دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
Re: اقرأ ! فانت لم تقرأ : موسم الهجرة الي الشمال !!! (Re: Agab Alfaya)
|
التملك هو التكرار والتماثل بالماضي في زمن القص :
لماذا الصراع ؟ لماذا التملك ؟ هل السبب هو الهجرة فقط ؟ إن السبب هو أيضا نوع من التملك زمنه هو زمن يتكرر ويتماثل بذاته ويغيب فيه الزمن كسيرورة ، كزمن له مذاق الحياة المتغيرة والنامية .. يغيب الزمن كحاضر ليس حاضراً إلا حين يبقى ماضيا . هذا النوع من التملك نموذجه الراوي في المقطع الأول من الرواية ، الراوي قبل أن تصيبه الخلخلة وساوره القلق ، الراوي وأهله : الأم ، والأب ، والأخت ، والجد . الراوي وعشيرته : ود الريس ، العمدة ، سعيد التاجر ، حاج أحمد ، بنت مجذوب ، والد حسنة زوجة مصطفى .. (يبقى محجوب شخصية متميزة . شخصية وسطية بين أهل القرية من جهة وبين مصطفى والراوي من جهة ثانية) .
الراوي نموذج لتملك يعيشه أهل القرية وإن كان يختلف عنهم من حيث أنه " مثقف" سافر خارج السودان ليتعلم في لندن ، وبالتالي من حيث أنه يحمل بذرة عانى منها مصطفى . لذلك نرى أن الراوي هو نموذج لهذا النوع من التملك – قبل أن يصيبه القلق – وليس نموذجاً لنوعية هذه الشخصيات التي لا يصيبها قلق مصطفى ، ولا تعيش معاناته في التملك ، والتي في ما هي تمارس تملكها تمارس أيضا حياتها المختلفة وتؤدي دلالات متميزة في الرواية (1) .
ما يهمنا هنا هو هذا النوع من التملك وليس الشخصيات بذاتها ، لذلك سيتركز كلامنا على الراوي كنموذج لهذا التملك :
تبدأ الرواية في مقطعها الأول بإعلان الراوي عن عودته ، يقول : " عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة ، سبعة أعوام على وجه التحديد ، كنت خلالها في أوروبا . تعلمت الكثير وغاب عني الكثير . لكن تلك قصة أخرى " (ص 5) .
في هذا القول الذي تبدأ به الأسطر الأولى من " موسم الهجرة إلى الشمال" ، يؤكد الكاتب وعلى لسان الراوي ، على أكثر من نقطة ندرك أهميتها التقعيدية في الصفحات اللاحقة حين يبدأ السرد متناولاً هجرة مصطفى ، ما هي هذه النقاط ؟
- إن الراوي هنا حريص على تحديد مدة الغيبة التي هي 7 سنوات ، وعلى التعبير عن إحساسه بأنها طويلة ، الغيبة كانت في أوروبا ، أي حيث كان مصطفى سعيد – كما نعلم ذلك في ما بعد – كما كانت للغاية نفسها أي للتعلم .
مواصفات البعاد عن الوطن وظروف هذا البعاد بالنسبة للراوي ولمصطفى واحدة . ومع هذا فإن بعاد الراوي هو غيبة وليس هجرة كبعاد مصطفى ، الراوي يكتفي بالإشارة السريعة إلى هذه الغيبة ، أسطر معدودة ، مجرد مدخل للكلام على شيء آخر ، على ما هو عكس الغيبة ، أي على العودة إلى البلد . لم يرو الراوي قصة غيابه ، بل أن غيابه في نظره هو " قصة أخرى " ليس مكانها هنا . ما مكانه هنا هو العودة إلى الأهل واستعادة العلاقة بهم .
ونحن نلاحظ أن المدة التي قضاها الراوي في أوروبا لا حضور لها ، على طولها ، في زمن الحاضر الروائي ، وهي مدة زمنية لا تحمل معنى الغربة ولا تكسر زمن انتماء الراوي إلى قريته كما لا تهدم إحساسه بهذا الانتماء . كأن هذه المدة هي زمن خارج الزمن . أو كأنها فقط زمن جغرافي إذا صح التعبير ، أو مكان لا زمان له ولا تاريخ . مكان مفرغ وقائم خارج الزمن ، هكذا ، وبمجرد العودة إلى القرية ، إليها كزمن سابق يسقط المكان الغربي ويسقط زمانه . إن زمن القرية هو بالنسبة للراوي ، التاريخي الأصيل ، وهو المحمول معه إلى هناك ، يحتله . يحتل الراوي ويملأ مكانيته . وهو فقط الزمن عنده .
كان الراوي يحمل زمنه في بعده المكاني ، وكان زمنه هذا حاضراً في المكاني يلغيه ، وهو في حضوره أليف وداخلي ، حميمي ومعاش أي هو " حقيقي" . هكذا وحين حملت لحظة اللقاء عند العودة ، وهم الانقطاع عن هؤلاء الناس الذين عاد إليهم ، عن مكانهم وزمانهم ، لم يكن لهذا الوهم إلا أن يتلاشى ، وأن يفسخ مجالا لهذا الذي كان ، للماضي ، أن يستمر . وهم الانقطاع يترك مكانه للقاء هو الحقيقي ، الحاضر يترك مكانه للماضي . الخارج للداخل . يسقط زمن الخارج مكانياً مفرغا ويستمر زمن الداخل مكانياً حقيقة .
سقوط زمن الخارج عند الراوي تبعه غياب مكانه في الرواية كلها . لا ذكر لمشهد أو حديث يرتبط بالخارج الذي هو الغرب . لا ذاكرة عند الراوي لحدث ما ، لحوار ما ، لرؤية ما في هذا المكان وزمانه (1)
ليست العودة إلا لحظة استمرار ما كان مستمراً . لحظة ذاب فيها ثلج المكان الـ (هناك) ، وراح الضباب . لحظة زال فيها وهم المسافة وتأكد فيها الراوي أن القرية والعشيرة يملأون ، حقاً ، فضاءه الداخلي كله . يقول معبراً عن ذلك : " لم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجاً يذوب في مخيلتي ، فلكأنني مقرور طلعت عليه الشمس . ذاك دفء الحياة في العشيرة ، فقدته زمنا في بلاد " تموت من البرد حيتانها" . تعودت أذناي أصواتهم ، وألفت عيناي أشكالهم من كثرة ما فكرت فيهم في الغيبة ، قام بيني وبينهم شيء مثلا الضباب ، أول وهلة رأيتهم ، لكن الضباب راح " (ص 5) .
راح الضباب بسرعة ، في يوم وصوله الثاني (1) استعاد الراوي إحساسه بكل تفاصيل الحياة في القرية : الفراش في الغرفة . الجدران التي تشهد على ترهات حياته في طفولته ومطلع شبابه . صوت الريح في النخيل المتميز عن صوت الريح في حقول القمح ... أناس القرية وكل ما يخصهم .
هذا الإحساس يشكل شرعية التملك ، إنه أساسه ومنطقه الذي يستمر به ، به تولد الطمأنينة وتستقر وتركن إلى زمن هو زمنها.
في هذا المناخ المشاعري ينبت معنى الأصالة . الراوي يرى نفسه في مرآة زمنه. يرى انعكاس الذات للذات والزمن للزمن والقرية للقرية والأهل للأهل .. كل شيء هو نفسه وهو " مخلوق أصيل " (ص 6) . لم يتغير شيء ، كما في الماضي جاءت أمه " تحمل الشاي " أو كما في لغة النسبة إلى الذات : " ... جاءت أمي تحمل الشاي . وفرغ أبي من صلاته وأوراده فجاء . وجاءت أختي ، وجاء أخواي ، وجلسنا نشرب الشاي ونتحدث ، شأننا منذ تفتحت عيناي على الحياة . نعم ، الحياة طيبة ، والدينا كحالها لم تتغير " (ص 6 – إشارة التأكيد لـ : ي العيد) ، استمرار الزمن كما هو واضح في تعبير : " شأننا" و " كحالها" .
سبعة أعوام قبل هذه العودة . سبعة أعوام هي زمن مضى ولكن لا حضور هنا ، بل إن ما هو حاضر هو زمن هذا (الما قبل) . زمن الماضي ، وكأن هذه الأعوام السبعة هي أعوام بلا زمن ، بلا تاريخ . حين يحضر هذا (الما قبل) يحضر كاستمرار لا كسر فيه ولا تغير . هل هو الماضي الذي يستمر إذا أم أن الحاضر هو الذي يتماثل بالماضي ؟ وأي حاضر هذا الذي لا حضور للمتغير فيه ؟ أين هي أحداث عام 1898 ؟ وأين هو أثرها في هذا الزمن الحاضر ؟ أين هي اللغة وأين هي الثقافة خضوعهما لهذه الأحداث ؟
وفي وعي الراوي يهيمن أمر واحد هو الإحساس بـ " الاستقرار" . الاستقرار هو الاستمرار وهو التكامل (ص 9) . الإحساس هذا هو كناية عن تملك زمن متماثل بذاته ، زمن جوهري ، مقدس ، مطلق ، يتكرر ويستمر من داخل . إنه زمن لا تاريخي . زمن اللاتغير واللاسيرورة هذا هو الزمن الذي يطمئن إليه الراوي ضد زمن آخر لا حضور له حتى الآن عنده .
يرتبط وعي الراوي ، في انمائه لهذا الزمن ، برموز تعبر عن الماضوية : الأم ، الأب – الجد .. ويغرق في حنين عارم إلى الطفولة . نرى إلى هذه الرموز بشكل واضح في زمن العودة في بداية الرواية . فحين يعود الراوي يعيد صلته " بالناس والأشياء بالقرية " (ص ، يشعر أنه سعيد ويرى إلى نفسه " كطفل يرى وجهه في المرآة لأول مرة " . يفرح الراوي بعودة البراءة إليه ، براءة الطفولة وهي تعي ذاتها لأول مرة في صفاء كلي هو صفاء الذات قبل أن تتعامل ، بوعي ، مع حركة الزمن ، أو قبل أن تكون في الزمن وعياً له . إنها الذات النقية التي لم تراكم فيها الحياة بعد ، ما يقيم داخلها المسافة ، وما يجعل النظر إلى المرآة أكثر من انعكاس ، أكثر من صورة تحاكي المثل . هي الذات الطفلة المنفلتة من عبء الوعي الذي يقوم المجتمع ، أو من عبء الصراع فيه وما يمكن أن يكون تأنيبا ومحاسبة وإثما داخله .
هذه الذات ، ذات الطفولة بما هي صفاء وبراءة ، هي هنا ذات الراوي في امتلاكه لزمنه اللاتاريخي . الراوي هو طفل أو رجل يتنفس الطفولة ، يعيشها سلوكاً سمته السعادة . نراه طوع أمه التي " كانت له بالمرصاد ، حسب قوله ، والتي يستمر الآن في حضانتها فاقداً استقلالية الرجل ، تاركاً لها – كما الأطفال ، زمام وقته بل ونفسه ، لا رغبات عنده تعترض على ما تقوده إليه . سلساً ، مطواعا تسوسه وتذهب به لاداء ما اعتاده أهل القرية من واجبات.
يذهب الراوي في اتجاه الماضي . صوت الماضي مصدر نشوة هي عنده نشوة الطمأنينة ، يوغل بعيداً في هذا الاتجاه . يذهب إلى الجد ليحدثه " عن الحياة قبل أربعين عاما ، قبل خمسين عاما ، لا بل ثمانين " (ص 9) . يتزنر بالماضي ضد الآتي . يمتلك الحاضر بصوت الماضي . يقبع في حوض زمن مستقر يقوي " إحساسي بالأمن " (ص 9) .
في هذا كله يبقى الراوي واحداً من أهل القرية ، يندمج فيهم ، يرى رؤياهم ويعيش حياتهم بكل قيمها ومثلها . لم تغيره السنوات السبع ، لم تغير الثقافة ، التي حصلها في لندن ، نظرته إلى هذه الحياة في بلده ، بل هو ما زال يسعى إليها كما هي ، يريدها ويتعشقها في سكونها وثباتها.
ولكن ما هي هذه الثقافة التي تلقاها الراوي في غيبته ؟ هل هي ثقافة تغير زاوية رؤياه وتجعله يطلب التغيير ويبادر إلى فعل ما ينهض بحياة القرية ؟ أم هي ثقافة تستمر بزاوية الرؤية نفسها ؟ هل تمكنه هذه الثقافة أن يرى إلى حياتهم بعين فاحصة معاينة ومتسائلة ؟ بعين ترى إلى الـ (ما بعد) في الزمن ، أم هي ثقافة تتأطر في الـ ( ما قبل) منه ؟ يقول الراوي مخاطبا مصطفى سعيد ، متكلفا إظهارا التواضع في كلامه :
" ثلاثة أعوام ، أ،قب في حياة شاعر مغمور من شعراء الإنكليز " (ص 12) وهذا معناه ، بالنسبة لنا ، ثلاثة أعوام من التحصيل الذي لا يثمر ولا يمكنه أن يثمر سوى الرغبة في الإدعاء . فحين يسأل مصطفى الراوي عن أسم شهادته ، يقول هذا الأخير في نفسه : " يقول لي ماذا تسمونها ؟ لم يعجبني ذلك فقد كنت أحس أن الملايين العشرة في القطر كلهم سمعوا بانتصاري " (ص 12) .
في هذا تبدو الثقافة ، عند الراوي ، معادلا للحصول على لقب ، وهي تنقيب يقتصر على حياة شاعر وهو في نهاية الأمر شاعر مغمور ومن شعراء الإنكليز ، والثقافة هذه لا تعني القرية ولا أهلها ولا حتى الراوي ، بل هي تعني أمرا واحدا : الشهادة واللقب ، أي لا شيء يضيف ويغير ، لا شيء سوى تمويه الثقافة . أو ثقافة اللا ثقافة .
هذا النوع من الثقافة الواجهة هو الذي لم يغير هوية التملك عند الراوي وربما هو الذي يفسر استمرار الماضي زمنا متكررا متماثلا بذاته . وعليه نسأل : هل يشكل هذا النوع من الثقافة عاملاً محدداً لمفهوم التملك ويفسر زمنه اللاتاريخي ؟ سؤال نطرحه حول إمكانية دلالة تقدمها الرواية ونترك الإجابة عليه أو تأكيد الإجابة عليه لسياق البحث نفسه فلربما أضموه .
في الحوار الذي دار بين الراوي ومصطفى سعيد يظهر هذا الحد بين ثقافة كل منهما ، يقول مصطفى جازما وواضحاً :
" نحن هنا لا حاجة لنا بالشعر " .
يتقدم مصطفى كوعي آخر يكشف وعي الراوي . الراوي نموذج (1) من الوعي يتملك زمنه كزمن ماضوي . مجموعة من القيم تكون هذا النموذج في المقطع الأول من " موسم الهجرة على الشمال" : الطمأنينة ، الاستقرار ، الأمن ، التكامل ، الأصالة تجد هذه القيم لغتها في الرواية ، فالغيبة عند الراوي المسكون بماضويته ليست هجرة ، كما هي عند مصطفى . والدفء هو دفء العشيرة وليس دفء المرأة مثلا . والثقافة هي شهادة الدكتوراه أي ما يبقيه استمرارا لثقافة سابقة أو للإثقافة سابقة وليس هي – أي هذه الثقافة – ما يغيره .
التملك بزمنه هذا الذي هو ماضوي يشكل في المقطع الأول زمن القص من حيث هو زمن الحاضر الروائي . لا حضور بعد لزمن الوقائع في هذا المقطع ، فالسرد الروائي يقوم فيه بزمن القص ولا يقوم بزمن الوقائع أو بكليهما معا كما هو الحالي في المقطع الثاني . بذلك يبدو زمن القص في سرديته كأنه زمن التملك .
