بين حجرين - رواية

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-12-2024, 07:47 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة هشام ادم(هشام آدم)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-26-2007, 04:31 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
بين حجرين - رواية

    ______________________________



    بين حجرين



    - رواية -


    هشام آدم
                  

06-26-2007, 04:35 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    _____________________________



    اللوحة بريشة الفنان: إسحق عبد القادر
                  

06-26-2007, 04:42 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    _______________________






















    « لو وهبني الله حياة أطول لكان من المحتمل ألا أقول كل ما أفكر فيه ، لكنني بالقطع كنت سأفكر في كل ما أقوله. كنت سأقيّم الأشياء ليس وفقا لقيمتها المادية، بل وفقاً لما تنطوي عليه من معان. »
    غبريال غ. ماركيز





    .
                  

06-26-2007, 04:55 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    __________________________

    الفصل الأول:


    لم تكن تلك أمنياته عندما ترك محجوب الريّس بورتسودان. لم يكن يتوقع أن ينتهي به الحال في جامعة الجزيرة بود مدني ليعمل بها خفيراً لكلية الطب. ولم يكن يتوقع - وهو المتغزّل بحياة العزوبية - أن يترك رؤية الجميلات من بنات الثانوية اللواتي كن يبتسمن في وجهه ساعة القيلولة في طريقهن إلى منازلهن ليرافق في فترة ما من حياته إناث البعوض في ود مدني الموبوءة بالأنوفلس وأصوات الجنادب عالية الصخب. كان محجوب عبد السلام صياداً بالوراثة في إحدى مراكب الصيد التابعة لوزارة الثروة الحيوانية في بورتسودان عندما فرضت الوزارة ضرائب إلزامية على الصيادين، فكان عليهم أن يدفعوا لجابي الوزارة كل شهر مبلغاً وقدره. ورغم أن الصيد كان وفيراً إلاّ أن الصيادين لم يكونوا قادرين على بيع أسماكهم بأعلى من السعر الذي كان يطرحه السوق المركزي للأسماك وإلاّ فلن يشتري منهم أحد. فأصبح الصيادون يبيعون أسماكهم بأقل من السعر المطروح في السوق كي يتمكنوا من دفع الضرائب. وما يتبقى لهم من فتات كان عليهم أن يقتسموه مع زوجاتهم وأطفالهم.


    أصبح صيادو الوزارة فقراء مقننين. وفي إحدى اجتماعات صيادي الوزارة تحت غالبونة من غالبونات الميناء الزرقاء الشهيرة بصفائحها الزنكية المتعرجة والمثقوبة في جميع أرجائها، لتسمح بمرور خيوط الشمس العامودية على أرضيته الخرسانية وعلى وجوه الجالسين تحتها، ناقش محجوب ورفاقه ما استجد من أوضاعهم في الميناء، واقترحوا جمع بعض المال لشراء قوارب صيد خاصة بهم، لكنهم - بعد مرور ستة أشهر - لم يفلحوا في تحقيق ما اتفقوا عليه؛ فأسعار مراكب الصيد كانت باهظة جداً، لا سيما تلك المزوّدة بمحركات في مؤخرتها. وكانت التزاماتهم العائلية ترهقهم إلى حد أن أصبح مشروع العمل الحر مثل صيد الماء بغربال رديء الصنع. كما أنّ تجار الميناء الكبار – أو "الحيتان" كما كانوا يسمونهم – لم يكونوا ليسمحوا للصيادين بأن يمتلكوا مراكب خاصة بهم. فأصبح الصيادون واقعين بين مطرقة جشع الوزارة، وسندانة احتكارية الحيتان. ورغم أن وضع محجوب كان أفضل حالاً من رفاقه المتزوجين العائلين، والذين يحملون أعباء زوجاتهم وأطفالاً صغار من خلفهم، إذ لم تكن له التزامات تذكر غير ثمن كيلو التمباك الناشف لوالدته المسنّة، والتي كانت تقوم بتمطيره في البيت، وثمن زجاجة البيرة الرخيصة التي كان يتناولها على فترات متفاوتة وبعيدة، إلاّ أن الجميع بدون استثناء كانوا متضررين من تلك الضرائب التي يدفعونها من قوتهم وقوت أبنائهم.


    كان محجوب الريّس – وهو الاسم الذي اشتهر به محجوب عبد السلام بين رفاقه من صيادي الوزارة – قد بدأ في التفكير بكل جدية في ترك العمل في بورتسودان، والانتقال إلى مكانٍ آخر، لا سيما بعد أن سمع من بدر الدين مكاوي الخيّاط في إحدى جلسات الضومانة في نادي ديم بوليس – حيث كان يرتاد كل أسبوع تقريباً – عن توفر فرص العمل في القضارف، وودمدني والخرطوم. وكم مرّة سمع عن ذلك من غيره، غير أنه كان يعشق بورتسودان، وبيوتها الخشبية البسيطة، وأهلها البسطاء. ولم يكن يتصور نفسه في مكانٍ آخر غيرها. فقد ولد ونشأ فيها. يعرف بيوتها بيتاً بيتاً . ويحفظ شوارعها وأزقتها ونواديها وميادينها ومحلاتها. كان يعرف كل الطرقات: تلك التي يحرسها كلاب شرسة لا تفرّق بين اللص وبين العابر المسالم، وتلك المتعرّجة التي لا تستطيع حتى عربات الكارو المرور بها. ويعرف الوجوه العابرة: عواجيز المنطقة الجالسات على أفنية المنازل الخشبية، تحت الرواكيب الخيزرانية العتيقة، أو العابرات – كقوافل العير المنهكة – لشوارع المدينة الصاخبة نهاراً، وشبابها الذين يخرجون بعد صلاة العصر إلى النوادي والميادين العامة ليلعبوا كرة الطائرة، أو تنس الطاولة. ونسائها المتشحات بالسواد والقادمات دوماً – وقت الضحى - من سوق الخضار.


    وحتى الأطفال الذين كانوا لا يكفون عن لعب السكّج بكّج أو البلّي في ميادين بورتسودان الملحية. لم يترك شبراً فيها إلاّ ووطأه بقدميه، حتى النادي الإفرنجي الذي كان يرتاده الأغنياء فقط، كان محجوب الريّس - كلما وجد في جيبه أكثر من جنيه واحد - لا يتوانى أن يدخله، ويطلب زجاجة بيرة خالية من الكحول من النوع الزهيد بما معه من نقود، مكتفياً بالنظر إلى الآخرين وهم يأكلون ويشربون أشياء لم يستطع أن ينطق أسمائها حتى! كان يجلس في آخر طاولة ويخرج علبة التبغ المحلي من جيبه ليضعها أمامه على الطاولة، وفي كل مرة كان ينادي على صديقه أمير سيد أحمد النادل، يستعير منه القداحة ليشعل بها سيجارة يطفئ جمرتها المشتعلة بلعابٍ يجعله في طرف سبّابته، ليعود فيشعلها مرّة أخرى بعد حين. ولأنه كان يرتاد بشكل شبه شهري على النادي الإفرنجي فقد تعرّف الريّس إلى أمير، الذي يعمل في النادي منذ أن تم افتتاحه في أواخر الستينيات. وأمير هذا شاب وسيم جداً، ساعدته وسامته هذه في اجتياز المقابلة الشخصية التي كانت إدارة النادي تجريها كل يوم أربعاء وخميس من كل أسبوع قبل افتتاح النادي بشكل رسمي.


    .

    (عدل بواسطة هشام آدم on 06-27-2007, 09:10 AM)

                  

06-26-2007, 04:57 PM

Mohammed Elhaj
<aMohammed Elhaj
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1670

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    هشام... أرجو فعلاً أن تكون بخير
                  

06-26-2007, 05:02 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: Mohammed Elhaj)

    __________________________

    Quote: هشام... أرجو فعلاً أن تكون بخير

    صديقي الأعز : محمد الحاج

    لا تقلق عليّ .. فطالما ظلّ النمتّي بعيداً عني ...
    فتأكد أني بخير جداً جداً ... أشكرك يا صديقي العزيز



                  

06-26-2007, 05:05 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ______________________

    * تعال .. قرّب جاي شوية.... اسمك منو؟
    - أمير سيد أحمد.
    * اشتغلت وين قبل كده؟
    - بيّاع تزاكر في سينما الشعب
    * اشتغلت كم سنة هناك؟
    - سنتين وأربع شهور.
    * وداير تخلي شغلك مالك؟
    - عارف سيادتك .. الأرزاق والمعايش ..
    * همممم .. مش بطّال والله .. شكلك تنفع معانا .. بس .....
    - سيادتك أنا ممكن أعمل أي حاجة؟
    * بتعرف إنجليزي؟
    - مممم .. ما بعرف .. بس ممكن أتعلم ..
    * لسّه حتتعلّم ؟
    - شهر .. شهرين بس وتلقاني لبلب في الإنجليزي ديّه
    * أوكي .. حنشوف. حتستلم الشغل من يوم السبت دور الجاي. ومن هنا لحادي الوكت داك .. حاولت تتعلّم ليك شوية كلمات ينفعوك في شغلتك دي.
    - أكيد .. أكيد... بس ...
    * معلوم .. معلوم .. حنديك سبعطاشر جنيه
    - سبعطاشر جنيه ؟
    * ده غير الأوفر تايم .. والسكن ... وإزا لقينا شغلك كويس .. راتبك حيزيد


    كان العمل في النادي الإفرنجي حلماً يراود الكثير من الشباب الذين كانوا يتجمهرون بالمئات أمام مكتب إدارة النادي منذ ساعات الصباح الباكر، كما تتجمع طيور الرخام حول جيفةٍ ما. ولكن لم يقبل منهم إلاّ عشرة فقط. كان أمير يعتبر نفسه محظوظاً بالعمل في النادي، حيث الراحة والملبس النظيف والمتعة التي يراها بعينيه، ويسمعها بأذنيه، هذا بالإضافة إلى الراتب المغري الذي كان يتلقاه، والذي كان يعادل راتب ناظر محطة السكة الحديدية.


    في النادي كانت تمر عليه عشرات الوجوه التي لم يكن ليراها في عمله في كشك التذاكر بسينما الشعب، أو حتى في حيّه البسيط في "سلبونا". رجال ونساء لم يكن يتصور وجود أمثالهم في السودان قاطبة. كان أكثر روّاد النادي من الأقباط، ورجال الأعمال الذين يقرأ عنهم سكان بورتسودان في الصحف اليومية أو يسمعون أسمائهم في المذياع فقط، أو على اللافتات الدعائية على أسوار الشوارع العامة. كما كان بعض روّاد النادي من الخواجات: بريطانيون وإيطاليون وصينيون وهنود. لذا كان اختيار العمّال في النادي يتم بدقة متناهية. ولم يكن الريّس ليصدّق قصص أمير الغرامية الساخنة التي يقصّها عليه لولا أنه رأى إحداهن بأمّ عينيه تغازله وتقبّله، بينما انغمس الجميع في رقصة التشاشا في إحدى الليالي الصيفية الحارة. وعرف فيما بعد أن ما يقوم به أمير إنما هو نوع من مجاملة زبائن النادي، إذ كان يُطلب منهم إرضاء الزبائن بأي شكل لا سيما في المواسم الراكدة.


    كان الريّس كلّما وجد بحوزته ثمن البيرة الخالية من الكحول، ذهب إلى النادي الإفرنجي واستمتع بمشاهدة الآخرين وهم يعيشون حياتهم المخملية. كان - كلما تحصّل على ثمن البيرة الرخيصة - يفضّل الذهاب إلى النادي الإفرنجي على الذهاب إلى إحدى نوادي الحي البائسة أو السينما، فما يشاهده في النادي كان أكثر إثارة له مما يشاهده على شاشة السينما، وأكثر واقعية. وكان دائماً يقول: "النادي الإفرنجي سينما حقيقية."


    ذات يوم بعد انتهائه من عمله، جلس الريّس فوق إحدى صناديق الشحن الخشبية المختومة بختم التصدير باهت الزرقة، وأخرج ما في جيبه من نقود متآكلة كما ولو كانت قد تعرضت إلى هجوم سربٍ من النمل الأبيض، وبدأ يعدّها. فلما وجدها تكفي لزجاجة البيرة، أعاد طي النقود، وقبّلها وهو يرفع بصره إلى السماء في امتنان. وضع الريّس نقوده مرّة أخرى في جيب قميصه المبتل بعرق ورطوبة الميناء، وتوجّه إلى النادي الإفرنجي من فوره. دخل، وجلس حيث اعتاد أن يجلس كل مرّة.
                  

06-26-2007, 05:09 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    _____________________

    كان أمير منهمكاً في تلميع الكؤوس، ووضعها بشكل أنيق على الرفوف، عندما رفع رأسه مبتسماً للريّس وحيّاه بإيماءة سريعة. ابتسم الريّس وهو يتابع حركة الناس. لاحظ أن النادي مزيّن ببالونات ملوّنة، وهناك في الركن القصي من خشبة المسرح التي يوضع عليها جهاز الدي جي. رجال بيوني فورمات زرقاء يعملون على تركيب أجهزة يراها لأول مرة، ولم يكن يعلم فيم سوف تستخدم. ولكنه لم يكن يرهق نفسه كثيراً لمعرفة كل ما يمر عليه. فهو يعلم أنه سوف يعرف لاحقاً عندما يرخي الليل ستائره. فعندما تطفأ الأنوار في النادي الإفرنجي كان الريّس يرى بوضوح أكثر، كالقطط !! – هكذا كان يقول دائماً -. كان ما يراه الريّس هناك لا يمكن أن يراه في أي مكان آخر، لذا فقد كان يتابع كل ما يجري أمامه بانتباه بالغ. ويحاول الاستمتاع بوقته بقدر الإمكان.


    اقترب منه أمير مبتسماً ، وهو يحمل في يده اليمني زجاجة البيرة الخاصة به، وقد لفّ على ذراعه اليسرى منديلاً أبيضاً :

    * بختك يا عم الليلة بالزات حتمبسط ع الآخر. ويمكن يكون في بيرة ملح زاتو.
    - دقيقة .. دقيقة. شنو الليلة هنابيك وزينات .. الحاصل شنو؟
    * يا زول شايف الراجل الواقف هناك داك؟
    - ياتو واحد فيهم؟
    * الحلبي المتختخ اللابس بدلة كحلي داك، وشايل ليهو علبة في يدّو
    - أيوا .. أيوا .. مالو ؟
    * عيد ميلاد بتّو الليلة.
    - يعني شنو عيد ميلاد بتّو الليلة؟
    * كيف يعني شنو يا الريّس ؟.. بقول ليك عيد ميلادا الليلة .
    - يعني مرتو جابت ليهو بت الليلة ولا شنو؟
    * الريّس إنتا جادي؟ بقول ليك عيد ميلاد تقول لي جابو ليهو بت؟؟؟
    - عليّ الطلاق ما فاهم .. يعني شنو؟
    * يعني قبل عشر سنة، زي الليلة كدي بتّو إتولدت .. فالجماعة ديل بيقوموا بيعملوا حفلة زيّ اللي إنتا شايفها دي.
    - يعني زي السماية كدي؟
    * سماية شنو يا الريّس ... بتبالغ!! عيد ميلااااااد .. أصلو ما حصل سمعت بعيد الميلاد.
    - حرّم أنا ما سمعت غير بعيد الفطر والأضحى والكرسماس وشم النسيم والمولد. هو في عيد تاني غير دول كمان؟
    * حسي حتشوف العجب .. كل ما تمر سنة على ولادة زول من أولاد الجماعة ديل .. بيعملوا ليهو حفلة .. والليلة حفلة بت زولك الحنفولي داك .. ما شايفو مبسوط لمن وشو بقى عامل زيّ الفشّة كيف؟
    - والعلبة الشايلا في يدّو دي بتاعت شنو؟
    * دي غالباً بتكون علبة طورتة .. ولا هدية .. الله أعلم.
    - طيب يا أمير .. الجماعة ديلاك .. قاعدين يركّبوا في شنو؟
    * ديل تبعين محل "العديل والزين" بتاع الأعراس .. بيركّبوا جهاز البخار.
    - ديشك !! جهاز بخار؟ يعني شنو؟
    * جهاز بيطلّع بوخ كده غريب
    - لزوم شنو يعني؟
    * أنا عارف !! أهو هبل وخلاص.

    - في بورتسودان يحلف جميع الرجال بالطلاق إذا كان الأمر بالغ الجديّة، ولا يشترط أن تكون متزوجاً بالفعل ليتم تصديقك. وتحلف النساء بالحياة: وحياة غلاوتك، وحياة أولادي، وحياة أبوي وأمي، وحيات معزّتك ... بينما يعتبر الحلف بالله هو الحلف الرسمي في المحاكم ودور القضاء فقط. حتى مولانا عبد القادر كرّار، بعيداً عن رسميات المحاكم وفي جلسات سمره مع أصدقائه من تجّار مراكب الصيد وتجّار الفاكهة وأصحاب المحلات يحلف بالطلاق دائماً.-

    ظلّ الريّس – بعد أن سحب إليه زجاجة البيرة وأخرج علبة التبغ المحلي – يراقب ما يحدث بكل اهتمام ، وكلما سمع صوتاً التفت إليه، وكأنه لا يريّد أن يفوّت على نفسه أي مشهد قد لا يتكرر مرّة أخرى. أو كأنه يريد أن يفهم بسرعة ما يجري قبل أن تنتهي زجاج البيرة، ويضطر إلى الخروج؛ إذ لم يكن يسمح لأحد بالجلوس دون أن يطلب مشروباً أو وجبة. وكم تمنى أن لو كان يملك أكثر من عينين في رأسه! وما هي إلاّ بضع دقائق حتى امتلأ النادي بالناس: رجال أنيقون، ونساء حسناوات يرتدين فساتين ملوّنة ومزركشة، حتى شعورهن كانت ملّونة، تساقطت على نحورهن القلائد الذهبية التي تعطي بريقاً كلما تقاطعت مع ضوء الإسبوت لايت على السقف المستعار الممتلئ بالأنوار الملونة هي الأخرى. هنا حتى السُمرة لها رونق آخر غير سُمرة النساء العابرات في الأحياء البسيطة، فتلك سُمرة متعَبة وكالحة، بينما سمرة نساء النادي الإفرنجي سمرة تملك سر العلاقة بين الضوء والفراشات المنتحرة على أعتابها. وكان كلما سئل الريّس عن اللون الذي يعشقه، يتردد قبل أن يجيب : "السَمَار نص الجمال طبعاً !!" وهو الذي كان لفترة طويلة يؤمن بأن بياض البشرة علامة من علامات رضا الله على عبده. وعندما كانت تشتعل النوافير المائية والجدول لاصطناعي يتعجب الريّس – في كل مرّة – من أين يأتي وأين يصب، ولم ينل متعة اكتشاف ذلك بمفرده، بل أخبره أمير. لم يكن يهتم كثيراً لنظرات البعض التي كانت ترمقه بين الحين والآخر. نظرات وكأنها تتساءل في حيرة: ما الذي أتى بهذا الرجل إلى هنا؟ أو: كيف سمح لهذا الشخص بالدخول بهذه الهيئة؟ لم يكن يكترث لها لأنه يعتبر نفسه جاء من أجل الفرجة عليهم. كان يعتبر نفسه وكأنه على إحدى مقاعد السينما.


    عندما دخلت تلك الحسناء الشيرازية صالة النادي ذات الإضاءة الخافتة، وأضواء الإسبوت لايت ترمي بأطراف أصابعها الملوّنة على شعرها الذي لم يُعرف لونه على وجه التحديد، ومشيتها الواثقة التي تقطر أنوثة مع كل خطوة تخطوها على أرضية الصالة الأبلكاشية، وفستانها الضيّق الذي يبرز تكويرة أردافها. تذكّر حورية البحر التي طالما سمع عنها في قصص الصيّادين القدماء؛ لم يصدّق الريّس نفسه، وهو ينظر إليها في حين بدت مبتسمة للحضور الذين وقفوا في صفين متوازيين. بدأ الجميع يقبّلون يدها التي تشبه قطعة الجيلاتين الغضّة وهي تمدّها بكبرياء وابتسامة ملوكية، حتى توقفت في مقدمة الطاولة الاحتفالية. عندها توجّه أمير نحوها مسرعاً ليناولها بكل أدب جمّ كأساً من النبيذ الأحمر المخفّف بالثلج. ولا ينسى الريّس كيف كانت ابتسامتها له وهي تتناول منه الكأس في امتنان. ظلّ يراقبها أنّى اتجهت، وكلّما حال بينه وبينها أحدهم، ألصق مقعده في مؤخرته وتحرّك مرّة لليمين ومرّة لليسار. كان وكأنه لم ير امرأة قط. شعر الريّس بشيء بارد يسري في أوصاله كلّما رآها مبتسمة. ورغم أنها لم تره – لأنه كان في موقع مظلم في آخر الصالة - إلاّ أنه كان يشعر بدغدغة في صدره كلما التفتت برأسها نحوه. ولم يصدّق الريّس نفسه عندما مرّ أمير بجواره مسرعاً، فتلقّفه :

    * كويس إنّك جيت براك.. تعال وريني النجفة ديك منو؟
    - هاها .. يا مان والله دي إلاّ تقعد تعاين ليها من بعيد بس .. مالك ومالا إنتا
    * ها يا الهطفة .. حسي أنا قلت ليك داير أعرسا؟
    - دي يا سيدي خوّاجية طليانية ..
    * طليانية؟ ياخي لاكين دي ما مبالغة ..
    - طليانة لاكين بتتكلم عربي زي الطلقة
    * قلت لي اسمها شنو؟
    - اسمهااااااا ... أيوا .. أوديت.
    * شنو ؟؟
    - أوووديييت
    * ياخ الخواجات ديل قدر ما سمحين .. قدر ما أساميهم مكعوجة .. ما تعرف ليه.. حسي عليك الله دا اسم بني آدم ، ولا دوا كحة!!

    يواصل أمير في عمله، وهو يبتسم لقفشات الريّس التي يعرفها جيداً، بينما عاد الريّس لمتابعة الشيرازية التي أسرته منذ الوهلة الأولى. كانت ترتدي فستاناً بلا أكمام، ونهداها البارزتان تكادان أن تندلقا من تكويرةٍ طالما تعجّب فيهما الريّس وهو يمصمص شفاهه ويقول: "ياخي ديل مخلوقين من شنو أصلو؟." كان أكثر ما يدهشه هو ابتسامتها الساحرة ذات الكبرياء الواضح والتي لا تفارق وجهها أبداً. كانت ذات ملامح جميلة وهادئة جداً، تضع في منتصف فستانها من الخلف، وردة قماشية حمراء كبيرة، تنسدل من تحتها قطعة مخملية كالذيل، تجرها ورائها كلما تحركت. كانت تشبه أميرات الأحلام. وتهافت الجميع للسلام عليها وتقبيل أطراف أناملها، كان كلّما فعلها أحدهم، شعر بشيءٍ ما يوخزه، لم يعرف ما إذا كانت غيرة أم حسد. ظلّ الريّس على حالته تلك حتى انتهت زجاجة البيرة الرخيصة، ولم يفِ أمير بوعده له بزجاجة بيرة مجانية أخرى، فاضطر لمغادرة المكان مأملاً نفسه بالعودة في الشهر القادم.

    يخرج؛ فتنخفض أصوات الموسيقى في أذنيه، وتختفي الأضواء الملونة في عينيه، ويتركها خلفه وكأنه خارج من الجنة إلى الدنيا، أو من الدنيا إلى الجحيم. متراقصاً على أنغام الموسيقى التي تبدأ بالذوبان في أذنيه كلّما ابتعد. يضرب كفاً بكف وهو يركل حجارة الطريق نادباً حظه العاثر متسائلاً: أين سمعت هذه العبارة "المال روث الشيطان"؟ ومن يا ترى هذا الشيطان الذي زرع في رؤوسنا هذه الخزعبلات؟ وفي كل مرّة كان يتنهد بصوتٍ عالٍ وهو يقول: إإإإإيه .. ناس عايشة، وناس دايشة!!!
                  

06-26-2007, 05:17 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    _________________________

    وفي طريقه إلى المنزل، يشير إلى المركبات العابرة لتقلّه في طريقها إلى أي نقطة أبعد من مكانه. تتوقف سيارة (بوكس) فيركض ليرمي نفسه داخل حوضها الخلفي قبل أن تتوقف تماماً، ويجلس مع آخرين. آخرون يحملون ملامح أقرب إلى ملامحه، يشعر إلى جوارهم بأنه أكثر تميّزاً، ربما لأنه يحمل في داخله إردبّات سعادة لا يحملونها، وقد لا يستشعرونها فيما تبقى من حياتهم. يتكلمون عن أشياء يعرفها ويفهمها، أشياء يسمعها كل يوم، وربما كانت متكررة كما بقية الأشياء في حياته التي لا يتغّير فيها شيء غير التواريخ : أزمة الديزل التي أدت إلى توقف الشاحنات ناقلة البضائع وبالتالي انعدام بعض المواد الأساسية كالزيت والسكر والبصل وبعض الخضراوات، حادثة انقلاب باص الركاب الإكسبرس على طريق العقبة ووفاة أربعة أشخاص إضافة إلى السائق، قطوعات الكهرباء وما تسببه في الصيف من أزمات حادة وتضرر الناس على إثر ذلك، الزيادة الملحوظة للقرّاص وحشرات الصيف. موضوعات يألفها الريّس أكثر من تلك التي يسمعها في النادي الإفرنجي.


    أناس تضحكهم أشياء بسيطة وربما تافهة، يتندرون على أنفسهم وعلى ما يجري من حولهم بكل سخرية. تكلّموا عن حفلة العرس التي انقطع فيها التيار الكهربائي لأكثر من نصف ساعة، وكيف أن الحضور دهشوا - بعد عودة الكهرباء - عندما لم يجدوا للعروسين أي أثر. قال البعض – سراً – أن العريس من عائلة محافظة جداً، ولم يكن يسمح له بالاختلاط مع الجنس الآخر، وأنه كان متلهفاً لانتهاء الحفل لأسباب يقدّرها المتزوجون حديثاً. وقال البعض الآخر أن العروس كانت مستاءة من عدد السكارى في الحفل. بينما ذهب آخرون إلى أن انقطاع الكهرباء كان مدبّراً من قبل ذوي العريس الذين أرادوا التهرّب من عشاء المدعوين، إذ فاق عددهم حد توقعاتهم وإمكانياتهم، غير أن جميع الروايات اتفقت على أن انقطاع الكهرباء كان حلاً سماوياً دون شك. في الطريق، يضرب الريّس بيده على جانب البوكس ليخفف من سرعته، فيسارع بالقفز قبل أن يتوقف تماماً ، ويلوّح للآخرين مودعاً إياهم، بينما تنطلق السيارة مرّة أخرى.



    في بورتسودان يكفي أن تلتقي بالناس في مركبة عامة ليتولّد نوع من الإلفة بينك وبينهم. لا يهم إن كنت تعرفهم من قبل أو لا، إذ يمكن لأي شخص أن يشارك الآخرين حديثهم حتى وإن كان قد انضم إلى الجلسة للتو. أهل بورتسودان البسطاء، بسطاء في كل شيء حتى في أحاديثهم وفي علاقاتهم. وهم لا يحبون الذين يتعالون عليهم. من ملامح الناس العابرة صباحاً إلى كل مكان تعرف تفاصيل الطقس الحياتية. وحركة الأقدام لا تخف وطأتها على الأرض إلاّ في موعد المسلسل المسائي، وفيما عدا ذلك فبورتسودان مدينة حيّة وتعج بالحركة. وعندما تخف حركة أقدام البشر، تبدأ الكلاب نوبتها الليلة، فتتعالى أصوات النباح في كل مكان. قلّة من الناس هم من لا يملكون كلباً أو يشتركون مع جار ملاصق نباح كلبهم وحراسته الليلة. الإضاءات الخافتة داخل البيوت والمنبعثة من فوانيس زيتية بدائية تجعل الشوارع أكثر عتمة، بينما تتعالى أصوات ضربات الطار في مسيد الطريقة القادرية لتكوّن مع نباح الكلاب جوقة مسائية أصبحت معتادة لأهل ديم بوليس. أسوار المسيد وبابه الزنكي المضاء بأنوار خضراء تزيّن الحي دون أن تزوّد المارة بالضوء الكافي المخفِف للعتمة والظلام هو ما يذكّر الريّس بأن اليوم هو يوم الاثنين دون شك. يمر عبر ميدان الحي المليء بالحصوات الصغيرة المتناثرة، وحفر السكّج بكّج والبلّي المصنوعة بيد الأطفال دون أن تسترعي انتباهه القصائد النبوية التي تتلى، ودون أن يهشّ نباح الكلاب عن أذنيه.


    كان الريّس يحس بسعادة تغمره وتشعره بأنه أصغر من سنواته الثلاثين، وهو يتقافز بين الحفر الرملية التي تملأ ميدان دقنة، ملوّحاً بيديه الاثنتين في الهواء كأنه يجرّب الطيران الأمر الذي كان يثير فضول الكلاب ونباحها. كان الظلام والوقت المتأخر ما يغريه بأن يتراقص على الأنغام التي ما زال يتذكر طعم إيقاعها جيداً، ويعيد تعبئتها في كل مرّة، تماماً كآلة البيانولا. الكلاب والمدّاحون والريّس كانوا هم مصدر الإزعاج الوحيد للحي النائم بسلام، متدثرين برطوبة الصيف المعتادة والقرّاص. عندما اقترب الريّس من منزله، بدأ في اكتساب بعض الاتزان والهدوء، ورسم كروكياً لملامح جادة نوعاً ما. يرفع يديه، ليُسقط مزلاج الباب بهدوء وحذر خشية أن يوقظ أمه التي تنام في فناء المنزل.


    - جيت يا المسخوت؟
    * إنتي صاحية يا أم محجوب وله صحيتي مع صوت الباب؟
    - هو أنا بجيني نوم وإنتا بره؟ يا ولدي ما قلتا ليك بطّل الصرمحة والصعلكة بتاعتك دي .. القدرك معرّسين وفاتحين بيوت حسي


    يواصل الريّس إحكام إغلاق الباب بكل هدوء دون أن يردّ على اسطوانة والدته التي اعتاد على سماعها في كل ليلة يتأخر فيها خارج المنزل. كانت أمه تعتبر هذه النصائح كالمعوذتين قبل النوم، بل كانت تتحين الفرصة لتتلو على مسامعه "نهج البردى" في كل مرّة تجد فرصة مواتية لذلك، معيدة عليه جملتها المستنسخة التي لا تفتأ تقولها له "شهاب الدين أظرط من أخيه" لم يكن يعرف الريّس سراً لهذه الجملة المتلازمة التي تصر نفرين على ترديدها دائماً. يسحب الريّس بقدمه اليسرى طوباً قريباً ويثبته أسفل الباب، ويدخل إلى الفرندة ويخرج حاملاً سريره بيديه، ويعود ليضع عليه مرتبة من الإسفنج ووسادة تشبه إلى حدٍ كبير ورق الباسطة الناشفة. يقف برتابة ممسكاً بملاءة ينفّض بها بعض الغبار – ربما – عن المرتبة الإسفنجية. أمّه التي كانت تبحث في نقاشها معه عن خاصرة ضعيفة تكسر فيها قناعته بالعزوبية، كانت فقط تحلم بأن تراه متزوجاً كبقية أصدقائه. وبين كل كلمة وأختها كانت تبصق ماء التمباك الآسّن من فمها على علبة "حليب نيدو" مملوءة بالتراب إلى منتصفها. وتعيد وضع العلبة تحت سريرها وهي تغمغم بكلمات لم تعرف ما إذا كانت دعوات أم لعنات. في طول سنوات الريّس الثلاثين، لم ير أمّه لحظة تغيير تراب علبة حليب النيدو، وعجز عن رصد تلك اللحظة النادرة جداً، غير أنه دائماً ما يجد العلبة بتراب جديد في كل مرّة. بجوار السرير الذي تنام عليه نفرين - أم محجوب الريّس - طاولة صغيرة من النوع القابل للطي وعند فردها أو طيّها تصدر صوت طقطقة، لذا يسميها البعض "طقطوقة"، عليها كأس ماء شفّاف تضع عليها نفرين طقم أسنانها، وسبحة طويلة لا تفارقها أبداً.


    نهاية الفصل الأول


    .

    (عدل بواسطة هشام آدم on 06-26-2007, 05:20 PM)

                  

06-27-2007, 04:15 AM

محمَّد زين الشفيع أحمد
<aمحمَّد زين الشفيع أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1792

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    الرَّائع / هشام آدم ..
    وبالفعل وكما قيلَ إنَّ القراءةَ نشاطٌ مُتَعَدِّدُ الوجوهْ ..
    معرفي ..عصبي .. عاطفي ..
    فشكراً للسرديَّة الجميلة فلقد جعلتني أذوبُ وأتقمَّصُ لونَ
    بعضِ الشخصيَّات فيها واعتقد أنَّ هذا ما يُسمَّى بـ( الإستلاب )
    فشكراً لكَ ولجمالِ حرفك ..

    ولطالما اتكأتْ القصَّةِ على اللغةِ العربيَّة الفصيحة لك منِّي هذه
    المُلاحظات الدقيقة آملُ أنْ تجدَ لديكَ القبولَ :
    *( كما كانَ بعضُ روادِ النَّادي من الخواجات : بريطانيون و إيطاليون
    وصينيون وهنود ) ..
    أعتقد أنَّ الصحيحَ ( بريطانيين وإيطاليين وصينيين ) لأنَّها خبر كانَ
    منصوب بالياء .. ( كما لا داعي للنقطتين ( : ) بعد الخواجات
    لأنَّه لا يوجد قولٌ هنا ؛ وإن كنتَ لا بدَّ فاعلٌ فالأفضل أن تضعَ ( ؛ )
    لأنَّها باعتقادي تعني استمراريَّة الكلام .
    * ( فأصبحَ الصيَّادونَ واقعين بين مِطرقةِ جشعِ الوزارة ، وسندانة ...) ..
    هذه الشولة (،) لا داعي لها فالجملة متواصلة بحرفِ العطف .
    * ( كانَ أفضلُ حالاً ) .. أعتقدُ أنَّ فيها نظر .. لِمَ وضعتَ الضمة على
    ( أفضلُ ) حيثُ الأليق بها أن تكونَ فتحةً ( أفضلَ ) لأنَّها خبر كانَ
    واسم كانَ محذوف وتقديره ( هو) .. وتقدَّرُ الجملة هكذا ( كانَ هو أفضلَ )

    شكراً لك ثانيةً ..
    وبانتظار بقيَّةِ الفصولْ ..

    أخوك / محمَّدزين ...
                  

06-27-2007, 06:10 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: محمَّد زين الشفيع أحمد)

    __________________________

    الأخ العزيز : محمد زين


    أشكرك على القراءة والمتابعة، كما أشكرك على الملاحظات الجميلة التي أثرتها في هذا الخيط. وهي ملاحظات - كما وصفتها – دقيقة جداً أما فيما يتعلق بعلامات الترقيم التي أشرت إليها، فلا يخفى عليك يا عزيزي أنّ علامات الترقيم هي من العلامات الجمالية في النصوص العربية، كما أنها تأتي لتساعد القارئ على القراءة الجيدة للنص، وذلك بمعرفة أماكن الفصل والوقف ...إلخ وللأسف فمعظم الكتاب لا يُراعي لعلامات التنبيه كثيراً، ولا يهتم لأمرها ظناً منه بأن علامات الترقيم هي علامات جمالية فقط. وهذا العيب قد يتم تداركه بالقراءة الكثيرة لروح النص.

    وربما كان من الأجدر التحدث قليلاً عن هذه العلامات ومعنى كل علامة وأين تأتي بشيء من الإيجاز، ولكن قبلاً دعني أؤمن على صحة الأخطاء النحوية والقواعدية التي أشرت إليها مشكوراً في مداخلتك.

    أولى علامات الترقيم وأشهرها هي الفاصل ( ، ) وهي دائماً يا عزيزي تأتي في إحدى هذه الحالات:

    أولاً : بعد النداء. كأن نقول : "يا فلان، تعال"
    ثانياً: بين الجملتين المحتويتين على نفس المعنى. كأن نقول: "كان الظلام - تلك الليلة - حالكاً، والسكون يغطي المكان"
    ثالثاً: بين الأسماء والمفردات المسبوقة بعطف. كأن نقول: "جاء محمد، وعلي، وأحمد، وهند" وهنا
    رابعاً: بين الجمل القصيرة. كأن نقول: "الجو جميل، والمنظر بديع، والأزهار متفتحة، والعصافير تزقزق"
    خامساً: بين جملة الشرط وجواب الشرط. كأن نقول: "إذا حضرت الملائكة، ذهبت الشياطين"
    سادساً : بين جملتين تكون الثانية فيها صفة للأولى أو تمييزاً لها أو حالاً أو ظرف... إلخ. كأن نقول: "رأيت عمرو يركض باتجاه النهر، هذا الصباح"

    العلامة الثانية من علامات الترقيم، هي الفاصل المنقوطة ( ؛ )، وهي التي اختلف معك في استخدامها. فهي لا تعني استمرارية الكلام، بل - على العكس - تعني الوقف الكافي. وإليك أمثلة لاستخداماتها:
    أولاً : بين جملتين تكون الثانية تفصيلاً أو تفسيراً للأولى. كأن نقول: "لا تتكلم في مجلس الكبار؛ إلا أن تقول كلاماً مفيداً" أو ما يشابهها من الجمل. كأن نقول مثلاً: "إن الحاقد لا يضر أحداً؛ لا يضر إلا نفسه"

    العلامة الثالثة التي تهمنا هنا وهي علامة النقطتان ( : ) ، وأنا اتفق معك أنها تأتي قبل الكلام المنقول، ولكنها أيضاً تأتي قبل الكلام المفصّل أو المقسم أو في التمثيل كأن نقول مثلاً: "الدنيا يومان: يوم لك ويوم عليك" أو أن نقول: "وكانت محتويات السلّة كالآتي: فاكهة، وعلبة عصير، وأعواد كبريت، وعلبة مربى" وعليه فإني أرى أن استخدامي لها في هذه الجملة كان صحيحاً. "كما كان بعض رواد النادي من الخواجات: بريطانيين، وإيطاليين وصينيين وهنود"


    أشكرك يا عزيزي على الملاحظات الجميلة، والدقيقة جداً. وأتمنى أن تظل متابعاً لبقية فصول الرواية، فبالتأكيد سوف أحتاج لمثل ملاحظاتك هذه.


    لك مني كل التحية والتقدير

    (عدل بواسطة هشام آدم on 06-27-2007, 06:15 AM)
    (عدل بواسطة هشام آدم on 06-27-2007, 06:17 AM)

                  

06-27-2007, 07:49 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ________________________
    الفصل الثاني:


    يستيقظ الريّس صباحاً على صوت غرف نفرين لحوض الحمّام، وأصوات أبواق باعة الأواني المنزلية المتجولين. والتحايا الصباحية المتبادلة بين أمّه ونفيسة عبر السور المشترك الفاصل بينهما. يرفع رأسه بتثاقل ليفاجأ بأشعة الشمس تهاجم وجهه، فيقطّب حاجبيه وكأنه أحد عمال المناجم الذين يرون النور لأول مرّة. ولا يستغرب كثيراً عندما يرى "غنماية" عابرة تمدّ رأسها بفضول عبر باب المنزل الموارب. غنماية مشاكسة بقرنين صغيرين ناتئين كأسنان الأطفال اللبنية وضع أصحابها حول ضرعها خُرتاية قماشية بيضاء، تحاول خطف بعض الأوراق الصفراء التي تسقطها شجرة الجميّز العملاقة، تتقدم بكل ثقة أو وقاحة سببها الباب غير محكم الإغلاق. تنتبه نفرين فتلوّح لها بالمقشّة البلدية، فتولي هاربة. وبكبكة الدجاجات التي تربيها نفرين في فناء الدار دون أن يعرف لهن فائدة تذكر. هذه التفاصيل الصباحية أصبحت تفاصيل معتادة وإجبارية عند الريّس، وعند أغلب البورتسودانيين كذلك. ابتسم الريّس وهو يستشعر برودةً بين فخذيه، ويهزّ رأسه في سخط حميم "الله ينعلِك". ينهض الريّس معتدلاً فوق سريره، وهو يتمطّى بعد أن ألقى تحية الصباح على أمّه التي ترّد عليه باقتضاب - معتاد أيضاً - : "الفطور مغتّى عندك جوّا في المطبخ .. غسّل وشّك وقوم أُكُل ليك لقمة."


    صباح بورتسودان أكثر ضجيجاً من أي مدينة سودانية أخرى. الكل – بعد إلقاء التحية الصباحية – ينطلقون في عجلة إلى أعمالهم: عمال الميناء، والصيّادون، وعمّال السكّة الحديدية، وطلاب المدارس، وموظفو الدوائر الحكومية، وأصحاب محلات الخضار والأقمشة، وباعة الأواني المنزلية المتجولون، وحرفيو الورش الصناعية بأفرهولاتهم الزرقاء، والعساكر ببذلاتهم الخضراء، حتى النوارس على طول امتداد رصيف الميناء الكل متوجهون إلى أعمالهم، الكلاب هي الكائنات الوحيدة التي تأوي متكاسلة إلى ظلال البيوت والأشجار والميازر بعد قضاء ليلٍ طويل في النباح والوقوف على أسوار البيوت النائمة. يجلس الريّس بعد أن اغتسل، وفرش حصيرته على الأرض، متناولاً إفطاره بطريقة ميكانيكية، بينما ما تزال ابتسامة تلك الفاتنة الإيطالية لا تغادر مخيّلته أبداً. كان كلّما تذكر تلك الابتسامة المعجونة بكبرياء من النوع المحبّب، يبتسم لوحده، وكأنها تبتسم له الآن. وما تزال مشيتها التي تشبه تهادي الأفيال الأفريقية مرسومة على ذاكرته التي حفظت كل تفاصيل تلك الليلة وكل تفاصيل تلك الحسناء، ولم يعد له مكان لاسمها، فنسيه. كان يقول: "الأسماء لا تهم، فهي رموز .. ليس إلاّ." لم يُعده من غيبوبته تلك إلاّ صوت تكسّر الرغيف الناشف بين أسنانه.



    انتهى الريّس من وجبة الإفطار، وشرع يرتدي ملابسه استعداداً للخروج. وقف أمام خزانة الملابس الحديدية متقشّرة الطلاء، وبنظرة خاطفة لمح صورة أبيه غير المبروزة والمعلّقة على إحدى جدران الغرفة الكلسية. رجل فقير متأنّق في مضارب السبعين، يرتدي عمامة كبيرة جداً، ووجه صغير بائس يبدو للوهلة الأولى أنه لم يعتد على لبس العمامة أو أنه أُجبر عليها، وشلوخ غير متساوية على خديّه السمراوين، وشفاه غليظة. وفي أسفل الصورة جملة مكتوبة على خلفية بيضاء بالآلة الناسخة بالكاد تظهر حروفها: الشيخ عبد السلام محجوب الكاشف 1968م. ومات الشيخ عبد السلام بعد تاريخ التقاط الصورة بشهرين على الأكثر، كان الريس عمره حينها خمسة عشر عاماً. قال البعض: "كأنه التقط هذه الصورة لتخليد ذكراه!!" لم يكن للريّس أو أي شخص من ذريّة محجوب الكاشف (الجِد) علاقة بعائلة الكاشف الموسيقية المعروفة، رغم أنه كان يدعي هذا النسب في كثير من الأحيان. والريّس الذي لم يكن يجيد العزف على أي آلة موسيقية هو الابن الوحيد لأبيه بعد أن توفي أخوه الأكبر مكيّ عبد السلام محجوب في حادثة غرق قديمة لا يكاد يتذكر تفاصيلها. غير أنه سمع من أبيه ومن أمه روايتين منفصلتين، كوّنتا له صورة شبه متكاملة عن حادثة غرق أخيه تلك، والتي لم يشهدها، إذ كان الريّس وقتها يقضي الأسبوع بأكمله في عنابر مدرسة الاتحاد الداخلية. وكان يتغيّب لأكثر من أسبوع إذا لم يجد داعياً لخروجه، فقد كان يقضي أوقات ممتعة مع رفاقه الذين كانوا طلاب مستديمين في مدرسة الاتحاد المتوسطة (بنين) الداخلية.


    مكي الذي كان أول مولد تضعه نفرين بعد مشقة وجهد بالغين كانت حريصة على تسمية مولدها الأول باسم أبيها صاحب الفضل الأول – كما كانت تذكّر زوجها دائماً – في أن يتعلّم الشيخ محجوب عبد السلام الصيّد وفي أن يمتلك أول قارب صيد في حياته، كان ذلك بعد عاصفة 1911م البحرية الشهيرة، بينما كان محجوب الريّس على اسم جده الذي اندرس ذكره في تاريخ عائلة الكاشف لسوء سيرته، فقد كان رجلاً مزواجاً، كثير الشراب. وكان رغم زيجاته المتعددة لا ينجب إلاّ أطفالاً ميتين، كان عبد السلام الوحيد الذي كتب له الحياة من بين أبنائه الذين أنجبهم وربما بلغ عددهم ثمانية أبناء بين إناث وذكور، ماتوا جميعاً ولم يتبق إلاّ عبد السلام لذا فقد كان محجوب (الجد) يحبه حباً جمّاً ويغدق عليه من عطفه ومن حنانه، لا سيما وأنه كان كثير المرض في صغره. وهذا الاهتمام والخوف البالغ هو ما جعل عبد السلام ينشأ مدللاً، ومأثوراً. ولم يُسمح له بالذهاب إلى الكُتّاب خوفاً عليه من الحسد، فلم يُشاهد يغادر المنزل منفرداً قط إلاّ بعد أن بلغ الحادية والعشرين من عمره أي بعد وفاة أبيه بسنتين تقريباً.
                  

06-27-2007, 08:35 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ________________________________

    خرج مكي عبد السلام – حسب رواية أبيه – ذلك اليوم وقت القيلولة دون أن يبلغ أحداً عن وجهته، في حين ظنّ الجميع أنه في الجوار. "ولكن كانت تبدو عليه علامات الانزعاج" – قال الشيخ عبد السلام - ، لم يكن أحد ليتوقع نيّة مكي المسبقة في الذهاب إلى البحر، لا سيما وأن البحر لم يكن مناسباً للسباحة ذلك اليوم تحديداً. "وللبحر ساعات لا يقبل فيها مزاحاً من أحد." كان الشيخ عبد السلام منهمكاً في رقع شبكة الصيد الممزقة، عندما دخل عليه أحد صبية الحيّ لاهثاً، بعد أن جّر سلك الباب بقوة:

    * ألحق يا عم عبد السلام .. مكي ولدك بيغرق.

    عندها ترك الشيخ عبد السلام ما كان في يديه، وركض دون أن يرتدي حذاءه – كان غالباً ما ينساه - . كان الشيخ عبد السلام يعلم أن البحر من جهة الميناء غريق جداً، إذ أنه كان معداً فقط لاستقبال السفن الضخمة، كما أن رصيف الميناء مرتفع جداً، وليس من السهل على أحد يسقط في ذلك المكان أن يتشبث بشيء، وكان يتساءل - وهو يركض حافي القدمين - ما إذا كان ولده العشريني قد ينجو رغم براعته في السباحة! ولمّا وصل إلى هناك وجد نفراً من الناس واقفين على الرصيف، بعضهم ينظر إلى الأسفل، وآخرون يتحدثون إلى بعضهم البعض، وما أن رأوا عبد السلام، حتى توقف الجميع عن الكلام. ولكنه لم يجد لولده أثراً، ما خلا فردة حذاء كانت في جانبٍ ما من الرصيف.


    وفي رواية نفرين، كان مكي يتشاجر مع أحدهم، عندما نادت عليه، فلم يجبها، وانطلقا إلى ناحية الميناء. كانت نفرين، معتادة على شكاوى الجيران المتكررة من مكي الذي لم يكن يرحم أبنائهم، فقد كان "مفترياً" حسب رأي الجيران، و "ذا دم حار" على رأي أصدقائه المقرّبين. ما تبقى من ذكرى مكي عبد السلام، فردة حذاءه التي عاد بها عبد السلام، وندم وإحساس متعاظم بالذنب ظلّ يرافق نفرين، حتى سنوات قريبة جداً. وربما كانت الحسنة الوحيدة لوفاته هو التفات الأبوين إلى محجوب، ورغبة أبيه في تعليمه الصيد حتى لا يعوز. وكانت نفرين تردد دائماً عندما يخرج محجوب الريّس إلى البحر "البحر شايل مني قلبين، واحد جوّاهو، وواحد فوقو .. يا ربّ تسلّم، يا ربّ تسلّم."
                  

06-27-2007, 08:44 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    __________________________


    خرج الريّس بعد أن ارتدى ملابسه متوجهاً إلى الميناء. وفي طريقه، كان يلقي التحية على الجميع. كان يشعر ببقايا سعادة ليلية إفرنجية، ما تزال واضحة في بريق عينيه. ويركض فجأة خلف دراجة ياسر الصاوي، ويمتطي خلفه :

    * وين يا بو السيك ... صباحنا قششششطة
    - خير اللهم أجعلو خير .. مالك يا زول الليلة قايم منشرح كده، حلمان بي بت إبليس ولّه شنو؟
    * والله يا بو السيك كان بت إبليس ما تعرف!!

    وعلى بعد خطوات من الطريق المؤدية إلى الميناء يقفز الريّس من الدراجة، وهو يضربه على ظهره بطريقة مازحة : "تشااااااو". بينما يكمل الصاوي إلى منتصف المدينة، حيث يعمل مراسلاً في إحدى البنوك. "أبو السِيك" لقب أطلقه عليه رفاقه في نادي ديم بوليس بعد هزيمة مُني بها في لعبة الوست. وربما كانت تلك هي الهزيمة الأندى في تاريخ النادي منذ تأسيسه، لذا فإن اللقب التصق به من يومها كما تلتصق دودة القز بأوراق التوت الأبيض. ياسر إبراهيم الصاوي أحد المقرّبين للريّس، وهو شخص مرح جداً وهادئ فيما عدا لعبة الوست؛ فهو يفقد أعصابه بسرعة، وقد يُضرب عن الطعام إذا هُزم. وهو دائم الاعتقاد بأنّ ثمة مؤامرات تُحاك من ورائه، وأن شلّة النادي يشتركون جميعاً في عملية غش واسعة النطاق من أجل هزيمته فقط من أجل تثبيت اللقب عليه. ورغم أن أبو السيك هادئ بطبعه إلاّ أنه سهل الاستثارة. ولأن أصدقاءه يعرفون عنه ذلك، فهم يتعمّدون إثارته دائماً، فقط ليضحكوا على تأتأته في الكلام عندما يُستثار أو يغضب.


    لا أحد يستطيع أن يحدد على وجه الدقّة أين أو كيف التقى الريّس و أبو السيك لأول مرّة، غير أن أقرب الروايات إلى التصديق هو التقائهما في عراك مراهقين كانت السبب فيه أنثى وقع الريّس في غرامها، في دائرة رقص جماعية في أحد أعراسِ حي مجاور. وكان بادياً أن الفتاة أعجبت بطريقة رقصه المدروسة، وتقبّلت ابتساماته السرّية لها بابتسامات سريعة وخاطفة. وبمزاج توددي قدّم إليها وردة بائسة خلف صيوان الحفل، عندما لمحهما أحدهم، فأبلغ أخاها أبو السيك الذي تأتأ وهو يطلب من الريّس ملاقاته خارج الصيوان لتصفية حساباتهما. ويقال أنهما ظلا يتعاركان حتى بلغ منهما الجهد مبلغه. فتوقفا وانصرفا فجأة كأنهما اتفقا على مواصلة العراك في وقتٍ آخر أو ربما إلغاءه. لم يكن الريّس وقتها "الريّس"، كما لم يكن أبو السيك "أبو السيك". ولأن إيمان الصاوي كانت معتادة على مغازلات الشباب، فإنها لم تأبه كثيراً، لدرجة أنها تركت الوردة البائسة منسية في مكانٍ ما في الحفل.


    لم تكن إيمان وقتها تعشق غير متوددٍ سرّي واحد، فنان مغمور كانت قد التقت به في إحدى الأعراس، ولكنهما انفصلا بعد علاقة شهرية لأسباب مجهولة. حتى إيمان نفسها لم تكن تعرف سبباً منطقياً لهذا الانفصال، بعض الصديقات خمّنّ أن تكون وردة محجوب الريّس هي السبب في غضبه. ولكنها عرفت بعد مضي أكثر من سنة على هذا الانفصال أن علاقتها بذلك الفنان المغمور لم تكن إلا نزوة مراهقة وغير ناضجة وحسب. غير أنّ علاقة محجوب الريّس وياسر إبراهيم الصاوي توطدت أكثر لا سيما بعد اشتراكهما في نادي الكشّافة ذاته. وبسبب صداقة هذين الولدين تصادقت نفرين مع فتحيّة والدة ياسر الصاوي. ولم تخل حياة إيمان من مغامرات عاطفية، كان آخرها قبل أن تنهي دراستها الثانوية، عندما تعرّفت على شاب جامعي، شاعر مثقف وسيم. لم تكن ثقافة إيهاب عبد السلام هو ما جعلها تتعلّق به في البدء؛ إنّما وسامته، والهالة الكاريزمية التي يتمتّع بها. كما أنّها وجدت في الارتباط به، حظوة تميّزها عن قريناتها ممن كنّ يدعين الارتباط به، ورغبة كل واحدة منهن في أن تكون أثيرته وملهمته. ربما في المقابلة الخامسة أو السادسة لهما، بدأ إيهاب يناقشها حول مسألة الجنس، وعلاقة المادي بالروحي، والجسدي بالشعوري، عندما جحظت عيناها كحرباء متحفّزة، وقفزت من مكانها قبل أن يرتدّ إليه طرفه، لتصرخ في وجهه قائلة: "إنتا قايلني شنو؟"، فردّ عليها ببرود: "إنتِ اللي قايلاني شنو؟" وبصعوبة بالغة نجح في إقناعها بالجلوس، شريطة تغيير الموضوع:
                  

06-27-2007, 09:08 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    _____________________________

    * فهمنا المشوّه للجنس هو البيخلينا نخاف حتى من الكلمة زاتا.
    - إيهاب .. لو سمحتا ما دايرة أسمع الكلمة دي .. ما تقولا قدامي تاني، بقوم أخليك وأمشي
    * أوكي .. أوكي

    بمرور أسابيع قليلة، لم يكن صعباً على إيهاب أن يكتشف أن ثمّة مشكلة تواصل، وأن الفارق الثقافي بينهما كالنهر الراقد بلؤم بين ضفتين يشكّل حاجزاً يصعب تخطّيه، وفي أول فرصة صارحها بهذا الاكتشاف مطالباً بإنهاء العلاقة أو تحييدها. غير أنّها بغنجٍ لا يصعب على مثلها تصنّعه أقنعته بأنها سوف تفعل ما بوسعها لتتأقلم مع طريقة تفكيره. ولم يمض أسبوع على هذا الوعد، حتى صارحته بفشل محاولاتها واستحالة الاستمرار. عندها ابتسم إيهاب وهو يقول: "ليس المهم لماذا تنتهي العلاقة، المهم من الذي ينهيها ! حسناً .. لكِ ذلك" ولم تستطع إخفاء دهشتها أو ربما إعجابها بفطنته التي كانت واحدة من المزايا التي تميّزه عن البقية. وانفصلا رغم احتفاظ إيمان بود محنّط لهذا الشاب الذي بهرها ببروده الواثق، ومنطقه اليقيني الذي لا يتزعزع. وكأنّه يعرف سر الأشياء، ويعرف سرّ حركتها. وما كان يُدهشها أكثر أنها لم تره مندهشاً قط، وكأنه يرى العالم بمنظار مقعّر، يتيح له رؤية ما لا يستطيع الآخرون رؤيته، أو كأنّ كلّ ما يراه رآه مسبقاً لأكثر من مرّة. لذا فإنها طلبت منه بأن يظلا صديقين، ولكنه، وبطريقته الرومانطيقية، أقنعها بعدم جدوى ذلك طالما أنّ السرّية والخفاء سيكونان القاسم المشترك بين العلاقتين. وربما كان اختفائه عن الحي هو ما ساعد إيمان على نسيانه ولو جزئياً.


    تتذكر إيمان تلك الجلسة الحوارية التي كانت سرّ انبهارها الأول بإيهاب عندما سألته بمكر أنثوي عن عدد الفتيات اللواتي عرفهن من قبلها، فأخبرها بصراحته المعهودة أنهن لم يتجاوزن ثلاث فتيات فقط. بينما أول ما تبادر إلى ذهنها أن يكون زيراً للنساء. كان يحكي لها عن علاقاته الغرامية الثلاث وكأنه يحكيها على لسان أشخاص يعرفهم. وأسلوبه السردي الشيّق هو ما جعل إيمان تتغاضى عن التفاصيل الدقيقة التي كانت تأتي في السياق. "أكتر واحدة كنت بتحبها منو في التلاتة ديل؟" – قالتها بصوتٍ تعلوه الغيرة – إلاّ أنه لم يحدد لها شيئاً. فكل قصة لها مذاقها الخاص. وكل تجربة لها حياتها الكامنة في خصوصيتها. "لو كانت علاقتي بالأولانية استمرت أكيد ما كنت ح أحب التانية" بهذا المنطق البسيط حسم لها حيرتها في كونه زيراً ينوي وضع اسمها في قائمة نسائه. تعلّمت منه إيمان كيف أن الحب حوجة وليست مجرّد رغبة أو تماثل شخصاني. كان عندما يبدأ إيهاب في حديثه عن مثلث العلاقات الإنسانية ومدى ارتباط هذه العلاقة بالجسد والروح والعقل، تدخل في دوّامة من الخجل والدهشة. لم يكن أحد ليحدثها مثل هذا الحديث. ورغم أنها كانت ترى أن كلامه كالسحر بالنسبة إليها، إلاّ أنها كانت ترفض دائماً الاستمرار فيه خشية أن تقتنع فتجد نفسها في مواجهة مع ما لم تكن قادرة على مواجهته. "واحدة منهن لمن بوستها لقيت إنها متعودة. ما دي المشكلة. المشكلة إنها كضبت عليّ وقالت لي إني أول زول في حياتها" أحسّت بنبرة الشرقي للمرة الأولى في كلامه، وهذا ما كان يشعرها بالارتياح على فترات متباعدة، لأنها كانت تخاف من كونه غريباً وغير مألوف. ولم تنته علاقتهما حتى اقتنعت إيمان الصاوي بضرورة إكمال دراستها.


