دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
وجوه أم أقنعة؟
|
___________________________ وجوه أم أقنعة ( قصة قصيرة )
عندما عطس الرجل؛ لم يسمعه أحد، لأنّ الضجيج كان يغطي الآذان، والهواء الخفيف - المنبعث من فتحات التكييف المركزي المعلّقة على السقف - يصدر أزيزاً يُضاف إلى تلك الضوضاء الحميمة. وحدها تلك الفتاة سمعت جدها وهو يعطس، فأخرجت منديلاً من حقيبة أمها النائمة إلى جوارها، وناولته ببراءة بالغة. العطس نسيب الموت، وصديقه الحميم، والعاطسون يعدّون في عِداد الناجين من الموت، لذا يحمدون الله، وربما يسرفون في ذلك. عندما تعطس، تتكوّر الروح على ذاتها، وتعبس أكثر مما تعبس في وقت آخر، وفي لحظة ما تملئ الجيوب الأنفية، وتستقر على محاجر العيون؛ لذا فإننا نغلق أعيننا بشدة كي لا نراها وهي تخرج. أخذ الجد المنديل، وهو يربّت على كتف حفيدته، وابتسم في وجهها المليء بالتعابير البريئة وانصرف ينظف أنفه المتهدّل بفعل الأنفلونزا. بينما رسم أحد الجالسين إلى جواره ملامح عابسة، وأخرج منديله من جيبه ووضعه على أنفه مستاءً ثم ما لبث أن نهض وجلس على بُعد خطوات. قال في سرّه "الأجواء موبوءة تماماً في هذا المكان، والروائح المقززة تنتشر بضعف أعداد المسافرين، ليتني سافرت بالطائرة، إذن لكان خيراً لي" لكنه سرعان ما تذكّر تجربته الأخيرة مع الطيران فردّد: "سحقاً للكلوستروفوبيا التي تلاحقني في كل مكان" جلس وهو يضع منديله على أنفه وفمه، محركاً قدميه بصورة اهتزازية، كان يمسك بيده الأخرى سبحة طويلة، يعدها عشرات المرات، غير أنّه لم يكن منشغلاً بالتسبيح، بل انشغل بعد الخرزات عمّا يثير قلقه من رؤيته الآخرين، والانتباه إليهم، ولم تكن تثيره غير أصوات العطس والسعال المقرفة.
عقارب الساعة الكبيرة المعلّقة في واجهة المحطة تشير إلى الثانية والنصف، والهواء الذي يخرج من فتحات التكييف المركزي المعلّقة على السقف بالكاد يفي بالغرض. الأطفال الباكون والضاحكون يملئون المكان ويضيفون إليه صخباً آخراً. قلّة من العائلات المسافرة ألزمت أبناءها بالجلوس إلى جوارهم في تأدب. ولكنهم لا يكفون عن النظر ومراقبة الأطفال الآخرين وهم يتزحلقون على الأرضية السراميكية أو يتعلّقون على عربات جرّ الحقائب الضخمة. في مكانٍ ما، ثمة أم تضرب طفلها الذي تعلّق بثيابها يائسة من تأديبه وإلزامه السكون، وأضاف بكائه ضجيجاً آخراً إلى الضجيج المتوافر بكثرة في هذا المكان. كان الشاب الثلاثيني يجلس ويُحصي عدد الأطفال الباكين في استياءٍ بالغ "ألا يجيد هؤلاء الأطفال عملاً آخراً غير البكاء والضجيج؟" وحاول الانشغال عن الضجيج بقراءة صحيفة يومية اشتراها من كشك بائس يقع خارج المحطة: هذا طفل يبكي لأنّ أمه تركته وذهبت لتصلح مكياجها في دورة المياه النسائية، وهذا آخر يبكي لأنّه لم يُسمح لها باللعب كبقية الأطفال، وهذا آخر يبكي لأنه سقط على الأرضية السراميكية بينما كان يحاول تقليد الآخرين، وهذه تبكي لأن أخوها ضربها، وذاك آخر يبكي متعاطفاً مع أخيه الذي يبكي لأنه يريد التبوّل وأمّه منشغلة عنه بأحاديث ضاحكة على الهاتف الخلوي، وذاك يبكي لأنه يخاف من الغرباء. "الأطفال يبكون دائماً، وعندما لا يبكون فإنهم لا يكونون بخير. الأطفال إما يبكون وإما يصرخون، إذن فالأطفال مزعجون" اطمأن إلى هذه النتيجة المنطقية كما ظنّها، وانصرف يقرأ جريدته اليومية مرّة أخرى.