التملك هو التميز والآتي في زمن القص : غير أن زمن القص في هذا المقطع الأول ليس هو زمن لتملك واحد أو لنوع واحد من التملك . بل هو زمن لنوعين من التملك : تملك الراوي الذي أوردنا وتملك مصطفى سعيد الذي سنعرض (1) ، أي أن زمن الحاضر الروائي الذي هو زمن لتملك الراوي ماضوي هو أيضا زمن لتملك مصطفى لوطنه لا ماضوي ، كيف ؟
إن مصطفى سعيد الذي يعده أهل القرية غريبا من حيث علاقته بهذا الزمن. ليس هو كذلك في رؤيته لنفسه . مصطفى سعيد يرى ، ولا نقول يحس أو يظن ، أن هذا الزمن هو زمنه ، وأن غربته فيه لا تعني سوى تملكه المختلف للوطن ، غربته هي اختلاف تملكه عن التملك الذي يمثله الراوي أو الذي يعيشه . والراوي الذي ينظر إلى مصطفى سعيد كغريب يبدو هو الغريب من موقع نظرة هذا الأخير لمعنى التملك . حين يقول مصطفى للراوي : " نحن هنا لا حاجة لنا بالشعر " (ص 13) يقول الراوي في سره : " أنظر كيف يقول " نحن" ولا يشملني بها ، مع العلم بأن البلد بلدي ، وهو ، لا أنا – الغريب " ..
إن " نحن" مصطفى هي نحن الانتماء الجماعي . الانتماء المدرك ، المفكر والواعي لحاجات القرية . أما غربته فهي ، مع هذه النحن ومع هذا الانتماء ، مسافة الاختلاف ومسافة العين الرائية إلى المستقبل ، الباحثة عن سبل الوصول إليه.
" لو أنك درست علم الزراعة أو الهندسة أو الطب لكان خيراً " (ص 13) إن العلوم التي تحدث تغيراً مادياً في وضعية المجتمع هي خير ، في نظر مصطفى ، لأنها هي التي تحتاجها القرية لتنتقل إلى زمن آخر ، وهي بذلك السبيل الضروري لرفعة الوطن.
" إنما العلم (ولنلاحظ أنه لم يقل الثقافة مثلا) مهما كان ، ضروري لرفعة الوطن " (ص 13) . العلم ، لا الأدب ولا الشعر – العلم بشكل عام ، هو المعادل لفكر آخر ولثقافة أخرى في زمن آخر مغاير للذي كان وللذي يستمر به الراوي.
نمطان من التفكير يتمايزان في هذا الحوار بين الراوي ومصطفى على مستوى اللفظ كلغة وعلى مستوى الزمن . معجم الراوي اللفظي يتسم بالمحلية والضيق والماضوية ، يقول : " أبي" ، " جدي" . " البلد بلدي" و" أهل بلدنا" و " مكاني" و"دارنا" . أما معجم مصطفى فيتسم بالشمولية والعمومية والمستقبلية ، فهو يتحدث عن " الوطن " وعن " العلم" و" القرية " و " الحقل" و " الناس" و" المكان" و " الحياة في هذا البلد" .
مصطفى سعيد هو الفكر الذي يحتاجه أهل القرية الذين مازالوا يعملون بعفوية وفوضى . حين احتد النقاش بين أفراد " لجنة المشروع الزراعي" حول مسألة توزيع الماء على الحقول . هب مصطفى واقفا ، و " هدأ اللغط واستمعوا إليه باحترام زائد... ولما فرغ من كلامه هز أغلب أعضاء اللجنة رؤوسهم استحساناً . وصمت من عناهم الكلام" . (ص 16) .
هذا هو مصطفى سعيد ، رجل كما يقول الراوي " من عجينة أخرى" رجل يمتلك الوطن من موقع مختلف. شخص يريد ويختار. لا يعود حين يعود من سفره إلى بلده أو قريته بل يختار هذه القرية . وهو في حاضره الذي يعيش لا يتذكر الماضي. ولا يعبر عن حنين إليه ولا يتكلم عن أهله وعندما يحكي قصته للراوي ، في ما بعد ، إنما يمارس فعل الإخبار ، وهو حين يصل إلى الحديث عن علاقته بأمه يقول : " كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق" (ص 23) . مصطفى مستقل عن أمه أو عن الأم رمز الارتباط بالماضي ، بالطفولة ، بالرحم وبزمن الولادة . مستقل حتى كأنه إنسان مقطوع عن الماضي والأهل ، مقطوع حتى الاتهام بالغربة بل وبالجريمة . يقول الراوي في محاولة منه لتفسير وضعية مصطفى : " لعل الرجل قتل أحداً في مكان ما وفر من السجن " (ص 20) .
غربة مصطفى عن الماضي هي غربته عن أناس يعيشون زمن الماضي في الحاضر . هكذا يبرز السؤال : هل مصطفى سعيد غريب عن وطنه أو عن زمن يعيشه أناس وطنه ؟ .
مصطفى سعيد يعيش زمنا آخر ، وهو يمتلك هذا الزمن حاضرا مختلفا يمتلكه فكرا ووعيا وعلما ويمارس ، في هذه القرية ، التي أختار وأراد ، انتاج هذا الزمن واقعا ماديا اجتماعيا . وربما ، لذلك ، يضع فترة من حياته ، هي التي عاشها في لندن ، موضع الخفاء والسرية.
هكذا يبدو مصطفى في المقطع الأول من " موسم الهجرة إلى الشمال" شخصا يمتلك زمنه ووطنه ، يمتلكهما زمنا للقص ، للحاضر الروائي ، زمنا ينهض السرد به كما ينهض بامتلاك الراوي لبلده وأهله .
في هذا الضوء يمكننا القول أن الطيب صالح يقدم لنا في هذا المقطع الأول من روايته نموذجين لتملك الوطن كلاهما ينهض في زمن القص ، في الحاضر الروائي ولكن :
الأول يمتلك الوطن زمنا ماضيا ولذلك فهو ليس غريبا فيه . التملك هنا هو إعدام لزمن الحاضر أو نفي له.
الثاني يمتلك الوطن زمنا ليس ماضيا ولا بعد حاضرا لذلك فهو غريب فيه.
التملك هنا انتاج لهذا الزمن.
بذلك تكتسب الغربة دلالتها في النسيج الروائي وليس في المواقع المكانية. الغربة وعدمها هي علاقة بالزمن. وإذ ينهض هذان النوعان من التملك في الزمن الروائي المتخيل إنما يوحي الأول (التماثل بالماضي) بوهمه لأنه اللاتملك ، ويوحي الثاني بحقيقته لأنه الرغبة والفعل (انتاج الحاضر) .
اللا غريب هو الوهمي ، والغريب هو الحقيقي . والوهمي والحقيقي ليسا كذلك إلا من حيث علاقتهما بالزمن الروائي ، بعالمه وبالفضاء فيه . وهما خارج هذا الفضاء الروائي عكس ما هما فيه. خارج هذا الفضاء . الوهمي (اللاتملك) هو الحقيقي والحقيقي (التملك) هو الوهمي . هكذا يتميز السرد الروائي في " موسم الهجرة إلى الشمال " بقدرته على انتاج دلالاته أو على خلق عالم داخلي مختلف بما يقول ، وهو في اختلافه يضيء عالم الخارج – عالم الواقع الاجتماعي – ويبقى مضاء به.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اقرأ ! فانت لم تقرأ : موسم الهجرة الي الشمال !!! (Re: Agab Alfaya)
|
- زمن الوقائع هو زمن اهتزاز التملك وزمن الصراع:
في نهاية المقطع الأول يترك السرد زمن القص ، زمن الحاضر الروائي وينفتح على زمن آخر هو هنا زمن الوقائع ، زمن الماضي ، ولكن هذا الماضي ليس أي ماض ، بل هو ماضي هجرة مصطفى ، ماضي تحصيله الثقافي . الماضي الذي يفسر غربته.
في المقطع الأول ينفتح زمن القص أيضا على ماض آخر هو ماضي الراوي الذي يفسر عدم غربته . هذا الماضي هو طفولة الراوي ، وليس سفره . هو ما قبل سفره . ينفتح زمن القص على ماضي الراوي تذكراً ، إطلالاً لا يشكل كسراً في زمن القص ، ذلك أن هذا التذكر يندرج في زمن القص وكأن زمن القص استمرار لهذا التذكر يسقط منه السفر . بينما ينفتح زمن القص على ماضي مصطفى سعيد لا تذكراً بل انتقالاً . ينكسر السرد ، لا يعود قصاً حاضراً بل يصير حكاية عن ماض ، عن وقائع وأحداث ، عن سيرة شخصية . في هذه الـ (عن) ومعها تتمايز شخصية مصطفى: مصطفى السيرة . الوقائع . ومصطفى الشخصية الحاضرة الناطقة مباشرة . لغة الشخصية الأولى : النص المكتوب ولغة الشخصية الثانية : النص الكلام . مصطفى الثاني يبدأ بالحكاية عن مصطفى الأول ، يحكي للراوي ويحكي الراوي لنا . مع هذا الانتقال تبدو الرواية كأنها رواية عن هجرة مصطفى فتتقدم " الهجرة" إلى عنوانها .
