بالكاد كانت ترى أمامها، وهي تحاول أن تحرك قدميها في الوحل. وحلٌ من نوعٍ خاص. تضحك عندما تطير حمامة عند خشخشة الأوراق الصفراء التي قطفتها رياح الخريف صباحاً. ترفع فستانها فوق ركبتها في خجل، وكأن أحداً ما يراها من بين جدران الظلام الباردة. ثم توقفت فجأة "ما هذا العبث الذي أقوم به" أفلتت أطراف فستانها من قبضتها المرتجفة. فانسدلت، وطفت على بركة الوحل بتثاقل، وكأنها ورقة قصدير في دورق مليء بالزئبق. رفعت رأسها، وكأنها كانت منحية منذ ثلاثة أيام. شعرت بأن فقرات عمودها الفقري بدأت تعيد ترتيب نفسها أوتوماتيكياً. أحست بالهواء الخريفي الثقيل يداعب وجهها المتعرّق. بدأت تبحث في محافظ الأشجار عن بقية الحمامات، فلم تسمع غير كورال الجنادب مخيف العزف. وفي كل ناحية من الظلام كانت ترى عينين لامعتين لا تريان غيرها. ظلت واقفة في مكانها تغني بصوت عالٍ:
شوف النهر مار بخشوع تقول هجسان أو مر المنام بي مقلة النعسان جلت قدرته ما اكفر الانسان كم ينسى الجميل ويجحد الإحسان
فأحست برجفة الخوف في صوتها كلما علا، فغنت بصوت هامس، كأنها تهدهد طفلاً نائماً. ظلت تغني حتى توقفت فجأة "ما هذا العبث الذي أقوم به" تلفتت قليلاً قبل أن تبدأ خطوة واسعة إلى الأمام، استشعرت صوت سفجنتها التي لم تكن ترتديها، وتذكرت أنها خرجت حافية. حاولت أن تطرد ذلك الصوت من رأسها، ولكنه ظلّ يأتيها مع كل خطوة. وسمعت حمامة أخرى تضحك، ولكن هذه المرة دون أن تسمع خشخشة الأوراق الصفراء. أحست أنها تمشي بخطٍ مستقيم، كأنها تمشي على حافة هاوية، لم يُضايقها شعورها بأن ثمة شيء أو شخصٌ ما يمشي معها بنفس توأدها، غير أنها كانت خائفة خوفاً حميماً "على الأقل لستُ وحدي" هذا ما قالته في سرها، قبل أن تتوقف عن السير فجأة.
"منذ متى وأنا أسير في هذا الوحل" كان هذا السؤال الأسهل، الأصعب كان "إلى متى سأظل في هذا الوحل" وبين هذين السؤالين، كانت تتذكر أمها التي نزعت عن صدرها قلادتها الوراثية ذات يوم وقالت لها بطريقة حميمية قلّما استشعرتها "سيأتي دورك ذات يوم، فكوني مستعدة" فرمقت مكان القلادة في صدرها بنظرة، فأحست بثقلها هناك، ولكنها أيضاً لم تستطع أن تراها. بدأ النمل الزجاجي يتسلق إليها عبر جذع ساقها، مبتدئاً من أطراف أصابعها، إبهامها الذي تساءلت دائماً عن سر كونه الأكبر والأول. بينما كان في يدها الأخير! ضحكت بتهكم، وهي تحرك إبهام يدها الأيمن. ولعنت في سرّها النمل الزجاجي، وتمنت أن تصل إلى اليابسة قبل أن يستعمر النمل ساقيها بالكامل.
وفجأة ودونما مقدمات أحست بخفة في الحركة، فعرفت أنها تجاوزت الوحل للتو. فحاولت أن تقفز، ولكنها لم تستطع، حاولت أن تركض، ولكنها لم تستطع. فهوت على الأرض، وهي تضحك وتدمع. أحست بالوحدة وبالبرد دونما مبررات منطقية. ولكنها لم تحب هذا الشعور مثلما أحبته هذه الليلة. نامت ظهرت، وبدأت ترفس الهواء بقدميها بهستيريا. تضحك، فتضحك معها الحمامات التي لا تراها، ولكنها تسمع وتحس خشخشة الأوراق الخريفية الصفراء تحت شعرها المتموج. هذه المرة لم تتساءل "ما هذا العبث الذي أقوم به" لأنها كانت تعلم أنها تنفض عن قدميها ما تبقى من الوحل الثقيل. شعرت أن مرافقها قد قبلها في خدها المتعرّق، فابتسمت في امتنان، وغطت نفسها جيداً ونامت.
العزيز : أبو خالد من حِكم الله التي تتجلى في نِعمه أنه: خلق لنا عينين .. لنرى جيداً ، وأذنين .. لنصغي جيداً. لكنه خلق لنا فماً واحداً .. كي لا نتكلم كثيراً .. أكثر الناس بؤساً يا عزيزي: من رأى فما رأى، ومن سَمِع فما وعى، وتكلم بما هوى.
لك التحية، وأشكرك على القراءة والمتابعة
(عدل بواسطة هشام آدم on 06-27-2007, 11:12 AM) (عدل بواسطة هشام آدم on 06-27-2007, 11:12 AM)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة