|
من دومة ود حامد الى دروب قرماش
|
في قصة " دروب قرماش " التي تحمل اسم المجموعة القصصية للأستاذ أحمد الطيب زين العابدين التي صدرت عام 1997 يعالج الكاتب موضوع الصراع بين العلم والخرافة في أسلوب رمزي في غاية الشفافية والعمق .
وجوهر القصة النقاش الذي انفجر فجأة حول علم الباطن والظاهر ، بين الفكي بليلة الذي يرمز للشخصية السودانية وتسامحها وبين صهره القادم من بلاد شنقيط ( قرماش ) قال الفكي بليلة أن النجاة والوصول لا يكونان إلا في علم الباطن ، وعارضه قرماش في أن النجاة تكون في الجمع بين الظاهر والباطن واستشهد في ذلك ببعض النصوص التي تشير إلى استخلاف الإنسان في الأرض وتحض على طلب العلم ولو في الصين .
ولما احتد الجدال بين الرجلين دخل قرماش في تحد مع الفكي بليلة وقال له أنت رجل من عامة الناس وليس لك من علم الباطن ما تستطيع أن تحمى به حتى طعامك هذا من الكلب النجس ، فغلى صدر بليلة بالغضب وقبل التحدي . واتفقا أن يؤتي لكل منهما بقدح طعام من اللحم وأن تترك القداح في قارعة الطريق وتبيت إلى صباح اليوم التالي ليريا على أي القدحين تعتدي كلاب القرية الضالة .
وفي الليلة الموعودة وضع كل منهما قدحه في قارعة الطريق ولم تنم القرية تلك الليلة توجسا وهلعا من النتيجة . وفي الصباح الباكر وجد قدح الفكي بليلة مأكولا مقلوبا وقد رتعت حوله كلاب الليل الضالة . أما قدح قرماش فقد بقى على حاله لم يقربه كلب .
وضجت القرية بالضحك والهمس والتقريع وتوافد الناس إلى دار قرماش للتهنئة ، وجاء فيمن جاء بليلة وعيناه مغرورقتان وسأل صهره قرماش : - ماذا فعلت ؟ - قرأت مثلك حزب السيف والجلجوت . - ثم ماذا ؟ - أضفت ما علمني الله من علوم الدنيا ، براز النمر فما تقربه الكلاب . - ( فصاح بليلة ) : نجس . ثم تراجع إلى داره وترك عمله في تحفيظ القرآن ودخل خلوة طويلة للعبادة .
واضح أن براز النمر الذي أضافه قرماش إلى قدحه كان العامل الحاسم في تلك المعركة غير المتكافئة . أي أن علم الظاهر أو العلم بالقوانين الطبيعية للأشياء والظواهر ممثلا في براز النمر هو الذي حسم المعركة لصالح قرماش فكلا الطرفين استعانا بعلم بما أسمياه علم الباطن وذلك بقراءة رقى وتعاويذ ( حزب السيف والجلجوت ) إلا أن قرماش لم يكتف بذلك بل أعتمد أساسا على خبرته في الحياة التي علمته أن الكلاب تعاف براز النمر ولا تقربه فكان أضمن وسيلة لحماية قدحه . أما بليلة فأكتفي فقط بما تعلمه من علم الباطن ولم يزد شيئا على قراءة حزب السيف والجلجوت فخسر المعركة .
ولكن بليلة الذي لا يعرف سوى طريق واحد للمعرفة لم يع الدرس وأصر على نبذ علوم الدنيا ووصفها بالنجاسة وقرر الدخول في خلوة طويلة للعبادة للكشف عن مزيد من علم الباطن . فهل الرسالة التي يريد إبلاغها الكاتب هي أن الفوز في الحياة الدنيا لا يكون إلا بالأخذ بأسباب العلم المادي التجريبي ( علم الظاهر ) وأن الأخذ بأسباب هذا العلم هو السبيل الوحيد لتمكين الإنسان في الأرض واستخلافه عليها على حد تعبير قرماش .
هنالك شبه بين قصة " دروب قرماش " وقصة " دومة ود حامد " للطيب صالح ووجه الشبه بين القصتين موضوع الصراع بين القديم الموروث والجديد المستحدث الوافد .
فسكان قرية ود حامد في قصة الطيب صالح يرفضون قطع الدومة وإقامة مشروع زراعي وطلمبة ماء ومحطة باخرة بمكانها . فقد كانت الدومة مزارا لولي من أولياء الله يراها سكان القرية قي أحلامهم فيتفاءلون أو يتشاءمون ويذهب إليها المرضى طلبا للعلاج والاستشفاء ، ولكن الحكومة تصر أن أنسب مكان لمحطة الباخرة والمشروع الزراعي هو الدومة ، وفي كل مرة تأتي وفود الحكومة لقطع الدومة وإقامة المشروع يهب سكان القرية في وجههم إلى حيث أتوا ، فأهل القرية يرفضون التحديث والتغيير الاجتماعي إذا جاء على حساب معتقداتهم .
وعندما يسأل الراوي محدثه : " وهل تظن أن الدومة ستقطع يوما " يطرق برهة ثم يجيبه : لن تكون ثمة ضرورة لقطع الدومة ، وليس ثمة داع لإزالة الضريــح ، الأمر الذي فات على هؤلاء جميعا أن المكان يتسع لكل هذه الأشياء ، يتسع للدومة ، والضريح ومكنة الماء ومحطة الباخرة " .
إنها دعوة إلى التغيير الاجتماعي الهادئ والبطئ الذي لا يقوم على النفي والإبعاد ، وإنما على الاحتواء والاستيعاب والهضم ، وهي نفس العقلية التي مكنت قرماش الغريب الوافد في قصة أحمد الطيب زين العابدين من فرض نفوذه على القرية وتهميش دور بليلة المسكين .
|
|
|
|
|
|