّى الله عليه، لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض، لا تُدرك حقيقةُ صحته إلا بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به. غير أنها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر، لإجماع جميع أهل التأويل والسِّير والعلماء بالأخبار على ذلك".
من الفرات إلى العريش
أخرج البخاري ومسلم حديثا يقول إن موسى "لما حضرته الوفاة سأل الله تعالى أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر". وفي "تاريخ دمشق"، ذكر ابن عساكر حديثا للرسول يقول: "إن الله بارك فيما بين العريش إلى الفرات، وخصّ فلسطين بالتقديس"، ونقل عن الصحابي معاذ بن جبل أن الأرض المقدسة هي "ما بين العريش إلى الفرات". في "معجم ما استعجم"، نسب البكري الأندلسي الحديث الأخير الى كعب الأحبار، وفيه: "إن الله عز وجل بارك في الشام من الفرات إلى العريش، وخص بالتقديس من فحص الأردن (أي مصبّ النهر) إلى رفح". تقدّست هذه الأرض وبوركت بديار فلسطين، وهذه الديار "حسنة البقاع، بل أزكى بلاد الشام" على ما كتب الإدريسي في "نزهة المشتاق". جاء في مطلع سورة الإسراء: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله". وكتب مقاتل بن سليمان في تفسير هذه الآية: "يعنى بالبركة الماء والشجر والخير". وقال الطبري في المعنى نفسه: "جعلنا حوله البركة لسكانه في معايشهم وأقواتهم وحروثهم وغروسهم". ورأى النيسابوري في "غرائب القرآن" أن هذه المباركة تشمل "بركات الدين والدنيا"، لأنّ بيت المقدس "مهبط الوحي، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة". يتردد صدى هذه الأحاديث في شرح معاني الآيات الأولى من سورة التين: "التين والزيتون. وطور سينين. وهذا البلد الأمين". للمفسرين قولان في معنى الآية الأولى. فمنهم من قال "التين الذي يؤكل، والزيتون الذي يُعصر"، ومنهم من قال "التين مسجد دمشق، والزيتون بيت المقدس". وقد جمع الطبري بين التأويلين، "لأن دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس بها منابت الزيتون". كذلك، اختلفت الآراء في "طور سينين"، والرأي الغالب أنه جبل موسى. أما "البلد الأمين"، فهو "البلد الحرام"، أي مكة. نقل النويري في "نهاية الأرب" حديثا يُنسب الى عبد الله بن عمر، وفيه: "أربعة أجبال مقدسة بين يدي الله تعالى: طور تينا، وطور زيتا، وطور سينا، وطور تيمانا. فأما طور تينة فدمشق. وأما طور زيتا فبيت المقدس. وأما طور سينا فهو الذي كان عليه موسى عليه السلام. وأما طور تيمانا فمكة". ونسب النيسابوري إلى ابن عباس رواية عن جبلين "في الأرض المقدسة يُقال لهما طور تينا وطور زيتا لأنهما منبتا التين والزيتون. وهما منشأ عيسى ومبعثه ومبعث أكثر أنبياء بني إسرائيل، كما أن طور سينين مبعث موسى، والبلد الأمين مبعث محمد صلى الله عليه وسلّم" ¶
محمود الزيباوي نقلا عن جريدة النهار البنانية عدد7فبراير2009
|
|
|
|
|
|