دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
Re: بورتفوليو (2) (Re: هشام آدم)
|
- الورقة الثانية من البورتفوليو -
في مرحلة ما من هذه الرخوية كنت لا أحاول كثيراً أن أفكر في (من أنا؟) فهذا سؤال فلسفي لطلاب المراحل المتقدمة. وجدتني في ذلك الوقت أشبه كل الناس. كنت وأنا أتابع حركة الأيدي الثلاث التي تتحرك بتثاقل لمروحة السقف المعلقة أفكر ، لماذا أضحك مثل ( فلان ) ولماذا أمشي في بعض المرات مشية ( فلان ) ؟ ترى هل هناك شخص ما يقلدني فأفسر ما أنا فيه على أنه حالة عامة؟ وتعبت من هذا التساؤل الذي كان في الحقيقة مدخلاً لمعرفة نفسي ، لكني لم أكن أملك – وقتها – الأدوات المناسبة لاستغلال هكذا سؤال لفهم من أكون. وفي كل مرة كنت أقفل صفحتي بلا مبالاة وأقول (عندما أكبر سأعرف الإجابة).
(البنات) هذه الكلمة كانت تعني لي في مرحلة عمرية محددة ، أخوتي فقط. وفيما بعد أصبح هذا الاسم كالشارع مخيفاً دون إبداء الأسباب. ولا أنسى أن محيطي لم يكن يحتوي على شبهة (أنثى) حتى!! إلى أن رأيتها ذات مرة في منزلنا قادمة مع أهلها. فتاة كل ما أعرفه عنها أنها فتاة بيضاء. (بيضاء) هي الدلالة الجمالية الوحيدة التي أعرفها عن (الأنثى). إنسانة مرحة تحاول – عند خروجها من سجن أبيها – أن تنفس عن نفسها ، تماماً كما كنت أحاول أن أنفس عن نفسي باعتكافي في المسجد. ولكلٍ منا أسلوبه في التنفيس.
وربما لأنني كنت غِـراً بعد ، فلم أعرف إلا أن هذه الفتاة هي الأنثى الوحيدة التي أعرفها عدا أخواتي الأربع. لذا أحببتها !!! نعم بهذه السذاجة ، وبهذه المعطيات البسيطة بل البدائية. (فهل كان هذا ذنبي؟).
الآن .. كلما أتذكر ذلك ، أضحك على نفسي. ولكنني وقتها كنت أعشقها فعلاً .. أو هكذا كان يخيّل إلي. وكان ذلك هو المنعطف الثاني في حياتي. أو فلنقل ثاني محاولة لاكتشافي. وربما لذات السبب الساذج فقد بادلتني الحب على طريقتها الخاصة والمراهقة. يبدو أننا كنا نلعب أو نهذي. على كل حال فقد كانت تجربة حقيقية أعتبرها. بل كان عميقاً آنذاك. وعندما سافرت إلى السودان ... ووجدت أن هنالك إسطبل به عدد مهول من (الأولاد) ومساحة واسعة من الخيارات استسخفتني .. أو فلنقل أنها أعادت النظر في الموضوع. فقررت ألا تحرم نفسها متعة الاكتشاف. ففعلت. فكانت أول صدمة عاطفية من نوعها أتلقاها لحب دام أكثر من أربع سنوات (تقريباً) ولكنني عذرتها عندما ذهبت لذاك الإسطبل!!!
قبل سفري بأيام ... كنت لا أنام. كنت أشعر بشعور غريب. أكاد أجزم أنه ذات الشعور الذي تشعر به الفراشة وهي في طريقها للخروج من شرنقتها الضيقة إلى عالم فسيح ومساحات للتحليق الحر. وجدت نفسي الآن أذكر (الحرية) دون قصد. بيد أن هذه الرحلة كانت في حقيقتها رحلة للبحث عن الحرية. ولماذا أسميه بحث ؟ أنا لا أعرف الحرية أساساً كي أبحث عنه. فالبحث يكون عن شيء تعرفه أو يكون في حوزتك وتفقده. إذاً فهي كانت رحلة للتعرف على الحرية. أريد أن أرى هذه الحرية التي سمعت عنها كثيراً في قصائد الشعراء الأكاديميين ، وفي أغاني بعض الفنانين الذين كنت أسمعهم يغنون لها في أشرطة يضعها أحدهم في سيارته. وفي هتافات الشباب المتظاهرين في الشوارع والتي كنا نراها في نشرة الأخبار.
وما زلت أذكر كلام أستاذنا في المدرسة حرفياً: "الحرية سلاح ذو حدين" كنت أصنف الحرية ضمن قائمة طويلة من الأشياء المحرمة. والقائمة تحتوي على:
البنات الخمر الشيوعية العلمانية شرب السجائر العادة السرية الحرية الدراسة في بلاد الكفار الديمقراطية حرية المرأة سب الدين
وتقابل هذه القائمة قائمة أخرى مناقضة لها تماماً .. هي خلاصة ما تم تلقينه لنا أكاديمياً إضافة إلى تاريخ المملكة والعهد السعودي الأول والثاني والثالث ودور الأتراك في الحجاز والدولة السعودية. كنا نحفظ تاريخ الدولة السعودية أكثر من تواريخ ميلادنا . ونحفظ أسماء أبناء الملك عبد العزيز - البالغ عددهم تسعاً وتسعين اسماً (بأسماء الله الحسنى) – أكثر من حفظنا لأنسابنا.