التملك . انقلاب المعادلة وإعادتها
غربة مصطفى سعيد هي المفارقة ، هي المشكلة وهي السر . يصر الراوي على معرفة هذا السر. يطرح السؤال حوله ومع طرح السؤال تبدأ طريق المعرفة التي هي طريق الدخول إلى عالم مصطفى ، إلى زمنه الذي ينكشف فيه السر. السر قائم في الوقائعي وليس في أحاسيس مصطفى ولا في نفسيته . الوقائعي حكاية يبدأها مصطفى أو تبدأ من تاريخ ولادته.
يُبرز مصطفى سعيد وثيقة ميلاده في نهاية المقطع الأول أي في نقطة الانتقال من زمن القص إلى زمن الوقائع . ثم يبدأ مصطفى هذا الزمن ، زمن الوقائع ، قائلاً " إنها قصة طويلة" . القصة الطويلة هي ما حدث لمصطفى ، هي ما وقع له وهي بذلك تكتسب طابع الحقيقي.
عام 1898 هو عام ولادة مصطفى ، تخبر به وثيقة الميلاد وليس كلام مصطفى الشفوي . وهو أيضا عام ولادة الكسر في زمن السودان وفي تاريخها . جاء في أوراق مصطفى سعيد (أي في مدوناته التي أوصى بها للراوي بعد وفاته) ، التي قرأها الراوي وحكى لنا عنها ، أنه " حين جيء لكتشنر بمحمود ود أحمد وهو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعه أتبرأ ، قال له : لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب ؟ " الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض ، وصاحب الأرض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا" (ص 97)
من هو كتشنر ؟ أنه قائد القوت الإنكليزية التي اجتاحت السودان يوم ميلاد مصطفى. ميلاد مصطفى هو رمز ولادة الكسر في تاريخ البلد. ومصطفى هو رمز زمن السودان بعد هذا الكسر ، الكسر في زمن السودان عبر عنه الطيب صالح في روايته ككسر في زمن الانتماء إلى الوطن. إنه زمن انقلاب معادلة الانتماء بين الغريب وأبن الوطن. بين المستعمر والمستعمر . بين الغرب المستعمر وبين الشرق المستعمر. وهو انقلاب علاقة التملك بينهما . الغريب هو الآن السوداني . هو الداخل . الغربي الخارج هو الآن صاحب الأرض أو مالكها.
لقد انقلبت المعادلة ومصطفى سعيد في الرواية ، بل في الزمن الوقائعي فيها ، يعيش عملية إعادتها. ولكن مصطفى لا يعيد هذه المعادلة بتغييب التاريخي منها. فهو لا يمكنه أن يفعل ذلك ، لا يمكنه أن يفعل كما فعل الراوي فيستمر مثله بزمن ماضيه ، يكرره ويماثل الحاضر به . لا يمكنه أن يلغي فعله الثقافي ولا يمكنه إلا أن يكون زمنه . كيف يمكن لمصطفى أن يلغي حضور الغرب الذي هو حضور تاريخي. كيف يمكنه أن يلغي هجرته التي هي تغير زمنه الداخلي ، تغير زمن رؤياه ونظرته وعلاقته بالوطن ، والتي هي أيضا زمن تملك آخر له ؟
عملية إعادة المعادلة لم تكن عملية سهلة ، لا بسبب هذا التاريخ فقط . بل لأن انقلاب المعادلة كان فعلاً ملتبساً أيضا . فعلاً يتقدم إلى الواجهة على غير حقيقته . كان يتقدم لوعي الناس فعلاً ثقافياً يخفي السياسي فيه . كان يتقدم كفعل تحضيري . إن " بروفسور ماكسول فستركين ، وهو من المؤسسين لحركة التسلح الخلقي في اكسفورد وماسوني وعضو في اللجنة العليا لمؤتمر الجمعيات التبشيرية البروتستنتية في إفريقيا " . كان يقول لمصطفى سعيد أيام تتلمذه عليه في أكسفورد : " أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في إفريقيا عديمة الجدوى" (ص 96) . الغرب جاء بمهمة حضارية لا استعمارية . هذه هي الواجهة ، لذلك فإن إعادة المعادلة في هذه الوضعية التاريخية كان يعني كشف حقيقة هذه المهمة ، حقيقة الفعل الثقافي وفضح الالتباس فيه . وهذا يعني بالنسبة لمصطفى سعيد القدرة على الخروج من هذه الثقافة وهو يتكون فيها ، أو بلورة وعي له فيها يتجاوزها ، يتملكها ويتحرر منها . يقول مصطفى : ط لقد انشأو المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم " (ص 9 . وهو يريد أن يتعلم في هذه المدارس (كواقع) كيف يقول لا بلغته . على حد هذه المغايرة في تملك الثقافة ينهض الصراع في الثقافة . الثقافة في رواية الطيب صالح تبدو فعلاً مساعداً مزدوج الوظيفة.
- الثقافة سبب الهجرة والغربة. - الثقافة سبيلا لتحرر من هذه الهجرة والغربة أي سبيل العودة للوطن ، لتملكه المختلف أي لتملكه في حاضر تاريخي ، إن تملك الراوي للوطن هو تملك واهم لأنه في حقيقته ليس إلا استمراراً متكرراً بالماضي ، إنه إلغاء للوطن في التاريخ.
التملك صراع على مستوى الثقافة يكشف السياسي
من هنا يبدو فعل مصطفى فعلاً معقداً ، متناقضاً . فهو في محاولته تملك وطنه لا يعاني مسألة إعادة المعادلة المقلوبة وحسب ، بل أيضا مسألة مفهوم آخر لهذا التملك (يمثله الراوي) مفهوم يستند إلى نوع آخر من الثقافة ، أقل ما يقال عنه ، وحسب رأي مصطفى سعيد في الرواية ، أنه ثقافة غير علمية . وهو في تملكه لثقافة تساعده على تملك وطنه يعاني مسألة مجابهة هذه الثقافة . ذلك أن للثقافة أوجهها وميادينها . حين جاء الغرب المتحضر بثقافته جاء بأوجه منها وميادين تعلم ، وكما يقول مصطفى : " كيف نقول نعم" . ولكن الثقافة حين تنفتح على أبواب منها لا يمنها أن تنغلق على أخرى ، وهي حين تقدم المعرفة لا تستطيع أن تلغي المواقع الاجتماعية التي منها نمتلك هذه المعرفة . من هذه المواقع ينهض الصراع الثقافي ويتشكل السياسي فيها . " نفس الطاقة العاطفية المتطرفة تتجه إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار ، لو أنه فقط تفرغ للعلم لوجد أصدقاء حقيقيين من جميع الأجناس " (ص 162) . هذا ما يقوله رجل انكليزي عن مصطفى أو عن توجهه الثقافي .
" الطاقة العاطفية" ، في نظرنا ، هي قوة الاحاسيس التي ترتبط بما يرى الإنسان ويعيش ويطمح ، وهي ما يشده أو يدفعه لإعادة انتاج عيشه بما يتلاءم وحاجاته المحددة بموقعه في محيطه الاجتماعي ، أي بما يخلق توازنه وقدرته على التجاوز. والطاقة هي ما يكون تحفزه ودينامية نمو وعيه . مصطفى مشحون بهذه الطاقة ومشدود برغبة تملك الوطن. وطنه . وهو متجه في تحصيله الثقافي – العلمي اتجاه ما يخوله هذا التملك . لعله اكتشف في هذه الثقافة اتجاها يمينيا فذهب ضده ، ولعل الرجل الانكليزي يهاجم الاتجاهين كي يهاجم واحداً .
من هذا المنطلق يرى الرجل الإنكليزي أن " علم الاقتصاد" هو عبارة عن جمع الأرقام وتنظيم الجداول . أي مجرد إحصائيات لا حق لها بالتأويل أو بالترجمة السياسية للأرقام ، أو رمبا حق لعلم الاقتصاد مثل هذه الترجمة السياسية ، فقط ، حين تتم وفقا للمنظور الاستعماري أو وفقا لما ينجح " المهمة الحضارية" ويرسخ علاقة التبعية للغرب . خارج هذا المنظور يجب أن يقى " علم الاقتصاد" علما آليا ، محنطا ، بارداً . علما لا يصل به البحث إلى حرارة الدلالة ونار المعرفة الكاشفة لفعل الاستغلال .
غير أن مصطفى سعيد لم يكن يفهم علم الاقتصاد كذلك ، وهذا ما دعا الرجل الإنكليزي إلى نقده بالقول : " إنني قرأت بعض ما كتب عما أسماه اقتصاد الاستعمار" (ص 61) . اقتصاد الاستعمار . هنا بيت القصيد وموضع الخلاف . اقتصاد الاستعمار – والتسمية طبعا لمصطفى – ليس هو الاقتصاد . الاقتصاد يجب أن يكون – حسب الرجل الإنكليزي طبعا – شيئا آخر وإلا ما كان علما . الاقتصاد علم حين لا يكون اقتصاد الاستعمار ، أو حين يغيب منه المفهوم الاستعماري . من هذا المنطق الذي يكشف موقعا إيديولوجيا في العلاقة الثقافية ، يقوم الرجل الإنكليزي أعمال مصطفى وفكره ، فيقول : " إن الصفة الغالبة على كتاباته أن إحصائياته لم يكن يوثق بها" (ص 61) . أما الإحصائيات التي يوثق بها فهي : في نظر هذا الرجل ، الأرقام التي يكتفي الاقتصادي فيها بتحديد " العلاقة بين حقيقة وأخرى ، بين رقم وآخر . أما أن تجعل الأرقم تقول شيئا دون آخر ، فذلك شأن الحكام ورجال السياسة " .ثم يتابع الرجل الإنكليزي حواره مع الراوي حتى يصل إلى الاستنتاج التالي : " الدنيا ليست في حاجة إلى مزيد من رجال السياسة . لا ، مصطفى سعيد هذا لم يكن اقتصاديا يوثق به " (ص 61/62) .
إن جعل الأرقام تتكلم وتقول دلالتها هو أمر ليس من شأن الاقتصادي بل من شأن رجل السياسة . ورجل السياسة المعني هو الحاكم . أما الاقتصادي فعليه أن يتبع السياسي . الاقتصادي يجب ، وحسب هذا المنطق ، أن يكون في خدمة السياسة الحاكمة . أما حين يكشف الاقتصاد السياسي الحاكم من موقع سياسي آخر فإنه لا يعود علما . هكذا يجب فصل العلم عن السياسة حين لا يكون العلم موظفا لخدمة السلطة الحاكمة . لا حرصا على العلم بل حتى لا ينهض العلم بسياسة النقيض الذي ترى أنه هو العلمي .
هذا هو الموقف الأيديولوجي الذي نقرأ في الرواية والحاضر في الثقافة فيها ، والذي به يجب أن يحصل مصطفى ثقافته ، ولو فعل ذلك لكان " قطعا سيعود وينفع بعلمه هذا البلد الذي تتحكم فيه الخرافات " ، كما يقول الرجل الإنكليزي (ص 62) .
بهذا المفهوم للعلم حاول المستعمر إخفاء السياسي في الثقافة . العلم " المحايد" الذي لا تؤوله سياسة ، إلا سياسة الاستعمار ، هو المحضر أو الحضاري الذي يجب أن نراه في الثقافة . " المحايد" وهما ، والذي هو السياسي الاستعماري حقيقة ، هو ما يحضرنا ، وهو المقبول في العلاقة الثقافية . خارج هذا ط المحايد" الذي هو " العلم" والذي هو التحضير لنا ، لا يعود العلم علما ولا تعود الثقافة ثقافة في المنطق الاستعماري كما لا يعود التقدم مصيرنا نحن أبناء الشعوب العربية.
وبهذا المفهوم للثقافة أخفى الغرب العلاقة الاستعمارية . أ×فاها في الحضاري الذي تقدم على الواجهة . أخفى السياسي الذي هو ، كصراعي ، في التاريخ حركته ، مكان السياسي أقام ما هو ، وهما ، حيادي ، فاتر ، غير متوهج بالمعرفة ، أقام السياسي آخر ، المقبول – الإحصائي – الأرقام البكماء ، وسماه العلم ، وجعله طريقا للحضارة ، طريقا للشرق ينهض به من انحطاطه ليصل إلى مستوى الغرب في تفوقه . التفوق الحضاري إذاً هو علة القدوم الغربي إلى الشرق وهو سبب دخوله بلاد السودان . التفوق الحضاري هو ما يمنح الغرب شرعية تملك هذا البلد وأناسه ، وهو ما يجعل تملك هؤلاء الناس لوطنهم لا شرعياً .
معتمداً هذه الأيديولوجية للعلم والثقافة حاول الاستعمار استبدال العلاقة الاستعمارية بالعلاقة التحضيرية ، وحاول تغييب السياسي في الحضاري : الحضاري في هذه الأيديولوجية لا ينهض إلا في استقلاله عن السياسي . والحضاري لا علاقة له بالسياسي .
عن هذه الأيديولوجية تكشف رواية " موسم الهجرة إلى الشمال" إلا أن هذه الأيديولوجية ، التي تكشف عنها الرواية ، ليست واضحة في الوعي الجماعي في السودان ولا في وعي المثقفين فيه . أن هذا الوضوح تعبر عنه قصة مصطفى سعيد التي يرويها هذا الأخير للراوي والتي مازالت سراً عند أهل القرية . تعبر عنه أوراق مصطفى التي يقرأها الراوي والتي مازالت محفوظة في هذه الغرفة السرية – وهي تعبر عن هذه الأيديولوجية لا بشكل مباشر بل بحضور الصراع فيها وعند مصطفى على المستوى الثقافي نفسه.
وهكذا وحين يبدأ الراوي ، صاحب الثقافة الشعرية التافهة ، أي صاحب الوعي المتخلف ، حتى كثقف ، بالتعرف على هذه الحقيقة ، حقيقة صراع مصطفى الذي يكشف هذه الأيديولوجية ، وحين يقيم الحوار مع هذه الأوراق ، أو مع ما فيها من قصة ، تنتقل الرواية من زمن إلى زمن . من زمن القص (ص 22) إلى زمن الوقائع ، إلى زمن وعي ما زال حبيس زمنه – أي إلى وعي لا يقوم في الزمن الحاضر الذي يهيمن فيه وعي يستمر بزمن ماض ويجعل منه حاضره – بهذا تتحدد غربة مصطفى كغربة لهذا الوعي ولهذا الزمن .
ما الذي يجعلنا نرى لمصطفى مثل هذا الوعي ؟
صوته الذي يسمعه الراوي يحكي عن وقائع حقيقة فيقول : " البواخر مخرت عرض النيل أو مرة تحمل المدافع لا الخبز ، وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود . وقد انشأت المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم . أنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل " (ص 9 .
صوت مصطفى في قوله هذا يلازم بين الثقافة والعنف ، بين الوجه التحضيري وأساسه التملكي للوطن . التملك بقوة السلاح وبقوة الثقافة لجعل هذا التملك مقبولا فيختفي العنف فيه .
ولعل مقارنة بسيطة بين قول مصطفى هذا وبين ما يقوله الراوي في نظرتهما للغرب توضح ما ذهبنا إليه : " وكونهم جاؤوا إلى ديارنا ، لا أدري لماذا ، هل يعني ذلك أننا نسمم حاضرنا ومستقبلنا ... " (ص 53) كلام الراوي هذا يوحي بالقبول يطرح السؤال ، وكأن مسألة البحث عن الأسباب مسألة غير مهمة . إن تعبير "لا أدري لماذا" ، الذي يعترض سياق الكلام ، يشير إلى ذلك . وهو يفيد : أن مجيء الغرب يجب أن لا يعيق استمرار الحياة حلوة بزمانها المتكرر ، بهذا الماضي الذي يملاً فضاء الراوي النفسي والفكري رغم سفره وتحصيله الثقافي.
يقول الراوي ما يقول قبل أن تخلخل معاشرته لوعي مصطفى وعيه هو ، وقبل أن يصير مصطفى ، وحسب قوله – أي قول الراوي نفسه – جزءاً من عالمه ، فكرةفي ذهنه ، " طيفا لا يريد أن يمضي في حال سبيله " (ص 45) ، وقبل أن يرتاب الراوي في مسألة البساطة التي يؤمن بها ويعتمدها نظرة للعالم . البساطة التي " من الجائز" ألا تكون " هي كل شيء " (ص 54) .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اقرأ ! فانت لم تقرأ : موسم الهجرة الي الشمال !!! (Re: Agab Alfaya)
|
مصطفى سعيد يكشف السياسي من منطلق المعادلة المقلوبة :
مصطفى سعيد إذا وعي تنكشف له مستويات العلاقة التي يقيمها الغرب مع الشرق . يرى إلى الحضاري وإلى الثقافي العلمي والثقافي السياسي ، الثقافي الذي يقبله الغرب والثقافي الذي يرفض ، وبين الرفض والقبول ينهض السياسي الذي يرى إليه مصطفى ، يتجلى هنا كالقدرة على تملك الوطن . تملك الوطن الذي هو فعل لا يمكنه أن يتحقق إلا بتغير زمن الوطن وزمن التملك ، وإلا بقيت قدرة التملك غربة.
ولكن هل يكفي أن تنكشف هذه المستويات للوعي حتى يصير الوعي قادراً على التحرر من أسر العلاقة بالاستعمار ومن منطقه أو من إيديولوجيته ؟ هل يكفي أن نعي أن الغرب يستعمرنا كي نتحرر من إيديولوجيته ؟ كيف يمكن للمستعمر أن يمتلك وطنه حتى حين يعرف أنه مستعمر . وكيف يمكن أن تكون الثقافة عنصرا مساعدا على تحقيق هذا التملك في الوقت الذي تبدو فيه عنصراً معيقاً ؟ .
لقد كان مصطفى سعيد يقرأ " اقتصاد الاستعمار" و " الاستعمار والاحتكار" أي كان يذهب في اتجاه ثقافي يرفضه الغرب ، ومع هذا بقي عاجزاً عن تملك وطنه ، وبقي ، بالرغم من موقف الغرب الرافض لهذا الاتجاه الثقافي ، يتمتع بالترحيب الغربي : أنه قاتل ومع هذا فهو مشفوع له لا يحاكم كمجرم (سنعود لذلك في ما يلي) .
مصطفى سعيد كما يبدو في هذه الأسئلة التي نطرح والتي تطرحها الرواية ، شخصية تاريخية مأزقية . مأزقيته تتحدد في كونه مثقفاً يدرك أن الغرب لا يحمل فقط الحضارة إلينا بل هو أيضا مستعمر . لكنه في ما هو يدرك ذلك يكشف العلاقة الاستعمارية من منطلقات الفكر الاستعماري نفسه ليمثل ، بذلك ، مرحلة تاريخية طويلة بدأت مع دخول الغرب وما زالت ، عند الكثيرين ، مستمرة حتى أيامنا هذه : لقد رحبت بلادنا بالغرب عند بدايات دخوله ، رحبت به كمحرر ، كحامل حضارة وثقافة ، كمساعد . ولما تكشف الوجه الاستعماري لها ، رفضته ووقفت ضده ، ومع هذا لم تتحرر ولم تمتلك أوطانها.
تنهض العلاقة الاستعمارية من منطلقات الفكر الاستعماري على أساس من ثنائية المواقع والقوى . ثنائية لها مصطلحاتها أو مفاهيمها التي تشكل مرتكزاً لهذا الفكر . فعندنا ، في صفنا في النحن ، في ألـ (نا) المتكلم : الشرق . التخلف . العجز . وفي الـ (عندهم) في الغائب المعني بالحوار : الغرب . الحضار. القوة النحن هي الأدنى أو الدون . والـ هم هي الأعلى الفوق . في العلاقة هذه بُعد نفسي ، مناخ تتكون فيه عقدة نقص يعاني منها بشكل خاص المثقف أو معظم المثقفين ، أي معظم من أتيح له الاطلاع والنظر ، بشكل أو بآخر ، في هذه العلاقة .
عقدة النقص هي علاقة بين طرفين يتبادلان رموز القوة والضعف المتعددة . هكذا ، وإذا كانت الحضارة هي رمز قوة لفاعلية بشرية تعبر عن استمرار الحياة ، فإن الجنس هو ، بدوره ، رمز قوة لفاعلية بشرية تعبر عن استمرار هذه الحياة . الحضارة عمران الكون بالمادي . والجنس عمرانه البشري وكلاهما شهوة الكينونة.
من منطلقات الغرب ، من قاعدة العلاقة بين قوي وضعيف ، دخل مصطفى في لعبة تعادل القوى واستطاع بما هو الأقوى في صفه ، بالجنس ، رمز الذكورة والقوة في الشرق ، أن يقيم معادلته .
المستوى / المكان الشرق الغرب الحضارة : ضعف قوة الجنس : قوة ضعف
في هذه المعادلة سقطت الهوية الأساسية للسياسي . سقط ما يحدد علاقة الغرب " بأوطاننا كعلاقة استعمارية . أي ما يجعلنا نرتبط بالغرب بعلاقة تبعية له. بعلاقة لا تجد حلها في سلوك انتقامي منطلقه ردة الفعل . لم تعد العلاقة علاقة مستعمر بمستعمر بل علاقة غرب بشرق . متقدم بمتخلف . مكانان وحضارتان.
سقوط الأساسي عبر عنه في الرواية عجز مصطفى عن الوصول – خلال زمنه الوقائعي – إلى امتلاك الوطن وبقاء هذا الامتلاك محاولة ومعاناة ، كما عبر عنه بقاء امتلاك مصطفى – خلال زمن العودة إلى الوطن – أسير الغربة . العجز والغربة مؤشران هامان في رواية الطيب صالح على عدم سلامة المعادلة. مؤشران يفضحان ، طيلة المسار الروائي ، هذه المعادلة وينهضان شاهدين قويين على الرغبة في تملك الوطن. الرغبة دينامية النمو بالفعل الروائي وبتملك الوطن. تملك الوطن ، هو المحور الرئيسي الذي نقرأ فيه هذا الفعل وأفعالاً أخرى تصب فيه.
الصراع على مستوى الثقافة محور ثانوي يريد التملك:
إن صياغة المعادلة بين القوي والضعيف ، بين الحضاري والجنسي ، تشكل ، على عدم سلامتها ، محوراً ثانوياً ، ذلك أن المعادلة هذه تستهدف التملك وهي في الرواية موظفة في هذا الاتجاه . هذا المحور لا ينكشف ثانويا إلا حين ننظر في عمق الرواية ، في هيكل البنية المتخيلة ، في الحاضر فيها ، في هذا الذي يقوله النص كلغة . في العلاقة بين النص ككتابة لها زمنها وبين العالم المتخيل الذي تقوله الكتابة والذي له زمنه أيضا.
لقد استطاع الطيب صالح أن يجعل روايته تتبنى بهذين المحورين فتنتج دلالة بهما ، وذلك عن طريق تخصيص كل منهما بزمن يتقاطع بتقاطعهما ويبقى محتفظا بتميزه .. فنحن نلاحظ أن الصراع مع الغرب أو ضده لإقامة المعادلة بين الحضاري والجنسي محصور في الرواية في الزمن الوقائعي فيها. مصطفى سعيد يعاني ما يعانيه ويمارس ما يمارسه من انتقام على مستوى الجنس أيام إقامته في أوروبا ، أيام تحصيله الثقافي . صحيح أن مصطفى يدون هذه المعاناة مما يعطيها صفة الاستمرار في الحاضر والمستقبل ، وصحيح أن التدوين لمعاناة ذاتية يشف عما هوأكثر من ذاتي ، أي عن حوادث موضوعية تاريخية مما يعطيها أيضا صفة الاستمرار والتجاوز للفردي . ولكن يجب أن لا ننسى أن مصطفى سعيد خارج حيز هذا الزمن الوقائعي وبعده هو آخر . هو مصطفى الذي يتعامل مع الآخرين كممتلك لوطنه ، وهو الذي يمارس سلوكا مختلفا ، على أكثر من صعيد ، عن سلوكه في هذا الزمن الوقائعي ، مصطفى خارج الزمن الوقائعي هو مصطفى آخر يعيش في زمن القص الحاضر وهو في هذا الزمن ، ليس الرجل الذي يحصل الثقافة بل الذي يعمل ، وهو بذلك يقترب من شخصية محجوب ، نموذج الرجل العملي في الرواية . يقترب من محجوب ولكن يبقى " أكثر عمقاً وأبعد نظرة " منه كما يقول الراوي (ص 17) (1) . ومصطفى هذا يمارس حياته وفعله على أرض هي السودان . وطنه . حيث يشرف على تنظيم العمل النقابي ويساهم في تدعيم مشاريع التنمية كالري . وهو في هذا الزمن وعلى هذه الأرض يختار زوجة من مستوى اجتماعي عادي ويحرص على أن تكون زوجته امرأة مستقلة الشخصية.
