(1) لا أحد يذكر على وجه التحديد ما حدث للقرية قبل ألف عام، وكل ما يُقال لا يزيد عن كونه مُجرّد تكهنات تدعمها اختلاف الروايات، حتى أنه لا أحد يعلم سر اتفاقهم على الألف عام، ولكنهم جميعاً يذكرون أن القرية كانت قبل ألف عام مزاراً لطيور الكرك المهاجرة، ومسكناً لببغاوات الكوكاتو الجالبة للبهجة، وأشاروا إلى مجاري الأنهار التي يبست قبل ألف عام، تلك التي كانت تأتي من جبال راس داشن الأثيوبية صافية كوجه ملاك قشتالي في مواسم الغفران والأعياد التي تخص الإله.
10-27-2009, 09:49 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
(2) قال بعضهم إن لعنة سماوية حلّت على القرية بسبب امرأة أو بسبب زمرة من النساء. وقال البعض إن أسراب الجراد النهم التي اجتاحت القرية في العام 1009م كان هو المتسبب فيما حلّ بالقرية، وقال آخرون إن دورة التاريخ لم تنصف القرية كما يجب، وأن سنوات المجد لم تدم للقرية أكثر من سبعين عاماً ثم انتقل سريعاً إلى مكان آخر؛ بينما أصر قلة منهم على أن جفاف القرية جاء بعد دفنهم جثة ساحر أفريقي مجهول.
10-27-2009, 09:57 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
(3) هؤلاء راحوا يحفرون وادي صَرَص حيث يُعتقد أن جثته مدفونة في مكانٍ ما فيه. يخرجون كل صباح حاملين أدوات الحفر، وحافظات المياه، وجهاز التسجيل، يحفرون بهمّة غير مسبوقة وهم يستمعون إلى أغنيات نوبية لمحمد وردي أو شنان، وأحياناً كثيرة تأخذهم النشوة فيلتفون في حلقة ليست دائرية تماماً يؤدون الهمبيق بمزاجية متعالية، متناسين واجب الحفر ومآلاته.
10-27-2009, 10:16 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
(4) لسبب ما كان ذلك اليوم القائظ يوم حظهم حين أحسوا بوجود جثة ما مدفونة بطريقة مختلفة عما اعتادوا عليها، لا وجود للحد أو قوالب حجرية. كانت الجثة المكتشفة ذات السبعة أذرع مدفونة بثيابها ولم تُلف في كفن كبقية الجثث الأخرى التي اعتادوا رؤيتها. ما أثار هلعهم أن الجثة راحت تنزف دماً طازجاً على الفور، وأحسوا أنه من الوشيك أن تستيقظ الجثة لتوبخهم على ذلك، فلم تكن تبدو على الجثة ملامح الموت القاتمة، كانت الجثة كجسد رجل أربعيني نائم في سلام وكأنه قرر الدخول في سبات طويل في هذه البقعة الرخوة من أرض الوادي.
10-27-2009, 11:33 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
(5) أخذ الرجال الجثة بعد أن لفوا الجرح بقطعة قماش نظيفة وذهبوا بها إلى القرية. كانت الجثة المهولة ترقد على أكتافهم كما ترقد أخشاب السنديان على أكتاف الحطابين العائدين من الغابات النفضية في مواسم الشتاء وما أن اقتربوا من ميدان القرية حتى راحوا يُطلقون الروراي في إشارة للإنجازية، وتدفق الصرصيون على المكان.
10-27-2009, 11:41 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
(6) وقفت النساء في الصفوف الخلفية وهن يسترقن النظر من وراء ثيابهن الملفوفة على أجسادهن السمراء الناحلة إلى الجثة الطازجة الممدة على الأرض، وراح الأطفال يتلصصون من وراء أجساد أمهاتهن ويتغامزون فيما بينهم، ووجدت الدواجن فرصتها في العبث بغرائر القمح والشعير دون أن ينهرها أحد أو يُعكر صفو فضولها الفطري.
10-27-2009, 12:30 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
(7) ملامحه توحي بأنه أحد أفراد البني عامر، وملابسه توحي بأنه أدروب، ولكن طوله لا ينتمي إلى أحد ولا إلى شيء ما. أخافتهم الجثة وحيّرهم أمرها كثيراً وراحوا يُقررون ما يجب فعله بها. أصر بعضهم على إحراقها للتخلّص من اللعنة، ورأى البعض الآخر أن إحراق الجثة قد يكون سبباً في حلول لعنة أشد وطأة، وآخرون ذهبوا إلى ضرورة التأكد من هويتها قبل أيّ شيء آخر، ولم ير البقية أهمية لذلك مستندين على استحالة أن تكون جثة رجل عادي طازجة رغم بقائها مدفونة هذا القدر من السنوات، قال أحدهم: "هي جثة ملعونة على أية حال، وهذا سبب كاف لحرقها"
10-27-2009, 12:47 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
(8) جمعت النساء أغصان الهشاب ولحاء السدر وبعض الغرائر البالية ووضعوها فوق الجثة ليضرموا فيها النار، لكن غيمة سوداء غير معتادة جعلتهم يتراجعون عن ذلك. وليلاً على أنغام زخات المطر على أسقف البيوت الزنكية تحدث البعض عن حماية السماء للجثة من الحرق، ورأوا في ذلك علامة يجب أخذها في الاعتبار.
10-27-2009, 01:50 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
(9) على لوح من خشب الزان المسحول بعناية كانت جثة الغريب يغسلها مطر الشمال، كحوتٍ أبيض وسيم يتمرّغ في ماء رئتيه المبذول في تنفسه على سطح محيط. مسحت بقايا التراب العالقة عن وجهه وملابسه، وسالت على جسده كيرقات مشاغبة، وبعض الأعين الفضولية تراقبه من خلال ثقوب عشوائية في نوافذ البيوت. مهيبةً كانت الجثة وهي تستقبل المطر في سكون.
10-27-2009, 01:57 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
(10) في الصباح، اشتد رفض الرافضين لإحراق الجثة، وانضمت إليهم ثلة من النساء، قالوا: "إذا كان دفن الجثة قد جعل اللعنة تحل على القرية قبل ألف عام، فإننا لا نأمن ما قد يصنعه إحراقها" وتناقلوا نظراتهم بينهم ككرات نارية مجنونة هازئة بالجاذبية، وكانت نظرات الأطفال الهادئة الوحيدة التي تحمّلهم مسئولية اتخاذ القرار. وقبل حلول المساء كان الغيمة السوداء تتسلل من مكان قريب لتنذر بيوم ماطر آخر.
10-27-2009, 01:58 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
(11) على مدار أسبوع كامل لم تنقطع السماء عن إدهاش الجميع بكرمها غير المعتاد، فكانت تُمطر كأنها لن تفعل ثانيةً، أو كأنها تفرغ حمول السنوات المنصرمة ديناً مُستحقاً لأهالي القرية. وتوقف الجميع عن مراقبة الجثة وهي تغتسل بمياه المطر، وانهمكوا في فرحهم الجم بما حلّ عليهم من نعماء مفاجئة. وفي أول هدنة اكتشفوا أن الجثة لم يعد لها أثر في المكان على لوح الزان المسحول بعناية. قال البعض: "لقد عادت الجثة إلى حيث يجب أن تكون، لقد كانت جثة مسحورة بالفعل".
10-27-2009, 01:58 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
(12) كانت الأرض مُصابة بالرشح فخلعت ثيابها القديمة، وارتدت آخراً على الفور: مروج العشب المداري امتدت بأناقة، وأخرجت أعشاب الأراوله رؤوسها مندهشة، وشاهد أهالي القرية للمرّة الأولى أزهار الأرنيكا والأكاسيا. كل شيء في صَرَص تغيّر فجأة حتى النهر المتدفق من رؤوس جبال راس داشن دبّ فيه الحياة، وراحت نساء القرية يُعبئن الجرار والأواني النيكلية من النهر كما تمنين طويلاً، خشين أن يجف النهر ثانيةً دون أن يتمكن من تحقيق أمانيهن القديمة.
10-27-2009, 02:00 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
(13) قال البعض في سُخرية: "لقد أكرمتنا اللعنة لأننا لم نحرق الجثة!" وصلى الرجال شكراً لله لأنهم لم يفعلوا. لا يعلم أحد أين اختفت الجثة، ولم يهتموا لذلك وانشغلوا بأمر القرية التي تغيّرت كُلياً خلال شهر واحد. قال عُمدة القرية: "ربما كانت القرية أجمل من هذا قبل ألف عام!" ولكن أحداً لم يكترث. ثم جدّوا في بناء قبّة وسط القرية حيث كان لوح الزان المسحول وأسموها "قبّة الشيخ زان"
10-27-2009, 02:02 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
(14) قرناص، عديم الذكر، ظلّ ملتزماً بصمته الساخر وهو يرى حال القرية وأهلها بعد اختفاء الجثة، قال في سرّه: "ياللجثة!" همسَ في أذن عُمدة القرية، فهمس في أذن الذي يليه وتناقلوا الهمس كما تتناقل الناس أخبار النميمة في الجلسات السرية، ثم نهضوا فجأة، يتقدمهم قرناص بطوله غير المُبشر بخير، وأشار إلى مكان ما فحفروا فإذا بجثة الشيخ زان ترقد بسلام وقد ارتسمت على وجهه ابتسام طارئة ووسيمة. (انتهى)
10-27-2009, 01:59 PM
النذير حجازي
النذير حجازي
تاريخ التسجيل: 05-10-2006
مجموع المشاركات: 7170
تشكر يا هيشو على هذا البوست الملح دا، ويديك العافية ويكتر من أمثالك ومتابعين باهتمام بس يا هشام غضضت الطرف عن مكان قرية صرص ووصفها للقارىء لا اعلم بقصد كان أم بغير قصد، حتى نعيش الزمان والمكان مع القصة.
10-27-2009, 02:10 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
لم يكن يعنيني وصف المكان، بقدر ما كان همّي التركيز على الحدث الذي غيّر القرية. أشكرك يا عزيزي على مداخلتك اللافتة، فقد وضعت يدي على خلل مهم في القصة وهو ما يتعلق بالعنوان، فلم يكن من المفيد الإشارة إلى "صَرَص" في العنوان حتى لا ينصرف ذهن القارئ إليها فيبحث عنها في القصة.
تحياتي
10-28-2009, 05:44 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة