دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
Re: ما هو المؤلف ؟ .. رؤية نقدية - الطيب بوعزة (Re: Agab Alfaya)
|
رؤية نقدية ... ما هو المؤلف؟! *
يبدو عنوان مقالنا هذا مستثقلا أو خاطئا من حيث صيغة الاستفهام، إذ من الأليق استعمال صيغة استفهام العاقل، فنقول : “من هو المؤلف؟”. لكن استبعاد تلك الصيغة وطرح السؤال على هذا النحو مقصود، إذ به نستهدف استحضار عنوان محاضرة ألقاها ميشيل فوكو سنة 1969 Qu~ est ce qu un auteur? حرص فيها صاحب “الكلمات والأشياء” على أن يطرح السؤال بصيغة “ما هو المؤلف؟”، لا “من هو المؤلف؟”. وتندرج هذه المحاضرة في سياق مناخ فكري شغل فرنسا في تلك اللحظة تمحور حول استبعاد ذاتية المؤلف نقديا. إذ قبله بحوالي سنة نشر رولان بارت مقالته الشهيرة “موت المؤلف”، التي تشترك معها مقالة فوكو في التوجه نفسه، فالصيغة الاستفهامية التي طُرح بها السؤال عند فوكو كافية بحد ذاتها للدلالة على تمويت الماهية الإنسانية للمؤلف واستبعاده. ومما يجدر استحضاره هنا أن هذه المحاضرة كانت استجابة لدعوة قدمتها له الجمعية الفرنسية للفلسفة، وقد نظر إلى الدعوة وقتها بوصفها اعترافا بفيلسوف مابعد حداثي من قبل مؤسسة فكرية تعد معقل التوجه الفلسفي الكلاسيكي الفرنسي، فيلسوف أثار الكثير من الصخب بسبب مخالفته للنزعة التاريخانية والنظرة الكلاسيكية التي هيمنت على الدرس والتاريخ الفلسفي في فرنسا. لكن المفارقة أن عنوان ومحتوى محاضرته كان نقدا لاذعا لهذه المؤسسة وللنموذج المنهجي الذي تمثله،فإن كانت هي قد اعترفت به، فقد جاءها فوكو غير معترف بنهجها في النظر إلى التاريخ الثقافي. حيث جاءها ليؤكد أن المؤلف مجرد اختراع ابتدعته ثقافة القرن السابع عشر، أي أن ميلاده وابتداء كينونته يرجعان إلى هذه اللحظة التاريخية لحظة التأسيس للحداثة - ففيها سيتجه الفكر الغربي إلى نمذجة الخطابات وضبطها بإرجاعها إلى ذوات ألفتها. لكن قبل إلقاء هذه المحاضرة، كان فوكو قد اشتهر بكتابه “الكلمات والأشياء”1969 الذي كان مقاربة “لا تاريخية” لتاريخ الفكر والفلسفة والآداب الأوروبية. حيث انتهج فيه أسلوبا منهجيا يخالف المعهود في قراءة تاريخ الأدب والفكر عامة. فبدل استحضار الشخصيات وتفسير الأعمال/ المؤلفات بإرجاعها إلى حيواتهم، كان فوكو يبحث عن بنيات ونظم معرفية هي المتحكمة في إنتاج الخطاب؛ بنيات تزيح المؤلف من موقعه وتحيله مجرد أداة يستعملها “الإبستمي” أو النظام المعرفي والثقافي السائد. إنه تحليل لتاريخ الأدب والفلسفة بوصفها تاريخ خطابات إنتاجات لغوية فكرية بدون مؤلفيها ومبدعيها. وفي كتابه “أركيولوجية المعرفة” حرص فوكو على تقديم رؤيته المنهجية إلى تاريخ الفكر. فكان عمله من حيث منهاجه الإجرائي كعمل رجل الحفريات، يحفر في طبقات الأرض مع الوعي بأن لكل طبقة خصائصها وبنيتها. وكذلك الشأن بالنسبة لحقب التاريخ الثقافي، حيث يراه مجزأ إلى طبقات كل واحدة منها تخضع لنظام معرفي يتحكم في آليات إنتاج المعنى داخلها. ومن ثم يغدو الاهتمام بدراسة المؤلفين وحيواتهم وربط نتاجهم الفكري/ الأدبي بهم عملا لا قيمة له برسم