تسارع البعض للوقوف خلف طابور طويل لشراء التذاكر، والطابور أيضاً لا يخلو من الأطفال الذين يركضون تحت الأقدام، ويتعلّقون على المواسير النيكلية التي وضعتها إدارة المحطّة لتنظيم عملية شراء التذاكر، بينما تقف امرأة تبدو عليها ملامح الثراء وبصحبتها فتاة صغيرة، تقف بكل تأدب، وشاب سخّرته لخدمتها، ينتقل كالذباب من مكتب إلى آخر ليحضر لها في النهاية تذاكر الدرجة الأولى وهي واقفة في مكانها. ولم تهتم سوى بعد عدد الأساور الذهبية التي في معصمها. وينفتح الباب الأتوماتيكي لتدخل سيدة شابة، تصحبها فتيات يحطنها بالعناية. عروس جميلة يعبق جسدها برائحة الكبريت والصندلية، يداها مخضّبتان بالحناء سوداء اللون. تسير على مهل وكأنها تجرّب السير لأول مرّة. زوجها الذي انتهى للتو من محاسبة سائق الأجرة دخل وفي عينيه نظرات بدائية جداً. كان يبدو عليه الملل والاستياء المخلوط بقليل من السعادة والامتنان بغير عناية. وقف يتأمل زوجته وهو يهمس إليها بكلمات تجعلها تبتسم في خجل، وكأنها تخشى أن تشوّه الابتسامة المفرطة مكياجها المتكلّف. أطلقت بعض الفتيات والنسوة زغاريد مدويّة أثارت انتباه الجميع. لم يكن العريس سعيداً بتلك المظاهر الاحتفالية التي أصرّت أم العروس أن ترافق الزوجين إلى محطة القطار، ولكنه تعالى على كل ذلك في انتظار أن تحين ساعة مغادرة القطار.
بعضهم فرش عمامته أرضاً وجلس عليها، وآخرون فرشوها كحصائر النزهات البريّة، وأخرجوا من أمتعتهم اليدوية أدوات الشاي، وجلسوا يرتشفون الشاي وهم في انتظار الساعة الثالثة والنصف. حملوا تذاكرهم بيدهم ، وبعضهم يضعها في حقائب يدوية يربطها بقطعة قماشية حول خصره. وكلّما سمعوا نداءاً من إدارة المحطة أصغوا له في انتباه. لا بد أنّهم لا يثقون في محتوى التذاكر التي يحملونها. وبينما ضحك البعض في سخرية على منظرهم ذلك، استشعر البعض الآخر الغباء والبدائية فيما يقومون به وأسرّوا في أنفسهم "يا إلهي ارحمنا من هؤلاء الجهلاء، إنهم لا يمتون للحضارة بأيّة صلة" بعض الأطفال يتطفّلون عليهم ويأخذون قطعة بسكويت أو ملعقة من التي تطالها أيدهم الصغيرة، ويهربون بها ثم يختفون بين الحشود. وفي مكانٍ ما انشغل أحدهم تماماً عن الناس والأطفال والقبائل البدائية بفتاة حرّكت فيه مكامنه، رأى فيها ما لم يره في أي فتاة أخرى في هذا المكان، ترتدي لفتاة بنطالاً من الجينز وقميصاً مثيراً غير محشور بشكل جيّد داخل البنطال. وهو يتصيّد الفرصة كصيّاد مبتدئ، يتحيّن اللحظات العابرة التي تلتفت فيها إليه، يرمي لها بغمزات سريعة وخجولة. فتاة ناهدة، ذات جسم لادن، وخصر نحيل وأرداف مكوّرة تماماً، أحسّت بمراقبته اللصيقة لها، فبدأت تتفنّن في تعذيبه وإثارته بحركات جسمها في كل مرّة، دون أن تبتسم في وجهه أو تستجيب لمعاكساته الصبيانية.