يجذر مصطفى سعيد الآخر تملكه لوطنه فعلاً مادياً مثمراً ، ينطلق ، من وطنه ليملك وطنه . يقف موقفا عدائيا من الرحيل . يقول عانيا ولديه : " إذا نشأ مشبعين بهواء هذا البلد وروائحه وألوانه وتاريخه ووجوه أهله وذكريات فيضاناته وحصاداته وزراعاته فإن حياتي ستحتل مكانها الصحيح كشيء له معنى إلى جانب معاني كثيرة أخرى أعمق مدلولاً " (ص 70) .
مصطفى ، خارج الزمن الوقائعي ، خارج ماضيه وماضي بلده الواقع في حيز هذا الزمن الوقائعي بصفته الموضوعية والذاتية ، هو آخر يمارس العيش فعلاً ويحاول أن يحقق شهوته في تملك وطنه في زمن حاضر هو زمن القص الروائي وهو الزمن الذي منه يبدأ الراوي وعنه يروي . ومصطفى في ممارسته هذه ليس المثقف بل الإنسان العادي والغريب في الوقت نفسه. ليس مصطفى في زمنه هذا الأستاذ الجامعي ولا مؤلف الكتب الفلسفية الاقتصادية ، لا حضور لهوية المثقف في حياته مع أهل القرية ولا مع زوجته . يصر مصطفى على إخفاء هويته هذه ويحاول إلغاءها من فعله اليومي . ينكرها وهو حين يقول شعراً بالإنكليزية يقوله في حالة سكر يندم عليها. مصطفى هنا فعل إرادة لفعل حياة وتملك.
وهو خارج هذا الزمن الوقائعي وبعده يمارس تملكه لوطنه لا في إطار المعادلة المذكورة بين الحضارة والجنس . القوة التي تصارع القوة . أو بين ما يكشف ضعفاً في طرف (الجنس في الغرب) يخفي ضعفا في الطرف الآخر (الحضارة في الشرق) ، بل في إطار علاقة عادية ومباشرة مع الناس والأرض والحياة في بلده . فهو يعيش مع امرأة سودانية واحدة هي زوجته وأم أولاده . وهو مرتبط بها ، لا بعلاقة شرعية وحسب بل أيضا بعلاقة محبة واحترام متحررة من ظواهر الشهوة والعنف الجنسي والانتقام والقتل ، أي مما كان قائما في علاقته مع المرأة الغربية.
لامتلاك وطنه سلك مصطفى سعيد ، في زمن القص الروائي ، زمن الحاضر ، وفي عالمه المتخيل والمحتمل ، طريقا مختلفا عن هذا الطريق الذي سلكه في الزمن الوقائعي . الطريق المختلف هو فعل تغيير يبدأ من داخل الوطن ويمارس في نطاق تنظيم حزبي وطني هو " الحزب الوطني الاشتراكي الديمقراطي" . وفعل التغيير الاجتماعي هذا لا يتأسس على التجارة بل على الزراعة التي هي مصدر انتاج مادي يحرر من علاقة التبعية للاستعمار ، ويدعم الاستقلال الاقتصادي الاجتماعي ، يقول مصطفى للراوي حين يسألة هذا الأخير إن كان حقا من الخرطوم : " كنت في الخرطوم أعمل في التجارة . ثم لأسباب عديدة ، قررت أن أتحول للزراعة" (ص 14) .
التنمية الزراعية التي تستهدف خلق وعي جديد عند المواطنين بتغيير الأسس المادية للحياة عن طريق تطوير علاقات الانتاج ورفع مستوى المعيشة ، والتنمية التي تمارس في إطار التنظيمات النقابية للفلاحين ، هي تنمية تحافظ على الجذور . والجد هو رمز هذه الجذور . يقول مصطفى مخاطبا الراوي : " جدك .. ذاك رجل . ذاك رجل ... تسعون عاما وقامته منتصبة ، ونظره حاد ، وكل سن في فمه . يقفز فوق الحمار خفيفا ، ويمشي من بيته للمسجد في الفجر . هاه . ذاك رجل " (ص 13/14) .الجد هو الأصل السليم المعافى ، وهو في التاريخ هذا الذي كان قبل أن يدخل الاستعمار بأمراضه ، وهو الذي به يرتبط مصطفى في واقع اجتماعي يتطور.
وحده الجد ، يعرف السر ، وحده الجد يعرف أن مصطفى " من نواحي الخرطوم" (ص 10) بينما يقول الأب " أن مصطفى ليس من أهل البلد ، لكنه غريب ... " (ص 6) .
وحيث يقول مصطفى للراوي مودعا : " جدك يعرف السر" نراه يمضي " مبتعدا بخطوات نشيطة متحفظة ، رأسه يميل قليلا إلى اليسار " (ص 15)
الارتباط بالجد هو الارتباط بمرحلة ما قبل الاستعمار و " موسم الهجرة " تفصل بين مرحلة السيطرة الاستعمارية كماض وبين ماض أسبق عليها . مرحلة السيطرة الاستعمارية مرحلة هجينة ، ظاهرة مرضية ، عاشها مصطفى مريضا تحكمه عقدة العجز وسلوك ردة الفعل . عاش مصطفى هذه المرحلة ودونها . أقام المسافة مع وعيه وأسس إمكانية استشراف مستقبلي . عاش مصطفى هذه المرحلة وتجاوزها ، وحين عاد إلى وطنه لم يذكر أمه ولا أباه ، لم يتكلم عن الأب والأم ، بل أظهر احتراما للجد – وليس لجده – لهذا الماضي الأسبق ، وهو في احترامه للجد لا يتماثل بماضيه الأسبق ولا بماضيه الأقرب ، كما يتماثل الراوي بهذا الماضي غير مميز بين فترتيه ، بل يبقى متميزا . الراوي يبدو أكثر تماثلا بفترة الأم والأب منه بالفترة الأسبق (رمزها الجد) . فترة الأم والأب فترة التكرار والتماثل في ظل السيطرة الاستعمارية التي أوهمت بالتحضير.
يعود مصطفى إلى بلده ونراه متجاوزا ماضيه ولكن مرتبطا به لا متماثلا ولا مكررا له. يعود إلى ماضيه أصلا يمتلكه ، أصلا يراه بوضوح ويشعر بقوة تدفعه باتجاه المستقبل . غير أن ارتباط مصطفى بوطنه كما نراه في بداية الرواية هو ارتباط له هوية سرية ، هوية ثقافية تكونت في الغرب وفي صراع مرضي معه . على أساس من هذه الهوية السرية يقوم الفارق بين مصطفى كمثقف وبين الراوي كمثقف أيضا . الهوية السرية ماض ، مؤشر لتاريخ وقائعي ذاتي وموضوعي ، يودعه مصطفى جدران غرفته . وهو فيها مدونات باقية في القراءة وفي المستقبل . زمن التاريخ لا يمكن إلغاؤه . يهدم مصطفى حصار زمن الوقائعي هذا ، يبدأ الهدم بالحكاية عنه للراوي الذي يحكي لنا . يهدم مصطفى حصار هذا الزمن من وعي جديد . يبدأ الهدم ويمضي مصطفى في الموت ، تبقى الأوراق دعوة لمتابعة الهدم ، للقراءة ، للحوار ، للخلخلة وللنفاذ إلى زمن آت . موت مصطفى هو ولادة جديدة . هو ذهاب زمن وولادة زمن آخر . هو السيرورة المتمثلة في الراوي – كما سنرى –
يخولنا التحليل الذي حاولنا حتى الآن أن نبلور بعض الاستنتاجات الأولية التالية:
أولا: إن الكاتب في " موسم الهجرة إلى الشمال " يعبر عن رؤية لامتلاك الوطن تحرره من الاستعمار . تشير هذه الرؤية إلى فكر يتحدد بالمقولات التالية :
- الثقافة عامل هام في تكون وعي ينظر في مسألة امتلاك الوطن كتحرر له. - الثقافة لابد أن تترجم إلى فعل مادي منتج يغير العلاقات المادية الاجتماعية ويحقق معنى التملك الفعلي للوطن. - تملك الوطن هو ولادة زمنه الحاضر. - الأصالة ليست ارتباطا بالماضي يكرره ويجعل الحاضر يتماثل به بل هي ارتباط يحقق الاختلاف والتميز أي يحقق التاريخية.