منهجية فوكو؛ لأن النتاج الفكري/ الأدبي ينضبط في كل لحظة بنظام/ ابستمي سائد، و لا ينضبط بإرادة “مؤلفه”. لقد كان المؤلف في النظريات النقدية الكلاسيكية والحداثية منتج المعنى ومبدع الخطاب، ولذا فقد تمحور النقد الفني حول شخصيته وحام حولها، واتخذ النفاذ إليها مسلكا للنفاذ إلى النص وفهم دلالته. وفي تحليلهم لنظريات موت المؤلف التي التمعت في السبعينات في فرنسا ينبه النقاد والمؤرخون إلى أن هذه النظرية جاءت نقدا حادا وثائرا على الدرس النقدي الجامعي من قبل الفلاسفة الجدد (بارت، فوكو..) حيث كان هذا الدرس خاضعا لتقليد موروث يتأسس على منهج نقدي مستمد من جوستاف لانصون الذي كان يعالج تاريخ الأدب عبر تحليل شخصية المؤلف، وربط فهم دلالة النص/ النتاج بفهم شخصية مبدعه. ولذا يرى المؤرخون أنه ضد هذه المركزية التي كان المؤلف يتمتع بها في النقد والدرس الأدبيين، وضدا على النموذج اللانصوني تحديدا جاءت أفكار بارت وفوكو. بيد أن هذا التحليل في تقديري يغفل عن دلالة أعمق فلم تكن نظرية فوكو وبارت مجرد رد فعل ضد منهج نقدي يتم به تناول تاريخ الأدب في مدرج الجامعات الفرنسية، إنما تمويت المؤلف نظرية أوسع وأعمق من أن تختزل في حدود حقل النقد الأدبي والفني. كما أن الثورة على مركزية المؤلف لا ترجع إلى فوكو وبارت،بل هي فكرة أخذت في الالتماع منذ بداية القرن العشرين ضمن تيارات ومقاربات عديدة من أهمها التيار الشكلاني الروسي. كما أنه من بين الرموز التي تستحق أن تستحضر هنا، ذلك النقد الحاد الذي قدمه بروست ضد سانت بوف. لكن هذا كله يتأطر ضمن مناخ من التحولات الفلسفية التي طرأت على الثقافة الأوروبية، والتي خلخلت مركزية الذات/ العقل، وخاصة نظرية التحليل النفسي الفرويدي التي همشت العقل كليا وأبرزت الأبعاد اللاعقلية في كينونة الإنسان، وأرجعت إليها أسباب الفعل والإبداع. إذ بفعل هذا التفكيك الفلسفي والسيكولوجي أصبحت قصدية المؤلف وذاتيته كينونة لا قيمة لها و لا إرادة و لا تأثير، ومن ثم تهيأ للنقد الفني المسوغات النظرية والفلسفية لإزاحة المؤلف عن عرشه وزحزحة مركزيته التي شغلها في النظريات النقدية الكلاسيكية على اختلافها وتباين توجهاتها. بيد أنها لم تكن زحزحة عادية،بل تطورت إلى حد تمويت المؤلف،واستثنائه من فضاء النقد الأدبي/ الفني. ومن بين المرتكزات النظرية التي ساعدت النقد الأدبي/الفني على التأسيس لموقفه الجذري من المؤلف حتى بلغ إلى درجة النفي والاستبعاد والتمويت، ثمة مرتكز نظري هام تبلور في نظرية اللغة. فقد ارتسم في الفكر الفلسفي واللساني الغربي تحول هام أحدث نقلة في النظر إلى اللغة، فتحول عن اعتبارها مجرد وسيلة إلى اعتبارها نظاما ونسقا يتحكم في الذات. ومن ثم فالمؤلف/ الكاتب في إنجازه لنصه الأدبي ليس حرا و لا مريدا و لا مختارا، إنما هو أداة تستعملها مؤسسة اللغة. ومن هنا يصبح إنتاج الدلالة خاضعا لآليات وأعراف وقوانين خارج إرادة المؤلف، بل متحكمة فيه. ومن ثم فالمسلك إلى دلالة النص لا يمر عبر إرادة المؤلف وشخصيته بل من عوامل خارجة عن إرادته ووعيه القصدي، فالنتاج الفني هو نسق مستقل عن مبدعه. وحتى مفهوم التناص هو في عمقه الفلسفي تأسيس لنفي المؤلف واستبعاد ذاته، فالتناص يحيل النص خطاباً متعدد الأصوات، ومن ثم لا يعود المؤلف هو الصوت الواحد المتداول، بل ثمة مؤلفون متعددون ينطقون داخل نص المؤلف سواء بإرادته أو بضدها. لأن النص مؤسس على نصوص عدة، ويستثمر مخزونا ثقافيا متعددا. من هنا نفهم لماذا ركز بارت في مقالته “موت المؤلف” على استحضار البعد الوظيفي المهيمن للغة، حتى انتهى إلى إرجاع النص الأدبي إلى اللغة لا إلى المؤلف. فلم يعد النص عنده نتاج إبداع لذاتية مؤلفه، بل أصبح نتاج نظام ونسق لغوي. كما أن النص لم يعد نتاجا مقفلا،بل منتجا للدلالات. إن استبعاد المؤلف انتهى إلى توثين اللغة والرفع من شأن النص وفعل القراءة.
_______________ د.الطيب بوعزة [email protected] ____________ * جريدة الخليج - الخليج الثقافي - 13 يونيو 2005
| |
|
|
|
|
|
|
Re: موت المؤلف احتفالية صاخبة باستجابة القاريء - الحسن مختار (Re: Agab Alfaya)
|
موت المؤلف.. احتفالية صاخبة باستجابة القارئ * اعداد: الحسن المختار
عندما عنون ميشل فوكو دراسته عن التحولات التي عرفتها مكانة المؤلف, المبدع, منتج المعنى بهذا السؤال (ما هو المؤلف؟) وليس بالسؤال (من هو المؤلف؟) فإنه كان يقصد بوضوح نزع صفات العقل والوعي والسلطة والسطوة, عن هذا الكائن الذي طالما اعتبر حجر الزاوية في العملية الابداعية, وصاحب الصوت, والسوط ايضاً, المهيمنان على القارئ المتلقي, والذي وصلت الامور في العصر الرومانسي الى اعتباره كائناً مقدساً, لحد دفع الكثير من النقاد الرومانطيقيين الى التركيز عليه, وتجاهل دور القارئ او النص او اللغة نفسها في انتاج المعنى, او اضفاء الدلالة, ونسج البنية السياقية للعمل الأدبي من حيث هو حضور انساني في اللغة.
ومع ترسخ الاتجاهات البنيوية وما بعد البنيوية والتقويضية والنقد الثقافي وقع الاعلان عن (موت المؤلف) وبدأت احتفالية صاخبة بدور القارئ تمجد قدرته على انتاج المعنى وتنظر لاستجابته الخلاقة, ناسية في الوقت نفسه انها تستبدل وصياً على النص بوصي جديد, وان كل ما نزعته عن المؤلف من الشارات والهالات, اذا تم اضفاؤه على القارئ يصبح هو ايضاً, مؤلفاً, وصياً على اللغة وصوتا مهيمناً على ما سواه هذا الى جانب كون الدعوة الى (موت المؤلف) اصلاً تزامنت مع الدعوة الى موت الانسان نفسه بظهور البنيوية (فلسفة موت الانسان) بعبارة جارودي والملاحظات الآتية تسعى للتنبيه الى المسار المفهومي الذي تم بموجبه احلال استجابة القارئ وسلطة النص محل المؤلف, مع ضرب امثلة على ذلك.
الحقيقة ان الحقبة الرومنطيقية اولت المؤلف عناية زائدة اصبح بموجبها الاهتمام بملابسات حياته وسيرته الذاتية يشغل حيزاً كبيراً من الجهد النقدي, وكان أليوت في مقدمة من دعوا لتجاوز هذه المسألة حين رفع شعار (ليس للشاعر شخصية) وهو شعار يكاد يتطابق ــ كما لاحظ سعد البازعي ــ مع مقولة بارت (ان اللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف ان تكتب هو ان تصل الى تلك النقطة حيث اللغة هي التي تفعل وتؤدي وليس الأنا (ضمير المتكلم)).
