|
مارينز
|
هشام آدم...
قليل من الإيمان كان يكفي صلاح درار ليُخرجه من قناعته بأن جيوشاً من الحشرات الفضائية تنام معه على فراشه، وتقتات من ألياف شعره المجعّد. لم يستطع أن يُحدد علاقته معها على وجه الدقة، فتارة يشعر نحوها باحترام جمّ؛ وكأنها حشرات تخص الآلهة، وتتولى تنفيذ تعليماته بكل دقة، وتارة يشعر تجاهها بالتقزز والاشمئزاز. ينظر إلى وجوهها مباشرة وهي تُحرك قرون استشعارها التي كسياط فرعونية مصنوعة من اللبّاد، وأفواهها المنتهية بملاقط مُسننة، وظهورها المحدودبة كظهور فيلة هندية معتدة بنفسها.
أيامه في هذه الغرفة متشابهة؛ تماماً كما تبدو على ورقة التقويم باهتة اللون، وكل شيء من حوله يبدو رتيباً ومتسخاً كأنه نسق فوضوي مقصود في حدّ ذاته. الشيء الوحيد المنتظم في كل هذه الفوضى: ساعة معلّقة على الحائط، تُضيف دقات عقاربها إلى المكان ضجيجاً موتّراً، وجوقة إضافية إلى كورال الجنادب وعرير الصراصير. تنتابه –دائماً- ابتسامة طارئة كلّما نظر إليها معلّقة كمراهق قرر وضع حدّ لحياة بائسة مليئة بالمغامرات الفاشلة، والنكسات الخطيرة.
• لماذا جعلوها تدور كالبلهاء مرتين حتى يتأكدوا من تمام اليوم؟ تكفي اثنتا عشرة ساعة للتعبير عن هذا الجحيم، وبين كل ساعة وأخرى فراغ ثقيل كزئبق موبوء بالشائعات.
لا يذكر متى دخل هنا أوّل مرة، ربما قبل سبعة أعوام أو يزيد، قبل أن يصفرّ طلاء الحائط هذا ويتشقق، وربما قبل أن تغزل العناكب المنزلية خيوطها اللزجة على زوايا الغرفة كإشارات مرورية ورقية هزيلة، وربما قبل أن تتهدّل أعصاب السقف وتُسفر عن عروقه المسكونة بالأرضة والنمل الأبيض، ولكنه يتذكّر جيداً أنها كانت ساعة نحس لن تتكّرر.
ينظر في مرآة متسخة برغوة الصابون، فيضحك على منظر وجهه المختبئ خلف شعر كثيف ككلب لاسا مهجّن، يحاول استدعاء صور لوجهه قبل أن يدخل هذا المكان، فلا يتذكّر؛ فصدّق أنه وُلد بهذا الشكل، وسيظل كذلك إلى الأبد.
في الظهيرة، حين تمرح حشراته الفضائية، وتعبث بأكياس الطعام الفارغة، وفتات الخبز المبعثر، يتنحّى جانباً، ويتكوّر على نفسه كجنين، ويُبالغ في ذلك حتى ليبدو كقنفذ أو قوقعة بحرية، يُردد بصوت خافت لا يكاد يسمعه غيره، بلحن مرتجف:
أنا ما لي وما البلد دا أنا ماشي جبال المندرا
تُزعجه أصوات الباعة المتجوّلون، والأطفال، وضحكات النساء العابرات، ورنين الدرّاجات الهوائية تتسلّل كلها دفعة واحدة كأفاعي ملعونة عبر نافذة عالية، فتسكن أُذنيه، وتعبث في دماغه كديدان المقابر النهمة. يتلوّى مثل شيطان مكابر، يُجابه ضجيج الشارع الموازي للجدار، بضربات قاسية على ذات الجدار، ينهض بمؤخرته كإنسان الغاب، يرفع يديه العاريتين، يحاول الوصول إلى النافذة التي تُسرّب فضلات ضوئية تخبو قبل أن تصل إلى شبكيته. يصرخ بأعلى صوته:
• اسكتوا يا أيها الجهلاء؛ علام تضحكون؟
ليلاً يسير على أطراف أصابعه نحو جدار المتعة، وعبر شق ملعون يُراقب جمال وقيع الله وهو يواقع زوجته الشبقة، فلا يترك التلصص حتى تنطفئ الأنوار، وتنتحر التأوهات على شفاههما المعبأة بدماء الجنس الساخنة، وتغور في أعماقهم كقنبلة موقوتة لا تنفجر إلا مساء اليوم التالي.
|
|
|
|
|
|