|
في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية)
|
__________
ولد في عام 1940 بقرية "القلعة", مركز "قفط" على مسافة قريبة من مدينة "قنا" في صعيد مصر. كان والده عالماً من علماء الأزهر, حصل على "إجازة العالمية" عام 1940, فأطلق اسم "أمل" على مولوده الأول تيمناً بالنجاح الذي أدركه في ذلك العام. وكان يكتب الشعر العمودي, ويملك مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربي, التي كانت المصدر الأول لثقافة الشاعر.
فقد أمل دنقل والده وهو في العاشرة, فأصبح, وهو في هذا السن, مسؤولاً عن أمه وشقيقيه. أنهى دراسته الثانوية بمدينة قنا, والتحق بكلية الآداب في القاهرة لكنه انقطع عن متابعة الدراسة منذ العام الأول ليعمل موظفاً بمحكمة "قنا" وجمارك السويس والإسكندرية ثم موظفاً بمنظمة التضامن الأفرو آسيوي, لكنه كان دائم "الفرار" من الوظيفة لينصرف إلى "الشعر".
عرف بالتزامه القومي وقصيدته السياسية الرافضة ولكن أهمية شعر دنقل تكمن في خروجها على الميثولوجيا اليونانية والغربية السائدة في شعر الخمسينات, وفي استيحاء رموز التراث العربي تأكيداً لهويته القومية وسعياً إلى تثوير القصيدة وتحديثها.
عرف القارىء العربي شعره من خلال ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" (1969) الذي جسد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967 وأكد ارتباطه العميق بوعي القارىء ووجدانه. صدرت له ست مجموعات شعرية هي:
البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" - بيروت 1969, تعليق على ما حدث" - بيروت 1971, مقتل القمر" - بيروت 1974, العهد الآتي" - بيروت 1975, أقوال جديدة عن حرب البسوس" - القاهرة 1983, أوراق الغرفة 8" - القاهرة 1983.
لازمه مرض السرطان لأكثر من ثلاث سنوات صارع خلالها الموت دون أن يكفّ عن حديث الشعر, ليجعل هذا الصراع "بين متكافئين: الموت والشعر" كما كتب الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي. توفي إثر مرض في أيار / مايو عام 1983 في القاهرة
_____ * المصدر: موقع جهات http://www.jehat.com[/B]
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
_______ ذكرياته في صور:
أمل في المنتصف سصفق
أمل دنقل في معهد الأورام ويظهر في الصورة الأبنودي
أمل دنقل في بيت جابر عصفور
صورة أخرى لأمل في معهد الأورام
______ * المصدر: نفس المصدر السابق
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
___________ ذكرياته في صور:
أمل دنقل قبل وفاته بأيام وتظهر في الصورة عبلة زوجته
أمل دنقل مستمعاً لإلقاء شعري في مهرجان حافظ
صورة قديمة لأمل دنقل
صورة لقبر أمل دنقل
_______ * المصدر: نفس المصدر السابق
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
_________ قصائد بصوت أمل دنقل:
سفر التكوين - الأصحاح الأول
في البدء كنت رجلاً.. وامرأةً.. وشجرة. كنتُ أباًً وابنا.. وروحاًً قدُساً. كنتُ الصباحَ.. والمسا.. والحدقة الثابتة المدورة. وكان عرشي حجراًً على ضفاف النهر وكانت الشياه.. ترعى .. وكان النحلُ حول الزهرُ يطنُّ والإوزُّ يطفو في بحيرة السكون، والحياة.. تنبضُ - كالطاحونة البعيدة! حين رأيت أن كل ما أراه لا ينقذُ القلبَ من الملل!
(مبارزاتُ الديكة كانت هي التسلية الوحيدة في جلستي الوحيدة بين غصون الشجر المشتبكة! )
_______ * المصدر: نفس المصدر السابق
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
___________
سفر التكوين (الأصحاح الثاني)
قلت لنفسي :
" لو نزلت الماء
واغتلست
لانقسمت
لو انقسمت
لازدوجت وابتسمت"
وبعدما استحممت
تناسج الزهر وشاحاً
من حرارة الشفاه
لففت فيه جسدي المصطك
وكان عرشي
طفاياً كالفلك
وركّ عصفورٌ
على رأسي
وحطّ ينفض البلل
حدقت في قرارة المياه
حدقت
كان ما أراه
وجهي ...
مكللاً بتاج الشوك
________ * المصدر: نفس المصدر السابق
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
__________
سفر التكوين (الأصحاح الثالث)
قلت : "فليكن الحب في الأرض" لكنه لم يكن قلت : "فليذب النهر في البحر والبحر في السحب والسحب في الجدب والجدب في الخصب ينبت خبزاً ليسند قلب الجياع وعشباً لماشية الارض ظلا لمن يتغرب في صحراء الشجر" ورأيت ابن آدم ينصب أسواره حول مزرعة الله يبتاع من حوله حرساً ويبيع لأخوته الخبز والماء يحتلب البقرات العجاف لتعطي اللبن قلت: "فليكن الحب في الارض" لكنه لم يكن أصبح الحب ملكاًً لمن يملكون الثمن ورأى الرب ذلك غير حسن
قلت: "فليكن العدل في الارض عين بعين وسن بسن"
قلت : "هل يأكل الذئب ذئباً أو الشاة شاةً ولا تضع السيف في عنق اثنين : طفل وشيخ مسن "
ورأيت ابن آدم يردي ابن آدم يشعل في المدن النار يغرس خنجره في بطون الحوامل يلقي أصابع أطفاله علفاًً للخيول يقص الشفاه وروداً تزين مائدة النصر وهي تأن أصبح العدل موتاً وميزانه البندقية أبناؤه صلبوا في الميداين أو شنقوا في زوايا المدن
قلت : "فليكن العدل في الارض" لكنه لم يكن أصبح العدل ملكاً لمن جلسوا فوق عرش الجماجم بالطيلسان الكفن ورأى الرب ذلك غير حسن
قلت: "فليكن العقل في الارض تصغي إلى صوته المتزن "
قلت: "هل يقتني الطير أعشاشه في فم الأفعوان هل الدود يسكن في لهب النار والبوم هل يضع الكحل في هدب عينيه هل يبذر الملح من يرتجي القمح حين يدور الزمن؟ "
ورأيت ابن آدم وهو يجن فيقتلع الشجر المتطاول يبصق في البئر يلقي على صفحة النهر بالزيت يسكن في البيت ثم يخبأ في أسفل الباب قنبلة الموت يأوي العقارب في دفء أضلاعه ويورث أبناءه دينه وأسمه وقميص الفتن أصبح العقل مغترباً يتسول يقذفه صبية بالحجارة يوقفه الجند عند الحدود وتسحب منه الحكومات جنسية الوطني وتدرجه في قوائم من يكرهون الوطن قلت: "فليكن العقل في الأرض" لكنه لم يكن سقط العقل في دورة النفي والسجن حتى يجن ورأى الرب ذلك غير حسن
_________
* المصدر: نفس المصدر السابق
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
___________
سفر التكوين (الأصحاح الرابع)
قلت :فلتكن الريح في الارض تكنس هذا العفن قلت :فلتكن الريح والدم تقتلع الريح هسهسة الريح الذابل المتشبث يندلع الدم حتى الجذور فيزهرها ويطهرها ثم يصعد في السوق والورق المتشابك والورق المتدلي ويعصره العاصرون نبيذاً يزغرد في كل دن قلت : فيلكن الدم نهراً من الشهد ينساب تحت فراديس عدن هذه الارض حسناء زينتها الفقراء لهم تتطيب يعطونها الحب تعطيهم النسل والكبرياء قلت : لا يسكن الأغنياء بها الأغنياء الذين يصوغون من عرق الأجراء نقود زنا ولآلئ تاج وأقراف عاج ومسبحة للرياء إنني أول الفقراء الذين يعيشون مغتربين يموتون محتسبين لدي العزاء قلت : فلتكن الأرض لي ولهم وأنا بينهم حين أخلع عني ثياب السماء فأنا أتقدس في صرخة الجوع فوق الفراش الخشن
________
* المصدر: نفس المصدر السابق
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: Alia awadelkareem)
|
________ عالية عوض الكريم
مساءاتك بيضا
لك التحية .. وأمل دنقل شاعر ومفكر يستحق منّا أن نكرّس له مساحات أكبر لنسلّط الضوء على حياته وعلى شعره وعلى فكره أيضاً
الرابط الذي أشرتي إليه في مداخلتك هو تحديداً الموقع الذي أجلب منه قصائده الصوتية هنا. وللأسف لا توجد قصيدة الجنوبي الرائعة. كما كنت أتمنى أن أجد تسجيل صوتي لهذه القصيدة.
عموماً سوف أحاول أن أجلب بعض الكتابات النقدية عنه من ذات الموقع
أشكرك يا عالية
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: محجوب البيلي)
|
___________ العزيز محجوب البيلي
هذا الشاعر إنسان زيادة عن اللزوم ولهذا فإن معاناته كانت أكبر من أن يتحملها .. فرحمه الله بقدر ما جعل لنا الحلم مشروعاً نتعاطاه في العلن بدلاً عن الخفاء .. كما في السابق .. منذ حرب البسوس (كما يقول)
أشكرك على مرورك أخي .. أبق .. فهذا المصدر به العديد مما يستحق القراءة وتسليط الضوء ..
لك مودتي الخالصة
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: nashaat elemam)
|
_________ الصديق السارح نشأت الإمام
الفاقئ عين اللاشيء بنظرة فيه الحكمة وفيها الحزن .... أشكرك على مرورك فوق هذا المكان .. لا يمكن أن يذكر أمل دنقل دون أن تغرّد الطيور ولذا أتيت يا عزيزي فأشكرك على تلبية الدعوة
دم بخير ..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: سيد أحمد خليفة)
|
_____________ الأخ سيدأحمد خليفة
ليس كل الشعر يسلي ... النافذة التي تطل على القلب يكون هوائها (بحري) كما يقولون وأمل دنقل .. نافذة لا تطل على القلب فقط .. إنما تطل على دقائق الشعيرات الدموية. أتدري لماذا ؟ لأنها مفعمة بعنصر يكاد يكون مندثراً في زماننا هذا : ألا وهو الصدق
سلمت يمينك يا سيدأحمد وأشكرك على المرور كسلي فقط هو مانعي من تحميل العديد من قصائده المسموعة هنا .. فلكم جميعاً العتبى
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: Muna Khugali)
|
__________ الإنسانة جميلة الدواخل منى خوجلي
إن من لا يعرف أمل دنقل أو يقرأ له أو عنه .. هو إنسان فاته الكثير من المتعة. ليست متعة القراءة فقط ... بل متعة اكتشاف العلاقة بين الإنسان والحياة. والتكامل الغريب بينما. كيف يكون الإنسان غاضباً وثائراً ومحباً في نفس الوقت.
أشكرك يا منى على المرور ولك الود
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: غادة عبدالعزيز خالد)
|
__________ الأستاذة غادة عبد العزيز (أم هاشم)
أول مرة أقرأ فيه لأمل دنقل كان في عام 1994 عندما اشتريت أعماله الكاملة من مكتبة القبة الخضراء في الخرطوم. وقبل أن أكتشفه بصورة كاملة استعارته مني إحدى الزميلات .. ولم تعده لي حتى الآن. ربما اشتريت أعماله الكاملة ثلاث مرات على التوالي ... وفي كل مرة أفقده إما بسبب إهمال أو يخلف البعض ظني بهم !!
أعشق أشعاره التي تأتي بسيطة كبساطة ابتسامته .. وقوية كقوة عشه لمحبوبته وزوجته عبلة الرويني التي كتبت عنه أجمل وأصدق ما قيل فيه.
إنه إنسان – ببساطة – لا يحب غير شيئين : العدل و عبلة
أشكرك على المرور وعلى إضاءة المكان .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
_________
الـكـمــــان
لماذا يتابعني أينما سرت صوت الكمان ؟ أسافر في القاطرات العتيقة كي أتحدث للغرباء المسنين أرفع صوتي ليطغى على ضجة العجلات وأغفو على نبضات القطار الحديدية القلب تهدر مثل الطواحين لكنها بغتةً تتباعد شيئاً فشيئا ويصحو نداء الكمان
أسير مع الناس في المهرجانات أصغي لبوق الجنود النحاسي يملأ حلقي غبار النشيد الحماسي لكنني فجأة لا أرى فجأة تتلاشى الصفوف أمامي وينسرب الصوت مبتعداً ورويداً رويداً يعود إلى القلب صوت الكمان
لماذا إذا ما تهيأت للنوم يأتي الكمان فأصغي له آتياً من مكان بعيد فتصمت همهمة الريح خلف الشبابيك نبض الوسادة في أذني تتراجع دقات قلبي وأرحل في مدن لم أزرها شوارعها فضة وبناياتها من خيوط الأشعة ألقى التي واعدتني على ضفة النهر واقفةً وعلى كتفيها يحط اليمام الغريب ومن راحتيها يغط الحمام أحبك صار الكمان كعوب بنادق وصار يمام الحدائق قنابل تسقط في كل آن وغاب الكمان
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: Aisha Hommaida)
|
__________
المتخيل الشعري عند أمل دنقل عبد السلام المساوي -------------------- للصورة الشعرية وظيفة تعبيرية بالأساس, لذلك فهي مشحونة بالمشاعر والأحاسيس والدلالات, وهي صياغة فنية تمنح المعنى المجرد شكلا حسيا يمك ن حواس الإنسان الظاهرة والخفية من التفاعل معها تفاعلا إيجابيا عن طريق تلق مفتوح يتجدد باستمرار, كما تنص على ذلك المناهج الحديثة كالأسلوبية والسيميولوجيا وجماليات التلقي. وإذا كان القدماء قد ركزوا مفهوم الصورة الشعرية في منظومتين بلاغيتين هما المشابهة والمجاورة, اعتمادا على استقصاء الأوجه البيانية من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز مرسل.. فإن المحدثين جعلوا المفهوم مواكبا للفتوحات الإبداعية المستجدة بما عرفته اللغة الشعرية من إبدالات وتحولات. ومعظم التعريفات الحديثة أجمعت على تفرد الصورة الشعرية بطابع الإبداعية والخلق القائم على التقريب بين المتنافرات في سياق توحد عناصرها المتباعدة في بوتقة شعورية واحدة. وحسب صبحي البستاني, فإن الصورة الشعرية <<تخترق الحدود المرئية لتبلغ عمق الأشياء, فتكشف عما تعجز عن كشفه الحواس>>(1) وإذن, فهي تقنية لغوية خاصة تضطلع بوظيفة إنشاء علاقات جديدة بين كائنات العالم وأشيائه, وذلك بنقل المعاني من الحياة إلى اللغة. وهو نقل يعتبره صلاح فضل محتاجا إلى جسارة شعرية(2) أي إلى قدرة إبداعية كبيرة تتمكن من بناء علاقات جديدة تدفع بالمتقابلات إلى الحد الأقصى من الائتلاف والتعايش الدلالي.