ثانيا: تمتلك " موسم الهجرة إلى الشمال" خصائص البنية التالية:
- التماسك بين عناصر البنية. - بروز عنصر الزمن كعنصر هام مولد لدلالة تملك الوطن الرئيسية. - تقارب بنية " موسم الهجرة إلى الشمال" من حيث نمو حركة زمن السرد فيها بنية الحكايات وخاصة " ألف ليلة وليلة" ويظهر ذلك في انفتاح الحكاية التي يرويها لنا الراوي على حكاية أخرى يرويها مصطفى أو يرويها الراوي عن رواية مصطفى . ولكن زمن السرد في رواية الطيب صالح يبقى متميزا عن زمن " ألف ليلة وليلة" من حيث نزوعه للانطلاق ليولد بنية روايته الواحدة في النهاية.
هذه الاستنتاجات الأولية التي تقصدنا أن نوردها قبل نهاية البحث توخينا منها أن نكشف للقاريء هيكلية بنية الرواية تقوم في نظرنا ، ووفقا للرسم الذي سنعرض ، على محور رئيس هو محور التملك الذي ذكرنا ، والهيكلية التي توهم بها الرواية والتي قد يتبناها القارئ تقوم على المحور الثانوي الذي أشرنا إليه (محور الصراع في الثقافة بين الجنس والحضارة) وتجعل منه محوراً رئيسا ، مسقطة بذلك محور التملك الرئيس. ونحن إذ نعرض لهذه الهيكلية للبنية نحاول ايضا مناقشة احتمال صحة الهيكلية التي توهم بها الرواية ، المناقشة هذه هي في الوقت نفسه استمرار في البحث لإضاءة نقطة أخيرة فيه هي ولادة " اليقظة" ذلك أن رؤيتنا لولادة اليقظة مرتبطة برؤيتنا لهذه الهيكلية.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اقرأ ! فانت لم تقرأ : موسم الهجرة الي الشمال !!! (Re: Agab Alfaya)
|
الهوامش :
1- دار العودة . بيروت . 1969 . الطبعة الثانية. 2- الراوي هو أيضا شخصية من شخصيات الرواية ، وهو بذلك ذو دور مدوج : هو الراوي حين يحكي عن مصطفى وعن غيره أو حين يحكي أحداثا ، وهو في سرده هذا يعتمد ضمير الغائب . وضمير المخاطب ( في الحوار) وهو شخصية من شخصيات الرواية يحكي عن نفسه وعن علاقاته بالشخصيات الأخرى .. وهو في سرده هذا يعتمد ضمير المتكلم . وقد يترك الراوي مكاه لمصطفى أولنص مصطفى بحيث يبدو هذا الأخير وكأنه يروي عن نفسه. 3- هذا الصراخ هو صراخ الراوي الذي تنتهي به الرواية. 4- استعملنا هنا مصطلح " قصة" ورأينا أن مصطلح " حكاية " هو أفضل لذلك اعتمدناه في دراسات لاحقة في المعنى نفسه. 5- تتعدد القصص في " موسم الهجرة إلى الشمال" كما يتعدد الرواة : فالراوي يروي عن نفسه وعن مصطفى. ومصطفى يروي أيضا عن نفسه قصصا . وود الريس يروي قصته ، وبنت مجذوب تروي عن نفسها وعن بنتها ، وحسنة بنت محمود تروي عن نفسها ما يشبه القصة ، والرجل الإنكليزي يروي عن مصطفى.. في انفتاح القصة على قصص يبدو أثر لألف ليلة وليلة في ط موسم الهجرة إلى الشمال" . إلا أن رواية الطيب صالح تبقى شيئا متميزا من حيث نسق بنيتها الذي نحاول أن نكشف . أن مسألة تعدد الرواة والقصص نقطة لن نتعرض لها في هذه الدراسة وإن كانت جديرة بالتوقف والاهتمام 6- سوف نوضح مسألة تماثل زمن تملك الراوي الحاضر وزمن الماضي أو مسألة استمرار الماضي لزمن حاضر ، مما يضيء هذا الذي نقوله حول علاقة هذه الاطلالات التذكرية بزمن القص . 7- الواقعي ليس بالضرورة حقيقيا . بل يمكنه أن يوحي بحقيقته. 8- لقد غلب على الرواية العربية في مراحلها الأولى طابع الزمن الخطي الذي ينمو كحركة أحادية وتعاقبية. 9- الجد والأب والأم شخصيات تؤدي دلالات الماضوية . بنت مجذوب تقول الجنس في عنقه وعريه وفي عفويته التي لا تخلو من الفحش ، ود الريس له دلالة الرجل كما في المفهوم الشرقي . في هذا المفهوم الرجل له حق تملك المرأة وليس على المرأة أن ترفض... 10- أنظر في آخر الدراسة جدولا بالمكان المرئي من قبل الراوي . 11- نلاحظ هنا حرص الطيب الصالح على تحديد هذه المدة القصيرة التي استعاد بعدها الراوي مباشرة علاقته بأهله وبلده . وكأن لا سفر في حياته ولا غربة .. وتبدو أهمية ذلك بالمقارنة مع ما تركت مدة الغياب – التي هي أيضا 7 سنوات – عند مصطفى وفي علاقة أهل القرية معه . 12- نقول أن الراوي نموذج لأنه يلتقي في هوية زمنه وشخصيات عدة في الرواية هم أهل البلد أمثال : ود الريس ، أمه ، أبوه ، حاج أحمد . 13- نقدم مصطفى كنموذج لنوع آخر من التملك يشاركه فيه محجوب ويبقى مصطفى متميزا عنه . ذلك أن محجوب يمارس هذا النوع الآخر من التملك غير الماضوي في وعي عملي براغمتيكي ولذلك فتملكه محدود بحدود ممارسته وتجربته . هكذا تراه رغم ذكائه البارز وتوازنه الملحوظ وثبات موقفه وثقته بنفسه وتقدمه على الآخرين من أهل البلد .. تراه يقول للراوي في حوار له عن التعليم : " هذا القدر من التعليم يكفي " و " القدر ، المقصود هو المرحلة الابتدائية في هذا الموقف من العلم يبدو الاختلاف واضحا بين محجوب ومصطفى ، وهذا الموقف ليس هو وحده وجه الاختلاف بينهما . 14- تميز مصطفى يستند إلى هذه الثقافة التي حصلها في الغرب وإلى كل ما عرفه في زمنه الوقائعي من معاناة. ومصطفى المتميز يجعل الراوي يرى أن محجوب متهور . وهذا ما يحمل القارئ المعجب بنموذج محجوب العملي القوي ، الواثق ... أن لا يرى فيه الشخصية المثالي في الرواية . فهو رغم كل ما يتصف به يحتاج إلى مصطفى. 15- يقرأ الناقد الأستاذ جورج طرابيشي رواية " موسم الهجرة إلى الشمال " قراءة نرى أنها تضمر مثل هذه الهيكلية. أنظر كتابة : " شرق وغرب رجولة وأنوثة" . دار الطليعة . بيروت.
| |
|
|
|
|
|
|
Re:عفوا يا ود البلد (Re: Agab Alfaya)
|
ود البلد كراعك ما حارة
وما في شيء بغلي عليك يا بروف
ارجو ان تتابع معنا في بوست :
نص دراسة يمني العيد : زمن السرد الروائي في انتاجه دلالات التملك للوطن في موسم الهجرة
| |
|
|
|
|
|
|
|