    دخل الريّس الميناء بحفاوة اعتيادية، وتوجّه مباشرة إلى الغالبونة التي يضع تحتها صيّادو الوزارة أمتعتهم، وحبالهم، وحقائبهم. نظر حوله، وجلس. بينما راح يجهّز شبكته بسرعة وحرفيّة. البحر يعلّم هؤلاء الصيّادين الصبر، ويربطهم بحبال أسمك من الحبال التي يستخدمونها في ربط مراكبهم، وكأنهم عائلة واحدة. الوجوه السمراء التي تكتسي بلمعان جميل تحت أشعة الشمس المنعكسة على البحر متشابهة من الوهلة الأولى، وخلف كل وجه قصة ذات طابع إنساني خاص جداً. لن تستطيع أن تفرّق – وأنت على رصيف الميناء – بين عمّال الميناء وبين الصيّادين إلاّ من خلال الغالبونات التي يجلسون تحتها، فلكل فئة غالبونة مرقّمة خاصة بهم. وعلى الطرف النائي من الرصيف غرفة خشبية مبنية على الطراز الإنجليزي القديم بسقوف التوتياء المموج، والنوافذ الناتئة وفي الواجهة الأمامية أعلى باب الغرفة صولجان هيرمس حديدي متآكل بفعل الرطوبة، في هذه الغرفة يتم إسعاف المصابين من عمّال الميناء وجبر كسورهم ومعالجة الحالات الطارئة والبسيطة كضربات الشمس أو الغيبوبة أو دوار البحر للعمّال والبحّارة الجدد. كل شيء في الميناء أزرق، وما بين زرّقة البحر وزرقة السماء وجوه سمراء متعرّقة تحمل في تجاعيدها غضباً صامتاً، وحلماً يرفرف كلّما نظر أحدهم إلى المدى البعيد، إلى حيث يلتقي الأزرقان. وكأن الأحلام الجميلة تخرج من بين ثنايا ذلك الخط الداكن. "ليس هناك حلم، هنالك واقع مؤجّل فقط" هذا ما كان يقوله العم صابر مراقب العمّال في الميناء، أو "الكومندة" كما كان يطلق عليه عمّال الميناء. العم صابر "الكومندة" أعطاه الله بسطة في الجسم، ونبرة صوت لا تزعج حتى عندما يصرخ. رجل يحمل حكمة السنوات الستين في شعره الأشيب، ويواري وسامته خلف تجاعيد وجهه المتعب. ربما ظلّ يعمل في الميناء إلى هذا العمر لأنّ خبرته لا تعوّض، كما أن جميع عمّال الميناء وحتى الصيادين كانوا يحبونه ويحترمونه، ويعتبرونه أباً لهم.


    أكثرهم إهمالاً ولامبالاة، الشفيع الطاهر طبيب الميناء، رغم براعته في عمله، إلاّ أنه كان مزاجياً لدرجة تجعله يبدو غريب الأطوار. كان يرى أن مكوثه في الميناء طوال الوقت ضرب من الجنون، فلم تكن لوجوده حاجة ملحة، فأغلب الحالات يمكن لمساعده سرور أن يقوم بمعالجتها. لا سيما وأن الحالات كلها متشابهة ومتكررة. لذا فلم يُعهد عنه أنه بقي في عيادته الخشبية لأكثر من ثلاث ساعات يومياً. كان يوكِل مهام التطبيب لسرور الذي اكتسب خبرة جعلته يرتدي بالطو الأطباء في غياب الشفيع الطاهر. "الشغل دي نباهة وخبرة، ما أكتر من كده" هذا ما كان يقوله سرور عندما يسأله أحدهم عن سر إتقان مهنة التطبيب رغم أنه لم يكن حاصلاً على شهادة في المجال.



    نهاية الفصل الثانية



    .

    (عدل بواسطة هشام آدم on 06-27-2007, 09:12 AM)
    (عدل بواسطة هشام آدم on 06-27-2007, 09:13 AM)

                  

06-27-2007, 09:10 AM

محمد على النقرو
<aمحمد على النقرو
تاريخ التسجيل: 06-29-2006
مجموع المشاركات: 1070

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    الجميل هشام سلامات
    والله عمل رائع
    ومعاك واصل
                  

06-27-2007, 09:40 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: محمد على النقرو)

    ______________________

    الصديق العزيز : محمد علي النقر

    لك التحية والتقدير يا عزيزي، وأشكرك على القراءة
    وعلى المتابعة. وتحياتي للأسرة الكريمة
                  

06-27-2007, 09:43 AM

محمَّد زين الشفيع أحمد
<aمحمَّد زين الشفيع أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1792

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    الكاتب الكبير / هشام آدم :

    ( ممتعة مع رفاقه الذين كانوا طلاب مستديمين )
    ألا ترى أنَّ الأفضلَ أن تكونَ ( طُلاباً مستدامين ) ؟
    أيْ (طلاباً) لكونها خبر كانَ ..
    ثُمَّ كلمة ( مستديمين ) هل هيَ الأفضلُ أمْ ( مُستدامين)
    أفضلُ منها ..
    وبحسبِ اعتقادي – الضعيف – أنَّ تصريفاتِ هذه الكلمة
    هكذا : دامَ ، ما دامَ ، استدامَ ، مستدام ، حيثُ لا توجد ياءٌ
    في أصل الفعل وإنَّما ألفٌ فقط .

    صديقي / هشام ..
    قد لا تستفيدَ منِّي كثيراً.. لكنِّي حتماً أستفيدُ منكْ أضعافاً..
    ولقد استفدتُ حقَّاً من ردِّكَ الباذخ عبرَ بابِكَ الأوَّلْ.
    و القراءةُ كما يقولونَ عنها إنَّها التواصلُ بينَ
    الكاتبِ والمتلقي بدرجاته المختلفة ..
    فشكراً لهاتيك الرَّوعة القابعة بينَ ثنايا القصَّة
    وشكراً للوصفِ الدَّقيقِ للأشياءِ والتي تجعلها تماماً
    أمامَ إبصارِ المُتلقي كما بدأَ لي ذلك..

    كما لي ملاحظةٌ صغيرةٌ وهيَ يقولون : إنَّ الإعرابَ
    هوَ الحركةُ أو العلامة في مُؤخَّرِ الكلمة ِ .. لذلكَ استميحُ أُستاذيَ
    عُذراً .. في أنْ تضعَ العلاماتِ الإعرابيَّةَ في مؤخِّرِ الكلمات
    والأفعال حتَّى أستطيعَ أنْ أقرأَكَ جيِّداً وصحيحاً ( أراكَ تَغضُ الطرفَ
    عنهُ قليلاً )..

    تابع فأنا أقرأُ لكَ بشغفْ ..


    ولا عدِمْتُكَ أيَّها الرَّجلُ الجميلْ ..

    والتحيَّةُ لكَ بحجمِ الشَّمسِ
    نورا ..


    أخوك / محمَّدزين ..
                  

06-27-2007, 12:01 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: محمَّد زين الشفيع أحمد)

    ________________________

    صديق حرفي : محمد الزين


    أجدد لك التحية والشكر الخالصين على هذا التمحيص المفيد بالفعل. لقد توقفت عن الجملة التي أشرت إليها "مع رفاقه الذين كانوا طلاب مستديمين" فرأيت أن الصواب قد حالفك فعلاً فيما ذهبتَ إليه من وجوب نصب "طلاب" أما فيما يتعلق بكلمة "مستديمين" و "مستدامين" فالكلام فيه على أوجه:


    الوجه الأول: إن "مُستديم" والتي هي على وزن "مستفعِل" مشتق من "دائم" على وزن "فَاعِل" ومن هنا جاءت الياء، وليس من "دام". فنقول : دام .. إدامةً واستدامةً وهو من الاستمرار في فعل الدوام أو الديمومة. بينما، "دائم" لا ينتمي إلى عائلة الجذر "د ا م" لأنه لا يعني الدوام "بمعنى الاستمرارية" بقدر ما يعني الدوام بمعنى "الثبات".


    جزء من رسالة الماجستير التي أحضرها الآن، تتعلق بمسألة "فلسفة اللغة" استناداً على علم موجود أصلاً هو "فقه اللغة" و "فقه النحو" والمدهش في الموضوع، أن هذا العلم، الذي إن تمّ فسوف يكون من العلوم الممتعة بعكس القواعد اللغوية المعروفة بجمودها. وهو مبحث نحو جعل قواعد اللغة أكثر مرونة مما هي عليه الآن. لا أريد أن أنزع بعيداً عن الموضوع. ولكن فقط حاولت أن أقول أن "مستديم" كفعل صحيح نحوياً، وأن "مستدام" كفعل هو صحيح نحوياً أيضاً. وربما كان من الأفضل أن أقول "مع رفاقه الذين كانوا طلاب دائمين في مدرسة ..."


    ومن ناحية أخرى فإن العلم الذي يختص بدراسة حركة أواخر الكلمات فهو علم "الصرف" وكما قلتَ فإنني مهمل جداً حيال وضع التشكيل المناسب على أواخر الكلمات، إلا تلك التي يواتيني فيها المزاج.



    لديك ملاحظات جميلة ورائعة فعلاً ... أرجو ألا تبخل بها عليّ أيها العزيز ...





    (عدل بواسطة هشام آدم on 06-27-2007, 12:11 PM)

                  

06-27-2007, 12:14 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ____________________________

    الفصل الثالث:

    غالبونة صيادي الوزارة تحمل الرقم (6)، والوحيد الذي لا يعمل في مثل هذا الوقت هو المساعد الطبي سرور الذي أخرج مقعده، ومال به إلى جهة الحائط الخشبي، وبدأ يحرك رجليه القصيرتين بصورة عكسية، كما يفعل الأطفال المشاغبون في ساعات الهدنة، وعليّ أب شلّوفة الذي أوصى له الطبيب بالراحة لخمسة عشر يوماً بسبب إصابة في قدمه اليسرى، وصرف له عكازتين حتى لا يطأ بقدمه المصابة على الأرض. ولأنه – علي أب شلّوفة - لم يعتد على الجلوس في البيت فإنه يأتي ليتسامر مع رفاقه في وقت راحتهم. بعد مرور خمس ساعات قضاها الصيّادون في عرض البحر، يمضغون فيها الصبر، ويتعاطون التمباك، يعود الجميع في شكل أفواج متعاقبة، يفرغون ما في بطون شباكهم من أسماك توقفت تماماً عن الحركة في صناديق خشبية كبيرة. لا شيء في رصيف الميناء غير الأرضية الخرسانية والصناديق الخشبية. منذ الساعات الأولى للصبح، يشهد الرصيف حركة متسارعة، وتبدأ الأصوات بالتعالي شيئاً فشيئاً وكأنها صوت صفائح قطار قديم تتعالى كلما اقتربت من إحدى المحطات المهجورة، بينما تختلط أصوات العمّال بأصوات الرافعات في تناغم مزعج ما يلبث أن يستحيل إلى حميمية مفرطة لمن ألفوا الرصيف والعمل فيه. وفي حركة لا تقل نشاطاً عن حركة العمّال – ولكن في هدوء – تبدأ أسراب النمل، التي حفرت في أرضية الرصيف الخرسانية بيوتاً لها، تسير في قوافل من صفين منتظمين كصفوف جنود حديثي عهد بالحياة العسكرية، تلتقط ما تجده في طريقها من بقايا غداء العمّال والصيادين، أو تسرق ما يمكنها سرقته من القمح الطازج والمتناثر بوفرة في مستودعات الميناء.


    الألوان هنا عامل مهم جداً يميّز بين العامِلين في الرصيف. فاللون الأزرق هو لون أفروهلات عمّال الرافعات وعمّال الميناء الذين ينقلون الصناديق من السفن إلى المستودعات، واللون الأصفر هو لون العاملين على متن السفن التجارية، واللون الأخضر هو لون مشرفيّ العمّال، واللون الأحمر هو لون كبار الشخصيات كالتجّار والمهندسين. بينما يظل الصيّادون بلباسهم الاعتيادي لا يميّزهم غير شباكهم المتناثرة تحت الغالبونة رقم (6)، ومناديلهم القماشية المقلّمة التي يطوونها في شكل عصابة مثلثة ويلفونها حول رؤوسهم.


    في تمام الساعة الواحدة والنصف تتوقف الرافعات، ويندر أن ترى شخصاً خارج الغالبونات، الجميع يتوقفون لتناول وجبة الغداء، يفرشون سجاداتهم البائسة، ويجلسون في حلقات أشبه بحلقات الذكر في خلوة متطرفة بلا أسوار. وبينما تغرق أصوات الآليات، تطفو على أرصفة الميناء ضحكات العمّال والصيّادين. ومن الجهة المقابلة يتقدّم علي أب شلّوفة إلى حيث يتجمهر صيّادو الوزارة، متوكئاً على عكّازيه المنتهيين بمعدن. وكّان وقعهما على أرضية الميناء الخرسانية الملتهبة وقع سنابك خيلٍ عربية أصيلة. تبسّم الصيّادون وهم ينظرون إليه قادماً بابتسامته المعهودة: "ما تقولوا اتفضّل ولاّ أي حاجة ياخ!!" ومن المؤكّد أن تهدّل شفته السفلى المصابة بالحُمرة بعد اهتراء الخط اللحمي الصغير بفعل التمباك كان السبب في تسميته بأب شلّوفة. كان الريّس عندها يحاول فتح علبة الساردين التي توزّع مجاناً للعاملين في الميناء، بينما وقف البعض منادين على سرور المساعد الطبي ليشاركهم وجبة الغداء وهو ما زال متكئاً على مقعده بذات الطريقة الطفولية، فيرفع يديه لهم في امتنان، فالواقع أن طبيب الميناء ومساعده لهم وجبة خاصة.



    تحت كل غالبونة يجلس نفر من الناس موزّعين بأرقامهم وألوانهم المميزة، وكأنهم كرات بلياردو جيّدة التنسيق. يتناول الجميع وجبتهم وسط أحاديث وضحكات وسخريات البعض من البعض الآخر، بينما يجلس العم صابر تحت مظلّة شمسية واضعاً سلّة طعامه على فخذية. يتناول غدائه بأناة وهو يقلّب ناظريه بين العمّال وبين البحر. كان العم صابر كثيراً ما يرمي بنظرات عميقة إلى البحر، وكأنه ينتظر قدوم سفينة تحمل على متنها سنوات عمره التي انفرطت منه كما تنفرط الذرات في ساعة رملية. إضافة إلى الصيادين والعمّال والنمل السارق، كانت جيوش من قطط الميناء الجائعة توزّع نفسها على الغالبونات في انتظار أن يرمي لها أحدهم بقطعة خبزٍ مغمّسة بزيت الساردين، أو قطعة صِير من عامل شهم. وبينما تجلس بعضها في منتهى الأدب، تتعارك في مكانٍ آخر مجموعة من القطط على لقمة تعيسة من أحدهم. ما تراه من فوضى للوهلة الأولى في الميناء هو إنّما نمط حياتي من الرتابة بحيث يستحيل تخمين تغيّره على المدى القريب. فوضى اعتاد عليها الجميع بمن فيهم العم صابر الذي تتجمع حوله فقط عشر قطط لِما تعرفنّ عنه من كرمٍ جم، فهو قليل الأكل، سخي العطاء. وسخاء العم صابر مع القطط هو ما أغراهن باحتمال قساوة العيش في الميناء. وهذا الجو العائلي الذي يلف الجميع رغم الفقر والتعب، هو ما كان يجعل الريّس يتساهل كثيراً في البدء بمشروع الهجرة إلى الوسط. وكثيراً ما كان الريّس ينفرد بالعم صابر شارحاً له خططه المستقبلية، ووقوعه بين حلمٍ يراوده منذ وقتٍ غير بعيد، وحياة ألفها، ويصعب عليه أن يتركها. وكانت أوديت إحدى الأسباب المستحدثة التي جعلته يعدل عن قراره رغم إلحاح هذه الرغبة عليه كوسوسة شيطانية لا تفتأ تراوده كلّ ليلة.


    "اللحظة المناسبة لا تتخيّر المكان" هذا ما كان يقوله العم صابر للريّس كلما حدّثه في موضوع الهجرة. وكان يقول له دائماً بأن لا وطن يُذكر، فالوطن هو حيث بيتكَ وزوجتكَ وأمك حتى وإن كان في أرضٍ لا زرع فيها ولا إنس. ولأن العم صابر عاش في بورتسودان طيلة سنوات عمره التي تناهز الستين دون أن تكون موطنه، فلا أحد يعرف من أي جهة جاء، رغم أنّ لهجته توحي بأنه قادم من جنوب كردفان. وعرفه الجميع بأنه قليل الكلام، دائم الحركة، ذو ملامح حيادية في جميع حالاته. وكان راغباً عن الزواج، محباً لحياة العزوبية. قال البعض أنه ربما كان عنّيناً أو به عِلّة، إلاّ أن الجميع يتفقون على أنه دمث الأخلاق طيب المعشر. وكان دائماً يقول: "أينما ذهبت ستكون هنالك أرض تحتك وسماء فوقك، وطالما أن السماء واحدة والأرض واحدة فأي مكان يصلح لأن يكون وطناً !" جلس علي أب شلّوفة، على إحدى الصناديق الخشبية، بعد أن أسكن عكّازيه إلى جواره، وهو يقول:

    * عليّ الطلاق الريّس ده داير يعرّس
    - الكومندة كان عرّس، الريّس ده ما ممكن يعرّس، ده زول بتاع عرس عليك الله؟!
    * شنو يا الريّس صحي بتفكّر تعرّس؟
                  

06-27-2007, 12:21 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ____________________________

    كان الريّس يكتفي بابتسامات هازلة كلّما سمع هذا الكلام. أحسّ أنّ عليه أن يقوم بشيء آخر يسمح له بتوفير مالٍ أكثر، ويضمن له ألا يبتعد عن رفقة الميناء في ذات الوقت. كان كمن يحاول أن يرسم دائرة بمسطرة. فهو لا يجيد صنعة أو حرفة أخرى غير الصيّد، كما أنه لا يعشق شيئاً آخر – خلا أمّه - بقدر ما يعشق البحر، وأصوات النوارس، وأرضية الميناء الخرسانية. يحس أن قلبه واقع - كسمكة سيئة الحظ - في شباكه التي يرقّعها بيديه كل يوم. عندما يفكّر الريّس في هذا الأمر، يشعر بشيءٍ ما يشدّه إلى الأسفل أو إلى الوراء. بورتسودان تمسك بتلابيب البورتسودانيين، وتشدهم إليها كما تفعل بكرة الخيط بالخيط. كان يشعر بابتسامات الوجوه الكالحة التي من حوله وكأنها صفعة تُذكّره بأنه أفضل حالاً من كل هؤلاء: عبد الماجد طه الذي يسكن في بيتٍ من الجالوص بغرفتين وحوش صغير تقاسمه زوجته وأطفاله التسعة ضنك الحياة، يخبأ من صندوق أسماكه، الذي للبيع الرخيص، سمكة للأفواه العشرة المفتوحة. مرزوق عجوة الذي يعول، غير زوجته وأبناءه الثلاثة، أخوته الإناث. وبعد عمله في الميناء يذهب إلى السوق المركزي ليبيع العجوة وقمر الدين والقونقوليز في المواسم الرمضانية، معتصم المرضي الذي ابتلاه الله بأخٍ مختل عقلياً وأختٍ مصابة بسرطان الدم وأربعة أخوة غيرهما، ولم يكن يشتكي إلاّ لله في صلوات الجمعة، عندما يكتشفه الريّس وهو يبكي في دعاءه بعد الصلاة، مبارك أب ساقين الذي أرسل زوجته وأبنائه منذ أكثر من سنة إلى أهلها في ضواحي بورتسودان لعدم قدرته على توفير سكنٍ لهم بعد أن طرده صاحب البيت بأمر المحكمة بسبب عجزه عن سداد إيجار المنزل المتراكم منذ أكثر من سنتين.


    كان الريّس يحلم بمعجزة تنتشله من ملوحة أرض بورتسودان، وتنقله بطريقةٍ ما ورفاقه والبحر وطيور النورس إلى مكانٍ آخر، حيث لا يشعر فيها بأنه مرهون إلى عدد الوريقات النقدية المبتلة بعرقه في جيب قميصه. لم يكن الريّس يحلم بأن يكون غنياً، فقط كان يريد أن يكون أفضل حالاً، حتى هو لم يكن يعرف شكلاً واضحاً لما يريده. كان كل ما يحلم به هو أن تكون لديه أموال لا تشعره بالخوف والعوز . كان يحلم أن يكون حراً كنوارس البحر الأحمر، أن يحلّق بجناحين حقيقيين، أن يرى عوالم أخرى غير التي اعتاد عليها وألفها منذ أن عرف اسمه الرباعي، كانت الهجرة هاجساً يؤرقه رغم أنه لم يكن مضطراً اضطراراً فعلياً لذلك.


    بطريقة أبوية حكيمة، ربّت العم صابر على كتف الريّس وهو يحكي له قصةً لم يستطع أن يحدد علاقتها بموضوع هجرته "أظّن أنها كانت ليلة قمرية عندما جلس ثلاثة رجال على ضفّة النيل من الناحية الشرقية، جذبتهم رائحة البنقو التي أشعلها أحدهم. قد يبخل أحدنا بطعام أو شراب، إنما هؤلاء لا يبخلون أبداً، هم أسخياء دائماً، على أي حال، فقد جلس ثلاثتهم على رملٍ بارد، مستمتعين بما يقذفه البحر على وجوههم من هواء لطيف يساعد على جعل جلستهم أكثر حميمية. كانت الأصوات تتجاذب بالترتيب على مسامع ثلاثتهم: صوت الأمواج، نهقة حمار من مكان غير بعيد، صوت اختبار ورق البرنسيس، نحنحات أحدهم الخجولة في انتظار أن يأتي دوره، نباح كلاب متفرقة، وسؤال احترافي محبب: "نلف واحدة ولمن تنتهي نلف التانية، ولا نولّع تلاتة سيجارات مرّة واحدة؟" وما أن اتفقوا حتى بدأت جنائز التبغ الملفوف بعناية تدور بينهم، كلّما سلّم أحدهم جاره واحدة، استلم الأخرى في عقبها مباشرةً. وفي كل مرة كان أحدهم يصرخ بنشوة قائلاً: "دي سيجارة كااااافرة!!" وما أن فعل البنقو فعله في رؤوسهم حتى بدؤوا يتعرفون على بعضهم البعض. أقّلهم كلاماً وأكثرهم سعادة "هارون" الذي كان كمن يقرأ رسالة مكتوبة بخطٍ رديء على ضوء شمعةٍ لا تكف الهواء عن مغازلتها فيميل لهبها ذات اليمين وذات الشمال، بالكاد ينطق الكلمات العربية بشكل صحيح، بينما تمتع الآخران بلكنة غليظة. وفيما وقف الأول قائلاً: "سأكون رئيساً للسودان ذات يوم." نهض الآخر بجديّة أكثر وهو يقول: "وأنا سأكون قائداً لجيشٍ يحرر فلسطين." بينما اكتفى هارون بضحكة متهكمة وهو يقول :"أما أنا فكنتُ وانتهيت!" واكتفى الريّس بابتسامة مجاملة دون أن يفهم مغزى القصة. مؤخراً، كان ميل العم صابر لسرد القصص الغابرة، وطريقته الغامضة في سردها هو ما يزيد من قناعة عمّال الميناء بخرفه، غير أن أحدهم لم يتجرأ يوماً ليسأله عن سبب حزنه القابع تحت ابتسامته الوقورة أو عن سر نظراته للبحر تلك. "الصيادون أوفر حظاً من غيرهم" هكذا كان يقول دائماً عندما يتذمر أحدهم. ولأنه كان صياداً متمرساً ذات يوم؛ فهو يعلم تماماً ما يشعرون به من عبثية.
                  

06-27-2007, 12:23 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ___________________________

    كان الريّس بطريقةٍ ما مدركاً لما يحتويه عالمه وحياته من أفعال روتينية اعتاد عليها بسبب أنه لا يملك البديل، بل لم يفكر في هذا البديل من قبل. حتى علاقته غير الشرعية مع شاهيناز البدوي كانت علاقة روتينية صرفة. فمنذ أن التقاها صدفة أمام دكان البصاولي تحاول شراء العشاء. حاول، بدافع الشهامة المنطوية على تودد ماكر، أن يساعدها، فأخذ عنها السلطانية وزاحم الشباب الذين كانوا يسدون مدخل الدكان، وملئ لها بقرشين فول وربع كيلو حلاوة طحنية، ومنحته ابتسامتها الشاكرة جرأة على تجاوز هذه المساعدة إلى حد عرض خدماته لتوصليها إلى المنزل، وكردٍ للمعروف بالمقابل المنتظر حاولت شاهيناز إغرائه ببعض الملامسات الجسدية التي كانت تأتي وكأنها مصادفة. استطاع الريّس أن يحصل منها على قبلة ساخنة سريعة وموعد بلقاء قريب قبل شارعٍ واحد من منزلها. شاهيناز التي كانت قد بدأت تتردد على إحدى المنازل التي يحرسها الريّس حتى عودة أصحابها من السفر، كانت تتجاهله في الحي، وهذا التكنيك الذي تتبعه الساقطات ليس بجديد على الريّس نفسه، وهو الذي كان يعرف مسبقاً أن فتيات الحي الساقطات لا يمكنّ أحداً من أبناء الحي، بل يجعلن الأحياء البعيدة مسرحاً لعملياتهن السرّية، فيما يبدين أمام أبناء الحي نفسه كراهبات، غير أنّ الريّس لم يكن نزيهاً في علاقته معها، إذ أخبر بعض أصدقائه بمغامراته الغرامية معها. وظلّت شاهيناز مستمرة في التواصل معه حتى ذلك اليوم الذي قدّمها لأصدقائه وطلب منها مضاجعتهم جميعاً. فخرجت ولم يعد يراها بعد ذلك إلاّ برفقة صديقاتها حيث يصعب عليه الاختلاء بها في محاولة لإعادة المياه إلى مجاريها. ولم يمض أكثر من أسبوع واحد حتى أقام علاقة عابرة مع أخرى التقاها في مركبة عامة، ويذكر دائماً أنها كانت المبادرة بالمغازلة. غير أنها لم تدم معه أكثر من ثلاثة أيام متباعدة.


    رغم أن النساء في حياة الريّس لم يشكّلن هاجساً على الإطلاق، إلاّ أنه كان لا يفوّت فرصة تتاح له أبداً. أمّا أكثر الفتيات صلة به فقد كانت فايزة كيكيا، الفتاة الأريترية التي تبيع الشاي مع أمها في إحدى مواقف المواصلات العامة، وتعيش في منطقة أولي شديدة الفقر. فايزة كيكيا واحدة من المئات الذين نزحوا بأسرهم إلى السودان، أحست مذاق اليتم بعد أن قتل والدها الجندي في جيش التحرير الأريتري وأحد رفاق عواتي، عام 1961م في معركة أدال كارمرويت. فايزة الفتاة الناهدة التي تمتاز عن بقية الفتيات اللواتي عرفهن الريّس، إضافة إلى فتنتها، بسرعة بديهة يشهد لها به كل من عرفوها بالكاد تتذكر تفاصيل والدها الشكلية غير أنها لم تنس منزلها في أسمرا وشجرتا النيم خارج بيتها حيث كانت تلعب مع الأطفال. وما يزال الريّس يتذكر ذلك اليوم الذي التقى فيه بهذه الفاتنة الأريترية عندما حاول تقبيلها بالقوة بينما كانت تحاول أن تجمع أوانيها في طريق عودتها إلى المنزل ليلاً. ولم تتوانى عن صفعه عندما أرهقها إلحاحاً، بينما توقف الريّس متحيزاً للثأر ومضمراً في صدره تجاهها غلاّ من النوع الذي يزول مع انقضاء الليل وتأثير الخمر. وربما وافقت على طلبه فقط لترتاح من إلحاحه الذي لم ينقطع لأسبوعٍ بأكمله.


    ذلك اليوم طلبت منه أن يأتي إلى منزلها ليلاً متوخياً الحذر، بعد أن بتأكد من خلو الشارع من الفضوليين. ورغم أنها لم تكن المرة الأولى التي يواعد فيها الريّس فتاة ليلية، إلاّ أنه كان يشعر بقشعريرة مراهقة تسري في أوصاله، وهو ينتظر موعد انتهائها من عملها. وعندما وصل إلى المنزل، وجدها قد تركت الباب مفتوحاً بمقدار ما يسمح له بمعرفة ذلك. فتح الباب ببطء شديد سمع معه صوت صرير الباب الزنكي المتهالك، كان هذا الصوت يثيره أكثر من الإضاءة الزيتية الخافتة داخل المنزل. وما أن بلغ منتصف الردهة حتى رآها وهي تمشي على أطراف أصابعها طالبة منه أن يدخل من مدخل ما مغطى بالقماش دون أن يصدر أي ضجة. فامتثل على الفور وكان هذا الحذر المشوب بالصمت والأضواء الخافتة ما جعل حيوان الريّس ينتصب حتى قبل أن يتلامسا. وما أن تسلّمت نقودها حتى بدأت تداعبه بحرفية لم يعتد عليها الريس حتى بلغ شبقه قبل أن ينزع عنه ثيابه. واستمر الريّس في مواصلة الأريترية الحسناء إلى أن توطدت العلاقة بينهما فأصبحت لا تتقاضى منه نقوداً كما كانت تفعل في السابق.
                  

06-27-2007, 12:27 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ______________________________

    الذهاب إلى نادي ديم بوليس، واحدة من الأفعال الروتينية التي كان يقوم بها الريّس خلال برنامجه اليومي، وما أن استوت فكرة الهجرة في دماغه حتى بدأت قناعاته بالأشياء تتغير، عندها فقط بدأ يشعر بروتينية الأشياء التي لم يكن يستشعر روتينيتها من قبل. وإلى أن غادر الريّس بورتسودان لم يكن قادراً على حساب عدد أوراقه في لعبة "الحريق" التي كان يلعبها كضيف شرف. وجرّ الخمسين كانت من إحدى المهام المستعصية عليه، فلم يكن ليفكر في أكثر من ورقة واحدة ينتظرها ليكمل نزوله، بينما تأتيه الأوراق الأخرى دون أن يعلم أن إحداها سيكون كرته الرابح. غير أنّه عوّض ذلك في لعبة الوست التي كان يتقنها ببراعة فقط لأنها لا تتطلب ضلاعة في الحساب، ولم يكن أحد ليجاريه في هذه اللعبة. يمتلئ نادي ديم بوليس بعد صلاة العصر بالشباب ولا يغلق أبوابه إلا عند الساعة العاشرة بعد انتهاء المسلسل المسائي. نادي ديم بوليس الذي يحتوي على ملعب بدائي لكرة الطائرة، وطاولة خشبية غير متسقة للبينج بونج بمضارب كرتونية سيئة الاستدارة، وثمان طاولات موزعة بطريقة عشوائية في ساحة النادي، كان هو النادي الأكثر شعبية لدى شباب الحي وحتى الأحياء المجاورة، فكان لا يخلو أبداً من الزوار. بعضهم فقد كان يأتي لشرب الشيشة فقط، بينما كانت حلقات الضومانة والوست هي الأكثر عددية وأكثرها استقطاباً حتى لولئك الذين يعشقون الفرجة. على أعتاب بوابة بورتسودان عرف الريّس أن ضحكات الشباب في النادي، وأحاديث المغامرات العاطفية وحتى أصوات مولدات الكهرباء في النادي كانت مثيرة للضجر والرتابة.


    في مرحلة متأخرة اكتشف الريّس أنه كان شخصاً اعتيادياً أكثر مما يجب. ولم يستطع بشكل قاطع أن يحدد ما إذا كان هذا الشعور سبباً أم نتيجة، ما إذا كان اكتشافه ذلك جاء نتيجة لرغبته في الهجرة، أم أن اعتياديته هي التي أفضت به إلى قرار الهجرة. كانت أوديت هي الشيء الوحيد المستحدث في آلة مسيرته الحياتية. وكانت ما تزال ابتسامتها الملوكية تساوره بين الحين والحين، لتعيده تخاطرياً إلى تلك اللحظة التي وقعت فيها عيناه على عينيها مباشرة، فيشعر بذات الرعشة التي شعر بها آنذاك. كان الريّس قد نسي اسمها تماماً، غير أنه ما يزال يتذكر حروف اسمها دون أن يعرف ترتيبها على النحو الصحيح.


    بدأ الريّس يعتاد الجلوس أمام باب بيته بعد عودته من العمل، بينما تذهب أمه لزيارة جارتها حتى ولو من غير حاجة. شعر بازدراء شديد لما تحتويه حياته من تفاصيل لم تكن ذات أهمية يوماً ما، وقرأ تاريخه فلم يجد للآتي منها أية معالم واضحة. تذكر أمنيات أمه له بأن يتزوج وينجب كبقية رفاقه. ورغم أن الذين كانت نفرين تتحدث عنهم لم يكونوا رفاق الريّس فعلاً، إلاّ أنها كانت ترى مشكلة ولدها تكمن في إخفاقه في اختيار رفاقه. وببساطة الأمهات كانت ترى أن كل ما ينقص الريّس هي زوجة تهدأ سرّه، وتنجب له أطفالاً يملئون عليه الدار، وأن يكونوا قرّة عين له، وكانت تشترط أن يحدث كل ذلك قبل موتها، وإلاّ فسوف لن تكون مطمئنة عليه في قبرها. كل الأمهات يحلمن بذات الشيء، بل حتى أنهن يحددن عدد الأبناء وسلوكهم. كلهن يحلمن بأبناء يملئون المنزل، وكلهن يحلمن بأن يكون الأبناء نجباء وقرة أعين لآبائهم؛ هذا الحلم الأمومي الافتراضي كان يزعج الريّس كثيراً، ويكرّس شعوره بالاعتيادية، وفيما بعد عرف الريّس أن عشقه لحياة العزوبية لم يكن هو السبب الأصيل وراء رفضه فكرة الزواج، إنما الاعتيادية هي ما كانت تحول دون ذلك. ماذا يعني أن يعيش المرء ليتزوج، ويتزوج لينجب، وينجب ليموت. هل يكون المرء ترساً اعتيادياً في عجلة هذه الحياة، ألا يحق للمرء أن يعيش وحده، وأن يموت وحده؟ إن أخفق فإنما لا يتحمل معه آخرون نتائج إخفاقاته، وإن نجح يُسعد معه من يريد وليس من يكون مجبراً عليهم. ربما كان الروتين أول ما خلق الله من الكائنات. أو ربما كان الخلق عملاً روتينياً أيضاً!!
                  

06-27-2007, 12:29 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    _____________________________

    أفاق الريّس من هذيانه الصامت على صوت نباح كلبة فريال الضو تركض خلف دراجة يقودها صبي مراهق، ثم تعود إلى حيث كانت على أرضٍ رطبة تحت مزيرة. فقال في نفسه: "هذا أيضاً عمل روتيني! لن تشعر الكلبة بكلبيتها إن لم تركض خلف الغرباء وأن تنبح فيهم ثم تعود للنوم مرّة أخرى، ولن تشعر بكلبيتها إن لم يخافوا منها. ترى هل أحسّت الكلبة بأن لوجودها معنىً لمجرد أنها ركضت ونبحت في وجه سائق الدراجة ذلك؟ هل تشعر بأن ما تفعله هو سر احتفاظ فريال بها؟ ما الذي دفعها لترك جلستها المريحة لتفعل ما فعلت، ألم يكن من الأجدى لها – إذا كانت لا بد نابحة - أن تنبح من مكانها؟ وذلك الكمساري المزعج الذي يمضي وقته في المناداة "هَدَل .. هَدَل .. هَدَل" بصوتٍ يوشك أن يهتك حباله الصوتية، بينما يحتسي السائق كأساً من الشاي بطريقة برجوازية مقيتة، منشغلاً بأحاديث بذيئة مع "ست الشاي"، ألم يكن من الأفضل له أن يعلّق ورقة على زجاج حافلته يكتب فيها "هَدَل" ويريح نفسه؟" كان الريّس يراقب المارين في شارع منزله بازدراء شديد، مستشعراً الاعتيادية في وجوههم وضحكاتهم وحركاتهم، ويرى خلف هذه الوجوه وجوهاً أخرى مجروحة ومنهكة بفعل التعب والاعتيادية. لا شيء في نظره يدعو للأمل، فتنهّد بصوتٍ عالٍ وكأنه يتنفس من رئة غيره، وهو يحصي غبار الاعتيادية الذي يخلفه المارون ورائهم.



    التأمل لا يشترط المنطقية في تتابع الأحداث والشخوص، ولا ضرورة تذكر لإيجاد روابط تسلسلية لما يدور في أذهاننا، وهذا ما جعل الريّس ينتقل في تأمله بطريقة غير منطقية إلى صورة أبيه المعلّقة على جدار غرفته الكلسية، ويتذكر وصاياه التي تأتيه بين الحين والآخر كومضات تذكيرية رغم أنه لم يكن يهتم لها كثيراً، إلاّ أنها كانت تأتيه في أوقات لا يحسب لها حساباً، ثم يتذكر جملته الاعتيادية أيضاً "بكرة لمن تعرّس وتجيب أولاد يا محجوب؛ كلامي ده بيقع ليك تمام"، ثم يعرج إلى ذكرياته مع أخيه مكي الذي كان يخيف فتيان الحي ويأسر قلوب فتياتها. شعر الريّس للمرة الأولى منذ أكثر من سبعة عشر عاماً بالحوجة لأخيه، فما كان ليتركه واقعاً في شباك الحيرة لو أنه كان على قيد الحياة. "الموت والحياة اعتيادية أيضاً !!" تذكّر الريّس ذلك اليوم الذي وقف فيه مكي مبدياً سخطه على حياة الفقر التي كانت تعيشه أسرتهما، عندها فقط عرف سر الجملة المستنسخة التي لا تفتأ نفرين تقولها له "شهاب الدين أظرط من أخيه" وكأنه بدأ يجيد الربط بين الأشياء للتو فقط، فابتسم ابتسامة يسخر بها من نفسه، ثم أعاد وضعية جلوسه. وفيما راح يدقق النظر في وجوه المارين من حوله، مرّ حافظ بونقز على دراجته التي يبيع عليها الخيزران، فابتسم وهو يرى خيزراناته المنتصبة كشوارب الفقمة، وحاول أن يوجد رابطاً بين بيعه لتلك الخيزرانات وبين كونه بونقزياني محترف، فلم يجد غير أنه يخفي بين ثيابه شخصاً ميّالاً للعنف والضرب. وقرّر أنه يحفظ جدول الضرب دون شك! فابتسم مرّة أخرى لأنه عرف كنّه الأشياء، وطريقة كشفها بالربط بين ظواهر الأشياء وبواطنها. عندها خرجت نفرين لتضع بين فخذيه وعاءً بلاستيكياً أزرق اللون "هاك .. أمشي جيب لينا رطل زيت .. الزيت كِمِل"



    نهاية الفصل الثالث
                  

06-28-2007, 05:24 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ____________________________

    الفصل الرابع:


    في شتاء عام 1981 كان أبو السيك مهجّساً بتزويج أخته إيمان، التي بدأت ملامحها الأنثوية في الاكتمال إلى حد أغرى شباب الحي بالتغزّل بها علانيةً، كلما مرّت عبر ميدان دقنة ذهاباً وإياباً. كانت إيمان وقتها بدأت، كلبوة نفساء، تدافع بكل ضراوة عن حقها في إكمال دراستها أمام إصرار أخيها الذي وضع لها شرط الزواج قبل فكرة إكمال الدراسة. ما أوقعها في حيرة من أمرها، فهي لم تكن ترغب الزواج، في حين أن رفض فكرة الزواج تلك كانت، كفكرة الإلحاد، مرفوضة شكلاً ومضموناً. ورغم أن إيمان ليست عدوانية بطبعها إلاّ أن أبو السيك لم يستطع أن يرغمها على الزواج بالإكراه. وربما كان سبب إصرار إيمان على دخول الجامعة، هو رغبتها القديمة في الوصول إلى الحد اليقيني الذي كان عليه إيهاب عبد السلام. فقد كانت لديها قناعات راسخة بأن الجامعة هي من تمنح تلك اليقينية والمنظار المقعّر. ولم يجد أبو السيك غير الريّس يشتكي له مما يختلج في صدره جراء عناد أخته، وترفض الخطّاب الواحد تلو الآخر، بشغفٍ غير مسبوق للتعليم ولم يكن معترفاً به في العائلة. كانت موافقة أبو السيك على ذلك تعني أن يرسلها إلى الخرطوم وحدها – وهو ما كان يرفضه بشكل قاطع وغير قابل للنقاش - أو أن ينتقل معها إلى هناك، حيث تكون أمام مرآه ومسمعه. عندها وجد الريّس نافذة مشرعة، أو ربما مشتركة تفتح الجرحين على إطلالة واحدة "الهجرة".


    "تعليم البنات قلّة أدب، وكلام فارغ ما ليهو داعي" هذه هي الجملة التي كان يرددها أبو السيك دائماً كلّما فاتحه الريّس في موضوع إيمان، "ما في النهاية مصيرها لبيت راجلا، لازمتو شنو وجع الراس؟" كان الريّس يخمّن أن إيمان بعنادها ذلك تحاول التخلّص من حالة الاعتيادية التي لم ينج منها أحد حتى كلبة فريال، فحاول أن يوّفق بين حلمه، ورغبة إيمان في إكمال دراستها، ليس لحرصه على مستقبل إيمان الأكاديمي قطعاً، بل لأنه ظنّ أن مارد حلمه القديم بدأ يستجيب له أخيراً، كان يؤمن بأن وجود أبو السيك معه يساعده كثيراً في اجتياز مستنقع الاغتراب، وعندها فقط عرف الريّس أنّ الوحشة والغربة – إضافةً إلى ملله من الاعتيادية - هما ما كان يخشاه، وما كانا يحولان دون جدّيته في تلك الخطوة. عرف أنه لو تمكّن من إقناع أبو السيك فسوف يحقق ذلك الحلم الذي ظلّ يراوده على مدار ثلاثة أشهر. لم يكن الريّس قد حدد بعد في أي مهنة قد يعمل هناك، ولكنه كان يشعر بشيء غامض يدفعه إلى الخروج من بورتسودان، كأنّ أرواح أسلافه المدفونة في مكانٍ ما تدعوه ليلاً. وربما تملّكه إحساس قوي بأنه المقصود بنبوءة شيخ الطريقة البرهانية العتيقة التي ما زال يتذكرها عندما خاطب عبد السلام محجوب الكاشف بطريقته المنهجية: "سيكون من ذريتك شخص ذا شأن"، وتملّكه هذا الإحساس بعد أن شُفيَ من فاجعة موت أخيه مكي بأربعة أشهر. وربما ظلّت هذه النبوءة مختبئة في مكانٍ ما إلى أن بدأت تخرج مع رغبته الجامحة في الهجرة. كان الريّس يعتقد أن ثروةً ما، أو قدراً سخياً ينتظره في مكان آخر، وأنه على بوابات بورتسودان سوف يلتقي بملائكة ذوات أجنحة بيضاء تدله على الطريق التي يتوجب عليه أن يسلك:


    * ياخي مالو لو كمّلت قراياتها .. مش أخير من قعادها في البيت؟
    - قراية شنو إنتا كمان، يعني نتبهدل أنحنا عشان حضرتها دايرة تقرا جامعة؟ وهو في منو في العِيلة ولا من بنات الحِلّة قرن جامعة لمّن دايرة تقرا هي؟ ما ياهونديل بنات الحلّة كلّهن قاعدات في بيوتهن، زايدة عنّهن في شنو يعني؟ دلع وقلّة أدب فارغة.
    * مش يمكن في الخرتوم الله يكتب ليك رزق أوسع من هنا ؟
    - ومش ممكن لأ ؟؟
    * ياخي ما تبقى متشائم كده .. إنتا قول خير بس
    - المسألة ما تشاؤم بس الليلة أنا لو ما لاقي شغل هنا معليش، لاكين أخلي شغلي وأمشي ورا راس الغبيانة دي ولاّ كيف يعني؟ دي شورتك يا الريّس؟
    * والله يا أبو السيك، أنا غرضي ننزل الخرتوم، ونفتّش شغل هناك. حسي عليك الله عاجبك الفقر اللي أنحنا فوقو ده؟
    - وفي الخرتوم إن شا الله داير تشتغل مقاول ولا مدير بنك؟ وبعدين كان ما عاجبك الشغل في المينا سيبو وشوف في مكان تاني، في سلبونا، في ديم نور في هَدَل في سواكن في أي مكان تاني .. إن شا الله في أولي زاتو ... هو قالوا ليك ما في شغل إلاّ في الخرتوم؟


    كانت مهمّة الريّس في إقناع أبو السيك تبدو صعبة للغاية، لا سيما وأنّه لم يكن مقتنعاً بالحجج التي يسوقها له. ولم يستطع أن يخبر صديقه بأنه يرغب في الخروج من بورتسودان تلبيةً لنداءات قوى عليا خفية. فقد خشي أن يصفه بالجنون أو بالخبل، خاصة وهو يعلم موقفه من عالم ما وراء الطبيعة. وما كان يجعل مهمة الريّس بالغة الصعوبة هو عدم اقتناع فتحيّة شبانة (والدة أبو السيك) بجدوى مواصلة ابنتها في الدراسة، سيّما وأن جاراتها بدأنّ يسألنها – في أحاديث القيلولة – عن سبب بقاء ابنتها من غير زواج حتى هذه السن رغم جمالها وانتهائها من الثانوية العامة. الأمر الذي كان يضعها أمامهن في حرجٍ لا مخرج منه إلاّ القول بأنها لم تجد من يناسبها بعد، وأن رقبة ابنتها ما تزال معقودة إلى حبل القسمة والنصيب. وفي مشاجراتها الدائمة مع ابنتها كانت فتحية تردد: "ده الكلام البسمعو بي أضاني .. الله أعلم بيقولوا من وراي شنو؟"
                  

06-28-2007, 05:44 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    _________________________

    فتحية شبانة المنحدرة من أصول أرستقراطية منقرضة، لم يتبق لها من برتوكولات الطبقات البرجوازية غير تشذيب الكلام، والتأنق فيه، بينما أصابها الاختلاط بعوالم ما دون خط الفقر بتجريم تعليم الفتيات، والاهتمام البالغ بكلام الناس، ومؤخراً نظراتهم التي كانت تلاحقها فيما يتعلق بموضوع ابنتها الوحيدة إيمان. في حين يجلس إبراهيم الصاوي الذي على أعتاب الخَرَف، على مقعده العتيق وهو يعدّ الخرزات الملوّنة في علبة ماكنتوش منزوعة الغطاء كانت تستخدمها فتحية لحفظ أدوات ولوازم الخياطة، وتركتها له بعد أن تعلّق بها كالأطفال، وأصبح يخبأها عن الجميع. كانت تشعر بأن نساء الحي لا يجتمعن في منزل إحداهن وقت القيلولة إلاّ ليتناولن موضوع رفض ابنة فتحية للزواج، وكانت تضع سيناريوهات افتراضية لتلك الجلسات النسائية الوهمية. متقمصةً شخصية المرأة اللحوحة سيئة الظن، فيذهب خيالها إلى احتمالية أن تكون الفتاة على علاقة غير شرعية بأحدهم، الأمر الذي يجعلها في انتظار أن يتجاسر ويتقدم للزواج منها، قبل أن يفتضح أمرها مع شابٍ آخر.


    كانت فتحية في نهاية كل سيناريو تخيّلي يجنّ جنونها، وتنطلق إلى ابنتها لتعيد فتح الموضوع مرّة أخرى. لم يكن لإبراهيم الصاوي، الذي بالكاد يفرّق بين شكل أبنائه من وراء زجاج نظارةٍ بالغة السُمك معلّقة على رقبته بسلسلة سوداء، يملك أمام جبروت فتحية إلاّ أن يصمت مغمغماً بكلمات أقرب للهذيان. وهو ما جعل الجميع يتجاهلون وجوده تماماً، فلم يكن أحدهم ليأخذ مشورته في أمرٍ ما، أو حتى يوجّه إليه سؤالاً أو ينتظر منه إجابة. وكان تواجده على مقعده العتيق في فرندة الدار مجرد شكليات بيزنطية لا أكثر ولا أقل، حتى أنّ عدوى اللامبالاة به انتقلت إلى الجيران وزوّار المنزل. في إحدى نوبات هذيانه الدراماتيكية صرخ بصوته الشبيه بغمغمة عالية مرتجفة:

    "فتحية بنت شبانة المصرية بتتكلم صاح .. طول عمرها بتتكلم صاح .. حتىً لمن فلّقت أخوها بالفازه وسيّح دم، ما في زول قال ليها عينيك في راسك، قالوا هوّا الغلطان ولسانو طويل .. بت الباشا، باشا .. والناس كُلّها وراها ماشا"

    ولأنّ لا أحد غير فتحية يستطيع فكّ طلاسم غمغمات إبراهيم الصاوي التي تشبه الشيفرات الماسونية، فقد شعرتْ بامتعاضٍ شديد واكتفتْ بمدّ كفّها مفتوحة الأصابع في وجهه. وموقف الصاوي لا يغيّر من الأمر شيئاً، كيفما اتفق.


    الفارق العمري الكبير بين فتحيّة والصاوي والذي يُحسب لصالحه بسبعة عشر عاماً، كان بالإضافة إلى لونه والفروق الطبقية هو سبب رفض عائلة شبانة ذات الجذور المصرية لزيجة محكوم عليها بأحد الفائين "الفشل" أو "الفقر". إلاّ أن فتحيّة أصرّت عليه وقتها. وقيل أنه استعان بمشعوذٍ بارع لاستجلاب محبتها التي لم تكن كائنة لولا تدخل عفاريت السحر الأسود ليصوّروه في عينها في هيئة فارسٍ لا يمكن مقاومة سحره، والبعض أوعز ذلك إلى لعنة الاسم البوليتاري الذي أصرّت عليه أمّها كاميليا الدُقلي، ورغم أنها أخضعت ابنتها لعلاجات نفسية وروحانية متعددة، تحت ضغط من أختها صافيناز وأخوات رفعت شبانة باشا، إلاّ أنّ فتحيّة أصرّت على الزواج به، بل وهددت بقتل نفسها إن وقف أحد في طريق تحقيق حلمها ذلك، فلم تجد العائلة، التي كانت على شفا الإفلاس بعد الحركة التصحيحية إبان ثورة الضباط الأحرار، إلاّ أن توافق شريطة أن تنقطع صلتها بالعائلة، وأن تتحمّل تبعية هذا التصرّف الذي اعتبرته أرعناً وجنونياً. ومع خسارة عائلة شبانة لابنتهم، وأملاكهم فقد اكتنف قصر شبانة جو ملوكي حزين رافقهم في رحلتهم إلى اسطنبول حيث انقطعت أخبارهم إلى الأبد دون أن يعرفوا سبباً منطقياً واحداً يجعل فتحية تقبل، بل تصر على الزواج من إبراهيم الصاوي المحولجي البائس.


    نادرة هي تلك اللحظات التي تتذكر فيها فتحية شبانة أول يوم التقت فيه إبراهيم الصاوي. بينما لا يفتأ الصاوي يرددها كأغنية وطنية قديمة، بذات التفاصيل التي لا يختزلها أو يحاول أن يعيد صياغتها بطريقة أخرى. ولم تكن إيمان تجرؤ على سؤال أمها عن سبب اختفاء ذلك الحب الجارف الذي تحدّت بسببه الجميع، غير أن فتحيّة لم تكن تحبّذ الخوض في هذه التفصيلة تحديداً. وبينما كان الصاوي يعيد رواية القصة بطريقة أقرب للتحسّر منها إلى التذكّر، كانت فتحية تحكيها بتعالٍ يفضح أرستقراطيتها البائدة. وفي كل مرة يشعر فيها الصاوي بتذمرهم من سرد القصة كان يصرخ بطريقته المعتادة التي لا يفهمها غير فتحية شبانة "والله أحرمكم من الميراث، قلة أدب واحد!" وكانت فتحية عندما تسمع يقول ذلك تمصمص شفتيها في شفقة "النبي تتنيّل، هو إنتا حيلتك حاجة"
                  

06-28-2007, 05:48 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    _____________________________

    بين الشائعة والتصديق، كان رفعت شبانة باشا، القادم من مصر لتجارة الصمغ، يعيش أتعس لحظات حياته. بينما أوصى زوجته كاميليا الدُقلي بتسريب مجوهراتها الثمينة تحوّطاً من مدّ "الهوس العسكري" – كما كان يسميّه – لعصابة الضباط الأحرار. وبينما انشغل الجميع بتهريب ما تبقى من ممتلكات، كانت فتحية تعيش قصة غرام سرّية مع محولجي يكبرها بسبعة عشر عاماً. رؤية فتحية السريالية للعالم هو ما كان يجعلها لا ترى تلك الفوارق التي نبّهتها إليها مربّيتها وكاتمة أسرارها زهرة عبد الواحد. كانت فتحية لا تعترف بطبقية المشاعر الإنسانية، وترى بأنها إحدى الأسرار الكونية التي لا يمكن لأحد أن يتدخل فيها بتشويه أو تزييف. "الحب هو ألا تعرف لماذا تحب." وكأنّ كلمات هيوم هذه كانت موجّهة إليها في تليغراف شخصي. وربما رأت فتحية إبراهيم الصاوي لأول مرّة عندما وقعت من على ظهر فرسها الذي جفل لرؤية أفعى كانت في طريقها إلى إحدى المزارع القريبة، وأعجبت بشجاعته وبراعته في التعامل مع الأفعى التي أمسكها من مؤخرة رأسها، بينما راح يطمئن عليها وهو ما يزال ممسكاً بالأفعى بحذرٍ شديد. خوف فتحية من الأفعى، التي في يده بعينين تنظران إليها بلؤم بالغ، لم يمنعها من التركيز على ملامح الصاوي بوجهه الرجولي المفرط الذي يحمل خشونة من النوع الذي تحبه، عروق يديه، وغِلظة كفّه، وكتفه العريضة، وشعر صدره الذي رأته من خلال فتحة صغيرة في قميصه الصيفي :

    * أرسلني الله إليها في الوقت المناسب، ربما كانت في الجحيم الآن.
    - اخرس! لم تكن ذلك الشجاع المنقذ، قد كانت أفعى غير سامة على كل حال!


    ذات الأسطوانة كانت تتردد دائماً على مسامع إيمان وياسر كلما دبّ خلاف بين الصاوي وزوجته. متعلقةً بكبرياء أرستقراطي يابس تقول فتحية "لأي سبب لست أدري، ولكن الله منحك هبة من السماء، فما كان لفتاة مثلي أن تقبل بمحولجي لا مستقبل له." بينما يهمس الصاوي في أذن ابنته "أمّك تخاف من الديدان ناهيكِ عن الأفاعي، مسكينة .. ليتها تدري مقدار الفزغ الذي أدخلته في قلب تلك الأفعى المسالمة!" كانت إيمان نسخة معدّلة من أمها، فقد كانت تملك ذات النظرة السريالية للعالم، غير أنها أضافت إلى ذلك شغفها منقطع النظير بالتعليم والمعرفة، وما زالت تحتفظ في خزانة ملابسها ببعض الكتب التي أهداها إياها إيهاب عبد السلام. كانت تشعر بها كالطلاسم المنقوشة على جدران القلاع السواكنية بلغة مشابهة لتلك المستخدمة في المنشورات التي كانت الطائرات الكورية قد ألقت بها على رؤوس البورتسودانين إبان الاستقلال، وربما بسببها أطلق الجميع اسم "كوريا" على الحي الذي استهدفته تلك الطائرات.


    وبينما راحت إيمان تحاول إقناع أمها بدخول الجامعة، كانت فتحية تؤكد لها على أولوية الزواج وأسبقيته على أي خطط مستقبلية قد لا يكون لها جدوى على المدى القريب أو البعيد. ولأنها لم تر نموذجاً أقنع لابنتها من نفسها، فقد كانت تذكرها دائماً بما حلّ بها عندما اختزلت الحياة في جملة عاطفية وحلم مراهق ما لبث أن انكسر على صخرة الواقع والتفاصيل الحياتية القاسية. غير أن ذلك كله لم يثنها عن عزمها المقدّس قيد أنملة. الشيء الوحيد الذي كان يحملها على الصبر هي محاولات الريّس غير المنقطعة مع أخيها لإقناعه. ورغم أنها لم تكن تحرّضه بطريقة مباشرة إلاّ أنها بدأت تشعر بارتياح لمجيئه المتكرر. كانت تجلس دائماً على مقعدها خلف باب الغرفة المطلّة على الفرندة التي يجلسان فيها وهما يتحدثان. وتشعر بالغيظ لتلك الحجج الواهية التي يسوقها الريّس، وهي تعلم أن أبو السيك لم يكن ليقتنع بهذه الحجج البدائية سهلة النقض. ربما تمنت أن يمتلك الريّس براعة إيهاب ولو ليومٍ واحد فقط.


    * أسمع عندك قروش؟
    - ليه؟
    * ياخ إنت مالك صَبَره كده؟ عندك ولا ما عندك؟
    - عندي ..
    * دايرين نمشي نشرب لينا بيرة .. رايك شنو؟
    - بيرة؟
    * آآي بيرة .. ما تعاين لي كده .. ومش في أي مكان .. في النادي الإفرنجي .. تشوف الدنيا اللي في حياتك ما شفتها .. تشوف العالم عايشة كيف . مش تقول لي أنحنا ديل !!
                  

06-28-2007, 05:56 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ______________________________

    في الطريق، وبينما كان الصوت الغالب على الشارع الترابي الضيّق هو صوت القطط المتشاجرة في موسم تزاوجها. كانت صرخات إلياس المتعالية تثقب أذن الريّس و أبو السيك، وتقطع عليهما حديثهما الضاحك. إلياس طه الزبير إلياس أحد دراويش ديم بوليس، وربما كان أحد معالمها المشهورة. فهو دائم التجوّل حتى في الأوقات غير المتوقعة. يقال أن به مساً من الجن، بينما يرى البعض أن جنّية أحبته وتزوجته، وهو يمضي ليله كله متنقلاً معها مقتحماً البيوت المهجورة. ويقطع إلياس مسافاتٍ طويلة سيراً على الأقدام دون توقف، ودون أن يشعر بأدنى درجات التعب والإعياء. وحتى قبل أن يفقد إلياس عقله، كان محط سخرية الآخرين الذين كانوا يرون فيه وفي أسرته أعجوبة من أعاجيب الزمان.


    ومما تذكره نفرين دائماً للريّس وصاحبه عن إلياس الكبير أنه عندما كان شاباً عشرينياً اعتزل النساء وبدأ طريق التصوّف حتى ادعى أنه في ساعات تجليه يسمع أصواتاً تأتيه من السماء، وتوحي له بأمور لا يتردد أن يفعلها، ومنها أن مناديه السماوي أمره بالزواج من امرأة خرساء ليست بذات جمال تدعى مريم فقيري، فتزوجها وأنجب منها الزبير و الشاذلي فعلّمهما جميعاً الطريقة التي يقول أنه رآها وتعلّمها في رؤية منامية، ولم يزل كذلك حتى كبر الزبير وتزوج من فتاة تدعى حفصة هي ابنة لأرملة كانت تعيش في كنف والدها بعد وفاة زوجها عنها. وتزوّج إلياس من أخت أم زوجة ابنه، والتي ماتت بعد أن أنجبت له طفلاً سمّاه يحيى. وبعد انقضاء ثلاثين يوماً على وفاتها تقدّم لحماة ابنه وتزوّجها وأنجب منها بنتاً أسماها الزهراء، بينما أنجب الزبير من حفصة طفلاً سمّياه طه. ولمّا توفي الزبير صغيراً تاركاً ورائه حفصة أرملة في ريعان شبابها، تزوجها الشاذلي ليستر عرض أخيه وأنجب منها بنتاً أسمياها البتول، وتزوّج يحيى (ابن إلياس من أخت حماة الزبير) من الزهراء (ابنة حماة الزبير من أبيه إلياس)، بينما تزوّج طه ابن الزبير من البتول ابنة الشاذلي وأنجبا إلياس الدرويش الذي لا يكف عن السؤال عن نسبه المتداخل كتداخل أغصان شجرة اللبخ. ويقول أهل الحي أن سبب فقدان إلياس لعقله هو محاولاته لفهم شجرة العائلة، غير أنّ المنصفين منهم عزوا ذلك إلى سيجارة بنقو جنوبية شربها بعد أن غررت به شلّة مجهولة.


    انشغل الصديقان بالحديث عن إلياس ولوبي عائلته المتصوفة، وما يزالان يتذكران تلك الحادثة التي راح ضحيتها حمار لهم هزيل، عندما دهسه "باص سيرة" يقوده سائق ثمل. ولم ينسيا كيف كان حزن إلياس عليه رغم أن أحداً لم يره يمتطيه في حياته. "الظاهر كانوا فِرَد!" هكذا كان الريّس و أبو السيك يتندران وهما في طريقهما إلى النادي الإفرنجي بعد صلاة العشاء.



    نهاية الفصل الرابع
                  

06-28-2007, 07:11 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ____________________________

    الفصل الخامس:


    في ناحيةٍ ما من حي العظمة، حيث لا تنقطع الكهرباء ولا تكف البيوت عن الامتلاء بالزوار الليليين، كانت فيلا جيوفاني صاخبة كعادتها بأصوات الموسيقى الأوبرالية، بينما كانت الأضواء تضيء شوارع الحي الباذخ كما تضيء أضواء الكنائس الأوروبية ليالي الكريسماس. الطقس الاحتفالي هو الوضعية الافتراضية لليالي حي العظمة الذي يقطنه البرجوازيون من التجار السودانيين والأجانب. وعلى بوابة الفيلا يتسامر حارسان ببذلات رسمية مكتفيين باحتساء أكواب من الشاي المستورد الذي يندر وجوده في الأسواق المحلية. وبين البوابة - المصنوعة من الحديد الألماني المشغول - والفيلا درب مرصوف بحجارة اصطناعية ملونة منتهية بنافورة مياه على شكل بيضاوي، وعلى جانبي الطريق المرصوف مسطحات خضراء وأشجار كثيفة مخيفة ليلاً لولا الإضاءات المتناثرة في كل مكان تقريباً. عندما تقف عند مدخل الفيلا متأملاً في الحديقة الخارجية ترى تدرجات اللون الأخضر من اللون العشبي وحتى الأخضر بالغ الدكنة. أرضية الفيلا الرخامية تتيح لك التفريق بسهولة بين وقع أقدام الإناث والذكور والخدم، في بعض الأماكن المتفرقة من الأرضية تنتشر بانتظام مدروس سجاجيد كشميرية فارهة حدّ ألا أحد يطأ عليها بقدميه، بينما ترقد أنثى نمر أفريقي محنّطة على منصة جبسية مغطاة بمخملٍ أحمر.


    وعلى هامش الموسيقى الأوبرالية أصوات اصطكاك الكؤوس والضحكات النسائية وأصوات رجالية جامدة. بهو الفيلا المنتهي بأدراج حلزونية مؤدية إلى الطابق العلوي يذكّرك بقصور البارونات القديمة بتماثيل الأسود الحجرية الرابضة عند نهاية درابزين الدرج. في زاويةٍ محاطة بفوانيس شرقية عملاقة آلة بيانو بلون الخشب المحروق ، وفي المنتصف تماماً تتدلى ثريا عملاقة من قبة فسيفسائية على شكل ثمرة كمثرى ضخمة، بالكاد يستطيع أطول الحضور قامةً ملامسة عناقديها الزجاجية إذا وقف على أطراف أصابعه، بينما تنتشر لوحات تكعيبية ضخمة على الجدران المنقوشة بزخارف جبسية طولية ملونة باللون الفيروزي المطعّم بالذهبي، نسخة مكررة من جدران قصور العصور الوسطى. أعلى الدرج الحلزوني وفي الردهة الفارقة بين الجهة اليسرى واليمنى صورة بالحجم الطبيعي لرجل يقف بكل فخر جوار تمثال رأسي لنفرتيتي.


    يمر الخدم حاملين كؤوس النبيذ الأحمر بطريقة آلية بملامح لا توحي بشيء على الإطلاق وكأنهم موجهون بأجهزة تحكم عن بعد. وفي كل ركن تقف سيدة ورجل مهندم، بينما يزداد العدد في المنتصف. أصوات الموسيقى تتصاعد من مكانٍ ما مجهول ليغمر البهو بأكمله. وفجأة تنطفئ بعض الإضاءة لتبقى أنوار ملونة خافتة متزامنة مع تغيّر الموسيقى الأوبرالية إلى موسيقى عسكرية من النوع الاحتفالي التي تطلق عند استقبال الرؤساء. يتوقف الجميع عن الضحك والحديث، وتتوجه الأنظار جميعها إلى الدرج الحلزوني في ترقب مصحوب بابتسامات رسمية. ويصفق الجميع في إعجاب عندما يطلّ جيوفاني ممسكاً بذراع ابنته أوديت بيده اليمنى، وباليسرى بغليونه الذي لا يكاد يفارقه. وبطريقة ملوكية يبدأن بنزول الدرج بخطوات متوافقة مع أصوات الموسيقى، بينما يتهامس البعض في إعجاب لجمال هذه الإيطالية الساحرة.


    جيوفاني لاريتّو الإيطالي المنحدر من أصول مكسيكية "الباحث عن سحر الشرق" كما يطلق على نفسه، عُرف بحبه لركوب الخيل وتربيتها، وهوسه باقتناء القطع الأثرية والتحف أكثر من حبه للنساء المكتنزات، لم ينتظر كثيراً عندما قرأ عن كنوز الشرق المدفونة تحت رمالها الذهبية، فترك دراسة الآثار، وحزم أمتعته متوجهاً إلى مصر ترافقه زوجته التي أغراها، حتى قبل زواجهما، بمجدٍ تلمسه بيديها، وتشتم عبقه بأنفها، فتركت – هي الأخرى - دراسة الموسيقى وحلمت معه بأن تصبح ملكة متوجة بكنوز الفراعنة التي رأتها وقرأت عنها في المخطوطات التي يحتفظ بها جيوفاني في مكتبه الخاص. كانت أنونوزيتا شديدة الإيمان بجيوفاني ، ورغم أنهما تزوجا حديثاً إلاّ أنهما التقيا في حبهما للمغامرة والاستكشاف، لذا قررا أن تكون رحلتهما إلى الشرق شهر عسلٍ فريدٍ من نوعه، مخالفين بذلك التقاليد الأرستقراطية الصارمة؛ ولم يعترض أحد من أقربائهما على ذلك فقد كان الجميع يعلم أنهما خُلقا ليمنحا الآلهة فرصة أن تثبت حكمتها في خلق مهووسين مثلهما!


    جيوفاني، الذي عُرف منذ بلوغه بشهوانيته المفرطة، لم يستطع أن يمنع نفسه من تقبيل أنونوزيتا أوغستو علانية أمام مرأى ومسمع الحضور في قدّاس الأحد رغم أنه لم يكن يعرفها مسبقاًَ، عندما انتبه فجأة إلى أن الفستان الأبيض الضيّق الذي كانت ترتديه أنونوزيتا الواقفة أمامه يُظهر بوضوح مغرٍ وفاضح حدود ملابسها الداخلية، فما استطاع أن يمنع يده من مداعبة أردافها المكتنزة، ولم يمنحها فرصة إبداء الدهشة لجراءته فقبّلها بمجرّد أن التفتت إليه. حتى أنونوزيتا لم تستطع أن تتمالك نفسها عندما رأته يقبّلها كما لم يقبّلها أحدٌ من قبل، فتركته يشبع رغبته الجارفة مكتفية بإيماءات تدل على الموافقة غير المشروطة، ولم يخرجا من القدّاس إلاّ وقد اتفقا على الزواج، "فلنتزوج إذن!" هكذا أعلاناها بعد انتهاء القبلة التي ألهبت حماسة النساء فأخذت كل واحدة منهن توخز زوجها بكعب حذائها. وربما انتهى القدّاس ذلك اليوم سريعاً :

    - لم تثرني امرأة كما فعلتِ أنتِ .. لا بد أن ثمة سراً ما !!
    * ما تزال شفتاي تؤلماني أيها الداعر الجريء.

    هكذا تزوج الاثنان وسط دهشة كل من يعرفهما. أنونوزيتا التي بلغت مبلغ الإناث منذ أن تخطّت الحادية عشر، لم تكن تحب شيئاً بقدر ما تحب عزف الكمان والبيانو. ولم تكن كذلك، رغم ملامحها الأكاديمية الجادة، هادئة الطباع ؛ بل كانت مشاكسة مقبلة على الحياة بكل حيوية. كانت تثق في جمالها أكثر من ثقتها بالأب سانتو مارسيلو الذي اعتادت على الاعتراف بين يديه بخطاياها، بينما هو منهمك في مراقبة نهدها الطافي كعوّامتين في بحر فستانها متسع الصدر. ولأنها كانت تعلم أن أليساندرو الأعزب الذي يسكن في الجوار يراقب غرفتها ليلاً من خلال نافذته المعتمة، فقد كانت تتعمّد النوم بملابسها الداخلية. صباحاً كان أليساندرو الأعزب يرتبك في كل مرّة تلقي عليه أنونوزيتا التحية بغنجٍ ماكر. في البدء أعجبها في جيوفاني فجوره الجريء ، والفنتازيا الجنسية التي مارسه معها فيما بعد. غير أنهما كانا يشتركان في حبهما للمغامرة واقتناء التحف الأثرية. هؤلاء الذين لا يحسّون بالعوز للمال، يقتلهم العوز لكل شيء: الجنس، الحب، الطعام وحتى العوز لله ، بينما الفقراء قد يلهيهم العوز عن كل شيء. ولم تتوقف مداعبات جيوفاني الفاضحة لأنونوزيتا حتى على مائدة العشاء العائلي الذي أقامته آلدابيلا أوغستو أرملة أوغستو أورلاندو على شرفه للتعرّف إليه وتعريفه بعائلة أوغستو الصغيرة التي بدأت مؤخراً في استعادة أفرادها مجدداً بعد أن تفرقوا إبان الحرب الأهلية التي قتل فيها أوغستو أورلاندو.

    (عدل بواسطة هشام آدم on 06-28-2007, 07:15 AM)
    (عدل بواسطة هشام آدم on 06-28-2007, 07:16 AM)

                  

06-28-2007, 07:33 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ____________________________

    - ترتدين مجدداً ذات الثوب الأبيض الشفاف المغري، فكيف لي أن أمسك يديّ ؟
    * أنتَ من يملك عينين ثاقبتين تريان ما تحت الثياب أيها الماكر !


    بعد الانتهاء من تناول العشاء ، طلبت السيدة آلدابيلا أوغستو الانفراد بجيوفاني لمناقشته حول بعض التفاصيل، فرافقها إلى حيث غرفة الجلوس الخاصة، وبعد أن حمل كل منهما فنجان قهوته، بدت آليدابيلا جادة وهي تسأله عن عائلته وعمله، وأدهشتها ردوده المقتضبة والدقيقة. ثم عرج إلى الحديث عن أسرتها فرداً فرداً، ولما جاء دور ابنتها أنونوزيتا فوجئت بأنه لم يكن يعرف اسمها على الإطلاق.


    * أأنتَ معتاد على تقبيل الفتيات دون أن تعرفهن؟!!
    - ابنتكم فقط يا سيدتي – ، قالها بأدبٍ متكلّف لم يحسن تمثيله، وقد بدأ للتو في إشعال الغليون. عرفت آليدابيلا ذلك من ابتسامته الماكرة التي بدت على ملامحه. لم تكن تلك الجلسة المنفردة غير طقس روتيني كانت تحاول آليدابيلا من خلاله التخلّص من إحساسها الأمومي المفرط، وعرف جيوفاني ذلك منذ أن غمزت له أنونوزيتا قبل أن يدخل مباشرة خلف أمها إلى غرفة الجلوس الخاصة. "لا أذكر متى كانت آخر مرة دخلتُ فيها غرفة الاعتراف بالخطايا قبل هذا !!" قالها بطريقة اعتراضية مهذبة، بينما حاولت آليدابيلا أن تتظاهر بأن ما تطرحه من أسئلة مزعجة ليس اعتراضاً عليه أو محاولات واعظة من حماة مستقبلية، إنما مجرد قلق تعود أسبابه إلى الوضع العائلي المتدهور لا سيما بعد الحرب الأهلية الأخيرة. ولم تستطع آليدابيلا إخفاء انزعاجها لبذاءة لسانه ، وذكائه المرهق بالنسبة إليها.

    * أتسائل كيف تجمع بين حب النساء ودراسة الآثار!
    - كلاهما يتطلب المغامرة على كل حال.

    وبطريقة أرستقراطية مهذبة، استأذن جيوفاني في محادثة أنونوزيتا التي كانت قد اختفت بعد غمزتها الناصحة. وبرفقة خادم أسود توجّه إلى حيث غرفتها في الطابق العلوي، ودون أن يطرق الباب دخل جيوفاني بحذر، فاستوقفته، وهو يحاول إغلاق الباب بذات الحذر، صورة رأسية كبيرة لشاب وسيم ذو نظرات حادة معلّقة على الباب من الجهة الداخلية، بينما كانت أنونوزيتا ترقد على بطنها منشغلة بالقراءة:

    * من هذا الأمرد؟
    - إنه لوركا .. ألا تعرفه؟ - قالتها بعد أن أخذت نفساً عميقاً، ولم تهتم لإسدال ثوبها

    لم يكن جيوفاني شغوفاً بالأدب ، فابتسم في سخرية ولم يسألها عن سبب تعليق صورته على باب غرفتها، بل تقدّم بخطوات واثقة وهو يتفحص الغرفة بنظرات خاطفة، وعندما وقف أمامها مباشرة قال بصوتٍ هامس:
    - يا لها من غرفة!
    * ألا يعجبك الشعر؟
    - الكذب أسهل من الشعر .. لا مكان لهذا الشيء في زماننا.
    * تحتاج إلى أن تنظر داخلك جيداً لتتذوق الشعر.
    - لست رخوياً لأفعل، ما بداخلي لا يهمني بقدر ما يهمني ما هو حولي من أشياء وأشخاص .. لا أظن أنكِ تضيّعين جلّ وقتك في القراءة لرجلٍ يكذب على نفسه وعلى الآخرين بأشياء لا يمكن أن تحدث، كما أنها لا يمكن أن تكون قد حدثت فعلاً ..
    * ظننتك مثقفاً !
    - المثقف هو من يحشر أنفه فيما لا يعنيه، هكذا يقول سارتر، أليس كذلك؟

    أمسك جيوفاني بالكتاب الذي كانت تقرأه أنونوزيتا قبل دخوله، تمعّن في الغلاف جيداً وهو يغمغم "لوركا أيضاً !!" ثم فتح الكتاب بشكل عشوائي ، وبنبرة هازئة بدأ يقرأ وهو يدور في أرجاء الغرفة:

    "أريد أن أنام نوم التفاح
    وأن ابتعد عن ضجّة المقابر
    أريد أن أنام نوم ذلك الطفل
    الذي كان يريد أن يقتلع قلبه في عرض البحر
    لا أريد أن يعيدوا عليّ أن الأموات لا تفقد دمها
    وأن الشفاه المتعفّنة تظل متعطشة للماء"

    - لا بد أنه كان يعاني من الأرق! – قالها وهو يعيد إشعال الغليون الذي انطفأ في يده -
    * بل من الوحدة يا ..... ما اسمك بالمناسبة؟
    - لاريتو، جيوفاني لاريتو آنسة أنونزيتا ..
    * جيد، على الأقل اسمك يوحي بالاطمئنان.

    منذ تلك اللحظة، عرفت أنونوزيتا أن المعضلة الوحيدة التي ستواجهها مع هذا الفارس الداعر هو عدم قناعته بالشعر والأدب، لقد أحسّت فيه ميلاً للصرامة. كانت أنونوزيتا على وشك وضع حد لهذه العلاقة لولا أن حدثها عن اهتمامه بالآثار والتحف والمقتنيات النادرة، فأحست بأن ثمة أمر آخر غير الهوس الجنسي يمكن أن يشتركا فيه، كما أن ثقته المفرطة بنفسه وبحلمه كانت تدعو للراحة. لم تكن لتمنع نفسها من الإعجاب به كلما رأته ممتطياً صهوة فرس كأنه فارس نبيل آتٍ من العصور الوسطى، تماماً كما كانت تخيّلت روبن هوود و كانت أنونوزيتا تعشق فيه نظرات عينية الواثقتين، وقلبه الذي مثل الفِطر البري السام، وربما أحسّت منه بغموضٍ يضيف على وسامته وسامة من نوعٍ آخر.
                  

06-28-2007, 08:21 AM

محمَّد زين الشفيع أحمد
<aمحمَّد زين الشفيع أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1792

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    الكاتب / هشام آدم :
    لا توجد لديَّ ملاحظة في الفصل الثاني خلا ملاحظة واحدة :

    * تقول : ( إذ أنه كانَ معداً فقط لاستقبال السفن الضخمة)
    أعتقد أنَّ الصحيح : إذ إنَّه ( تُكْسَرُ همزة إنَّ بعد " إذ " )


    الفصل الثَّالث :
    * تقول : ( يمضغونَ الصبرَ )
    اقتراح : هل الأفضل ( يمضغونَ ) أمْ ( يَلُوكونَ ) بحكمِ إنَّ
    الأخيرة مستخدمة كثيراً في مجتمعنا وهي أكثرُ إلتصاقاً بالصبر
    من مفردةِ المضغ ( والمثل يقول : لُوك الصبر ) وأنتَ أدرى
    بذلك فقد أكونُ مخطئاً .. إنما هو فقط اقتراح .
    * تقول : ( تهدُّل شفته السفلى )
    أعجبني هذا الإستخدام جداً لمفردة ( التهدُّل )
    فهذا يَنُمُّ عن عربيَّتك الفصيحة والإيغال فيها بعمق
    وبالفعلِ التهدُّلُ تعني ارتخاء الشِّفَّةِ السُفْلى.
    * تقول : ( وسخريات البعض من البعض الآخر )
    ألا ترى أنَّ الأجملَ أن تكونَ الجملة هكذا : سخريات
    بعضهم من بعضْ .
    * تقول : ( فقط عشر قطط تعرفنّ عنه من كرمِ جم)
    ألا ترى أنَّ النون في ( تعرفنّ ) الأفضل أن تكون مخففة
    هكذا : تعرفنَ .
    * تقول ( غير أنَّها لمْ تنسَ منزلها في أسمرا وشجرتا
    النيم خارج بيتها ) .
    أعتقد الأفضل أن تجعل ( شجرتا ) ( شجرتيْ )
    لأنَّ موقعها الإعرابي بجملتك مثنى معطوف على منصوب ( المنزل أو منزلها )
    والمُثنَّى كما تعلم يُنْصب ويجر بالياء .
    * تقول : (حتى لولئك الذينَ ) : أعتقد أنَّها كُتِبَتْ خطأً وأظنُّك
    تقصِدُها هكذا ( أولئك ) .
    * تقول : ( ونبحتْ في وجه سائق الدراجة ذلك ؟ ) .. ألا ترى أنَّ
    الأفضل أن تضع ( تلكَ) قبلَ أوْ بعد مفردة الدرَّاجة ( لتعودَ للدراجة )
    بدلاً من عودتها لسائقها .

    الأستاذ / الرَّائع / هشام ..
    أشكرُ لكَ سَعةَ صدْرِكَ
    وإن كانَ في العمرِ بقيَّة
    فسأطِلُّ عليكَ بنظرة فنيَّة
    عَقِبَ نهايةِ الرِّواية إنْ
    وجدتُ لذلكَ سبيلاً ..


    تقبَّل مروريَ وكنْ بخير ..
    أخوك دائماً / محمَّدزين ..
                  

06-28-2007, 09:15 AM

محمد جميل أحمد
<aمحمد جميل أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1022

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: محمَّد زين الشفيع أحمد)

    عزيزي هشام ... تحياتي
    سأواصل قراءتك عبر فصول هذه الرواية .
    بالنسبة لسؤالك عن كتاباتي الشعرية ؛فإن أغلب كتاباتي منشورة في صفحتى الشخصية بموقع (دروب)العربي الثقافي الشهير ، والذي وجدت فيه فصلا منشورا من روايتك (أيامي) الفصل الأول . فسجلت لك تنويهاوكتبت لك عنوان الرابط .
    ولكني هنا ايضا مرفق لك الرابط الذي هو
    http://www.doroob.com/?author=309
    وبإمكانك قراءة الكثير من كتاباتي الشعرية والسردية والنقدية والفكرية فهي منشورة فيه
    تحياتي
    محمد جميل احمد
                  

06-28-2007, 10:43 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: محمد جميل أحمد)

    ___________________________

    العزيز : محمد جميل


    أشكرك على الرابط ... وقد مررت عليه، وقمت بحفظه في المفضلة
    لأقرأه على مهل في وقتٍ آخر ... أكرر لك شكري، وأتمنى أن تنال
    الرواية إعجابك
                  

06-28-2007, 10:27 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: محمَّد زين الشفيع أحمد)

    _________________________

    العزيز : محمد زين

    كنت ابتسم وأنا أقرأ ملاحظاتك الدسمة .. في الحقيقة أُحس معك أنني في امتحان لغة عربية (أمازحك) ثمة تفاصيل لغوية تنتبه إليها، وهي بالطبع تفاصيل هامة جداً. أعرف أن تجويد اللغة جانب من جوانب المتعة القرائية، والأخطاء النحوية والإملائية "تعتّر" للقارئ، ولا تجعله مستمتعاً بما يقرأ.

    نأتي لملاحظاتك بالتفصيل:
    لا علم لي بقاعدة "إذ" التي يجب أن يكون ما بعدها "إن" وربما كانت هذه المرة الأولى في حياتي أقف على هذا الأمر، لأجد أنه لا فرق غالباً. لأن "إذ" لا تلعب دوراً فيما بعدها، بقدر ما تكون المسألة مسألة معرفة استخدامات "إن" و "أن" نفسيهما، واستخداماتهما.


    أما بقية ملاحظاتك فهي سليمة وحصيفة في الإجمال، فيما عدا ما يتعلق بالجملة (ونبحتْ في وجه سائق الدراجة ذلك ؟ ) لأن الكلبة – والكلاب عموماً – تنبح في وجه السائق ولا تنبح للدراجة. فهي بنباحها إنما تهاجم الإنسان بدليل أنها قد لا تنبح في وجه كيس نايلون متحرك بفعل الهواء مثلاً. وربما كان أفضل أن تُحذف كلمة "ذلك" فتكون الجملة (تنبح في وجه سائق الدراجة)

    أكرر لك شكري وودي العميقين ... وأشكرك على هذه المواصلة والمتابعة
                  

06-28-2007, 10:47 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    _________________________

    في أواخر السبعينيات، وبعد أشهر قليلة من زواج جيوفاني من فاتنته، كانت أنونوزيتا وزوجها الشهواني المحب للمغامرة يقفان في مطار القاهرة بعد حصولهما على كتيب سياحي صغير من إحدى المحلات التي تبيع الهدايا داخل صالة المطار. ولم يدم صبرهما طويلاً حتى عثرا على مرشدٍ محلي تكفّل بمرافقتهما إلى حيث الوجهة التي يريدانها مقابل مبلغٍ من المال. كل ما كانت تعرفه أنونوزيتا عن مصر أنها تقع في أفريقيا، وكل ما تعرفه عن أفريقيا أدغالها الاستوائية وأنها موطن للعبيد، إضافةً إلى كلمنجارو وما قرأته من أساطير عن قمته الجليدية التي تبدو عند الشروق كمرآة لامعة. تقول إحدى الأساطير أن قمة كلمنجارو كانت مغطاة بفضّة بكرية لم تمسسها يد بشر قط، وكانت واحدة من أملاك الإله إيزيزوس الحصرية، وأن أول من نجح في تسلّق القمة تاجر يدعى سوهاتشو، فعلها طمعاً في الحصول على ثروةٍ من الفضة يعود بها محمولة على أخراج الحمير، وربما حلّت عليه لعنة الإله إيزيزوس فأحالت الفضّة في يديه إلى جليد ذائب، وأصابته الشيخوخة في لحظتها ، وقبل أن يموت أخبر الجميع بأن القمة مغطاة بتبر فضّة بارد! وظلّت القمة محتفظة بعذريتها طالما كان يخشاها الناس ويخافون غضب إيزيزوس، إلى أن فضّ بكارتها مغامر إسباني مجهول، لم يأخذ من قمتها ذهباً ولا فضة، بل ترك علم بلاده مغروساً على جليدها هناك. ومن يومها وهيبة الجبل تذوب كما تذوب قمتها في المواسم الحارة.


    كانت أنونوزيتا تتوقع أن ترى في الجانب الآخر من الأهرامات حقول الموز والبن وأشجار الأفوكادو الاستوائية، غير أنّ دهشتها كانت عظيمة عندما رأت شوارع الإسفلت والبنايات الحجرية. انشغل الزوجان في أسبوعهما الأول بممارسة الجنس الأسري لا سيما وأن الطقس الشرقي المعتدل قد فتح شهيتهما لذلك دون أن يشعرا بالخوف من مطاردة آليدابيلا التي كانت تخشى على ابنتها من "الثور الجائع" – كما كانت تسميه – ودون أن تزعجهما بقلقها الأمومي المفرط. عندما وقفت أنونوزيتا أمام أهرامات الجيزة كان يتبادر إلى ذهنها أنّ الفراعنة لم يكونوا على مشتغلين بالجنس كالأوروبيين، وبهذا فسّرت إنجازهم الذي لا بدّ أنه استغرق سنوات طويلة من العمل الجاد والمرهق. وربما انقرض الفراعنة بعد اكتمال الأهرامات مباشرة لأنهم كانوا قد فقدوا القدرة على مضاجعة زوجاتهم. هذا ما أسرّت به لجيوفاني بعد أول زيارة لهما للأهرامات. ولم يكن جيوفاني مرتاحاً لقراءات واستنتاجات أنونوزيتا الساذجة تلك، فكان يكتفي بابتسامة ساخرة وهو يقول "أهذا ما أوحى لكِ به لوركا؟"


    وفي قبرٍ ما من تلك المقابر التي كان ينقب فيها، وقف جيوفاني مبهوراً عندما رأى تمثالاً لامرأة تحمل طفلها وفوق رأسها شيء يشبه القرنين بينهما قرص دائري. فصرخ بطريقة هامسة : "إيزيس!" فنظرت أنونوزيتا لزوجها وهي تقرأ نظرات الدهشة التي كانت تستحيل إلى خشوع من النوع الذي لم تعده عليه فسألته:

    * أتعرفها ؟
    - أجل .. إنها إلهة قديمة عبدها البطالمة والرومان، ألم تري شيئاً يشبه هذا التمثال في إحدى كنائس روما من قبل؟
    * لا أذكر .. فهذا الشيء يبدو سخيفاً ، وليس بذي قيمة.
    - إنها أم الطبيعة يا آنو .. وهذا الذي تحمله بين ذراعيها هو ابنها "حورس". لقد استوحت الكنائس المسيحية فكرة تماثيل السيدة العذراء وهي تحمل اليسوع وعلى رأسها شعاع النور من هذا التمثال. يا إلهي .. لم أكن أعلم أن المصريين يعرفون إيزيس. أتدرين ماذا يعني هذا ؟
    * ماذا يعني ؟
    - هذا يعني أننا نقف على قبور شعب قمة في الحضارة. ربما كانت حضارتهم أقدم من حضارتنا بملايين السنين.


    عندما أحسست أنونوزيتا بإعيائي نسائي، كان جيوفاني قد قرر بدء رحلته جنوباً نحو القرى الرملية التي تخبأ تحتها مقابر الملوك الفرعونية وآثارهم الخالدة. واستأجرا قارباً شراعياً لهذا الغرض. ظلّ جيوفاني وزوجته يجوبان القرى النوبية بحثاً عن تلك المدافن الملكية يساعدهم في ذلك سكان تلك القرى البسطاء الذين كتب عنهم جيوفاني في مذكراته فيما بعد "إنهم زنوج ، غير أنهم ليسوا عبيداً .. وهذا ما أثار دهشتي!" اضطر جيوفاني لترك زوجته برفقة إحدى العائلات النوبية عندما داهمتها حمى حسباها "حمو النيل"، غير أنّ أنونوزيتا سرعان ما اكتشفت أنها تحمل في أحشاءها جنيناً في شهره الثالث. لا يذكر جيوفاني أنه فرح كفرحته بخبر حمل زوجته، وربما أحسّ لأول مرة أنه زاهد في النساء، ولكنه لم يوقف رحلة البحث، بل ترك زوجته لدى أسرة نوبية وغاب عنها ما يربو على الشهرين، ليعود بعد ذلك ويأخذها معه. "لقد عثرت على مدينة الذهب!" اتجه الزوجان إلى وادي الملوك حيث عثر جيوفاني على مقابر فرعونية نادرة جداً تعج بالآثار وتماثيل لبعض الملوك.
                  

06-28-2007, 11:07 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ____________________________

    كانت أنونوزيتا تشعر وكأنها في رحلة إلى التاريخ. رحلة إلى عوالم ما قبل التاريخ. وبفضل شروحات جيوفاني، اكتشفت أن الموتى الذين ينبشون قبورهم الآن لم يكونوا مجرد قبائل أفريقية بدائية كما كانا يظنّان، بل شعباً ينام على حضارة لم تر مثلها في روما أو أوروبا كلها. فازدادت احتراماً لهم.


    في ذلك الوقت كان جيوفاني يعمل جاهداً على نقل ما يكتشفه إلى متحف روما الوطني. وما هي إلاّ أشهر قليلة حتى غدا جيوفاني أشهر مكتشف تعرفه روما كلها. وعندما وضعت أنونوزيتا طفلتها، كان جيوفاني عندها بدأ يتوغل جنوباً حتى بلغ حدود السودان. ما تزال أنونوزيتا تتذكر ذلك اليوم الذي دخل فيه جيوفاني خيمتها التي نصبها النوبيون قرب النيل. ولأول مرّة تستشعر أنونوزيتا الجانب الإنساني في زوجها، بينما كان لا يكاد يرفع بصره عن ابنته النائمة في سرير خشبي منفصل مغطى بناموسية. حملها بين ذراعيه في حذر خشية أن تستيقظ، وكأنه يحمل قنبلة قد تنفجر في أية لحظة، قبّلها بطريقة مهذبة هذه المرّة لتبتسم أنونوزيتا في رضا وهي تسأل:

    * سميّتها لويسا، لويسا لاريتو. ما رأيك بهذا الاسم؟
    - لا .. سوف نسمّيها أوديت. إنه أجمل وأكثر موسيقية.


    لم يستطع جيوفاني أن ينس اسم أوديت عندما وجده منقوشاً على جدار إحدى المقابر التي اكتشفها في وادي الملوك. ورغم أنه لم يكن يعرف معنىً لهذا الاسم إلاّ أنه شعر بحميمة غريبة تجاهه، حتى السكان المحليّون توقفوا فقط عند ترجمة الحروف المنقوشة دون أن تكون لديهم معرفة بهذا الاسم. "لا بأس طالما أنه يعجبني!" هكذا حلّ جيوفاني الورطة الأسرية التي أوقعته فيها أنونوزيتا باعتراضها على الاسم الغريب. "هذا النيل يبدو كالدورق السري، كلما تعمقنا فيه اكتشفنا أموراً أكثر كثافة وإثارة" بهذه الحجة نزح جيوفاني وزوجته ومعهما ابنتهما الرضيعة إلى السودان عبر بوابتها الشمالية، ممتطين صهوة نهر النيل. وهناك، وبعد أن استطاعت أنونوزيتا أن تسترد عافيتها بفضل مديدة الحِلبة التي كان النساء النوبيات يقدمونها لها ساخنةً كل يوم، بدأت هي الأخرى في إقامة علاقتها الخاصة بالأهالي للتعرف إليهم وإلى حياتهم وحياة أسلافهم الذين منحوها متعة أن تعيش كأميرات الأساطير وهي تنظر إلى النقوش في قبر نفرتيتي.


    كانت أنونوزيتا تشعر دائماً وكأنها في رحلة زمنية، مستعيدةً تفاصيل رحلة أليس في بلاد العجائب، كانت تسأل بشغف عن كل ما تراه. وكان أكثر ما يهمها أن تلتقي أحداً يخبرها سر الآلة الوترية العملاقة التي رأتها مرسومة على جدران معبد أبو سمبل في يد إحدى حارسات آمون راع. ولم يستطع أحد أن يفتيها في ذلك، غير أنّ عبد الجليل بشارة صانع القوارب الأربعيني خمّن أن تكون الخواجية تقصد الطنبور بوصفها، فصنع لها واحدة ما تزال تحتفظ بها، وعلّمها كيف تعزف عليه. الغيمة السوداء التي كانت تهطل على صدر أنونوزيتا وهي تتعلّم عزف الطنبور كان حنينها لمعهد الموسيقى، والبيانو الذي تركته في منزل السيدة آليدابيلا، ولم تجدِ محاولات نساء القرية من حولها في إخراجها من تلك الدائرة القاتمة التي نسجتها من حولها وظلّت ملازمة لها ثلاثة أيام متتالية. كان جيوفاتي خلال ذلك منشغلاً بإقامة علاقات تجارية مع بعض التجّار الذين تعرف عليهم، وبنبرة تعبة أخبر مرافقه المصري "أريد أن أستقر هنا .. لقد راق لي المكان كثيراً" ولم تمض سنة حتى وكانت الفيلا التي يعيش فيها جيوفاني وزوجته وابنتهما أوديت جاهزة لاستقبالهم. ولأن أوديت نشأت تحت رعاية أرامل نوبيات تثق بهن أنونوزيتا فكان أول ما تعلّمته من الكلام هو: "وِبْـيـّو"


    بعد أن حقق ثروة طائلة من ورائها، ترك جيوفاني البحث والاهتمام بالآثار، واشتغل بالتجارة، وكانت سبباً في تنقله في أكثر من مدينة، إلى أن وصل به الحال إلى بورتسودان للعمل في الميناء كواحدٍ من أكبر تجار إطارات السيارات، إضافة إلى الكافتريات ومحلات عصير العرديب التي يملكها ويوكل إدارتها لصديقه مأمون القِرن. الذي كان لصداقته به بالغ التأثير في كسر قناعته بالرحيل عن بورتسودان وقراره بالمكوث مع عائلته فيها بعد ست سنوات قضاها بين رمال أبو سمبل ووادي الملوك وطيبة وحلفا ومروي ودنقلا وكسلا والقضارف. في ذلك العام بعث جيوفاني في طلب زوجته وابنته ليعيشوا معه في بورتسودان ولم يكن ذلك بالطبع يروق كثيراً لأوديت التي كانت قد بدأت تعتاد على جو القرية النوبية وتتقن بعضاً من لغتهم، ولولا تحذيرات جيوفاني الأبوية المتكررة لكانت أوديت الآن تتحدث بلسانٍ نوبي مبين. في مركز عبري الصحي البسيط عرفت أنونوزيتا لأول مرة أنها لن تكون قادرة على الإنجاب بعدما تعرض غشاء رحمها لنزيف حاد. كانت صدمتها بهذا النبأ لا توصف، غير أنها لم تكن لتثق بطبيبٍ أسود ، لذا فقد أرسلها زوجها إلى القاهرة مع ابنتهما أوديت لتجري فحوصاتها الطبية هناك من جديد. وبعد عشرة أيام عادت أنونوزيتا وكأنها أصيبت بشيخوخة مبكرة، تحمل معها ما لا يحصى من تقارير طبية وأوراق أشعة تفيد جميعها بعدم إمكانية أن تنجب من جديد.

    - يا إلهي !!
    * لا شأن لله بما نحن فيه الآن. لدينا فتاة هي أجمل من فلقة البدر، وأموالاً تكفينا لقرون. .. ماذا نريد بعد يا عزيزتي! ثم أنّك ما تزالين الوحيدة التي تثيرني .. أنسيتِ ؟

    رغم هزلية كلماته إلاّ أنها كانت كافية لتقنع أنونوزيتا، بعد حين، بأن تنهي مراسم الحزن التي كانت تقيمها، وأن تجفف دموعها التي لم تكف منذ عودتها. ساعدها على ذلك اقتنائها لجهاز بيانو عملاق بلون الخشب المحروق تمضي عليه جلّ أوقاتها تعزف مقطوعات باسكيني الحزينة التي لطالما كانت تعشقها. بينما ظلّ جيوفاني ينصحها بعزف مقطوعات أكثر حيوية وضجة من تلك التي يعتبرها السبب في شعورها بالوحدة.



    نهاية الفصل الخامس

    (عدل بواسطة هشام آدم on 06-28-2007, 11:12 AM)

                  

06-30-2007, 07:05 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    _______________________

    الفصل السادس :


    تذكّر الريّس كيف كان انبهاره بالأجواء المخملية للنادي الإفرنجي أول مرة ، عندما رأى انعكاس ذلك على وجه أبو السيك الذي لم يكفّ عن ترديد "ديشاااك" مقلباً بصره فيما حوله بطريقة متفحصة ومندهشة، بينما تقدّم هو بثقة العارف بالمكان فحيّا أمير سيد أحمد الذي كان منشغلاً كعادته بتلميع الكؤوس ورصّها بكل أناقة في الرفوف ذات الشكل الهندسي الشبيه بخلايا النحل، وسحب مقعده الذي اعتاد الجلوس عليه مبدياً ابتسامةً حاذقة. كان أكثر ما يثير دهشة أبو السيك هو التناقض الحميم بين الريّس والمكان. لاحظ أبو السيك أن الصالة التي جلسا فيها كانت متدرجة، ففي المقدمة توجد طاولات أنيقة مفروشة بفرش أبيض ومناديل داكنة الحُمرة أمام كل مقعد، ومزهرية فارهة في منتصف الطاولة. كما لاحظ أنها جميعاً مصنوعة من البامبو الفاخر، بينما تأتي الطاولات بالمقاعد المعدنية المحشوة بالمخمل في الصفوف التالية، ثم الطاولات والمقاعد البلاستيكية في الصفوف المتأخرة بدون مزهريات تذكر. " آ يا صَبَره .. البيجيبك الحِتت دي شنو؟" وربما للمرة الأولى يشعر أبو السيك بتفوق الريّس عليه في أمرٍ آخر غير لعبة السيك. "هنا حتنسى أبوك زاتو" قالها الريّس مضيفاً عنصر التشويق للجلسة التي اعتبرها تاريخية وحاسمة. وبأسلوب لا يخلو من المكر نظر الريّس إلى صديقه وهو يقول "هنا ممكن نتفاهم".


    تقدّم أمير سيد أحمد دون أن يُشهر ابتسامته الترحيبية المعهودة وبمحاولات جاهدة منه لتجنب الرسمية المتكلّفة، وقدّم البيرة للريس وصديقه في صمت، حتى دون أن يسأله عن مرافقه. فعرف الريّس أنه ليس على ما يرام. وبطريقة مهذبة أمسك بمعصمه:

    * مالك يا زول، إنتا كويس؟
    - الحمد لله ...


    كان الريّس يفكّر فيما يمكن أن يجعل أمير حزيناً إلى هذا الحد. فلم يعهد عليه حزناً، ولم يكن هناك ما يجعله كذلك. فهو يعيش حياةً يتمناها كل من هم في سنه. هذه الحياة المليئة بالرقص والموسيقى والجمال والجميلات وفوق كل ذلك فهو يتقاضى راتباً لا يحلم به أحد. وعرف أنّ تلك الابتسامات المخنوقة التي يوزّعها على الزبائن ما هي إلاّ تقاليد مهنية مفروضة عليه. وبينما كان الريّس منشغلاً بحزن صديقه أمير، كان أبو السيك منشغلاً بالريس: "شايفك داقي صحوبية مع الجماعة كمان!" لم يكن الريّس ليغفل تلك الملامح الحزينة التي يخفيها أمير بصعوبة وراء ابتسامته المُجامِلة، وبدا وكأنه ممثل يقوم بدورٍ لا يُعجبه. تذكر حديثه الفلسفي عن الوجوه والأقنعة، وظنّ بنفسه خيراً لوهلة، وعرف أن ما كان يفكّر فيه لم تكن تخاريف عابثة، ولا مقولات متشائمة. وبقدر ما ارتاح لهذه النتيجة، بقدر ما حزن على أمير، بينما لم يشغل أبو السيك باله كثيراً بدوائر الريّس التراجيدية، بل راح يفتح علبة البيرة بشغف التجربة، ويقلّب عينيه في كل ما حوله "أتاريك ماك هيّن .. طلعت نمس!" أحس الريّس بانقباض لم يعرف سببه على وجه الدقة، ولم يكن ليصدق أن حزن أمير هو السبب في انقباضه، فهو يعرف عن نفسه أنه ليس عاطفياً بما يكفي ليشعر بذلك، وما زالت كلمات رفاق نادي ديم بوليس له ترنّ في أذنيه "إنتا زول ما عندك عُشرة". أكثر ما كان يشعر الريّس بالضيق هو أنه لم يكن في مزاج جيّد للتحدث مع أبو السيك حول موضوع الهجرة، إن لم يكن بسبب انقباضه فبسبب انشغال أبو السيك بالمكان وبمن فيه.



    لأول مرّة يشعر الريّس بأنه غير سعيد في هذا المكان. حتى هو نفسه لم يكن يعرف بدقة سبب مجيئه إلى هنا. تارة يجد أنها كانت الوسيلة الوحيدة لإقناع أبو السيك والتناقش معه في جوٍ هادئ بعيد عن ضحكات شباب نادي ديم بوليس، وصافرات القطارات المغادرة ليلاً، وغمغمات الصاوي المزعجة ومناكفاته التي لا تنتهي مع فتحية شبانة، وتارة يرى أنه يتحجج بذلك فقط ليرى أوديت. هو نفسه لم يستطع أن يحدد أي الخيارات كانت في ذهنه عندما قرر المجيء، غير أنه كان أكيداً من أنه ليس بالدهاء الذي يجعله يخطط لضرب عصفورين بحجر واحد. وربما رجّح أنه سيكون سعيداً لو رأى فاتنته الإيطالية أكثر من سعادته فيما لو نجح في إقناع أبو السيك بالهجرة. لم يترك الريّس الفرصة لصديقه بأن يكتشف المكان بمفرده، فكان يبادر في إعطائه إجابات تحليلية ووصفية لكل ما تقع عينه عليه حتى دون أن يسأل.


    * الموية دي بالمناسبة جاية من حوض كبير مختوت في المطبخ، وفي فتحات في المجرى بتخش منها الموية، وتلف وترجع تاني .. شغل طرمبة وكده يا معلّم"


    كانت الصالة تعج بالأفنديات، وفي زاوية ما يجلس أربع خواجات على طاولة واحدة يلعبون القمار بينما تلتف حولهم فتيات لهن ملامح أفريقية، إحداهن بمُشاط كردفاني طويل، وكلهن يرتدين بناطيل الجينز. ولم تختفي تلك النظرات المزدرية التي راحت ترمق الريّس وصاحبه:

    * الجماعة ديل مالهم بيعاينو لينا كده؟
    - يا زول ما تشتغل بيهم ... اتفرج ساااي بس.
                  

06-30-2007, 07:50 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ____________________________

    بدأت قناعات الريّس بجدوى نقاش أبو السيك حول موضوع الهجرة في صخب النادي الإفرنجي تتزعزع ، لا سيما وأنه لم يكن يعلم بشغف أبو السيك للحياة المخملية من قبل. وأحس بأن حتى شروحاته التحليلية لم تكن بذي بال لديه. وبسذاجة المبتدئ تجرّع أبو السيك زجاجة البيرة دون أن ينتبه لنصائح الريّس له بأن يتمهل في الشرب. ولم يندم على ذلك إلاّ عندما وقف النادل أمامه مباشرةً "أجيب ليك بيرة تاني؟" عندها رشف الريّس ما تبقى من بيرة باردة في زجاجته "لا لا خلاص أنحنا ماشين زاتو." لم يفكر أبو السيك طوال حياته في زيارة النادي الإفرنجي، بل ولم يكن يجرؤ على أن يمر بالطريق المؤدية إليه. ربما كان يكره الأغنياء في لاشعوره، ولكنه لأول مرة يراهم أمامه وهم يمارسون ترفهم في غير المناسبات الدينية التي تجمعه بهم. لم يكن يرهم إلاّ في مصلّى العيد الكبير مرتجلين من سياراتهم الفارهة مرتدين شالات العظمة وعباءات حريرية كتلك التي يرتديها أمراء الخليج، حاملين عصي من النوع المنتهي بمقبض من الفضة المرصّعة بحبيبات صغيرة من المعدن اللامع، ومراكيب جلد النمر الأصلي. دائماً يجلسون في الصفوف الأولى كالأتقياء، حيث السجاجيد الوبرية بينما تُفرش الصفوف المتأخرة بالبروش القاسية المثبّتة على الأرض بالأحجار. كان يعرف أن هنالك فرقاً كبيراً بين حياته وحياتهم، ولكنه اليوم لمس هذا الفرق تماماً وعرف مقداره. "شفتَ العالم دي عايشة كيف؟" قالها الريّس بعد أن وضع ساعده على كتف صديقه، وهما يغادران المكان بحسرة وشيء من غبطة لم يعرفا سببها.


    أمير الذي لم يبادر للترحيب بصديقه بالحرارة المعهودة بينهما، كان في شغل عن توديعه، بل أنه لم ينتبه لمغادرة الريّس. ليلاً، عندما بدأت الأقدام تترنح والألسنة تهذي، اتخذ من كرسيين، وضعهما متلاصقين، سريراً له، وتمدد عليهما غير آبهة بالضجة التي يحدثها السكارى خلفه. كان أحدهم يحكي بزهو واضح عن مغامراته المثيرة في القاهرة عندما كان طالباً في جامعتها. وعن قصصه مع العساكر الإنجليز وكيف استطاع أن يبني ثروته في ركام الحرب لمجرّد أنه عرف كيف يهرّب السلاح مع مجموعة من المصريين إلى السويس إبان حرب الاستنزاف، ورحلته السرية إلى بورتوفيق التي كانت محفوفة بالمخاطر. وأخذ يوصف لهم حادثة حريق الزيتية التي كادت أن تلتهم يده، وكيف أبلى فيها كأحد أبطال الحرب الذين نالوا نوط الشجاعة على يد جمال عبد الناصر آنذاك. أطال أمير النظر في الأسقف المستعارة، وبمزاج عكر أشعل سيجارة كان يضعها خلف أذنه، وراح ينفث دخانها على ضوء إضاءة زرقاء خافتة. خيّل إليه أنه سوف يبكي عندما لم يستطع أن يميّز بين تقاطعات السقف المستعار المصنوعة من الفيبرجلاس، كان يراها، من وراء عينيه المبتلتين بالدموع، كشباك صيد سابحة على سطح بحيرة ذات مياه زئبقية ثقيلة. كان أمير يشعر بكراهية شديدة لنفسه لاحساسه بالعجز عن نيل ما يريد.


    كانت ملامح محبوبته تبدو باهتة بين تقاطعات السقف المستعار وابتسامتها، التي كان يستعيرها من ذكرياتٍ ما تزال طازجة في إحدى جيوب ذاكرته، كانت السبب في زفراته الثقيلة الساخنة. بوضوح تام يخترق ضجة موسيقى الفرانكواراب جاءته كلمات والده "عِرس شنو إنت كمان .. ما شايف البيت الداير يقع فوق راسنا ده؟ خلي عندك إحساس بالمسئولية شوية." كان يضمر في صدره المليء بحب ناهد عبد الله نوعاً من الكراهية غير المؤذية لوالده الذي لم ينتبه لحوجة المنزل للصيانة إلاّ بعد أن فتح الله على ولده ، وهو الذي كان من قبل قد رفض أن يحج على نفقته بحجة أنها "فلوس حرام". ورغم أنهم كانوا يعيشون على القليل من الشكوى والكثير من الصبر، إلاّ أن أسرة أمير سيد أحمد بدأت تعتاد على سقط المتاع. وانتهت أحلامهم الأساسية العريضة لتبدأ الكماليات بالتمدد شيئاً فشيئاً حتى أصبحت هي الأخرى أساسيات لم يستطيعوا الاستغناء عنها. الحمام الذي كان بحاجة إلى ردم وإعادة ترميم تحوّل إلى حمام سايفون. والجدران الجالوصية الآيلة للسقوط هي الآن من الطوب الأحمر. والسقف الزنكي لا وجود له بعد أن تم تلقيم السقف بالصبّة الخرسانية. ولم تعد أسرة أمير سيد أحمد تستعير الماء من بيت دفع الله الضو أو تضع طعامها في برّاد الجيران، كما لم تعد والدة أمير تستعير تيس جارتها لتلقيح عنزاتها الثلاث. أحس بأنه سوف يظل مكبلاً باحتياجات أسرته التي لم تكن لتنتهي طالما أنه ما يزال يعمل في النادي الإفرنجي. حاول أكثر من مرّة أن يفاتح والديه بموضوع رغبته في الزواج من ابنة عبد الله التايب التي يهيم بها حباً منذ أن كان في السادسة عشر من عمره، غير أنهما اعتبارا ذلك محاولة منه للتنصل من مسئوليته تجاه واجباته الأسرية. مجرّد التفكير في الزواج يعني أن تتوقف المساعدات المالية التي ظلّ أمير يقدمها لأسرته على مدار أربع سنوات متواصلة.


    "إنتِ ما دايرة تفرحي بي وتشيلي أولادي يا أم أمير وله شنو؟" ظلّ أمير يردد هذه الجملة العاطفية على مسامع والدته لينفذ من قسماتها المصفّحة بحب المال، إلى تلك المنطقة الضعيفة في قلبها "الأمومي" ولكنها لم تكن لتغيّر رأيها بأن الوقت ما زال مبكراً على التفكير في الزواج متحججة بأنه بقليلٍ من الصبر قد يجد عروس أجمل وأفضل من ناهد عبد الله. ولكن هذا "القليل من الصبر" لم يكن له سقف زمني محدد أبداً. وكبقية الأمهات فقد كانت زينب مضوي لا ترى فتاة تناسب ولدها ، وأن كلهن أقل مما كانت تتمناه له. وربما كانت تلك حجتها الأنجع التي تخفي بها أمومتها الرافضة لفكرة زواج ابنها من فتاة تأخذه "على الجاهز" بعد أن تعبت في تربيته. ولم يفوّت أمير أية فرصة كانت تسنح له ليقنع أمه بأن اختياره لشريكة الحياة لا تخضع إلاّ لمعياره وليس لمعيار شخصٍ آخر، غير أنها كانت أعند من أن تقتنع له. وقد وافق موقف سيد أحمد من زواج ابنهما غريزتها الأمومية على كل حال.
                  

06-30-2007, 08:08 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ___________________________

    لم يكن الريّس راضياً أبداً عن ليلته تلك التي مضت دون أن ينجز فيها شيئاً يذكر. و كانت عيناه ما تزالان معلّقتان بأنوار النادي الإفرنجي وهما يبتعدان عنه شيئاً فشيئاً، بينما ظلّ أبو السيك بمكره غير المعتاد يتهرّب من محاولاته لفتح موضوع إيمان ودراستها "الليلة حاسي نفسي مبسوط وما عندي مزاج أتكلّم في أي موضوع" وراح يغني بصوتٍ عالٍ أثار حفيظة الكلاب التي راحت تنبح في وجهيهما طوال الطريق. خطأ الريّس الفادح أنه كان السبب في ذلك. توجه الريّس وأبو السيك إلى بيت آنجلينا صانعة الخمر التقليدي "العَرَقي" وهناك ضحك أبو السيك بسخرية:

    - من النادي الإفرنجي إلى بيت العَرقي يا قلبي لا تحزن!!


    أحس أبو السيك أنه بحاجة ماسة إلى أن يغيب عن الوعي، فقد فتحت زيارته للنادي الإفرنجي تلك كهوة في لا شعوره كان حريصاً على إخفائها. كان يعلم أنّ شعارات الرضا والقناعة التي كان يرفعها دائماً ما هي إلاّ كلمات خرقاء متوارثة لا يملك غيرها، وكثيراً ما كانت مجدية في مواجهة شظف المعيشة وقسوتها. كانت زيارته القصيرة تلك بمقدار الحرارة اللازمة لإظهار الحقيقة المكتوبة بحبر سرّي. أحس بكراهية بالغة تجاه الأغنياء، وكراهية لنفسه ولما حوله من معالم فقيرة وبائسة بالمقابل. كان الريّس يراقب كل ذلك، وكأنه يشهد تكوّن مخلوق جديد. كعادتها اقتربت منه أنجلينا، الأثيرة لديه، وقد وضعت يدها على ركبته في غنج. نظر إليها بقرف، وكأنه يراها لأول مرة. ونهض بكل هدوء، بينما ظلّ الريّس يراقبه وهو يخرج من باب الإنداية دون أن ينبس ببنت شفة:


    - أخوك دا مالو؟
    * شكلوا بدا يفوق!!

    وبغبطة ماكرة ركض الريّس وراءه وهو يحس بأن خطته بدأت تنجح جزئياً وتؤتي أكلها. سار إلى جانبه في هدوء قبل أن يخاطبه:

    - عليّ الطلاق أنحنا ما عايشين .. وطول ما أنحنا شغالين في المينا حنفضل مدفونين بالحيا.. عشان كده قلت ليك خلينا نجرّب رزقنا في حتّة تانية.

    غير أن أبو السيك لم يجبه بشيء. كان كمن فقد القدرة على الكلام. أحس بأنه يتنفس بصعوبة بالغة، أو أنّ الهواء الذي يدخل إلى صدره هواء ثقيل ليس من ذلك النوع المعتاد الذي يذوب في الرئتين بسهولة. كان يمشي متهادياً واضعاً يديه في جيب بنطاله الجينز، يركل الحصى الصغيرة التي يصادفها بقدميه، فيما اكتفى الريّس بما قاله، وترك للخمر ما تبقى من الخطّة. تقدّم نحوهما طفل يلهث وهو يتحقق في العتمة من شكليهما:

    - الريّس .. ألحق ... أمك وقعت في نص الحوش .. الظاهر غمرانة.

    كانت الخمر قد عطّلت استيعابه، فتأخرت ردة فعله. وقف قليلاً وهو يعيد ترتيب الجملة اللاهثة التي قالها الطفل، وعاد مهرولاً من حيث أتى. ثم انطلق وهو يصرخ. كان الركض في حدّ ذاته مهمة صعبة على الريّس وكذا على أبو السيك لذا فإنهما تعثرا أكثر من مرّة في طريقهما إلى بيت الريّس .. حيث وجدا النسوة وقد تحلّقن حول نفرين التي كانت بلا حراك. قفز الريّس عتبة داره بطريقة بهلوانية أفزعت النسوة المحوقلات. بينما وقف أبو السيك لوهلة أمام الباب قبل أن يركض مسرعاً إلى منزل عبد الحي أول من خطر بباله. وبطريقة آمرة طلب منه أن يخرج سيارته الأجرة لنقل نفرين إلى المستشفى. وفي خلال دقائق كان الريّس وأبو السيك وثلاث نسوة بينهن فتحية شبانة في المركز الصحي المتواضع الأقرب إلى ديم بوليس حيث توفيت نفرين بسبب انعدام جهاز الأوكسجين، وتقنيات تدليك القلب الاصطناعي التي لم تكن متوفرة إلاّ في المستشفيات الاستثمارية الكبرى. وبينما كانت النسوة منشغلات بالنواح والنحيب، فكّر الريّس أنه لا توجد صورة لنفرين ليعلّقها جوار صورة والده على جدار غرفته. شعر بحزنٍ من نوعٍ غريب، لم يستطع البكاء ولم يستطع أن يظل واقفاً، فجلس على الأرضية البلاطية الباردة واضعاً رأسه بين ركبتيه. كانت عيناه محتقنتان، ولكنه لم يستطع البكاء. لم يفكر مطلقاً بهذا الأمر، لم يفكر في أنّ أمه قد تموت يوماً ما، وها هي تموت اليوم حتى قبل أن تراه متزوجاً كما كانت تحلم دائماً، وربما كان ذلك ما يسبب له شعوراً بالندم.
                  

06-30-2007, 08:19 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    _____________________

    وقف أبو السيك في زاوية بعيدة، لم يستطع أن يواجه صديقه في محنته وظلّ يبكي منفرداً حتى كاد أن يتقيأ. لم تكن نفرين مجرّد أمٍ لصديقه، بل كانت بمثابة أمه. لم يزل محتفظاً بالحجاب الذي صنعته له وللريّس ليحفظهما من الحسد. وتمر في مخيلته ذكرياتهما معها أيام المدرسة، وكيف أنها كانت تعد لهما شطائر الطعمية والفول وكأنهما أخوين توأمين. كان كل واحدٍ منهما بحاجة لمن يعزيه. تقدّم عبد الحي سائق الأجرة وأمسك به من ساعده ليساعده النهوض:

    - أذكر الله يا أبو السيك أذكر الله .. أمشي شوف صاحبك .. ما في زول قادر يتكلّم معاهو.

    نهض أبو السيك بتثاقل، ورمى بنظرة متوجسة إلى حيث الريّس ليجده منكفئاً على حائط بعيد. اقترب منه بهدوء وحذر. كان يعلم أنه لا يصلح للمواساة ويخشى أن تتقاطع عيناه مع عيني الريّس، ، وقف بالقرب منه قبل أن يعرف تماماً ما يتوجب عليه فعله. انحنى نحوه واضعاً كفّيه على ركبته دون أن ينطق بحرفٍ واحد. وما أن رفع الريّس رأسه ورأى عينيه المحتقنتين حتى انتابته نوبة بكاء هستيرية. في الجانب الآخر كانت النسوة يضربن نحورهن في مشهدٍ ميلودرامي مفزع. حاولت بعض العاملات في المركز الصحي التهدئة، ولكن دون جدوى. وأثار منظر هؤلاء النسوة الجالسات على الممر البلاطي شفقة كل من كان يمر بالمكان. كلهم كان يحوقل وهو يشاهد هذه الميلودراما الإنسانية المؤثرة.

    في الصباح، حمل الجميع جثمان نفرين إلى مثواها الأخير، بينما وقفت إيمان الصاوي بجانب والدتها المنكوبة وهي تربّت على كتفها مقاومةً رغبتها في البكاء. كان الجميع في تشييع الجنازة: إبراهيم الصاوي ، والعم صابر"الكومندة"، وعلي أب شلّوفة، والشفيع الطاهر "دكتور الميناء"، ومساعده سرور، وعبد الماجد طه، و مرزوق عجوة، ومعتصم المرضي، و مبارك أب ساقين. وفي هدوء يتخلله أصوات النائحات في الصفوف الأخيرة دخل الجميع من البوابة الشمالية لمقبرة "ديم عرب". كان الريّس متجلّداً حتى اللحظة التي بدأوا فيها بإنزال الجثمان إلى القبر، عندها انفجر باكياً يؤازره أبو السيك وفتحية شبانة التي فقدت وعيها عندئذٍ. "التلاتة راقدين هنا .. التلاتة" لم يكن الريّس ينطق بغير هذه الجملة التي كان لها وقع كبير في الحضور، قلّة منهم فقط استطاعت أن تحافظ على رباطة جأشها وأن تمنع أعينها من البكاء.



    نهاية الفصل السادس
                  

06-30-2007, 09:49 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    _________________________

    الفصل السابع :


    مرّت أكثر من ثلاثة أشهر والريّس لم يعد هو الريّس الذي يعرفه الجميع. أحس بالوحدة واليتم لأول مرّة في حياته. ورغم أن علاقته بوالدته لم تكن جيّدة إلى ذلك الحد، إلاّ أنها تظل أمه. فقد حزن عليها كما لم يحزن على والده وأخيه من قبل. ظنّ الريّس أنه فقد القدرة على استشعار الفقد، أو أنّ قلبه قد تحجّر فلم يعد قادراً على الحزن كما يجب. ترك رحيل نفرين فراغاً كبيراً في حياته، فلم تعد هناك "نهج البردة"، ولم يعد يخشى صوت صرير الباب الحديدي وهو يصدر جلبته العالية عندما يعود ليلاً.، وما يزال الطوب الصغير في مكانه خلف الباب، لم يشأ أن يغيّره أو يغيّر أي شيء آخر في البيت. أصيب الريّس باكتئاب حاد سببه خوفه الشديد من الموت وارتقابه بين كل لحظة وأختها. ولأول مرّة يشعر بأن الموت قريب منه جداً. كان يفزع كثيراً حتى عندما يصيبه الصداع. كان أبو السيك يتردد عليه دائماً، ويحاول ما استطاع أن يخرجه من عزلته التي فرضها على نفسه، ولكن دون جدوى.


    يومها زاره العم صابر في منزله. كان هادئاً كعادته وهو يخرج علبة القمشة، ويلفها بينما استضافه الريّس بإهمال. جلسا صامتين حتى أشعل العم صابر قمشته وأخذ منها نفساً عميقاً ثم قال:

    * داير أقول ليك حاجة.. أسمع كلامي ده كويّس لأنو ما ح أكررو ليك تاني: لو إنت شايف إنو عزلتك بتحلّك من الخوف تبقى غلطان. فرّق بين الخوف والحزن .. وما تخلي حزنك يخوفك أبداً.
    - أنت ما مرّيت بالأنا مريت بيهو يا كومندة.
    * منو القال ليك؟ قبل تلاتين سنة وفي حادثة واحدة ماتت زوجتي وأولادي التلاتة قدام عيني. غرقوا في البحر القدامك ده وما قدرت أعمل ليهم حاجة. عارف يعني شنو تموت زوجتك وأولادك قدام عينك؟
    - غرقوا كلهم؟
    * بين كل عشرة دقايق .. كان واحد فيهم يغتس وما بيظهر تاني. لغاية ما اختفوا كلهم. والبحر الكان مليان كواريك فجأة صَنّتْ. وبقيت براي .. الموت تجربة قاسية يا الريّس بس الأفظع من الموت هو إنّك تشوفوا بيختف زول قدامك .. والأفظع من كده إنك تنتظرو.


    شعر الريّس ببعض المواساة والكثير من الخجل، بيد أنه لم يفصح عن ذلك للعم صابر الذي لم ينتظر منه رداً، بقدر ما تحمّل جريرة فتحه لجرح قديم حاول أن ينساه ولم يستطع. كان يعلم أنه ذات يوم سيكون في مواجهة صعبة مع هذه الذكرى المؤلمة، ولكنه لم يكن يعلم أنها ستكون مؤلمة إلى هذا الحد. أثقلت الذكرى كاهله، فبدا وهو يغادر المكان كرجل يحمل جبلاً من الحصوات الصغيرة. بينما تسمّر الريّس في مكان ولم يبدِ حراكاً حتى نزلت منه دمعة بللت ما بين قدميه. غسلت هذه الدمعة حزنه نوعاً ما، غير أنها لم تزحزح فكرة الاعتيادية عنه. فكرّ قليلاً كيف أن هذا العالم مليء بالقصص المؤلمة، والمتألمين. هانت في عينيه مصيبته، وهو يتخيّل كيف أنه لو شهد مصرع أمه وأبيه وأخوه في آنٍ واحد أمام عينيه. ظنّ أنه سوف لن يعود من رحلته التخيّلية أبداً، كمن يغرق في حفرة مظلمة لا نهاية لها، كان يريد أن ينام، وشعر برغبة في التقيؤ، لكنه خشي أن يموت مختنقاً. لم يعرف ماذا أصابه. عادت إليه كلمات العم صابر تردد على مسامعه، آمن بأن خوفه من الموت هو ما يشعره بهذا الشعور المزعج، وأن ثمة أشباح تلتف حول عنقه وتسحر عينيه فلا يرى إلا ما تريده أن يراه.


    ليلاً، كان شبح الموت يطارده أنّى التفت. وكثيراً ما يهيئ له بأنه يرى أشياء تتحرك في أرجاء البيت، أو يسمع أصواتاً تثير في نفسه الرعب. كان الريّس حديث عهد بهذا الشعور المزعج. ولكنه شعور تملّكه وأصبح هاجسه، لدرجة أنه كان يخاف أن ينام أو حتى أن يستلقي على ظهره. فلقد ارتبط الموت لديه بذلك الشكل التقليدي للموتى وهم ممددين. وعندما كان يرهقه الجلوس الطويل، يتمدد بحذر شديد، وهو يراقب الجهة التي فوق رأسه مباشرة، كان يعتقد أنه سوف يرى ملك الموت واقفاً له في أية لحظة. حتى أنه راح يخمّن شكله ورائحته، والطريقة التي سوف يدخل بها عليه. وجد نفسه خائفاً ويذوب في خوفه كما يذوب لوح الثلج في كأس ماءٍ ساخن. أطلق لعينيه العينان، فراحتا تعبثان بخوف في أرجاء المنزل، وتنتقيان تلك الأماكن التي تثير الرعب: المدخل الضيّق المؤدي إلى الحمام الخلفي للمنزل، زاوية المطبخ المظلمة، أشجار الحناء التي كانت تتحرك مع الهواء، وكأنها جنّيات يرقصن رقصة طقوسية وعلى رؤوسهن شمعدانات تضيء بنورٍ أسودٍ قاتم.
                  

06-30-2007, 10:47 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    _________________________

    كانت عينا الريّس تتنقلان برشاقة بين كل شيء يتحرك في العتمة، وكأن حذره ذلك سينقذه من الموت، أو من الموت فجأة. كاد قلبه أن يتوقف عندما قفزت هرّة ووقفت على الجدار من الناحية المطلّة على الشارع، ثم إلى داخل المنزل. عاد إلى وضعيته الأولى بعد أن تنفس الصعداء، إذ أحس في مواء القطة وحركتها داخل المنزل ببعض الونس، مما أشعره بنوع من الطمأنينة.


    في الصباح كان الريّس متعجبّاً من كونه قد استأنس بقطة، فضحك على نفسه في سخرية، وهزّ رأسه قبل أن ينهض ليستحم. وأثناء حمامه، أدرك الحلقة المفقودة لحالته تلك. خمّن أن وحدته هي ما تشعره بالخوف، وأن الموت إلى جوار كائنٍ ما قد يكون أقل إلاماً ووحشة. وامتد به تفكيره إلى أنه آخر فرد من عائلة المكاشفي التي قد تنقرض بمجرد موته. لم يكن الريّس ليأبه لمثل ذلك من قبل، ولكن الخوف قد أضاء بصيرته لهذا الأمر. وجعله يفكر. كان تفكيره منحصراً في كونه شخصاً محباً لحياة العزوبية، فهو لا يحب القيود الأسرية والاجتماعية أبداً، كما أنه لم يتخيّل في يومٍ من الأيام أن تشاركه امرأة ما في حياته لتعد عليه أنفاسه وخطواته وتحركاته. عندها تذكر كيف كان يستاء من استجوابات أمه الليلة عندما يعود من النادي. وطريقته الحذرة التي كان يسقط بها مزلاج الباب. وبين نار الوحدة ووحشتها المرعبة، وبين نار الزواج وقيوده ظلّ الريّس يتقلّب حتى غلب خوفه من الوحدة على كل شيء آخر. عندها فقط بدأ يفكر بتلك الإنسانة التي يمكنه أن يرتبط بها. وفجأة نهض فزعاً كأنما لدغته عقرب، وقد أضمر في صدره شيئاً. لم يعرف ما إذا كان قد فكّر جيداً في ذلك، لكنه شعر برغبة قوية في تنفيذ ما خطر له. أحس بأنها القشة التي يجب أن يتعلّق بها حتى وإن كان سيغرق بها بعد ذلك.


    توجه مباشرة إلى بيت أبو السيك. لم يعلم أنه نسي حتى أن يرتدي حذاءه، لم ير في طريقه أحداً رغم أن ثمة أصوات اعتيادية تخترق طبلة أذنه الوسطى، وتضيع قبل أن تصل إلى دماغه فيعرفها ويعرف مصدرها. توقف تماماً أمام منزل أبو السيك، وطرق الباب على غير عادته. إذ كان من عادته أن يجر السلك الموصول بلسان الباب من الداخل، ويدخل مباشرةً ، فقد كان الجميع يعتبرونه واحداً من أفراد الأسرة. غير أنه هذه المرة لم يفعل، بل طرق الباب بمنتهى الأدب. تفاجئ أبو السيك عندما وجد الريّس أمامه يقف مطأطئ الرأس، فاحتضنه بقوة.


    * والله اشتقنا لي جيّتك يا مان .. والله زمان يا فردة.

    بدأ الريّس يرتب أفكاره قبل أن يقول بطريقة ساجعة:

    - يا مان .. أنا جاي أتقدم لي أختك إيمان. قلت شنو؟


    ازدادت حيرة أبو السيك، ووقف منشدهاً نحو ثانيتين قبل أن يفجّر ضحكة عالية وهو يقول: "طيب مالك بتقولا كدا؟" أمسك بيده وسحبه إلى الداخل. كان يحاول أن يوجد رابطاً منطقياً بين عزلته الأخيرة وبين رغبته المفاجئة بالاقتران بأخته. ربما لم يفكر فيما إذا كانت بالفعل رغبة مفاجئة أم رغبة قديمة لم يعلم بها إلاّ هذه اللحظة. واختفت دهشته وحيرته تلك أمام فرحته بقرار صديقه بكسر العزلة التي كان يفرضها على نفسه، ساعده على ذلك السعادة الغامرة التي رآها في عيني فتحية شبانة وهي تعانقه كما ولو أنها تعانق ابنها تماماً، بينما وقف إبراهيم الصاوي من كرسيه القديم وهو يغمغم "حمد لله على السلامة يا ابني" وكأنه عائد من سفر طويل. كان أبو السيك قرر في سرّه أن والده يقول الحقيقة، وأنه لم يكن يهذي كعادته. بينما وقفت إيمان مبدية ارتياحاً واضحاً وهي تنتظر دورها للسلام عليه. تفاجأ أبو السيك للمرة الثانية عندما وجد تطابقاً من النوع المريح بين الريّس وأخته. وقرر أن ذلك علامة تدعو للتفاؤل.


                  

06-30-2007, 11:48 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    _________________________

    بعد طقوس الترحيب الأسرية الطويلة، رحل الجميع مفسحين المجال للصديقين للجلوس على انفراد كما تعودا دائماً. كان الأمر يبدو اعتيادياً لدى الجميع ما عدا إيمان التي أحست بغريزة الأنثى، من خلال نظرات الريّس التي كانت يختلسها بخجلٍ غير مسبوق أن الأمر ربما يتعلق بها بطريقةٍ ما، لا سيما وأن أبو السيك كان قد لمّح برغبته في الاختلاء بصديقه بطريقة ساذجة عادةً ما تبدر منه عندما يكون مرتبكاً. وبفضولية الفتيات وقفت إيمان الصاوي خلف الزاوية الجدارية الفاصلة بين الصالة الخارجية للمنزل والصالة المؤدية للغرف الداخلية. وأخذت تسترق السمع باهتمام كان يشوبه صوت غمغمات الصاوي وهو يجري مسبحته بين أصابعه.


    * أها يا زول قلت لي شنو؟
    - داير أختك على سنة الله ورسوله .. قلت شنو؟
    * والله يا الريّس بالجد فاجأتني..
    - اسمع بلا فاجأتني بلا كلام فاضي .. بطّل حركات المسلسلات دي .. إنتا ما زول غريب ولا أنا زول غريب .. وأختك دي بعرفها من عمرها أربعطاشر خمسطاشر سنة . وما حلقى ناس أحسن منكم أناسبهم ... قلت شنو؟
    * بس إنتا عارف الزولة دي عندها جن راكبها اسمو قراية وبعدين ...
    - أنا ما عندي مانع تكمّل قرايتا .. المهم هي توافق.


    خطر في بال إيمان وهي تستمع لهذا الحوار تلك الوردة البائسة التي قدمها الريّس لها، وكانت السبب فيما بعد في صداقته مع أخيها. حاولت أن تقتنع أنه منذ تلك اللحظة وهو يهيم بها حباً، غير أن بعض المواقف السريعة التي تقافزت لذاكرتها كانت تنفي ذلك بشدّة. فهي ما تزال تتذكر جيداً ذلك اليوم الذي صادفته فيه عندما كان يغازل بائعة الشاي غير مكترث لوجودها في ذات المكان، وتلك الليلة التي شاهدت يقف بطريقة متخفّية مع فتاة سيئة السمعة، وتذكرت كيف كانت ردة فعله الفاترة عندما علم بأنها رأته على تلك الوضعية. كما أنها لم تستطع التخلص من دهشتها التي طغت على أية مشاعر أخرى فلم تستطع أن تعرف ما إذا كانت سعيدة بهذا الخبر أم لا، ولكنها أحست بامتنان لأنه سوف يحقق لها أخيراً حلمها في إكمال دراستها.


    هربت مسرعة إلى غرفتها وهي تقاوم حيرتها كأنثى ذبابة واقعة في شرك عنكبوت لزج. لم يكن الريّس يوماً طموحها الذي تصبو إليه. ولم تكن قادرة على تجاوز الفارق الكبير بينه وبين إيهاب عبد السلام الذي خلق منها فتاة أخرى حتى دون أن يشعر هو بذلك. ولم يكن باستطاعتها منع نفسها من إجراء هذه المقارنة. ترنحت كثيراً بين الرفض والقبول، قبل أن تضمر في نفسها تلك الخطة. ولأول مرّة تفكر إيمان في شخص يتقدم لها. هي لن تستطيع رفضه لا سيما وأنه صديق مقرّب للأسرة. بدأت تجري حسابات ربح وخسارة لأول مرة في حياتها لا سيما في مسألة كهذه. عرفت أنها سوف تخسر نفسها إذا قبلته ولكنها في الوقت ذاته سوف تفوز بتحقيق حلمها في إكمال دراستها. فكّرت أنها قد تنجح كذلك في تغييره غير أنها لم تكن مستعدة على خوض تجربة قد يكون مصيرها الفشل الذريع. أصبحت بين خيارين كلاهما يحمل في طياته المرارة والعذوبة. رفضها سوف لن يحقق لها سوى المتاعب مع أسرتها وفي ذات الوقت سوف لن يضمن لها أن يتحقق حلمها في القريب. انقطعت إيمان عن التفكير عندما سمعت صوت أبو السيك وهو يودّع الريّس قرب باب المنزل. ولم يفاتحها في الموضوع ذلك اليوم.


    في صباح اليوم التالي، قررت إيمان القيام بزيارة مفاجئة للريّس في منزله. ولكنها لم تكن تعلم ما إذا كان مستعداً لخوض مناقشة من هذا القبيل. كانت تعلم أنه لا يقل عن أخيها اعتداداً بذكوريته، وعرفت أن النقاش معه سوف لن يكون بسهولة إلقاء التحية وحسب. ومن سلوك أخيها وأمها المريب عرفت أنهما لن يرفضا الريّس عريساً، وخمّنت أنها سوف تواجه مشكلة عويصة إذا رفضته، لذا فإنها كانت متحمسة لمقابلة الريّس لوضع بعض النقاط على الحروف. جلس الجميع أرضاً لتناول الإفطار، وكان الصمت هو القاسم المشترك الأكبر بين جميع الجالسين ما عدا الصاوي الذي كان ما يزال يهذي بغمغماته المعتادة. مضت الدقائق ثقيلة ورتيبة على غير عادتها، لم تشعر بأنها لم تتناول شيئاً طوال جلوسها على المائدة، فقط كانت تقتطع من الخبز كسرات صغيرة تضعها على فمها وتظل تمضغه حتى يذوب في فمها. وكان الصمت ما يزيد الأمر سوءاً. كانت تسمع حتى أصوات اصطكاك أسنانهم على المائدة وهم يمضغون الطعام.
                  

06-30-2007, 12:04 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ________________________

    بعد مغادرة أبو السيك للمنزل، وبينما انشغلت فتحية شبانية بترتيب المنزل وهي تتذمر كعادتها، ارتدت إيمان وشاحها وغادرت المنزل دون أن تخبر أحداً بوجهتها. كان الريّس الذي أوشكته إجازته الاضطرارية على الانتهاء ما يزال على سريره سارحاً بالتفكير عندما سمع طرق الباب المتردد. وما أن فتح الباب حتى دخلت إيمان بسرعة وهي تغلق الباب ورائها. تاركة الريّس في دهشته من هذه الزيارة غير المتوقعة. وقبل أن ينتهي الريّس من جملته "إيمان؟ .. خير في ...." كانت إيمان تقاطعه: "محجوب أنحنا لازم نتكلم شوية." كانت الجدية التي تتكلم بها إيمان تثير نوعاً من القلق في نفسه، لدرجة أنه تراجع خطوتين إلى الوراء قبل أن يستجمع أفكاره. الريّس الذي كأنه يرى إيمان الصاوي لأول مرّة ، أحس بأن أطرافه الباردة بدأت في الارتجاف كأنها أعواد قصب هزيلة. وبطريقة خجولة مدّ يده إليها للدخول إلى الفرندة. وما إن جلست حتى نظرت إليه بحدة وهي تقول:

    * شوف يا الريّس .. إنت ما زول غريب. مما رحلنا من ديم نور وجينا هنا، وأنحنا أكتر من أهل. والزواج طبعاً قسمة ونصيب وما معروف الله مقدّر لينا شنو.
    - إيمان .. ممكن ..
    * خليني أكمل عليك الله. أنا سمعت الكلام الجيت قلتو لياسر. أنا شخصياً ما عندي مانع. بس عندي شرط واحد. كان وافقت عليهو واتفقنا .. ممكن تعتبر موضوعنا ده ماشي.
    - شرط ؟ هي جابت ليها شروط كمان؟
    * معليش .. هو شرط واحد مافي غيرو .
    - خير إن شاء الله؟؟
    * أنا لازم أكمّل قرايتي ..


    عندها رجع الريّس بظهره إلى مؤخرة الكرسي وتنفس الصعداء. ونظر إليها بابتسامة مرتاحة وهو يقول "هو دا الشرط بتاعك؟ يازولة ما في مشكلة أنا ما عندي مانع." ولكن ارتياح الريّس هذا لم يكن كافياً لينقل إليها الطمأنينة التي كانت تبحث عنها، لذا فإنها وبطريقة أكثر جدية واجهته: "وأضمن كيف؟" لم يعرف الريّس بماذا يرد عليها، غير أنه كان يعرف تماماً حاجتها الملحة للاطمئنان ، عندها تقدّم بجسمه قليلاً وقال "القدامك ده راجل يا إيمان"


    كانت الدراما الحوارية التي تنشأ للمرة الأولى بين الريّس وإيمان بمثابة الصفقة الناجحة التي عقدها كل منهما مع الآخر. ولكن إيمان لم تكن تعلم برغبة الريّس الملحة في الهجرة. واكتفت بقبوله لشرطها الوحيد الذي وضعته للقبول بالزواج منه. كانت تعتبر أن الزواج منه تضحية كبيرة في سبيل تحقيق هدف أكبر. ورغم أنها لم تكن تعرف تحديداً ما يتوجب عليها فعله بعد عقد القران إلاّ أنها وافقت على أن يتم عقد القران في أقرب وقت عندما تناسب ذلك مع اقتراب موعد التقديم للجامعة. شعرت بأنه يتوجب عليها أن تطوّع مشاعرها تجاه الريّس الذي سوف يصبح زوجها خلال ثلاثين يوماً، ولم تكن تلك المهمة باليسيرة على الإطلاق، غير أنها بدت أكثر جدية في التأقلم. وقبل أن تغادر إيمان منزل الريّس كان هو الآخر يريد أن يطمئن على أمر ما، وأن يضعه نصب عينيها. لذا فقد وضع مؤخرته على أطراف الكرسي وهو يقول:

    * أنا كمان عندي كلام داير أقولو ليكِ .. أنا زول بسيط شديد. يعني بالعربي كده داير لي زولة تتحمل حياتي دي زي ما هي .. لغاية ما ربنا يفرجا.
    - إنت قايلني ما عارف الكلام دا يا محجوب؟ وبعدين يمكن في الخرتوم تلقى ليك شغل أحسن من هنا. ومين عارف يمكن عرسنا دا يكون فيهو خير علينا كلنا.


    لم تكن سعادة الريّس توصف عندما سمع منها هذا الكلام، وكأنها تعلم بدقة ما يدور في خلده. لقد وفرّت عليه الكثير من الكلام الذي كان يعد نفسه لقوله. أحس بأن الصفقة التي عقدها كانت صفقة ناجحة بكل المقاييس. وبدأت الدماء تجري في عروقه من جديد بكل حماسة وحيوية.




    نهاية الفصل السابع
                  

06-30-2007, 02:07 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ______________________________

    الفصل الثامن :


    في ليلة قارسة البرودة، كانت الضفادع لا تكف عن النقيق في البركة المائية المتشكلة في ميدان دقنة. عندما أضاء في الجانب الآخر الفسيح، صيوان أقامه أبناء الحي للاحتفال بزفاف إيمان الصاوي إلى محجوب الريّس الذي بدا مختلفاً تماماً عن ذي قبل. وفي منزلٍ ما بجوار الصيوان المنصوب، وفي إحدى الغرف الهادئة جلست فتحية شبانة توصي ابنتها الوصايا الأخيرة، على ضوء فانوس احتفالي خاص يقاد بزيتٍ معطّر. وقد تضمنت الوصايا بالتأكيد ما يتوجب عليها فعله في الليلة الأولى، ولم يبد على إيمان الخوف الذي يعتري الفتيات في مثل تلك اللحظات. كانت سعيدة، ومشرقة كعادتها. تذكرت فتحية شبانة نفسها وأيام صباها ومراهقتها وهي ترى ابنتها أمامها عروساً. عندها تسللت منها دمعة أرستقراطية خجولة، جعلت إيمان تخشى أن تنجرف معها في البكاء فيسيح الكحل الذي في عينيها. وبحذرٍ شديد راحت فتحية تمسح بمنديل قماشي بعض المسحوق المتناثر بغير عناية أسفل عيني ابنتها. وقبلتها بحنو وهي تقول "أبقي عشرة على راجلك وعلى بيتك وعلى روحك يا إيمان."



    وفي مكانٍ آخر كان أبو السيك منهمكاً في توصيل الأسلاك التي تحمل الأضواء الملونة مع فتيان الحي الذين لم يفارقوه منذ الصباح الباكر. كان أبو السيك يشرف على كل شيء بنفسه. تأكد من أن حافظات الماء البارد ممتلئة وفي أماكنها، وأن جميع الوصلات الكهربائية سليمة وجاهزة للاستخدام، وتأكد من أن كمية المحروقات التي في المولد الكهربائي الاحتياطي كافية، وتأكد من أنها بعيدة عن أعين وأيدي الفضوليين والأطفال تحديداً. بينما كان الريّس يقف وحيداً في غرفته أمام خزانة ملابسه الحديدية متقشرة الطلاء. ينظر إلى صورة أبيه. كان يشعر بأنه فعلاً على وشك الرحيل. وأنه سوف لن يرى بورتسودان مرة أخرى. أحس فجأة بحنينٍ غريب لكل شيء، حتى لمنزله الذي سوف يسكن فيه هو وزوجته مؤقتاً حتى يحين موعد السفر المحتوم. وربما كان يشعر بخوفٍ ما يتسرب إليه. خوف من شيء ما لا يعلمه، ولكنه كان أكيداً من أنه على وشك تحقيق حلمه الذي عاش من أجله طويلاً. شهور طويلة مضت، وهو يحلم بمغادرة بورتسودان. وها هو الحلم يتحقق الآن. رش الريّس بعض العطر على رقبته وتحت إبطيه، ثم تأنق قليلاً أمام المرآة قبل أن يفاجأ بالعشرات من أصدقائه وأبناء الحي يطرقون عليه الباب "شنو يا عريس الجماعة ما مستنيين وكده!"


    أخذ الريّس نفساً عميقاً قبل أن يفتح الباب، ثم خرج إلى أصدقائه ليجد نفسه محاطاً بين العشرات من الذين حملوه على أكتافهم وهم يهتفون بصوتٍ واحد "أبشر يا عريس" وألبسوه الضريرة والحريرة والهلال وحمّلوه السيف الذي لوّح به للجميع بفرحة خجولة جداً، وتوجه الجميع إلى حيث تنتظر العروس مختبئة تحت القرمصيص القاني. عندما توقف الجميع عند باب المنزل الذي تنتظر فيه العروس، نزل الريّس من أكتاف أصدقائه وتقدّم بحذرٍ ملحوظ. وما أن فتح الباب ورأته النسوة حتى أطلقن الزغاريد التي جعلته يتصبب عرقاً أكثر من ذي قبل. وأصابه من لدنهن رذاذ عطرٍ كنّ يلوحن به عليه. كانت إيمان تجلس في مكانٍ قصي تحت القرمصيص، وكان بينه وبينها طريقٌ محفوفة بالزغاريد والنسوة. خيّل إليه أنه لن يصل إليها إلاّ بشق الأنفس. كان يسمع في أصوات زغاريد النسوة صوت أمه وأبيه وأخيه. كان يبتلع ريقه بصعوبة بالغة وهو يرى الفرحة في وجوه الجميع. وتمنى أن لو كانت القدر أمهل أمه حتى تعيش معه هذه اللحظات.


    وفي مكانٍ ما وقفت فتحية شبانة وهي تطلق زغاريدها المخنوقة بدموعٍ لم يرها غير الريّس، فلوّح لها بسيفه، وضمّها إليه بقوة "أبشري يا أم ياسر .. أبشري" فتحية شبانة التي لم تجد إلاّ ثوبها الذي ترتديه لتمسح به دموعها التي ذرفت فجأة رغم حرصها على ألا تبكي في هذه الليلة، كانت تشعر بأن ثمة خيطاً ما مربوطاً بقلبها بدأ يفلت من بكرته، لذا كانت تضع كفيها مضمومتين على صدرها بينما راح الريّس يرفع الغطاء القرمصيصي عن وجه إيمان التي كادت لتذوب خجلاً عندها. وما أن بدا وجهها حتى ارتفعت أصوات الزغاريد تمزق خجل العروسين اللذان تسمرا مكانهما دون أن يبديا أيّ حراك. لم تستطع إيمان أن ترفع رأسها، بينما وقف الريّس إلى جوارها بزهوٍ ذكوري خجول لا يعرف ما يتوجب عليه فعله. عندها سمع إحداهن تقول "أمسك مرتك واتقدموا يالا"


    داخل الصيوان كان الأطفال يملئون الأرجاء بالصراخ والركض تحت الأقدام، بينما جلس البعض في هدوء يتناولون وجبة العشاء المتواضعة التي تم توزيعها تلك الليلة في صحون بلاستيكية. فيما آثر بعض الفتيان الجلوس على كراسي وضعوها متراصة بالقرب من المسرح الذي سيقف عليه فنان الحفل. وتوزع البقية بطريقة تلقائية إلى ذكور وإناث على جانبي المسرح، بينما فرشت سجادة هائلة بين المجموعتين. هذا الفرز المدروس كان مظهراً شكلياً غير ملزماً، فما هي إلا ساعات قليلة جداً حتى اختلط الجميع، ولم يعد هنالك حاجة للكراسي على الإطلاق. الجميع واقفون إما متفرجين أو راقصين.
                  

06-30-2007, 02:11 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    __________________________

    على ضوء سيارة مسرعة استيقظت كلبة فريال الضو، نبحت في وجه السيارة وركضت خلفها مسافة، ثم عادت إلى مكانها مرة أخرى. بينما شقت السيارة طريقها إلى عمق الحي الشعبي، لتتوقف فجأة أمام الصيوان. تنفتح الزجاجة الخلفية المظللة للسيارة وتخرج أوديت رأسها وهي تشاهد بفضول وتعجّب تلك الأنوار والموسيقى الصاخبة دون أن تعرف سبباً لكل ذلك. مدّت أوديت رأسها بكل رقة إلى السائق لتسأله:

    - أهذا عرس يا سباستين؟
    * يبدو كذلك آنستي.


    لا تتذكر أوديت متى كانت آخر مرة تشاهد فيها عرساً شعبياً كهذا منذ حفل زواج ابنة مأمون القِرن صديق والدها. رغم ما اكتنف ذلك الحفل من مظاهر برجوازية نظراً لكون مأمون القِرن أحد أغنياء بورتسودان. شعرت أوديت، التي كانت تميل إلى الحياة البسيطة التي اعتادت وتربت عليها منذ أيام صباها في المناطق النوبية التي ولدت فيها، برغبة ملحة في مشاهدة هذا الحفل. فكانت تفكر بوسيلة تقنع بها "حارسها الأمين" سباستين أن يدعها تتفرج لبضع دقائق فقط "إذا عرف السيد جيوفاني فسوف لن يرحمنا آنستي" قالها سباستين محذراً أوديت التي لم يكن من الصعب عليها أن تقنعه بالمكوث لا سيما وهي تعرف مقدار ما يكنه لها من محبة، وهي التي يعتبرها بمثابة ابنته التي توفيت في حادث ارتطام قطارين في باريس قبل ستة أعوام عندما كانت عائدة مع والدتها من عطلة رأس السنة. "أخبره بأننا علقنا في الوحل فقط!" قالتها أوديت برجاء ممزوج بدلال أنثوي تجيده تماماً. ولكي تثير فيه تلك الشفقة التي لا يستطيع أن يقاومها أردفت قائلة "أريد أن أستمتع بوقتي في بورتسودان قبل مغادرتها، هذا آخر طلب أطلبه منك .. أرجوك" كانت تعتمد على مدى الثقة التي يمنحها جيوفاني له، وهو الذي ظل مرافقاً له منذ أن أرسل في طلبه من روما لمساعدته، ومرافقة أنونوزيتا إبان وضعها لمولودتها أوديت..


    تقدم سباستين بسيارته الفارهة إلى منطقة يابسة نوعاً ما، حيث نزلت أوديت، وهي تمسك بأطراف فستانها التقليدي على غرار اللباس الأوروبي للطبقات الراقية في العصور الوسطى. وبينما توقف البعض يرمقونها بنظرات مندهشة، تقدمت بكل ثقة إلى حيث يمكنها المشاهدة الكاملة، وجلست بجوار فتاة ظلت تتابعها بنظراتها الفضولية قبل أن تبتسم في وجهها بسذاجة وتومئ لها بالجلوس. عندما لم تتمالك نفسها، انحنت الفتاة إلى صديقتها الجالسة في المقعد الأمامي لها مباشرة "هوي ... شفتي الخواجية الجات قعدت جمبي دي؟" عندها ابتسمت أوديت بلطافة ومكر مهذب وهي تقول "أنا بتكلم عربي كويس خلي بالك" لم تستطع الفتاة أن تتفوه بكلمة بعدها، فقط علّقت بصرها إلى الأمام دون أن تبدي أي حراك.



    وبدأ الحفل حتى قبل دخول العروسين، وظلت أوديت تحدق بتركيز علّها تفهم ما يجري قبل أن يشعر سباستين بالممل وهو في سيارته. عندها سمعت زغاريد متعالية تنطلق من نسوة وقفن في زاوية ما من الصيوان. ودخل إثرها العريس ممسكاً بذراع عروسه التي لم تكن تكاد ترفع رأسها إلاّ لتستقبل قبلات النسوة والفتيات اللواتي أحطن بها كما تحيط برادة الحديد بقطب المغناطيس. كان من السهل على أوديت أن تعرف مقدار البساطة التي يتمتع بها هؤلاء الناس، لذا فلم تتكلف في تصرفاتها، حتى أنها لم تكن تستاء من نظراتهم التي كادت أن تشغلهم عن الحفل. حمدت أوديت الرب في سرها لأنها كانت ترتدي فستاناً محتشماً فهي تعلم أن لهؤلاء عقدة تجاه أجساد النساء العارية، حتى ولو لم تكن كذلك بالفعل، فعلت ذلك بعد أن ألقت نظرة سريعة – للتأكد فقط – من أن فستانها لا يظهر ما قد يثير ضدها الآخرين.


    وما أن جلس العروسان حتى قفز أحدهم حاملاً سيفاً وبدأ يرقص في دائرة بشرية مكوّنة من رجال ونسوة، وتعجبت للوهلة الأولى، وهي ترى كيف يميل الرجل بظهره إلى الخلف بمقدار 90 درجة تقريباً، حاملاً السيف أمام وجهه تماماً، وكيف كان يحرك رأسه كما تفعل طيور البجع البري. وعندما استدارت حوله مجموعة أخرى من الحاضرين، لم تستطع أن ترى شيئاً. وقفت أوديت بفضولٍ بالغ، وتقدمت حتى توقفت خلف الدائرة البشرية تماماً. كانت تتابع الرقص بإعجاب بالغ. وما أثار دهشتها أكثر، هو دخول أحدهم متقافزاً بشكل متمايل بإيقاع لم تكن لتخطئه أوديت أبداً، كأنه زورق صيد تتقاذفه أمواج البحر. ثم سيدة بثوبها الأرجواني اللامع وهي ممسكة بزجاج عطر بدأت ترشه على الراقصين وعلى الدائرة البشرية بشكل عشوائي تماماً، مطلقة زغاريد أغرت بقية النسوة اللواتي بدأت يزغردن معها بشكل متناغم.
                  

06-30-2007, 02:31 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    __________________________

    كانت أوديت بين الحين والآخر ترمق العروسين بنظرات متفحصة وكأنها تحاول أن تفهم سر ذلك اللباس الغريب الذي كان يرتديه العريس وما يلفه حول رأسه من عصابة حمراء يتدلى منها معدن مذهّب في شكل هلال مقلوب. وتلك القلادة القماشية الحمراء الضخمة التي وضعها حول رقبته منسدلة على صدره. لم تكن أوديت لتفهم ما إذا كان ثمة رمز إيحائي في هذا اللباس، أم أنه مجرد لباس تقليدي لا قيمة رمزية له. وما كان يثير دهشتها أكثر، هو الوضعية التي جلستها بها العروس، وخجلتها البادية، ولم تفهم لها سبباً. في أعراس من تعرفهم تكون العروس أكثر الناس فرحاً بهذا الحفل، وتكون أكثرهم نشاطاً وحركة، غير أن هذه العروس، كانت تجلس على استحياء، وكأنها تخاف أن يعرفها الآخرون. بينما كانت أوديت رأت الحناء على أيدي وأقدام النسوة من قبل، لذا فإنها لم تتعجب له كثيراً، رغم أنها كانت المرة الأولى التي تعرف فيها أن للحناء استخدامات رجالية أيضاً. وفيما خمّنت أن العريس وحده من يجوز له ذلك، إلا أنها وجدت أكثر من شخص مخضّب.


    وفي لحظةٍ ما أحست أوديت برغبة غريبة في السلام على العروسين عندما رأت أن ذلك يتم بقدسية، حيث يقف الجميع في صفوف غير منتظمة في انتظار دورهم لإلقاء التحية عليهما. وبفضول جم تقدمت حتى تمكنت أخيراً من الوقوف أمام العروسين. كان للوقوف على منصة العروسين هيبة خاصة، حيث تتركز الإضاءة المبهرة، والعيون المتوحشة التي كانت تراقب كل شيء بدقة شديدة. مدّت أوديت يدها للعروس التي صافحتها دون أن تركز عليها مباشرة، بينما وقف الريّس كالمصعوق عندما استدار فجأة ليراها أمامه. لم يكن الريّس ليخّمن ما إذا كان ما يراه حقيقة أم هذيان من فرط خجله وارتباكه. هل يعقل أن تكون هي الإيطالية الفاتنة التي رآها يوماً ما في النادي الإفرنجي؟ ما الذي أتى بها إلى هنا؟ لجمت الأسئلة المستديرة لسانه لدرجة أحست فيها أوديت بذلك.



    كانت تلك هي المرة الأولى التي ترى فيها أوديت الريّس، لذا فإنها شعرت بخجلٍ شديد، لموقفه الغريب هذا، ما جعلها تبدو مرتبكة هي الأخرى. الريّس الذي تحرّك بطريقة ميكانيكية بليدة ومدّ يده ليصافحها شعر بسخرية الأقدار التي سمحت له بمصافحتها بعد أن كان يجاهد ليراها من على بعد 20 قدماً، وسرت في أوصاله رعشة باردة عندما لامست يداه يدها التي كانت كقطعة الإسفنج النباتي الرطب. شعر بأنه في حلم بطريقة، وكان الحاجز، بين ابتسامته التقليدية المجاملة وابتسامته الحقيقية، بادياً لدرجة أن أوديت شعرت بارتياح غير مفهوم لهذه النقلة النوعية في مقدار الصدق. ما لم يلاحظه الريّس أن إيمان كانت تراقب ما يجري بنظرات سفلية مندهشة، وهي تحاول التخلّص من السلامات العابرة التي كانت تقاطعها بين الحين والآخر. بينما لم تشعر أوديت بمزاجية عالية وهي تستشعر اندهاشة الريّس وكأنه كان صاحب المبادرة الأولى في مغازلتها بعفوية كهذه.



    ما جعلها تقرر الخروج فوراً هو منظر لم تكن تتوقع وجوده في حفل عرس كهذا.. حين دخل أحدهم إلى منتصف الدائرة، وبطريقة حماسية خلع ثوبه وجلس القرفصاء عاري الظهر، متلقياً جلدات قاسية من يد شخصٍ بدا وكأنه جلاد في ساحة جلدٍ حكومية. قلت في سرها "ما هذه الوحشية؟" وتعجبت كيف يجتمع الألم والفرح في مشهد واحد دون أن يختل، بينما وقفت النسوة يطلقن زغاريدهن مع كل سوط. وعندما رأت الدماء الحمراء تسيل على ظهر ذلك الرجل العاري خرجت على الفور وهي لا تزال تشعر بقشعريرة سرت في جسدها كتيار كهربائي على جسدٍ مبتل. لم تتمكن أوديت من نسيان ذلك المنظر الذي اعتبرته بشعاً ومتناقضاً في ذات الوقت. ومن خلال المرآة الأمامية قرأ سباستين في وجهها ملامح غير مريحة، فبادرها بالسؤال الأبوي "أأنت بخير آنستي؟ هل ضايقكِ أحدهم؟" لم تعرف أوديت كيف تشرح له ما رأته قبل قليل. وبصعوبة استطاعت وصف ذلك المشهد. فابتسم سباستين وهو يشرح لها:

    "إنه تقليد قبلي آنستي.. الجلد بهذه الطريقة وفي مثل هذه المناسبات تحديداً لا يعد قسوة بقدر ما يعد مشاركة ومجاملة ضرورية. قد تستغربين ذلك، ولكنها الحقيقة. جينة متنحية عند أولئك المنحدرين من أصول عربية، ما تزال الثقافة الفروسية عربية الجذور تتحكم في تقاليد هؤلاء. يشعرون بالافتخار عندما يتحملون الجلد أمام حشد من الناس، لاسيما في وجود بعض النسوة. وبقدر ما يستطيع أن يحتمل، بقدر ما يزداد به الآخرون إعجاباً. قد يكون أحدهم مديناً لصاحب الحفل بجلدة قديمة، فيأتي ليرد عليه دينه. بعضهم لا يحتمل ألا يُجلد، حتى وإن لم يكن مطالباً بذلك. ويقال أن من يحتمل جرعات أكبر من الجلد، فإنه يصبح في نظر الآخرين رجلاً مسؤولاً ويحتمل شدائد النوائب. إنه مجرد تقليد آنستي ولا علاقة له بالسادية أو المازوشية أبداً، تقليد اكتسب مع الوقت حرفية معينة، حتى أصبح طقساً ضرورياً. إن لم يجد المدعوون من يُجلد في حفلة العرس، عرفوا أن صاحب الحفل رجل منكفئ على نفسه، ولا يجامل أحداً."
                  

06-30-2007, 02:39 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ______________________________

    استمر العرس حتى ساعات الصباح الباكر. وانفض الصيوان، كأن لم يغن بالأمس. ما تبقى من تلك الليلة: علب المياه الغازية المرمية في كل مكان، وكراسي غير مرتبة، ومناديل ورقية، وبقايا طعام متناثرة على الأرضـ وأطباق بلاستيكية. كان المشهد يوحي بأن معركة لجيش همجي قد دارت رحاها هنا بالأمس، أو أن الساحة كانت ساحة يلعب فيها الأطفال دون رقابة من الكبار. وشابان يعملان بجد لحمل ما تبقى من أسلاك كهربائية، وأجهزة مكبرات الصوت. بينما وقف أبو السيك في مكانٍ ما، ممسكاً بأمه التي لم تكن تكف عن البكاء.

    لم تكن فتحية شبانة تعرف أن فراق ابنتها سيكون بمثل هذه المرارة، رغم أنها سوف لن ترتحل عنها إلا إلى البيت الذي يبعد عنها بشارعٍ واحد فقط. فجأة بدأت تستعيد شريط ذكرياتها مع ابنتها، وكيف كانت فرحتها حين وضعتها بصعوبة بالغة أكثر مما وضعت به أخاها. "البنات دائماً متعبات حتى في الولادة" هكذا كانت تقول لها رقية التلب جارتها، وإحدى القلائل اللواتي وقفن إلى جوارها ساعة الولادة. وتذكرت عندما كانت تبكي كلما أرادت أن تسرح لها شعرها أو أن تعقد لها الضفيرة، وكيف أنها كانت تستعين بها في عمل المنزل، وكيف أنها كانت تملئ عليها البيت بالضحك والسخرية التي لم تكن تكف عنها أبداً. "خلاص يا أم ياسر ... دي سُنة الحياة!" قالها ياسر الصاوي وهو يصبّر أمه المفجوعة على فراق ابنتها الوحيدة. ولم يكونا يعلمان أنها وزوجها يخططان للرحيل إلى خارج بورتسودان. ربما كان ياسر يعلم ذلك، ولكن فتحية شبانة لم تكن تعلم شيئاً على الإطلاق.



    نهاية الفصل الثامن
                  

06-30-2007, 06:19 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ________________________

    الفصل التاسع :


    جيوفاني لاريتو الذي بدا قلقاً، كان يجوب أرجاء البهو مدخناً غليونه الذي لا يكاد يفارقه، مرتدياً روباً أحمراً لامعاً كأحد البارونات المتكلّفين، واضعاً ساعده الأيمن وراء ظهره. بينما جلست أنونوزيتا على كرسي البيانو الذي بلا ظهر وهي تلعب بأصابع البيانو بشكل عشوائية مخفيةً قلقاً أثارته داخلها أنفاس جيوفاني الساخنة التي كان ينفثها مع كل نَفَسٍ يسحبه من الغليون الذي في يده. وفيما تقدّم أحد الخدم بطريقة آلية جادة منحيناً أمام أنونوزيتا حاملاً في يده بحرفية متناهية صينية فضية عليها كأسين من عصير الكركدي المثلّج الذي يحبه جيوفاني، حملت أنونوزيتا الكأس الأخرى من الخادم الذي أشارت له بالانصراف بكل هدوء، فمال برأسه باحترام وانصرف على الفور دون أن ينبس ببنت شفة. تقدّمت أنونوزيتا حيث وقف جيوفاني قبالة المنصة الجبسية التي تقف عليها أنثى النمر الأفريقي المحنطة وهو ينفخ دخان غليونه:


    - عزيزي .. لا تقلق! لم تعد أوديت صغيرة .. حتماً ستعود حالاً .. اشرب هذا الكركدي البارد.
    * أوه عزيزتي ... لا أستطيع أن أكف عن القلق. لقد تأخرت كثيراً هذه الليلة. ألا يكفي أنها سترحل عنّا غداً.

    كانت أنونوزيتا تعلم جيداً مقدار حب جيوفاني لأوديت. فلم يكن شيء أبداً يشغله عنها. حتى أعماله وصفقاته كان يعقدها دائماً وهو يضعها على فخذه ويلاعبها. فقط ربتت على كتفه مهدئة إياه عندما تنهد بقوة وهو يميل بجسده نحو الجهة الأخرى من المنصة الجبسية:

    - ألم يكن من الأفضل أن تكمل دراستها الجامعية هنا؟ لم أكن لأحتمل أن تسافر إلى إيطاليا حيث أصرت جدتها على ذلك.
    * عزيزتي .. أعرف أن قرارنا كان صائباً. ولكنها ما تزال صغيرة على العيش بمفردها في الخرطوم. أفكر أن نرحل جميعنا إلى هناك.
    - وتجارتك هنا يا عزيزي؟


    كان ذلك ما يجعل جيوفاني شارد الذهن دائماً. فتجارته المرتبطة بميناء بورتسودان هو الشيء الوحيد الذي لا يمكنه الاستغناء عنه، إضافة إلى علاقاته الواسعة بمسئولي الميناء وأصحاب السفن التجارية الذين يسهلون له عمليات نقل تحفه الأثرية وبضائعه بكلفة أقل، كما كانوا يسهلون له إدخال بضائعه المستوردة برسوم جمركية مخفضة جداً لا تكاد تذكر. جيوفاني الذي لم يستطع طيلة هذه السنوات أن يبرح بورتسودان حتى للعودة إلى موطنه، وجد صعوبة بالغة في إيجاد طريقة لنقل أعماله إلى الخرطوم حيث تنوي أوديت مواصلة دراستها الجامعية في جامعة الخرطوم بعد أن تم قبولها في كلية الآداب، الكلية التي طالما رغبت أن تدرس بها. مخالفةً بذلك رغبة جيوفاني الذي كان يتمنى أن تتخصص ابنته في إدارة الأعمال إلا أنها لم تكن تعشق هذا المجال على الإطلاق، وكانت ترى أن عالم المال والأعمال هو عالم ذكوري مقيت. ورغم شدّة جيوفاني المعهودة في العمل التجاري والتي جعلته يستحق لقب شارك "القرش" بين تجار الميناء بجدارة، إلا أنه كان كمحار منزوع الصدفة في تعامله مع أسرته الصغيرة المكونة من زوجته أنونوزيتا التي ما تزال تحمل ذات الملامح الأنثوية الجاذبة منذ أن رآها في قداس الأحد في إحدى الكنائس الإيطالية ، وابنته أوديت الفاتنة كوالدتها والتي أخذت عن والدها حب التحف الأثرية.


    كانت أنونوزيتا تشعر ببعض الذنب كلما رأت زوجها دائم القلق على وحيدته. وأحست بأنها لو استطاعت إنجاب أخٍ أو أخت لأوديت لما كان جيوفاني قلقاً عليها إلى هذا الحد. ولكنها تذكرت كلمات الطبيب المصري في مستشفى القصر العيني بعد أن يأست من الاستشفاء في مركز عبري الطبي الفقير:

    - سيدتي .. للأسف فالتقارير التي تحملينها صحيحة. لا يمكنك الإنجاب فنزيف الرحم الذي عانيتِ منه عقب ولادتكِ الأخيرة أدى إلى ضموره تماماً.
    * أليس ثمة من أمل يا دكتور؟
    - نسبة الأمل ضعيفة جداً سيدتي .. وإن حدث حمل فسيكون ذلك بمثابة معجزة، وقد تنطلي على مخاطر لا يمكنني أن أخمنها على وجه التحديد.

    ودون أن تشعر سقطت منها دمعة بلورية تأرجحت من عينيها وسالت على خدها برفق. ولم تتمكن من إخفاءها قبل أن ينتبه جيوفاني الذي تذكر ما تُحدثه هذه الذكرى من ألم لأنونوزيتا. ورغم أنه حاول مراراً أن يشرح لها أن لا علاقة بين قلقه على أوديت وبين افتقاده لطفلٍ آخر منها، إلا أنه كان كمن يزرع الأرز في صخرة ملساء. عندها التفت إليها بحنوٍ وقبّلها بين عينيها "عزيزتي .. ألا تكفين عن التفكير في هذا .. تعلمين أنني لا أحتمل أن أراكِ تبكين" كانت تعرف جيداً مدى الصعوبة التي يلاقيها جيوفاني في محاولاته الجادة لإخراجها من هذا الأمر ، إلا أنها لم تكن قادرة على كبح عواطفها الأنثوية. شعرت أنونوزيتا بامتنان عظيم لهذا الرجل الواقف أمامها ، وتذكرت تلك اللحظات التي رأته فيها لأول مرة، وفكّرت أنها لو كانت رفضته لربما عاشت نادمة ما تبقى من حياتها ، فمالت عليه ووضعت رأسها على صدره "آسفة عزيزي .. حدث رغماً عني!"
                  

06-30-2007, 06:25 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ____________________________

    وقفا وحيدين في بهو الفيلا خافت الإضاءة، كأنهما عاشقان يرقصان السلو في غيبوبة عاطفية. أو كطفلين داخل فقاعة صابون. وظلا كذلك حتى فتح باب القصر ودخلت أوديت مسرعة وكأنها تهرب من شيءٍ ما ، توقفت أوديت فجأة عندما رأت والديها في تلك الوضعية الرومانسية "عفواً .. لم أكن أعـ...." قاطعها جيوفاني بلطافة "عزيزتي .. لا عليك. لقد قلقنا عليكِ كثيراً" كانت أوديت تعرف مدى خوف أبيها عليه، ورغم أنها كانت تجد له أكثر من مبرر لهذا القلق ، إلا أن قلقه هذا كان يخنقها في كثير من الأحيان. تقدمت أوديت باتجاه والديها بينما وقف سباستين بكل أدب عند المدخل "عفواً سيدي لقد علقتنا في وحل أثناء عودتنا" فاكتفى جيوفاني بإشارة تعني "لا بأس .. انصرف أنت الآن" فانحنى سباستين في ولاء قبل أن يغادر ، ممسكاً بقبضة الباب البرونزية ليغلقه وراءه بكل هدوء.


    - أودي .. أين كنتِ ألا تعلمين أن والدكِ شديد القلق عليك عزيزتي؟
    * آسفة ماما .. لقد علقت سيارتنا ونحن ...
    (قاطعهما جيوفاني) "لا بأس .. لا بأس، المهم أنك عدتِ بخير أميرتي." كانت عينا أنونوزيتا ما تزالان لامعتين من أثر الدموع، وكان بريقهما كفيلاً بأن تتخيل أوديت هوامش الحوار الحميمي الذي كان دائراً بينهما. فأحست بعاطفة غريبة تسري تجاههما. عندها ارتمت بقوة على صدر جيوفاني وتلعثمت قليلاً قبل أن تقول "يمكنك أن تعتمد عليّ بابا!"


    قبل أن تغادر أوديت إلى غرفتها طلب منها جيوفاني أن يتحدثا قليلاً. فجلست على الصوفا الإسبانية إلى جانب فازة ضخمة من العاج عليها عدد لا يحصى من ريش الطاووس، بينما وقفت جيوفاني وأنونوزيتا قبالتها وفي عينيهما حنان كأنها تستشعره لأول مرة. كانت أوديت مندهشة من هذه الهالة الأسرية الحالمة التي تكتنف والديها ، ولم تضع في حسبانها أي شيء يمكن تخمينه عن السبب لذلك. كانت تحاول أن تقرأ في نظراتهما الأمر الذي كان يريدان أن يقولانه لها. بدا عليهما وكأن كل واحدٍ منهما يلقي بعبء الكلام على الآخر. "ماذا هناك؟" لم يغيّر سؤالها هذا شيئاً من ارتباك جيوفاني وأنونوزيتا. فقط ابتعدت أنونوزيتا قليلاً كأنها لا تريد أن تسمع ما سوف يقوله جيوفاني في الحال:

    * أودي يا أميرتي .. كنا أنا وأمك نفكر قبل أن تأتي بأنه ربما لن تكوني قادرة على العيش بمفردك في الخرطوم عندما تذهبين هناك للجامعة. كما أنني لا يمكن أن أترك عملي هنا. ثم ..
    - أبي ماذا تنوي أن تقول؟
    * ميمي حبيبتي .. سوف نكون في قلق دائم طالما أنك بمفردك هناك.
    - أبي أنا لم أعد صغيرة .. عمري تسعة عشر عاماً وأستطيع أن اعتمد على نفسي.
    (قاطعتها أنونوزيتا بقلقٍ شديد) دعي أباكِ يكمل حديثه عزيزتي.
    (وضع جيوفاني غليونه في فمه وأكمل): أميرتي .. اعلمي أننا نخاف عليكِ كما لو كنت ما تزالين طفلة صغير. ربما كان ذلك خطأ .. ولكن ثمة أمور يجب أن تعرفيها طالما أنك قررت الابتعاد عنّا والعيش بمفردك.


    (استدار جيوفاني قليلاً غير قادرٍ على تحديد وقع الكلمات التي سوف يقولها على ابنته)
    * لقد وُلدتِ بقلب ضعيف عزيزتي .. وهذا ما جعلنا نسرف كثيراً في قلقنا عليكِ. وفي ذات الوقت فإننا لم نشأ في إخباركِ بهذا الأمر كي تعيشي حياتك كما تحبين دون خوف من أي شيء. ولكن الأمر مختلف الآن. فطالما كنتِ أمامنا وتحت رعايتنا فقد كان التزامنا أنا وأمك بأن لا نجعلك تفعلين ما قد يؤذيكِ.
    - أبي ...
    * فقط عزيزتي عديني بأن تحافظي على صحتك فترة دراستك بعيداً عنا. وتأكدي بأننا سوف لن نكف عن هذا القلق حتى تعدينا الآن.


    نهضت أوديت بتثاقل وهي تشعر بأن جيشاً من النمل الزجاجي يقتات على قدميها. الآن فقط تكشّفت الأمور أمامها. تذكرت فزع جيوفاني ذلك اليوم عندما رآها تمتطي إحدى الخيول التي يربيها في الإسطبل. فكرّت أنه ربما كان يخاف أن تسقط من على الخيل. وتذكرت قلقه غير المبرر وخوفه عليها كلما تأخرت خارج المنزل. لم تتخيل أنها قد تعاني من علّة ما طيلة هذه السنوات. تساءلت عما إذا كان ذلك حيلة ليثنياها عن السفر إلى الخرطوم خوفاً عليهما من القلق لا سيما وأن جيوفاني قد أصيب مؤخراً بارتفاع ضغط الدم. كان طبيبه الخاص يؤكد في كل زيارة على ضرورة ابتعاده عن التوتر والانفعال. لم تعرف ما تقول، بينما راحت أمها تراقبها خِلسة حاملة في عينيها الأرجوانيتين كل ما قد تستطيع أُم أن تحمله لابنتها من شفقة.


    * ولكنني لم أشعر بتعبٍ قط!
    - هذا ما حرصنا عليه طيلة هذه المدة يا أودي (لم ينس جيوفاني نبرته الحانية وهو يقول هذه الجملة دون أن يلتفت إليها حتى)

    (عدل بواسطة هشام آدم on 06-30-2007, 06:26 PM)

                  

06-30-2007, 06:28 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)

    ________________________

    كانت مشاعر أوديت المتضاربة بين الأسى والخوف والغضب هو أكثر ما يجعلها صامتة لا تعرف ما تقول. كانت تتساءل عن أخلاقية ما قام به والداها من إخفاء أمرٍ كهذا طيلة هذه المدة. كان يجب أن تعرف أنها ليست فتاة طبيعية، وأنها تحمل بين أضلاعها قنبلة موقوتة. بدأت تستشعر ضربات قلبها وكأنها تحس بوجوده لأول مرة. أحست بأن قلبها سوف يقفز من مكانه خارج قفصها الصدري، وضعت يديها على قلبها لا شعورياً وهي تقول - وكأنها تحدث نفسها - "ولماذا أخفيتما عني ذلك؟" لم تكن تنتظر إجابة ما على سؤالها. التفتت إلى أنونوزيتا التي كانت في حالة انكسار أمومي من النوع الحاد فعرفت أوديت أنها تشعر بالأسى حيالها ولم تستطع أن تقاوم شهوة التساؤل مرة أخرى "ترى ماذا تخفيان عني أيضاً؟" لم تكن نبراتها تحمل معنى العتاب أو اللوم بقدر ما كانت تحمل معنى المفاجأة والصدمة. أحست أوديت بالخوف يعتصرها عصراً. ولم تستطع أن تصنف ذلك الخوف تحت أي بندٍ عرفته مسبقاً.

    انطلقت أوديت مسرعة وهي تحاول تأجيل بكائها لحين اختفائها عن أنظار والديها اللذين وقفا دون حراك مكتفين بمراقبتها حتى غاب عنهما صوت وقع أقدامها المسرعة ولم يتبقى في مسامعهما غير صدى صوت باب غرفتها الذي أغلقته ورائها بقوة. كانا أكيدين من أنها سوف تقضي وقتاً طويلاً في البكاء.

    - يا إلهي .. هذا ما كنتُ أخشاه...
    * كفي عن حشر الآلهة في كل شيء عزيزتي .. إنها ابنتنا الوحيدة ويجب علينا أن لا ندعها تنام باكية.
    - ولكنها ...
    * تذكري أنها لربما كانت محقة في غضبها عزيزتي.

    كان جيوفاني قلقاً من أن يؤثر انفعال أوديت سلباً على صحتها، فلم يتردد في الاتصال بطبيب الأسرة ، فرفع سماعة الهاتف وأدار القرص بينما توجهت أنونوزيتا مباشرة إلى غرفة أوديت وطرقت عليها الباب فلم تجبها في حين سمعت صوت بكائها يخترق أنسجة قلبها الأمومي المفرط في المحبة. "عزيزتي افتحي الباب أرجوك" غير أن أوديت لم تستجب لها أبداً. وفي الداخل وبينما كانت أوديت تبكي بحرقة شديدة، أحست بوخز في صدرها جعلها تتوقف عن البكاء وكأنها تسترق السمع إلى شيء ما. وضعت أوديت يدها على صدرها في محاولة لتهدئة نفسها فأحست بخفقانٍ متسارع. للحظة ما شعرت بأن هذا الوخز جاء في وقته، فلقد أمهلها لحظات لتفكر قليلاً في سبب نوبتها البكائية التي اكتشفت أنه بلا داعٍ يُذكر. إنها مريضة كأي إنسان آخر على سطح هذا الكوكب، ووالداها عاملاها بمنتهى اللطف ، فقط أرادا لها ألا تشعر بأنها أقل من بقية الأطفال ، وسمحا لها بأن تفعل كل ما تريد ولكن بحذرٍ كان يضايقها ولكنه لم يكن يمنعها قط. للحظة شعرت أوديت أنها مدينة لوالديها باعتذار وشكر ، ولكن ليس قبل أن تهدأ العاصفة الأسرية التي سببتها هستيريتها غير المبررة تلك. وعندما خرجت من غرفتها كان طبيب الأسرة في طريقه إلى غرفتها، ورأت والدها وأمها يسيران من ورائه وكانا قلقين بوضوح تام. تلك النظرات المتلهفة جعلتها تشعر بالامتعاض من نفسها وفي ذات الوقت فقد شعرت بأنها إنسانة محظوظة لحصولها على والدين كجيوفاني وأنونوزيتا.



    نهاية الفصل التاسع
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de