وقف حاملاً حقيبته الدبلوماسية بيده، وهو ينظر بين الفينة والأخرى إلى ساعته الرولكس المذهّبة، ثم وضع حقيبته بين قدميه، وأخرج علبة سجائر فاخرة من جيب سترته السوداء، وبدأ يدخن وهو يحرّك رأسه كطبق رادار حربي. ملامحه جادة ولا توحي بالدفء. يتحاشى ملامسة الآخرين، وكأنه يخاف أن تنتقل إليه عدوى ما، أو أن تتسخ ثيابه. انفتح الباب الأوتوماتيكي مرّة أخرى ليدخل رجل من شاكلته، يودعه بطريقة رسمية جداً ثم يغادر على الفور، قبل أن يتوقف أمامه رجل مسن يرتدي أفرهولاً داكن اللون يميّزه عن بقية المتواجدين في المكان، ينتمي إلى فرقة الصيانة التابعة للمحطة يشير له إلى اللافتة المعلّقة بالخلف "ممنوع التدخين" فردّ عليه بأدب جمّ "ولكنكم توزعون منفضة السجائر في كل مكان!" فتحرّك الرجل المسن دون أن يبدي أيّ تعليق على الأمر، وكأنه لم يكن مهتماً أو متحمّساً لإقناعه بالتوقف عن التدخين. ثم دون تكوين مشاعر محددة تجاه ما حدث، رفع رسخه الذي عليه ساعة الرولكس المذهّبة، وظلّ يقارن بين ما تشير إليه وما تشير إليه ساعة المحطة العملاقة، فلم يجد الفارق كبيراً.
دخلت بعض النسوة المتشحات بالسواد، يحملن امرأة طاعنة في السن، كانت في حالة شديدة الخصوصية من الحزن. وبعض الرجال من الخلف يرددون كلمات مثيرة للرهبة، وبعض الحوقلات المصاحبة. تبرّع البعض بكراسيهم للمرأة المسنة، وأجلسوها، وبينما غادر البعض مباشرة مكتفين بملامح تعاطفية، وقف البعض متسائلين "هل توفى ولدها؟" لك أن تصنّف السؤال في أيّ خانة تشاء. ضعه في خانة الفضول أو المشاركة الوجدانية، أو البساطة، أو التفاعل الاجتماعي، أو حشر الأنوف، أو العلم بالشيء ولا الجهل به، أو أيّ خانة تراها مناسبة، فلقد أجابته إحداهن "لقد توفي زوجها البارحة" فيما تقدّم أحد الرجال المحوقلين "أوسعوا لها المجال رجاءً ، دعوها تتنفّس" ظلّ هذا المشهد محط أنظار الكثيرين لفترة وجيزة، ثم ما أن سمعوا نداء المحطة "على الركّاب المتوجهين إلى مدينة عطبره سرعة التوجّه إلى البوابة رقم 13" حتى انتبه كل واحد منهم إلى تذكرة سفره.
هشام آدم الدمام/25 ديسمبر 2007م
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: وجوه أم أقنعة؟ (Re: هشام آدم)
|
جميل جداً ايه الأديب , لقد سرقتني فيما نظري يجول بين البوستات الكثيرة شكراً جميلاً اخي هشام فقد امتعتني بسردك الشيق والدقيق جداً .
| |
|
|
|
|
|
|
|