إن الصورة الشعرية ليست إطارا أو قالبا جاهزا ت صب فيه المعاني لتأخذ أبعادا جديدة, كما أن علم البيان - بطبيعته التقليدية - لم يعد قادرا على استيعاب توجهات الصورة الشعرية المعاصرة, فلا بد من تحيينه وتعضيده بأواليات مستحدثة لعله يكشف عن الجغرافيا الجمالية التي أضحت الصورة الشعرية تأوي إلى أفيائها. لذلك نرى أن قواعد البلاغة تظل مفتوحة دائما على التجدد والمسايرة اعتمادا على المتحقق النصي الإبداعي. وقد كانت القواعد تستخلص دائما من النصوص, وفي هذا الاتجاه ينبغي أن يسير أي توج ه منهجي يروم تحليل الصورة في الخطاب الشعري. ثم <<إن البلاغة المعاصرة ينبغي ألا تنبني من توجيهات تؤدي إلى صناعة وجه بياني, بل ينبغي أن تدرس هذا الوجه من زاوية نفسية, وتعمل على الكشف عما يعتمل داخل روح القارئ في اللحظة التي يدخل إليها هذا الوجه, ويتحلل داخلها منميا فيها طاقة الإحساس. وباختصار: بحث طريقة عمله ليحدث فينا الشعور بالانبهار الذي هو أثر ناتج عن العمل الفني.>>(3)
قد يكون حصر دراسة الصورة الشعرية في تجربة شاعر واحد أنجح بكثير من التوزع على تجارب مختلفة, لأن ذلك من شأنه أن يتيح للدارس مراقبة الصيغ اللغوية المتنوعة المعبر بها من قبل هذا الشاعر, ومن ثم يسمح ذلك باستخلاص أنظمة بناء الصورة الشعرية لديه, والوقوف على حدودها التعبيرية الممكنة مع قياس وظيفتها وتأثيرها, بالرغم من أن الصورة الشعرية <<تستعصي على كل تحليل لأنها في الحقيقة ليست بنتا شرعية للعقل فقط, بل هي نتاج يتداخل فيه الحدس والعقل والانفعال ومركبات غريزية منبثة في الضمير العام للعقل البشري..>>(4) وهو استعصاء ناشئ عن غموض فني ضروري ومقصود, لا يلغي إمكانية تحليل يروم بناء انسجام ما تفرق من أجزاء, وما تقابل من دلالات. وهذا التحليل ينبغي ألا يكتفي بالوقوف عند حدود الأوجه البلاغية (تشبيه, استعارة, مجاز مرسل... ), فهذه الحدود - حسب رجاء عيد - <<قد تهدمت, لأنها حدود اصطنعها منطق التطابق مع الواقع الخارجي للأشياء بدون مراعاة لمنطق الواقع الداخلي الممتد عبر حركة النفس وخيالها الخبيء والذي يقيم علائق بين الأشياء لها شكولها اللامتناهية.>>(5)
هكذا, إذن, تحتل الصورة مكانا أساسا في تكوين شعرية النص, إذ عن طريقها يتم التمييز بين الكلام العادي والكلام الفني بفعل خلخلتها للمألوف, وقدرتها على رفد اللغة بالدلالات العميقة التي لا سبيل إلى اختزالها في أية قراءة محتملة. لقد اعتبرها جان لوي جوبير J.L. JOUBERT نتاجا للنظرية السوريالية حول الإلهام. كما رأى فيها العلامة المميزة للشعر المعاصر(6). أما أندريه برتون A. BRETON فقد عرفها اعتمادا على تحديد بيير ريفردي Pierre REVARDY الذي يقول: <<الصورة نتاج محض للفكر, إنها لا تولد من التشبيه ولكن من التقريب بين حقيقتين متباعدتين. وكلما كانت العلاقات بين الحقيقتين - موضوع التقريب - متباعدتين, كانت الصورة قوية ومحققة لشعرية عالية.>>(7) قد يكون اوكتافيو باث PAZ O. أكثر الشعراء تدقيقا في فهم طبيعة الصورة, وما تنطوي عليه من قدرات هائلة في جعل الكلام منفتحا لمعانقة التجربة الفنية للشعراء, حيث يقول: <<إن التجربة الشعرية يتعذر تبسيطها في الكلام, ومع ذلك فالكلام هو الذي يعبر عنها. إن الصورة توفق بين الأضداد, ولكن هذا التوفيق لا يمكن شرحه بكلمات, إلا أن كلمات الصورة كف ت عن أن تكون مجرد كلمات... الصورة, هكذا هي ملاذ ميؤوس منه ضد الصمت الذي يخيم علينا كلما حاولنا التعبير عن التجربة المرعبة لما يحيط بنا ولما نوجد عليه.>>(
_________ http://www.nizwa.com/volume38/p119_128.html
(عدل بواسطة هشام آدم on 06-04-2006, 11:09 AM)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
____________
نستنتج من هذه التحديدات أن لغة الصورة الشعرية ليست لغة عادية, وأن الكلمات فيها ليست مجرد كلمات; أي أن تلك الكلمات لم تعد تستجيب للمعنى العرفي المتفق عليه في معاجم البشر, بل غدت في السياق الجديد أشكالا مفتوحة على الدلالات السيميولوجية التي قد يقصدها الشاعر أو يسمو بها القارئ إلى آفاق واسعة, وهو يعيد خلقها من جديد. وربما كان هذا هو المقصد الذي يريده محمد لطفي اليوسفي حين يقول: <<الكلمة ليست مجرد لفظ محدد للمعنى, بل هي عبارة عن مستقر تلتقي فيه كثيرة من الدلالات. إنها, بتعبير آخر, عبارة عن حيز يتواجد فيه أكثر من احتمال, غير أن الاستعمال المتعارف أي طريقة توظيف الكلمة في سياقات معتادة, هو الذي يجعل دلالة ما تطغى على كل الاحتمالات. وعندما يعيد الشاعر تركيب الكلام يكون قد أدخل الكلمة في شبكة من العلاقات تجبر ذلك الحشد الدلالي على البروز. هنا بالضبط يتنز ل الشعر. إنه يحرر الكلمة من المواضعة الاصطلاحية, ويصبح نوعا من الكلام يكسر القواعد ويتجاوز السنن, ليؤسس تبعا لذلك, آفاقا جديدة مليئة بالرؤى والاحتمالات.>>(9)
وإذن, فقد عوضت الصورة الشعرية كثيرا مما يسم لغة التداول من عجز التعبير عن مختلف الحالات والمشاعر, وتم لها ذلك التعويض بواسطة العلاقات الجديدة الم قامة بين الكلمات في سياق تراكيب مراهنة على تلق مختلف, وهو تلق يرى أن <<ومضات اللغة الشعرية تشع بأنوار عنيفة وهي تكشف عن السر المرتبط بالشرط الإنساني.>>(10)
إن اللغة الشعرية التي تجعل من الصورة أساسا لها, تصبح وسيلة تواصلية مسعفة في التعبير عن أية حالة أو رؤية تعبر وجدان الشاعر وذهنه; بل تمكنه من طريقة سحرية في الإيحاء بالشيء الذي يجعل المتلقي قادرا على التقاط الإشارات وتحويلها إلى دلالات قد تضيق أو تتسع حسب طبيعة مرجعية المتلقي, وقدراته على التأويل.
والشاعر أمل دنقل من الشعراء القلائل الذين أدركوا أن الخيال الشعري هو البؤرة المركزية لكل خطاب يسعى لأن ينتمي إلى حقل الشعر, شريطة ألا تستثمر مساحة الحرية المتاحة في عوالم الخيال الفسيحة في المزايدة على المعاني والدلالات; إذ أن الصدق الفني هو المعيار الذي ينبغي أن يعتد به في التمييز بين الخيال الإبداعي المؤسس على صدق التجربة في المعيش والمرجعي, وبين الخيال المجاني الذي قد يمنح أدواته لتجارب مزيفة ومفتعلة, وهو السائد في معظم ما ينتج اليوم من شعر. فشتان ما بين شعر يدعوك لتلمس جدوى الإبداع وضرورته للحياة, وما بين آخر يغريك بخطوط سراب خادع دون أن يكون متكئا على سند رؤيوي حقيقي. وقد نظر الشاعر أمل دنقل إلى الفن الشعري بوصفه ضرورة حيوية مساهمة في تغيير الواقع سواء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي; لأن هذا التغيير رهين بما يمكن أن يحدثه القول الشعري من تأثير هائل في النفس والشعور تمهيدا للتأثير الهائل الذي سيمتد إلى محيط المشاعر, وهو المجتمع والوطن والأمة. لذلك جاءت أشعاره محققة للرهان الحيوي فكان صوت الإنسان المقهور وردارا لكل ما يتهدد الأمة العربية في مرحلة تاريخية بالغة التعقيد, كما جاءت محققة للرهان الجمالي من خلال تحويل الواقع الكائن والواقع المستشرف إلى متخيل شعري تذوب فيه حدة الواقع وتندمج بأطياف الحلم. وعموما فقد جعل أمل من الصورة الشعرية أداة لغوية وجمالية بالغة الإيحاء. وهي في الغالب تتأرجح - عنده - بين ثلاثة أنماط أساسية: الصورة الحسية والصورة الذهنية والصورة الرمزية.. وذلك تبعا للعلامات اللغوية والسياق الدلالي الذي تحضر فيه هذه العلامات.
________ http://www.nizwa.com/volume38/p119_128.html
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
___________
1. الصورة الحسية:
ولهذا النمط علاقة وطيدة بمفهوم الصورة الشعرية ككل بالشكل الذي ترسخ في الدراسات البلاغية القديمة والحديثة, باعتبار أن الشاعر ميال إلى التعبير عن العوالم الشعورية المجردة بطريقة تجعله يستثمر مدركات العالم وأشياءه الحسية للقيام بمهمة الأداء, وذلك بإعادة تشكيلها وفق ما يتصوره من معان ودلالات تعجز اللغة المباشرة عن الإفصاح عنها. ففي هذا المستوى تقدم المدركات المجردة في صورة مظاهر محسوسة عن طريق الاستعارة التي تتخذ مجموعة متنوعة من المواقع النحوية; فهي قد تكون اسما أو فعلا. ومعلوم أنه إذا وردت في صيغة الفعل, فإنها تمنح الصورة كثافة ودينامية إضافية بما يلقيه الفعل في روع المتلقي من إيهام وحركية, مثلما يقع في هذه الصورة:
الصيف فيك يعانق الصحو عيناك ترتخيان في أرجوحة
ففي هذه الصورة يتخلى <<الصيف>> عن مفهومه الزمني والطبيعي ليتحول إلى كائن حي يمارس السلوك البشري, والمتمثل هنا في <<يعانق>>. ذلك أن العناق سلوك محسوس نلحظه بحاسة البصر. وإذا ما نظرنا إلى الشيء المعان ق (المفعول به), فإن درجة التوتر تتصاعد مما يشي بانزياح كبير بين الطرفين. ف- <<الصحو>> كينونة طبيعية ضوئية لا جسد لها, ومن هنا فهو لا يحتمل العناق, ومع ذلك فقد أتاحت العناصر الاستعارية في سياق تركيبها, للعين أن ترى مشهدا لن يتحقق إلا بسحر من الخيال الشعري يذروه في بؤبؤها.
وقد تحضر الصورة الحسية بشكل يجعلها متوسعة, وذلك لاستثمارها لعدد من المكونات البلاغية التي تساهم في نموها نموا عموديا عن طريق التفاعل الحاصل بينها في نسق تعبيري ذي منحى سردي درامي, يستغل إمكانيات حدث أسطوري رمزي لإفادة موقف سياسي معاصر:
الأرض ما زالت, بأذنيها دم من قرطها المنزوع قهقهة اللصوص تسوق هودجها.. وتتركها بلا زاد تشد أصابع العطش المميت على الرمال تضيع صرختها بحمحمة الخيول
إن الأرض بوصفها عنصرا جغرافيا طبيعيا تصبح قادرة على التحول إلى مفهوم حسي آخر, بما تدره عليها الأوجه البيانية والمكونات الشعرية الأخرى من صفات وحالات. فالاستعارات (أذنيها - قرطها - هودجها - تشد - صرختها...) تضعنا أمام صورة جديدة تبدو فيها الأرض كامرأة قد نكلت بها أيدي اللصوص, وانتزعت ممتلكاتها, وتركتها ملقاة بلا زاد. وإذا كانت الاستعارة هنا تعمل على تشخيص الأرض, وتقدمها على هيئة امرأة, فإن ذلك التشخيص - بشكل واع أو غير واع - يذكر بأحد الأبعاد الدينية والأسطورية القديمة, التي كانت تعتقد بالمنزع الأمومي للأرض. وهذا وحده يخفف من حدة التباعد الاستعاري بين الطرفين (الأرض -- المرأة), فينحصر الاجتهاد الشعري - حينئذ - في محاولة نفي الأمومة عن الأرض, وتقديمها في صورة عروس مخذولة.
وبالإضافة إلى هذه الصورة المركزية, هناك صور جزئية متفاعلة معها, تعمل من جهتها على تأثيث المجال, وإثراء المستوى الدرامي للموقف. فمن ذلك <<قهقهة اللصوص تسوق هودجها>>, وهذه الصورة قائمة على أساس المجاز المرسل, لأن الفعل <<تسوق>> مسنود للقهقهة وليس إلى اللصوص, مما ينبئ بحالة اللصوص وهم ينفذون جريمتهم. ومن ذلك أيضا <<تشد أصابع العطش>>, حيث يتحول العطش باعتباره حالة غريزية إلى كائن حي بواسطة التجسيم الذي يتحقق بإسناد <<الأصابع>> إليه.
وتتحقق الصورة الحسية بانتقال الكائن المحسوس إلى الشيء المحسوس كذلك, بواسطة وجه بياني هو التشبيه:
الخيول بساط على الريح.. سار - على متنه - الناس للناس عبر المكان والخيول جدار به انقسم الناس صنفين: صاروا مشاة.. وركبان
يعترضنا في الصورة تشبيهان, وقد ساهم غياب الأداة ووجه الشبه في جعل علاقة المشابهة بين الطرفين جد قريبة, لأن درجة الانزياح بينهما ضعيفة لوجود العناصر الدالة المشتركة بينهما, ثم لأن الصورة أساسا تحقق انتقالا من محسوس إلى محسوس (الخيول - بساط على الريح) و(الخيول - جدار). وما يلاحظ هنا أن الصورة الحسية التي يحققها المشبهان بهما (بساط على الريح) و(جدار) لا تتم إلا على أساس لفظي, لأن المفهوم موغل في التجريدية والرمزية. فبساط الريح يستند على مرجع أسطوري لا وجود له في الواقع. أما كلمة <<جدار>> فواضح أنها على المستوى الرمزي تشكل فاصلا بين شيئين مختلفين, ولا تدل على الجدار المادي. ومن هنا نجد أنفسنا أمام مفاهيم تجريدية تعرض بطريقة حسية.
وقد تجتمع في المقطع الواحد المتجانس دلاليا صور حسية يتم فيها تشخيص المكان عن طريق منحه سلوكات وخصوصيات بشرية, ويتحقق خلال ذلك تشييء الكائن الحي عن طريق تعويضه بالشبيه:
كان النشيد الوطني يملأ المذياع منهيا برامج المساء وكانت الأضواء تنطفئ.. والطرقات تلبس الجوارب السوداء وتغمر الظلال روح القاهرة والدم كان ساخنا يلوث القضبان هذا دم الشمس التي ستشرق, الشمس التي ستغرب
يتأكد التشخيص هنا بواسطة الاستعارة المضاعفة <<الطرقات تلبس الجوارب السوداء>>, فالاستعارة الأولى مكنية <<تلبس>> والثانية تصريحية <<الجوارب السوداء>> إذ تعوض مشبها هو <<الظلام>>. وهكذا تتحول الطرقات/ المكان إلى امرأة. وفي الصورة الثانية <<وتغمر الظلال روح القاهرة>> نجد أنفسنا أمام تشخيص قائم على نقل المكان من حالة جمود إلى حالة حركة وحيوية, وذلك عن طريق زرع الروح فيه. وتتصاعد درجة الانزياح أكثر بجعل <<الظلال>> وهو معطى حسي يغمر <<الروح>> وهو معطى تجريدي. أما التشييء فيتمثل في تحويل الشخص الذي تدل عليه القرينة اللفظية <<دم>> إلى <<الشمس>>, بواسطة الاستعارة التصريحية. ورغم ما يلاحظ على هذه الاستعارة من ابتذال واستهلاك, ذلك أن الشمس ترسخت في التراث الشعري العربي كاستعارة نمطية دالة على المدح, فإن القرينة <<دم>> تقوم بدور تجديدها وإكسابها توهجا خاصا. حيث تبدو <<الشمس>> البعيدة قريبة تنزف دما, وتتحول إلى جثة <<تأكلها الديدان>>. ولعل الحرص على تأكيد التشخيص والتشييء في هذه الصور الجزئية يأتي لخلق علاقات التفاعل بين الكائن والمكان, في سياق تبادل المظاهر والخصوصيات. فكلاهما يتلبس بالآخر, ويترتب عن ذلك تعميق النفس الدرامي, وانصهار الصور الجزئية كلها في بؤرة الصورة المركزية.
وقد يستبد التشبيه بكل أطراف الصورة, في نسق يوحي بالإيغال في التقليدية, ولا يخفى الدور البياني الذي يلعبه التشبيه في إبراز الجوانب الحسية من الصورة, خاصة إذا كانت العلاقة بين المشبه والمشبه به قريبة لتحقق العناصر المشتركة بينهما. إلا أن المسألة قد تأخذ مسارا آخر في حالة وجود انزياح بينهما, الشيء الذي يعطي للتشبيه فاعلية في خلق المفاجأة, ودينامكية في رفد الصورة بعناصر التخيل الابتكاري:
قلت لها في الليلة الماطرة: البحر عنكبوت وأنت - في شراكه - فراشة تموت وانتفضت كالقطة النافرة
حيث يصادفنا في هذا المقطع ثلاثة تشبيهات تختلف نوعيا, فالأول بليغ, والثاني مرسل, والثالث مفصل. وتواردهما بهذا الترتيب له ما يبرره فنيا ودلاليا. فعلى مستوى التراكم اللغوي لكل جملة تشبيهية, نجد حركة تصاعدية من الأقل إلى الأكثر, بالنظر إلى عدد كلمات كل جملة, مما يمنح الصورة في كليتها مسحة إيقاعية ممتدة. وعلى مستوى الدلالة يتم الإفصاح عن الحقيقة بشكل تدرجي يراعي سياق البوح وكمية الجرعة في كل جزء من أجزاء هذه الحقيقة.
وهناك الصورة الحسية التي يتعدد فيها المشبه ويتفرد المشبه به, وينتج عن ذلك اختزال للعناصر في بؤرة واحدة, مما يتسبب في تضييق المجال المرئي للصورة:
أيها الواقفون على حافة المذبحة أشهروا الأسلحة ! سقط الموت, وانفرط القلب كالمسبحة والدم انساب فوق الوشاح ! المنازل أضرحة, والزنازن أضرحة, والمدى.. أضرحة
تؤكد هذه الصورة مبدأ التكثيف والاختزال من أجل بلورة المعنى المراد توصيله, والمتجسد في فداحة القتل. ومن أجل بلوغ هذا الهدف, يتم اللجوء إلى خرق المألوف بواسطة تحجيم المعنوي <<سقط الموت>>, وتشييء الإحساس <<انفرط القلب كالمسبحة>>, ودمج الخلص في العام (المنازل أضرحة/ والزنازن أضرحة/ والمدى أضرحة), وإذا كان خرق المألوف هو الغاية المستهدفة في الممارسات الشعرية الحديثة, فإن عدة عناصر بلاغية وغير بلاغية كانت مسؤولة عنها في الصورة التي نحن بصدد تحليلها. فالبلاغية تتمثل في استعارتين فعليتين وأربعة تشبيهات. أما غير البلاغية فتتجلى في المستوى المعجمي والأسلوبي; ذلك أن الأول يهم جانب انتقاء مفردات تحقق قدرا من الشعرية أثناء اجتماعها في بنية واحدة. أما الثاني, فيهم جانب ترتيب عناصر الصورة, وظاهرة التكرار في جزئها الأخير. إن حسية هذه الصورة راهنت على الانتقال من المتخيل إلى المرئي, وذلك بإعادة تشكيل المفاهيم المجردة (الموت - الحزن) تشكيلا يمنحها مظهرا ماديا, ونسف تعددية المكان (المنازل - الزنازين - المدى) من أجل خلق مكان واحد متجانس وهو المكون من الأضرحة.
وقد تميل الصورة إلى تقرير حسية مفرطة, معتمدة على مجموعة من الاستعارات التصريحية المتجانسة التي تقوم ببناء مشهد تمثيلي مكتمل, تدل القرينة اللفظية على المشهد الحقيقي الذي يرمز إليه, يقول الشاعر أمل دنقل في سخرية مريرة:
كنت في المقهى, وكان الببغاء يقرأ الأنباء في فئران القمح, وهي تجتر النراجيل, وترنو إلى النساء
إن قارئ هذا المقطع سيتصور أن الأمر يتعلق بقصة تعليمية تعتمد شخصيات متخيلة - كما في كليلة ودمنة - أو بمشهد من الرسوم الكرتونية التي تخاطب عقول الأطفال.. ولكن ما إن يصل إلى القرينتين اللفظيتين <<يقرأ الأنباء>> و>>تجتر النراجيل>> حتى يدرك البعد الرمزي الذي يفيده طرفا الصورة (الببغاء - فئران القمح). ومن ثم يشرع في البحث عن المعادل الموضوعي لكل طرف. فـ<<الببغاء>> لن يكون إلا إنسانا مقلدا أو مأمورا بقراءة ما يلقى إليه من <<أنباء>> دون أن يفكر في فهمها أو معارضتها. أما <<فئران القمح>> فهم رجال مستهلكون لما يجدون بين أيديهم دون أن يكلفوا أنفسهم بذل الجهد, لأنهم يكتفون ب- <<اجترار النراجيل>> و<<الرنو إلى النساء>>. من هنا ندرك أن المتخيل الشعري في هذه الصورة يعكس مشهدا يوميا مشوبا بكثير من العبثية والإحباط لانعدام التواصل بين <<الببغاء>> و<<فئران القمح>>.
ولا شك أن قراء الشعر يعرفون جيدا قدرة الشاعر الكبير أمل دنقل على تحويل المشاهد اليومية المألوفة إلى لوحات شعرية باذخة يفيض بها خياله المبدع بما اشتهر به من نزعة السخرية السوداء التي بقدر ما تخلق من تسلية وفرجة مضحكة, فإنها بالقدر نفسه تتيح إمكانية الإجهاش بالبكاء إشفاقا على واقع الناس المؤلم وعذاباتهم التي بلا حد.
_________ http://www.nizwa.com/volume38/p119_128.html
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
_________
2. الصورة الذهنية:
إذا كنا في المستوى السابق قد حاولنا تلمس مفهوم الحسية في الصورة الشعرية من خلال تحليل عينة من الصور الممثلة لها في شعر أمل دنقل, ووفقنا - في تلمسنا ذاك - بين التحليل البلاغي والدلالي, فإننا سنعمل في هذا المستوى على مقاربة الصورة الذهنية; أي التجريدية, وذلك بتطبيق معطيات التحليل على مجموعة من الصور التي افترضنا تجريديتها مسبقا اعتمادا على مؤشرات محمولاتها المعنوية, موضوعية كانت أو شعورية, بالنظر إلى الانتقال إلى المستفاد من مفردات الصورة وتركيبها. ذلك أن الانتقال المقصود هو الذي يتم من المفهوم الحسي إلى المفهوم التجريدي أو من التجريدي إلى تجريدي آخر. وتلعب الاستعارة المكنية دورا لافتا في بلورة هذا النمط من الصور, وخاصة الاستعارة الإسمية التي ترد في تركيب نحوي مكون من مضاف ومضاف إليه. وتشتد حدة التجريد حينما يضاف المحسوس إلى المجرد أو يعاد تشكيل أشياء الطبيعة والواقع, وجعلها تتبادل الأدوار فيما بينها, وتعير خصائصها لتستقبل خصائص غيرها, يقول الشاعر أمل دنقل:
على محطات القرى.. ترسو قطارات السهاد فتنطوي أجنحة الغبار في استرخاءة الدنو والنسوة المتشحات بالسواد تحت المصابيح, على أرصفة الرسو ذابت عيونهن في التحديق والرنو عل وجوه الغائبين منذ أعوام الحداد تشرق من دائرة الأحزان والسلو
تجتمع كل الانزياحات الواردة في هذا المقطع على خرق نظام اللغة, مرة باستعارة محسوس لمجرد, ومرة أخرى باستعارة محسوس لمحسوس مع وجود شبه معنوي. وبالنظر إلى علاقة الانزياحات بالدلالة المستهدفة, نلاحظ أنها لا تكتفي بالعمل على تغيير المعنى والحد من مباشريته, وإنما تتعدى ذلك إلى تعميق الانفعال بهول مشهد انتظار الغائبين. وهنا تكمن أهمية الانزياح المؤسس على الاستعارة الناجحة; تلك الاستعارة التي يقول عنها جان كوهين Jean COHEN: <<إن الاستعارة الشعرية ليست مجرد تغير في المعنى, إنها تغير في طبيعة أو نمط المعنى, انتقال من المعنى المفهومي إلى المعنى الانفعالي, ولهذا لم تكن كل استعارة كيفما كانت شعرية.>>(19)
وهناك الصورة الذهنية التي تنبني بواسطة رص المعطيات المرجعية المتناقضة في تركيبة واحدة, فتذوب خلالها حدة المفارقة, لأن هذه المعطيات المتناقضة عندما تدخل إلى حيز المتخيل, تجد المناخ الفني الذي يجعلها تأنس إلى بعضها البعض, وتعمل على تشكيل صورة مرئية على أنقاض المعاني الممعنة في التجريد:
يا اخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين منحدرين في نهاية المساء في شارع الإسكندر الأكبر: لا تخجلوا.. ولترفعوا عيونكم إلي لأنكم معلقون جانبي.. على مشانق القيصر فلترفعوا عيونكم إلي لربما: إذا التقت عيونكم بالموت في عيني: يبتسم الفناء داخلي.. لأنكم رفعتم رأسكم.. مرة !
لا شك أن المتخيل في هذه الصورة يوجد في موضعين: <<إذا التقت عيونكم بالموت في عيني>> و<<يبتسم الفناء داخلي>> ويكون الأساس البلاغي المؤدي إلى الوظيفة الشعرية مجازا مرسلا في الموضع الأول, واستعارة مكنية في الموضع الثاني. ذلك أن الشاعر يستدعي الموت بوصفه سببا لإفادة الأثر المسبب, وهذا هو المجاز المرسل, لكن فاعليته الفنية لا تبرز إلا عند دخوله في سياق تركيبي, يجعل شحنته المجازية تسري عبر الكلمات المجاورة, وربما امتدت إلى أقصى نهاية المقطع. أما الاستعارة المكنية في <<يبتسم الفناء داخلي>> فتلغي الحدود بين الحسي والمجرد, وتخلق حالة من التفاعل المتبادل بينهما, ليتولد عن ذلك مشهد غرائبي ي ري ما لا ي رى ويؤسس لموقف نادر يتبدى الإنسان فيه منسجما مع فنائه.
وعلاوة على ذلك, فإن معنى المقطع لا يمكن أن يصار إلى تأويله إلا بالمرور على الدلالة المركبة في <<يبتسم الفناء داخلي>>. فإذا كان مضمون الخطاب الموجه إلى <<الأنتم>> -- من قبل مرس ل يفترض أنه ميت بدلالة عبارة <<الموت في عيني>> عليه -- يتمثل في طلب رفع العيون, فلأن الغاية المستهدفة هي <<ابتسام الفناء>> وهي نتيجة, إذا اقتصر على الأخذ بملفوظيتها قد توقع الفهم المنطقي في تناقض مؤكد. ولكن بسبر الأبعاد المجازية المرمي إليها في <<ابتسام الفناء>> يتضح أن المقصود بالابتسام ليس الفناء, وإنما الطرف المجاور له, وهو روح المرسل.
لقد عرف الشاعر أمل دنقل بميله الكبير إلى أسلوب المفارقة في تصوير مختلف الحالات الخاصة والعامة ربما لأن علاقته بنواميس الوجود ومعطياته تتجسد في ذلك الموقف المتشكك في التوازن والعدالة, يقول من ديوان <<أقوال جديدة عن حرب البسوس>>:
قلبي صغير كفستقة الحزن.. لكنه في الموازين أثقل من كفة الموت هل عرف الموت فقد أبيه هل اغترف الماء من جدول الدمع هل لبس الموت ثوب الحداد الذي حاكه.. ورماه
يتحدد الموقف هنا في تحجيم الموت ثم تشخيصه من أجل مواجهته, لأنه يستحيل مواجهة الشيء المجرد. فالتحجيم يتمثل في تحويل الموت إلى مادة قابلة للوزن <<كفة الموت>>. والتشخيص ينتج عن إعارته مجموعة من الأفعال والسلوكات البشرية <<عرف>> و<<اغترف>> و<<لبس>> و<<حاك>>. أما المواجهة فتبرز في القيام بالحد الأدنى الذي يستطيعه الإنسان العاجز أمام جبروت الموت, وهو الاستنكار الذي يستفاد من حرف الاستفهام <<هل>>.
إن ذهنية هذه الصورة تتجاوز معاداة الموت إلى مخاصمة المتسبب فيها, وفي لغة أقرب إلى العتاب الكسير منه إلى التنديد القوي.. مما يجعل لغة هذا العتاب تشي بمسحة صوفية تساهم في تخصيب البعد التخييلي للصورة.
وقد تتجسد ذهنية الصورة في الانتقال من اليأس كمرجع إلى المستحيل كمتخيل, يقول الشاعر:
سيقولون: ها نحن أبناء عم قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك واغرس السيف في جبهة الصحراء إلى أن يجيب العدم
تشتمل هذه الصورة المحورية, المتضمنة في المقطع, على صورتين جزئيتين, تدل على الأولى عبارة <<واغرس السيف في جبهة الصحراء>> والثانية تدل عليها عبارة <<يجيب العدم>>. وكلتاهما تستندان إلى مرجع معنوي تعمل الأوجه البلاغية على تسييجه بالغموض الفني المطلوب. وتتمثل هذه الأوجه في الاستعارة المكنية الدالة على التجسيد والتشخيص. فالتجسيد تحققه استعارة الجبهة للصحراء. أما التشخيص فتحققه استعارة <<يجيب>> للعدم. وبالرغم من الحسية التي تستشف من الصورة الأولى, فإن سمة التجريد تبدو غالبة عليها إذا ما أوردناها في السياق التركيبي: <<واغرس السيف في جبهة الصحراء>> فتخرج الدلالة من مفهوم خاص معلوم إلى مفهوم عام مجهول. وينشأ عن ذلك بعد رمزي توحي به كلمة <<الصحراء>> كدال. أما الصورة الثانية فتبقى مفتوحة على المزيد من التجريد في انتظار <<أن يجيب العدم>>!. ذلك أن شرط المشاهدة ينتفي هنا, مما يتطلب المرور بعدة مراحل إدراكية قبل أن يتمثل <<العدم>> في صورة شخص يهم بالإجابة:
العدم (تجريد) يجيب (صورة سمعية) شخص مشاهد (صورة بصرية)
إذ لابد من قطع مرحلتين على الأقل للوصول إلى الصورة البصرية, تتجلى الأولى في ما توحي به كلمة <<يجيب>> من تشخيص, ونستعين هنا بحاسة السمع. وتتجلى الثانية في ما نتوصل إليه من تأويل وتخييل, لنعطي للصورة السمعية هيئة مشاهدة.
__________ http://www.nizwa.com/volume38/p119_128.html
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
__________
3. الصورة الرمزية:
يمكن تصنيف الصورة الرمزية في ثلاثة أنواع بالنظر إلى طبيعة الرمز, فهو إما أن يكون مفردا, أي عبارة عن كلمة دخلت العرف الاصطلاحي في ثقافة معينة, لتنوب عن شيء أو تمثل شيئا آخر كما يقول الناقدان أوستن وارين ورينيه ويليك(23).. أو يكون مركبا أي يأتي مركبا في إطار حكاية دالة, أو يكون تمثيلا لموقف معين Allégorie, وفي هذا الصدد تكون الصورة ناهلة من منبع أسطوري أو ديني أو تاريخي. وهكذا تمر الصورة الرمزية بمرحلتين, تتأسس الأولى على الإدراك المباشر اعتمادا على الوجه البلاغي الموظف ولما كان هذا الوجه البلاغي واردا في إطار الرمز, فإنه يتم الانتقال من الإدراك المباشر Dénotationإلى الإدراك الإيحائي Connotation الذي يفجر الرمز, <<فالصورة يمكن استثارتها مرة على سبيل المجاز, لكنها إذا عاودت الظهور بإلحاح, كتقديم أو تمثيل على السواء, فإنها تغدو رمزا>>(24).
ويشكل الرمز المفرد أعلى نسبة في الحضور داخل المتن الشعري لأمل دنقل, نظرا لوفرة الرموز المعجمية في الشعر. ولما كان الأمر كذلك, فإننا سنكتفي بالتدليل على نماذج قليلة مما يتحقق فيه التوهج ويسمو بالمتخيل إلى ذروة الإيحاء. فمن الرموز المستعملة لأداء موقف اجتماعي نتوقف عند هذه الصورة:
من يجرؤ الآن أن يخفض العلم القرمزي الذي رفعته الجماجم أو يبيع رغيف الدم الساخن المتخثر فوق الرمال
إن هذه الصورة تعطي للحسي المشاهد مكانة كبيرة, وذلك لورود دالين رمزيين تغلب عليهما طبيعة لونهما. وهما <<العلم القرمزي>> و>>رغيف الدم>>. وثمة رمز آخر تشتمل عليه الصورة وهو <<الجماجم>>. وكل هذه الرموز الثلاثة تأتي في سياق دلالي متجانس يفيد مدلولا واحدا, هو الثورة والتضحية بالنفس:
الدلالة الرمزية: التضحية الرمز : التضحية الصورة الرمزية: التضحية
الدلالة الرمزية: الأحمر الغامق الرمز : الدم الصورة الرمزية: الموت الدلالة الرمزية: العلم القرمزي الرمز : رغيف الدم الصورة الرمزية: الجماجم
ثم إن الصورة بكل عناصرها تأتي في إطار وحدة تركيبية متناسقة, يلم أطرافها الأسلوب الاستفهامي المفيد للإنكار; إنكار خفض <<العلم القرمزي>> الذي رفعته <<الجماجم>>, إذ ليس من السهولة تقويض أسس الثورة التي تحققت بثمن باهظ.. وإنكار بيع <<رغيف الدم>> رمز المكتسبات التي تحققت أيضا ببذل النفس.
إن الحسية المؤسسة من قبل بلاغة اللون أو رمزية الدم في هذه الصورة لا تفيد المدلول عن طريق المشابهة كما يحدث في الاستعارة, وإنما تفيده صورة اللون القرمزي كأيقونة دالة على الدم. وصورة الدم ذاتها كرمز دال, تتم بطريقة عقلية تبعا لكلمة الدم المعجمية المتفق على رمزها إلى الثورة أو التضحية في الثقافة الإنسانية. وهكذا يقوم الرمز بالتمرد على اللغة المعيارية, ويحقق انزياحا كبيرا وعوالم من الإيحاءات المفتوحة.
وقد تستدعي الصورة الرمزية الواحدة مجموعة من العناصر الرمزية الكافية لتأدية الموقف, دون أن يتعلق الأمر برمز مركب ما دامت تلك الرموز متسمة بالتباين والاختلاف, يقول الشاعر:
أحببت فيك المجد والشعراء لكن الذي سرواله من عنكبوت الوهم يمشي في مدائنك المليئة بالذباب يسقي القلوب عصارة الخدر المنمق والطواويس التي نزعت تقاويم الحوائط أوقفت ساعاتها وتجشأت بموائد السفراء
يتعايش في هذا المقطع رمزان, هما <<العنكبوت>> و<<الطواويس>> مع عناصر بلاغية أخرى تتمثل في الكناية <<مدائنك المليئة بالذباب>> والمجاز المرسل <<القلوب>>. وتتعاون كلها في بناء صورة متنامية أفقيا. ونلمس هذا التنامي في تداعي المعاني وتطور الموقف في إطار المعطى البلاغي لخدمة المعطى الرمزي.
إن الرمزين <<العنكبوت>> و<<الطواويس>> يمثلان ركني الصورة باعتبارهما منتجين للحدث. ومعلوم أن <<العنكبوت>> رمز لمن ينسج شراكا لتقع فيه فريسته. وإذا كان هذا <<الشراك>> منصوبا في <<مدائن مليئة بالذباب>> فعندئذ تتضح مرموزية العنكبوت والذباب, وتتجسد في علاقة التوازي بين عالم الحشرات وعالم الناس.. إذ استعير الأول للثاني لإفادة ثنائية المستغِل/ المستغَل (بكسر العين في الأول وفتحها في الثاني). وهذا العنكبوت نفسه يتحول إلى الطاووس, الذي يرمز إلى الإغراء والعجرفة المنطوية على فراغ وخواء, لإنتاج الجمود الذي تدل عليه عبارتا <<نزع التقاويم>> و<<إيقاف الساعات>>.
وقد تأتي الصورة الرمزية المفردة لمعانقة الهم الكوني المتمثل في الموت بوصفه حقيقة أزلية يواجهها الإنسان في حياته. ولما كان الموت مفهوما تجريديا, فإن الصورة تعمل على تجسيده حسيا في هيئة رمزية ولكنها مرئية:
ها هو الرخ ذو المخلبين يحوم.. ليحمل جثة ديسمبر الساخنة ها هو الرخ يهبط والسحب تلقي على الشمس طرحتها الداكنة
وهكذا نلاحظ أن الشاعر قد رمز إلى الموت ب- <<الرخ>>, وإلى المفهوم الذي يقع عليه حدث الموت ب- <<ديسمبر>>. وكلا الرمزين وردا في شكل صورتين بلاغيتين, فيمكن اعتبار <<الرخ>> استعارة تصريحية للطرف الغائب الذي هو الموت, و<<ديسمبر>> مجازا مرسلا لكونه جزءا من الزمن; إلا أن الصورتين في حد ذاتهما تصبحان مركبتين بإسناد عبارة <<ذو المخلبين>> للأولى, وتعيين الجثة للثانية. لأن المخلبين يعنيان شراسة الدال الرمزي وفتكه, ومن هنا حصول المشابهة بين الرمز الاستعاري وبين المرموز إليه. وهي مشابهة تخيلية وهمية, نجد لها حضورا في التراث الشعري العربي, كما في قول الشاعر المخضرم أبي ذؤيب الهذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
إن التنصيص على وجود المخلبين بالنسبة للرخ قد قلل من الشحنة الإيحائية التي يحققها الرمز, وأوشك أن يخرجه من بعده الرمزي إلى مجال الاستعارة; وبالرغم من ذلك, فإن معطى آخر يجب أن نوليه اهتمامنا, وهو كون الرخ طائرا خرافيا لا وجود له في الواقع. وهذا ما يجعل إسناد المخلبين إليه من قبيل تحسيس المجرد وإمداد الصورة بما تتطلبه من عناصر المشاهدة. أما بالنسبة لرمزية <<ديسمبر>> فإن إضافته إلى <<الجثة>> قد خرجت به من دائرة الترميز الذهني للزمن لكي يصبح عنصرا حسيا مشاهدا بالإشارة إلى شكل الجثة وملموسها - كونها ساخنة -.
وإذا تجاوزنا هذا التصنيف البلاغي إلى مقاربة الصورة بالنظر إلى عناصرها الدلالية, فإننا نجد انسجاما كليا بين العناصر الرمزية المنفذة للحدث: <<الرخ>> باعتباره فاعلا, و<<ديسمبر>> باعتباره مفعولا به, وبين الفضاء الذي تحقق فيه الحدث, ويتمثل في السواد المترتب عن <<إلقاء السحب لطرحتها الداكنة على الشمس>>.. وهو فضاء يوحي بالجو المناسب لحدوث الموت وشيوع الحداد. وعلى كل حال فإن هذه الصورة الرمزية تختزل حقيقة الكون وحتمية المصير, ويمكن أن نجسد ذلك في هذه الخطاطة
الرمز: الرخ المدلول (1): الفتك المدلول (2): الموت
الرمز: ديسمبر المدلول (1): نهاية دورة الزمن المدلول (2): الموت الرمز: الطرحة الداكنة المدلول (1): الظلال والسواد المدلول (2): الحداد وقد يميل الشاعر إلى الإكثار من توظيف الصور الرمزية التمثيلية, فيستثمر أسماء تاريخية وأسطورية وأدبية على نحو لافت للنظر; وفي معظم الأحيان تتوازى مدلولات هذه الصور مع دوالها الرمزية, وحينئذ تكون كل عناصر الحكاية الموظفة عبارة عن استعارات رامزة, يقول أمل دنقل - على سبيل المثال -:
من يفترس الحمل الجائع غير الذئب الشبعان
ففي هذه الصورة نصادف عالمين متوازيين. أحدهما يدرك من المعنى الحرفي المباشر, وثانيهما يؤول من خلال الأبعاد الرمزية للدوال. فالعالم الأول هو عالم الحيوانات, وفيه تظهر شخصيتان: الحمل والذئب, ويدور بينهما حدث واحد, هو <<افتراس الذئب للحمل>>. أما العالم الثاني, فهو عالم الناس بما يشتمل عليه من علاقات نفسية واجتماعية. وهناك صفتان مرتبطتان بشخصيتي العالم الأول, وهما: الشبع للذئب, والجوع للحمل, مما يساعد على تأويل الموضوع المرموز إليه بكيفية مقنعة ولا تحتمل الافتراض. ذلك أن الذئب الشبعان لا يمكن أن يرمز إلا إلى الإنسان الطامع والمتهافت, والحمل الجائع يكون على النقيض من ذلك رمزا للإنسان الضعيف المستَغل.
__________ http://www.nizwa.com/volume38/p119_128.html
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
___________
خاتمة:
لقد كان المتخيل الشعري عند أمل دنقل مكونا أساسا في تجربته المتميزة, فهو الذي أعطى للشعر المعاصر من خلاله مذاقا خاصا, وجعل القصيدة متمكنة من تحقيق أهدافها في الإمتاع والإقناع.. الإمتاع الذي هو تذوق لجماليات التحول الذي شهدته الكائنات والأشياء والمفاهيم في شعره, والإقناع الذي نعني به قدرة شعر أمل دنقل على النفاذ إلى إدراك المتلقي ووجدانه وترك بصماته فيهما. لقد كان متخيله في المرتبة الوسطى بين الإظهار والغموض, على عكس التجارب المباشرة عند بعض الرواد وعلى عكس الإبهام عند بعض دعاة الحداثة.. كما كان هذا المتخيل آخذا من البلاغة العربية لمسة الوجه البلاغي كمدلول أول وممعنا في العمق الرمزي والإيحائي كمدلول ثان, ومن ثم لم يخطئ شعر أمل دنقل قلوب قرائه.. فآمن هؤلاء القراء بضرورة الشعر وجدواه مثلما آمن شاعرنا الكبير قبلهم بذلك. ولأنه عاش الحياة في أدق نبضاتها فقد تغنى بتفاصيلها غناء جعل الأشياء الصغيرة واليومية تنتفض بضربات فرشته الشعرية الباذخة, فكان أمل دنقل - رغم حرصه على الوزن - أقرب شعراء التفعيلة إلى قصيدة النثر.