كما ان المدرسة الشكلانية قد اسهمت ايضاً في الدعوة الى عدم الاهتمام بشخصية المؤلف قدر الاهتمام بالرمز, الا ان ظهور المدرسة البنيوية وما بعدها كان بداية الاعلان الفعلي والحازم عن (موت المؤلف), وان كان ذلك تم بطرق مختلفة شديدة التباين, ففي حين ركز فوكو وبارت على التبشير بنهاية دور المؤلف, فإن جاك دريدالم يذهب هذا المذهب على نحو قاطع وان كان سعي لاحلال مفهوم النص, الكتابة, بديلاً جديداً, هذا في حين واصل ما بعد البنيويون مثل بودريار وجماعة (تيل كيل) وايضاً غلاة نظرية التأويل مثل ريكور واتباعه, والى حد ما رموز الرؤية النصية الجديدة مثل امبرتو ايكو, ودعاة (النقد الثقافي) باعتباره نعياً للنقد الأدبي, او لنقل للنص الأدبي نفسه, على نحو ما سعى جوناثان كولر للبرهنة على ذلك, واصل كل هؤلاء عملية نزع اية سلطة نصية مقدسة عن المؤلف ودوره في انتاج المعنى اذ لم يعد منشئاً له (ولا هو مبدع, ولا هو عبقري, وانما هو مستخدم للغة لم يبتدعها, بل هو ورثها كما ورثها غيره) وبالتالي فلا بد له ان يتنازل للنص وللقارئ الذي يؤول هذا النص, ويستهلك اللغة عن كل قداسة, بل ان النص الادبي من حيث هو فضاء لغوي (انما هو مخزون هائل من الاقتطافات والاشارات التي تنبع من الثقافة وتؤسس بدورها هذه الثقافة فالنص الذي هذا مصدره هو نص متعدد الاصوات بما انه بني من كتابات مختلفة توجد بينها علاقة ما وليس وحدة عضوية مصدرها المؤلف او صوته فالنص مجرد معجم متجانس, تصطف كلماته في تتابعية من العلامات او الاشارات حسب اعراف مقننة, لا يمكن لمؤلف ان يتجاوزها).
ان السؤال المطروح بالنسبة لهؤلاء هو: من يتكلم؟ هل هو المبدع, الشخص, المؤلف (الذات)؟ أم هو اللغة؟ ان اللغة هي من يتحدث على نحو ما أكد فوكو بمقولته المشهورة (يعتقد الناس ان لغتهم هي خادمة لهم في حين انهم هم من يخدمونها, من يقعون في اسرها) ان اللغة بهذا المعنى هي الفاعل الاول والاخير في انتاج المعنى وفي الامساك بخيوط لعبة النص انها تتحدث على ألستنا, تفكر فينا, ولقد قال ليفي ستراوس عن الاسورة قولاً مشابهاً (نحن لا ندعي.. كيف تختلق البشرية اساطيرها, بل بالاحرى كيف تختلق الاساطير نفسها في البشر دون علمهم بها).
ان رفض اتجاهات (النقد الجديد) و(النقد الثقافي) لسلطة المؤلف واحلال سلطة النص, او القارئ او الثقافة بديلاً عنه جاء كرد فعل عنيف وصاخب ضد مقومات النص الكلاسيكي واسسه النقدية القائمة على نظرية المحاكاة (التي تفترض ان النص يعبر عن غاية سامية مصدرها المؤلف ويحمل رسالة جادة تهم خلاص البشرية) وعلى العكس من ذلك ارادت هذه الاتجاهات ما بعد الحداثية ان تنظر لنص بديل هو عملية انتاج وليس موضوع استهلاك وهو (مؤلف من مقتطفات ومرجعيات واحالات وصدى اصوات مختلفة ومن لغات ثقافية متباينة) وهكذا (يكتسب النص تعددية المعنى التي لا تقبل الاختزال, وهو بذلك لا يسعى الى ابراز الحقيقة وانما يسعى الى نشر المعنى وتفجيره) وطبيعي ان ينحسر دور المؤلف كفكرة وكمقولة في مثل هذا النص الجديد وان توكل صلاحياته التأويلية التقليدية اما الى بنية النص نفسه, واما الى القارئ الذي غدا منتجا لا مستهلكاً في عملية انتقام من المؤلف واضحة المعالم.
سادية المؤلف
صحيح ان المؤلف يشغل حيزا هاماً في التقاليد الكلاسيكية, فقد كان شخصية مبجلة, واستراتيجية سماوية محاطة بهالة من التقديس, انه منشئ العمل الادبي, باثه, مبدعه, من يمسك في النهاية بأطراف الخيوط السرية التي تنتسج بموجبها لعبة المعنى وبمقتضاها يصبح للنص حقلاً دلالياً, يحدده المؤلف (اما بما هو مخرج واما بما هو عار للعرائس, واما بما هو ـ كما يقول جيمس جويس ـ كائن علوي محايد ينظف اظافره بصمت).
ويبدو هذا المؤلف واضحاً, نموذجياً في بعض الاعمال الادبية, والروائية خاصة, فيسعى الى تشكيل قراءة قرائه, وتوجيهها, والتدخل فيها, بما يثير من احكام, وما ينصب من فخاخ نصية, وهنا يمكن ان نستذكر مع امبرتو ايكو نموذجاً مثالياً (للمؤلف النموذجي, الذي يتكشف لقرائه بدون حياء منذ الصفحة الاولى فهو يصدر اوامره عما ينبغي ان يشعروا به حتى ولو قصرت الرواية عن التأثير فيهم) وهذا المثال هو بداية رواية (بندقيتي سريعة) لميكي سبيلين الذي يتوجه فيه الخطاب الى القارئ دون مواربة (عندما تجلس مسترخياً على الكرسي بالقرب من المدفأة في منزلك هل فكرت فيما يجري هناك في الخارج؟ ربما لا, انك تأخذ كتاباً فتقرأ عن أشياء وتجني متعة من اشخاص واحداث لم تقع.. متعة أليس كذلك؟) وهكذا يستثمر الحوار بين المؤلف الذي لم يعد ضمنياً وقارئه الذي اصبح موضوعاً لمجموعة املاءات واوامر وكأنه حاضر عياناً أمام المؤلف.
وفي قصة (مقتل روجيرا كرويد) لآجاثا كريستي تصل الامور حد تعرية المؤلف الذي تقمص لسان السارد والقارئ معا فهو يتحدث عن نفسه باسهاب كاشفاً عن كل تفاصيل ذاته وعن عاداته ايضاً في الكتابة (انا فعلاً فخور بنفسي ككاتب) اذ لا شيء يفوق دقة هذه الجملة: (أحضرت الرسائل في الساعة التاسعة الا عشرين دقيقة وحين غادرته كانت الساعة تشير الى التاسعة الا عشر دقائق تماماً ولم تكن الرسالة قد قرئت بعد وتلكأت ويدي لا تزال على مقبض الباب والتفت الى الخلف لأتأكد من انني لم أنس شيئاً مما يجب علي فعله) كل هذه حقيقة كما تلاحظ ولكن ماذا لو اكتفيت بوضع نقاط بعد الجملة الاولى؟ هل سيدفع هذا احداً الى التفكير فيما حدث خلال ذلك الفراغ الذي دام عشر دقائق؟)
ها هنا يمارس المؤلف النموذجي دوره بعيداً عن كل مواربة فهو يشكل بهذه الطريقة او تلك نوعية الاستجابة التي يريد ان تتكون لدى القارئ وهي استجابة هنا تتماشى مع اسلوب القصص البوليسية ولنتذكر مع ايكو ماتلا هذا التعليق (يجب ان اعترف بأنني دهشت فعلاً عندما لقيت باركر خارج الباب, فلقد سجلت هذه الحقيقة بكل حرص, واخيراً وبعد ان اكتشفت الجثة, ارسلت باركر ليهاتف الشرطة واستخدمت كلمات حذرة لاتدينني حين كتبت (عملت الاشياء القليلة) التي يتحتم عليها فعلها) لقد قمت بعملين بسيطين, دست المسجل في حقيبتي واعدت الكرسي الى مكانه بجانب الحائط). وفي السرد القصصي خاصة اذا اراد المؤلف ان يقول كل شيء, ان يمارس الوصاية على المعنى وان يمسك بتلابيب القارىء فإنه يغدو وبسرعة اكثر بلاهة واضحاكا من شخوصه, بل ان عليه ان يكتفي بالتلميح, وان يعترف بقدرة القارىء على انتاج المعنى (فكل نص هو في المحصلة النهائية, آلة كسلى تطلب من القارىء ان يقوم ببعض عملها) وهذه الطريقة التي تترك فضاء ابيض للقارىء يتملاه ويملؤه تبدو اقرب للتشويق خاصة في القصص, ولنتذكر مقطعا من (ارترجوردن بيم) لادغاربو يقول فيه السارد (والان اندفعنا الى الشلال الذي تهيأ لاحتوائنا, وفي نفس اللحظة التي انفتحت امامنا هوة عميقة لتلتهمنا انتصب امامنا مكفن اضخم حجما من اي انسان اخر يعيش بين البشر, ذو جلد ناصع كبياض الثلج) وهنا يتوقف صوت السارد وتسير الاحداث في اتجاه مغاير, ويترك المؤلف للقارىء ان يتخيل من يكون هذا الكائن هل هو رجل الثلج؟ ام الغول؟ ام وحش جزيرة كريت يتسكع في الازقة ويتخطف النساء ام ماذا؟ سيبقى القارىء يفكر ويفكر في هوية هذا الكائن, يعيد انتاجه.
على ان ادغار بو نفسه مارس ايضا وبسادية حضور المؤلف في تبريره لاختياره الغراب وللازمته التي يكررها في (الغراب) وهي كما يترجمها ابو حسين (بعد اليوم ابدا) وذلك بقوله.. (سألت نفسي ما الموضوع الذي يتفق الناس جميعا على انه اكثر الموضوعات اسي وغما؟ (الموت) كانت الاجابة الواضحة, ثم قلت لنفسي: ومتى يكون هذا الاسى والغم اكثر شاعرية؟ ان في ماسبق ان اوضحته بإسهاب اجابة جميلة هو بلاشك اكثر الموضوعات شعرية في العالم وان الشفتين المؤهلتين اكثر من غيرهما لهذا الموضوع, هما بلاشك شفتا محب دمره موت حبيته والان ينبغي على ان امزج الفكرتين معا, محب ينعي حبيبته الميتة, وغراب يردد باستمرار جملة بعد اليوم ابدا.
وهكذا يستدرج المؤلف (ادغاربو) الغراب الى نافذة المحب, ناعيا بلازمته ويستدرج ايضا القارىء مقترحا عليه تأويلا لوجود الغراب, وللازمته وللحيثيات السياقية الاخرى للنص, والاستدراجان معا, تبدو فيهما سلطة المؤلف على انتاج المعنى واضحة, ومثالية, بقدر ماهي سادية تحرم القارىء والنص من الاسهام في وضع قواعد اللعبة: لعبة المعنى.
ـ استجابة القارىء:
في مقابل موت المؤلف التي رسخت بالاساس سلطة النص وتنمية وضمنية اللغة, ظهرت نظرية الاستقبال كنتيجة لتعاظم دور القارىء في انتاج المعنى, وقد اهتمت باستجابة القارىء كثيرا الاتجاهات الالمانية خاصة لوقوعها تحت تأثير الناقد الهولندي رومان انجاردن, وبرز منها خاصة فولفجانج ايزر وهاترياوس, اما في النقد الامريكي فقد برز نورمان هو لاند, وجيرالد برنس, ولئن كان (النقد الجديد) ركز على النص, فإن هؤلاء وسعوا مجال اهتمامهم ليشمل السياق الخارجي بأبعاده المتعددة من انتاج واستقبال وتلقي, وهي التي يأتي القارىء باعتباره مستقبلا ومنتجا ايضا, في مقدمتها سواء اكان قارئا مفترضا ام حقيقيا, مرويا له بعبارة برنس, ام قارئا مثاليا حسب تسمية ستالني فيش وجوناثان كولر.
ومعظم هؤلاء يتفقون على ايلاء القارىء دورا كبيرا في اعطاء العمل الابداعي الذي يقرؤه معنى بعينه, فالنص بهذا المعنى مفتوح دائما على جميع التأويلات المستمرة, والمتغيرة مع كل قراءة, ولهذا يتحول دور القارىء الى دور ايجابي نشط, دور منتج وبان, حيث يشارك (ان لم يتجاوز) الكاتب في انتاج النص انه بعبارة اخرى يقوم بانتاج المعنى في النص, وهذا مايدفع الى اثارة اشكالات واسئلة كثيرة, حول الكيفية التي يبقى بها معنى اي نص مقروءا مرجئا الى افق غير منظور لانه في كل مرة تقع فيها قرائته يتغير معناه ان كان لايزال ـ بهذه الطريقة ـ له معنى موضوعي او دلالي حقيق, هذا دون ان ننسى سؤالا ادهى واكد هو: ما الذي يقرأه القارىء في النص؟ (هل يقوم بإسقاط اهتماماته ورغباته على النص (نورمان هولاند) ام ان النص نفسه يفرز في القارىء هذه الاهتمامات والنتائج؟ هل ما يملي القراءة والاستجابة هو السياق الاجتماعي الايديولوجي او التحيز السياسي ام الحالة النفسية ام الكفاءة القدرة التدريبية المكتسبة؟
كما ان هنالك اسئلة جديدة قديمة: هل المعنى وانتاجه في النص ام لدى القارىء ام عند المؤلف ام خارج الجميع في الفضاء الثقافي ام في اللغة كمؤسسة اجتماعية تتجاوز الجميع؟ كيف يتفق القراء ان قليلا وان كثيرا حول معنى ما في نص معين؟
ومفهوم ان اجابات نقاد نظرية استجابة القارىء متباينة ايضا عن مثل هذه الاسئلة, فهنالك من يعود لاهمية دور النص (لا المؤلف) في تشكيل فهم القارىء وهنالك من يرسخ مركزية القارىء نفسه ويعطيه كل صلاحيات المؤلف والنص معا, فيفتح له افق القراءة, ويوسع صلاحيات التأويل على ان ثمة اتجاها ثالثا يؤكد ان المعنى يتم انتاجه من خلال تفاعل جميع الاطراف وعموم السياقات ومن هذا الاتجاه كولر وفيش وآراؤهما حول التداخل النصوصي, هذا في حين يذهب التأويليون الى ان ما يشكل قراءة القارىء هو (افق التوقعات) بعبارة ياوس اي (مجموعات التوقعات الادبية والثقافية والتي يتسلح بها القارىء (عن وعي اولا وعي) في تناوله للنص وقراءته)و بل ان القراءة ـ حسب آيرز ـ من حيث هي انتاج للمعنى واستشارة للذوق عملية جدلية تبادلية ذات اتجاهين: من القارىء الى النص, ومن النص الى القارىء).
وهنا نصل الى سؤال نحسب ان القارىء ينتظره منذ وقت وهو الى اين؟ الى اين يسير النقد الادبي بعد ان انتقل من موت المؤلف الى سلطة النص, ومن سلطة النص الى مركزية القارىء وسلطته واستجابته؟ ان القارىء الحقيقي وليس ذلك النموذجي او الضمني الذي اختلقه النقاد, انما هو الانسان العادي, وهذا بدوره تشكل طريقته في القراءة والتلقي واستجابته, ثقافته العادية بكل ابعادها النفسية والاجتماعية والانتروبولوجية, وبالتالي فإن دراسة استجابته لاي نص يقرؤه, لايمكن ان تتم عبر النقد الادبي, وانما من خلال (النقد الثقافي) كما نادى به كولر, وبهذه الطريقة يقع الحديث عن (موت النقد الادبي) ايضا, لانه اصبح جزءا من سياق اشمل واوسع هو الفضاء الثقافي العام.