_________ http://www.nizwa.com/volume38/p119_128.html
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
__________
Quote: شكراً هشام آدم
قمة الابداع والحزن في رأيي ـ مجسدة في: أوراق الغرفة 8" - القاهرة 1983. رحم الله شاعر الصدق أمل دنقل تحياتى ومودتى |
الأخت عشّة حميدة لك التحية والاحترام
لقد صادف حديثك عن قصيدة (أوراق الغرفة 8 ) صدىً في نفسي لأن هذه القصيدة تحديداً تثيرني .. ولا أمل قراءتها كل مرّة .. فلم أجد أفضل من هذه الدراسة النقدية للأستاذ عبد السلام المساوي الشاعر والناقد المغربي وبصراحة فلقد أعجبني جداً تحليله النقدي لكتابات شاعرنا الإنسان أمل دنقل.
كوني قريبة فهذا البوست .. لم ينته بعد فقط دعيني أتخلص من كسلي قليلاً لأواصل
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
_____________
عبلة وأمل
بقلم : جمال الغيطاني
لا يمكنني تحديد اليوم، أو الشهر، ولا حتى السنة التي رأيت فيها أمل بصحبة عبلة، لكنني أذكر كل التفاصيل. كان ذلك في شارع سليمان باشا. كنت قادما في اتجاه الميدان، وكانا قادمين منه. دائما كنت التقي أمل عند النواصي وفي الميادين، وإذا تحدد المكان فهو المقهى. خاصة ريش، أو الفيشاوي ليلا. التي كان يقصدها في ساعات الفجر الأولي ليمسك الطبعات الأولي من الصحف ويبادر بحل الكلمات المتقاطعة في ثوان معدودات وبقدرة استثنائية.
إنها المرة الأولي التي التقي فيها أمل بصحبة شابة حسناء. أنيقة. جميلة، وبدا واضحا أن ثمة خصوصية، وكعادتنا نحن أبناء الجنوب عندما نقابل الأصدقاء بصحبة زوجاتهم أو شقيقاتهم أو أمهاتهم، فإننا لا نحدق في الإناث، بل نصافح أو نحيي ونحيد بالنظر. عرفت أن أمل قد رسا أخيرا في موانئ عبلة الرويني. هو الذي ظل هائما منذ أن تعرفت عليه في مطلع الستينيات، أي بعد قدومه إلي القاهرة بزمن قصير. كان المناخ الثقافي في ذلك الوقت نشطا، حميمياً، وكان أبناء الستينيات يتحركون معا، ويمضون معظم الوقت معا يتناقشون ويختلفون ويبدعون.
لم أعرف الظروف التي تعرف فيها أمل بعبلة إلا بعد أن قرأت كتابها الجميل 'الجنوبي' الذي يعد من السير الفريدة في الأدب العربي، ولو أن مثل هذا الكتاب صدر في الغرب لتحول إلي فيلم وإلي مسلسل، وإلي مسرحية. فبالإضافة إلي قدرة عبلة علي تصوير العالم الحميم مع أمل، ورسم صورة بديعة لشاعر عظيم، متمرد، صعب المراس في الظاهر: رقيق كالشفاف في الباطن. فإن الكتاب يعد نصا أدبيا رفيعا ويرسم أيضا ملامح فترة ما تزال آثارها فاعلة.
تعرفت إلي عبلة كزميلة في دار أخبار اليوم، كانت وما تزال متخصصة في المسرح، وهي كاتبة وشاعرة موهوبة، لكنها مقلة، ذات أسلوب خاص، وقد أسهمت في تأسيس 'أخبار الأدب' وما تزال.. مازلت أذكر لحظات عديدة من معاناة عبلة عندما بدأ المرض ينهش أنيابه في أمل، عاشا معا بعد زواجهما تسعة شهور، تسعة شهور فقط في شقة مفروشة، وبالنسبة لي لا يمنحني تعبير شقة مفروشة الإحساس بالاستقرار، إنها مكان للإقامة المؤقتة.. مثل الفنادق، ولكن أمل كان مختلفا، فطوال أعوام من صداقتي به لم أعرف له مقرا محددا. والآن اكتشف أننا لحظة افتراقنا الليلي لم أكن اسأله أبدا عن وجهته.. إلي أين؟.. لم يعرف أمل الاستقرار في مكان، ولم يعرف وطنه الأنثوي إلا خلال تلك الفترة القصيرة المحدودة، بعد تسعة شهور من الزواج اكتشف أصابته بالسرطان، ثم انتقل إلي الغرفة رقم ثمانية بالمعهد، وهنا بدا عنصر عبلة الأصيل..كزوجة مصرية، وكعاشقة، مرجعيتها شأن كل أنثي مصرية إيزيس المقدسة التي أخلصت كل الإخلاص لأوزيس بعد مقتله، وعكفت تلملم أشلاءه، وكلما وجدت جزءا من جسده المقدس أقامت عليه نصبا، حتى حملت منه وأنجب الابن حورس في غيابه.. علي امتداد سنوات...ثلاث وعشرين سنة، تفرغت عبلة شأن إيزيس لأمل بعد رحيله، تلملم أوراقه تكتب عنه تحفظ تراثه، تسعي الى رسائل متبقية هنا وهناك، وبين فترة وأخرى تخرج لنا أثرا منه أو عنه، وإذا كانت إيزيس قد أنجبت حورس بعد غياب اوزيس، فان عبلة قدمت لنا (الجنوبي) ثمرة حياتهما المشتركة معا التي لم تطل، ويمكن اعتبار هذا العدد الخاص من أخبار الأدب ثمرة إخلاصها لأمل ومحبتها له، فجميع الصور المنشورة من أرشيف ذكرياتها.. وتخطيط العدد من وضعها، كما أنها قامت بالجهد الأوفر بالاتصال بعدد من الشخصيات البارزة للإسهام في هذا العدد.
ومن تقاليدنا في أخبار الأدب ان يتولى احد الزملاء الإشراف الكامل علي العدد المكرس لموضوع محدد، وهل هناك أقدر من عبلة علي تحرير عدد مخصص لشاعر عظيم رحل مبكرا. ولم يكن عظيما في شعره فقط، إنما في مواقفه أيضا، ان استدعاء أمل دنقل الآن، سواء في المظاهرات الأخيرة التي شهدتها مصر ضد الحرب، أو عند جماهير الانتفاضة الفلسطينية.. تعني حضوره في غيابه. وان موقعه مازال شاغرا، وما نأمله من احتفالية الدكتور جابر عصفور بصديقه الراحل ألا تكتفي بتناول الشاعر ولكن ان تنطلق من الأسئلة التي يطرحها غيابه والحاجة إليه، أسئلة تتصل بوضع الشعر العربي الآن وعزلته والمأزق الذي وصل إليه. وإذا كنا نستحضره بكل مايرمز اليد من معان، فالتحية واجبة لرفيقة روحه التي أوقفت حياتها علي ذكراه وعلي ما أبدعه، زميلتنا عبلة الرويني.
أخبار الأدب- القاهرة
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
___________
صور نادرة :
والدة الشاعر أمل دنقل
فى 1956 أمل دنقل مع محافظ القناة اللواء محمود طلعت بعد أن ألقى قصيدة عنوانها القنال العائد
مصادر الصور: arabi.ahram.org.eg/.../ ahram/2005/1/15/CULT3.HTM
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في حضرة أمل دنقل (قصائد صوتية) (Re: هشام آدم)
|
أخي العزيز / هشام آدم
تحية الود والتقدير والتجلة ...
Quote: قلت : "فليكن الحب في الأرض" لكنه لم يكن قلت : "فليذب النهر في البحر والبحر في السحب والسحب في الجدب والجدب في الخصب ينبت خبزاً ليسند قلب الجياع وعشباً لماشية الارض ظلا لمن يتغرب في صحراء الشجر" ورأيت ابن آدم ينصب أسواره حول مزرعة الله يبتاع من حوله حرساً ويبيع لأخوته الخبز والماء يحتلب البقرات العجاف لتعطي اللبن قلت: "فليكن الحب في الارض" لكنه لم يكن أصبح الحب ملكاًً لمن يملكون الثمن ورأى الرب ذلك غير حسن |
أمل دنقل شاعر خرافي قلما يجود الزمان بمثله ... ومبدع مسكون بالوجع ..
شكراً كثيفاً أخي هشام على هذه المعلومات البالغة القيمة ...
مع خالص الود والتحية ؛؛؛
| |
|
|
|
|
|
|
|