وهكذا تدرجت الامور من موت المؤلف الى موت النص الى موت القارىء, وايضا موت النقد الادبي, مع مجيء (النقد الثقافي) الذي هو بهذا المعنى نعي لكل ممارسة نقدية, وهو نعي يذكر بلازمة غراب ادغاربو (بعد اليوم ابدا).
_______________ * صحيفة البيان الاماراتية - بيان الثقافة - الأحد 30 شعبان 1421هـ 26 نوفمبر 2000-العدد46
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الطيب صالح ورولان بارت وفوكو ، ونظرية موت المؤلف ! (Re: Agab Alfaya)
|
شكرا ابو الزفت علي التكرم برفع البوست ودائما نشوفك فوق .
" .. كان الروائي الفرنسي آلان روب غرييه يعد من رواد ما عرف في الخمسينات والستينات في أوربا ( الرواية الجديدة ) التي كان يظن بأنها تطبيق لما يسمى ( بموت المؤلف ) حيث تتم التضحية بكل ما له معنى وبكل التجارب المشتركة لبنى البشر ويجرد السرد الروائي من تأثير العنصر الإنساني وتصور الأشياء والأحداث كأنها تحدث بمعزل عن إرادة الفرد . حتى الشخصيات ينظر إليها كأشياء وأدوات وأفعال وليست كذوات فاعلة . ففي حوار أجرى مع آلن روب غرييه ونشرته مجلة ( الكرمل ) في عددها رقم 30/1988م أنكر كل ما قيل عن حكاية موت المؤلف والرواية الجديدة وقال أن الأمر لا يعدو أن يكون خدعة سببها رولان بارت وشارك هو نفسه فيها . ويمضي قائلا : " أنني لم أكتب يوما أي شئ إلا عن نفسي " حتى أشـهر رواياته ( الغيرة ) التي كانت مادة لهواة النقد الحداثوى يقول عنها : " البيت الموصوف بدقة هو نفسه إلى حد ما ، ذلك الذي أقمت فيه في فورد دوفرانس ، والرواية كلها تجربة حقيقية عشتها . ولكنى كنت الجار لا الزوج ،.. فالعناصر الواقعية تضاف إلى الأخرى المتخيلة وتتحول إلى شئ مختلف تماما " .
من مقال :"اصداء السيرة الذاتية في ادب الطيب صالح "
سنقدم قراءة تفصيلية لمقال رولان بارت فابقوا معنا
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الطيب صالح ورولان بارت وفوكو ، ونظرية موت المؤلف ! (Re: Agab Alfaya)
|
العجب العجيب...
لا أقوى على حصر اهتماماتك... وكأنك تريد حشر (المطلق)، في جرابك... ولكن الحق معك (....... جرم صغير.... وفيك أنطوى العالم الأكبر)... كنت أود مراسلتك في الطيب ونقد الشعر.. ثم مال القلم وحبره نحو المتنبي واللهجة السودانية.. ولكن لكل قلم (رافع)، ليرسو ذلك المصير (الحتمي)، مع الطيب ورولان بارت..
هذه المقولة، (أنني لم أكتب يوما أي شئ إلا عن نفسي)، بل هذه الآية، فما الوجود سوى إنسان واحد، تشظى، (آلهكم التكاثر)، حتى زرتم المقابر، مقابر اليقين بوحدة هذا الكوكب المترامي الأطراف.....
ففي لحظات الألق الكبرى، تحس بهذه التضخم الأنسي، وبأن (أناك)، احتوت الإطلاق، فترعى بداخلك هذه الأفلاك، والنجوم والمجرات، وتحس حينها بما يدور في الاجساد والجماد... فالطين يسعى ليكون طمام، والطمام تنمي لمعدة الإنسان، ثم تتحول بعقل (المعدة)، لحس وشعور وعاطفة، ثم تتسامى لروح شفيف، وقد نسيت تماما (أصلها كطماطم)، بل كطين...
إنه الوجود كله، يقف في خط سير، من الطين، بل من الهايروجين، بل وأحقر من ذلك (أحقر بدلالاتنانحن، وليس بدلالات المطلق)، وفي صف تطويل نحو الإله..
لي رجعة (يا العجب) صفة واسم... دي طله،
| |
|
|
|
|
|
|
|