<<<<
| |
|
|
|
|
|
|
Re: بورتفوليو (2) (Re: هشام آدم)
|
- الورقة الثالثة من البورتفوليو -
في فترة ما حاولت أن أرسم بالقلم الرصاص ملامح أو (كروكي) لملامح أعتقد أنها تشبهني. حاولت أن أكتشف نفسي بنفسي ، فوجدت أنني شخص لا يحب شيئاً بقدر ما يحب أن يقرأ الشعر ، ولا يكره شيئاً بقدر ما يكره أن يكون في أعين الناس غير ما هو عليه. ومنذ ذلك الحين آليت على نفسي أن أكرس جهدي لتوضيح هذه الملامح.
في البداية لم تتوفر لي فرصة أن أقرأ من الشعر غير ما كان يدرس لنا في المدرسة من أشعار منهجية - أراها عقيمة الآن - ولكنها كانت بالنسبة لي الذخيرة الأولى التي تسلحت بها وأخذت بعدها محاولات المجاراة . بدأت أكتب الشعر بنهم وبغزارة. كنت أحس بأن شيئاً ما يدخل في أوصالي كلما انتهيت من قصيدة ، تماماً كما يشعر المراهق بفرحة غرة مع كل شعرة تنبت في شاربيه.
ثم شعرت بأنني أحتاج أن أقرأ ما أكتب على أحدهم ، كي أعرف مدى ما أنا عليه من جودة أو (خرمجة) فكان أول من اخترت والدي (أطال الله في عمره) ، في البدء أخذ الورقة بيده اليسرى وقلب بصره فيها بسرعة خاطفة ، وهو يحرك شفتيه ثم نظر إلي وقال: ده شنو ده؟ أنا أكيد من أنه لم يقرأ غير عنوان القصيدة فقط أو ربما بعض الكلمات من المطلع. لكنه زجرني بعنف ، ظناً منه بأن ما أفعله هو من قبيل إهدار الوقت ... وبدأ - كلما وجدني أكتب شعراً - يكرر على مسامعي: يا ولد سيب الكلام الفارغ ده .. وانتبه لقرايتك.
لا أدري ... شعرت أن الشعر فيما بعد أصبح من المحرمات ... فبدأت أخفي دفاتري الشعرية البدائية جداً في أماكن يصعب الوصول إليها ، لأنه كان يمزقها كلما وقعت تحت ناظريه. حاولت ألا أسمح لذلك اليأس والشعور بالإحباط أن يتسرب إلي من تلك التعنيفات التي كنت أسمعها منه. وربما نجحت نوعاً ما ... غير أنها نكتت في قلبي نكتة سوداء ما تزال تبدو ... وتطفو على السطح عندما أعجز عن تكملة قصيدةٍ ما .. فأجدني أمزقها بنفس الطريقة التي كان والدي يمزق بها أوراقي القديمة ، بل وأجدني أكرر : ده كلام فارغ .. ده كلام فارغ.
لا بأس فمن شابه أباه ما ظلم!!!
أذكر أن أستاذ اللغة العربية - أحد القلائل الذين كانوا يشجعونني على الكتابة والقراءة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً - يخبرني بأن المدرسة سوف تدخل في منافسة شعرية مع بقية مدارس مدينة الرياض ... وأنها - إدارة التعليم - سوف تختار من كل مدرسة قصيدتين فقط. فنصحني بالمشاركة. ورغم أنني لم أكن متحمساً في البداية إلا أنه بدأ ينفخ فيني شعور الأمل والتفاؤل الذي كنت قد نسيت طعمه.
في صباح ذات يوم ، وبينما نحن وقوف في الطابور الصباحي - الذي يذكرني به الآن تحركات الجيش إلى الثكنات ، وانتظام المساجين في المعتقلات وفي شكل حركتهم في تناولهم للوجبات اليومية الفقيرة - وبعد أن تلينا النشيد الوطني السعودي (هل كان ذنبي؟) وقف وكيل المدرسة وعلى يساره مدير المدرسة وفي يده ورقة يقرأ منها ما لم أكن حريصاً على سماعه ، بينما شدني أنه قرأ اسمي بصوت عالٍ فانتبهت. ظنتت في البدء أن ثمة عقوبة تنتظرني على ذنب ما اقترفته ونسيت .. غير أن ملامحه المبتسمة لدى استقبالي جعلني أتساءل : ترى ماذا تحمل هذه الابتسامات ورائها؟ طلب مني الوقوف إلى جواره فامتقلت. وبعد انصراف الطلاب قادني إلى حيث مكتبه ليخبرني أن قصيدتي وزميل آخر لي تمت اختيارهما من قبل إدارة التعليم لدخول المنافسة .
لقد كانت فرحتي كبيرة بهذا الإنجاز الأول الذي أحققه. غير أن فرحتي لم تدم طويلاً حيث أخبرني بأن هذه المسابقة تشترك فيها جميع المدارس الثانوية بمدينة الرياض. فخاب أملي . قلت في نفسي ... كيف لي أن أدخل منافسة كهذه وما أكتبه ما أزال لا أقتنع به؟ ثم كيف لي أن أحرز نصراً كهذا بينما الأولى به أبناء هذا البلد؟ فاكتفيت بانتصاري (المحلي) ولا أنسى أنني لم أخبر أبي بذلك أبداً بينما أسررت لأمي التي هزت رأسها وهي تقلب (الطبيخ) على النار وهي تقول: سمح !!!
بعد شهر من ذلك .... وبينما نحن في حصة العلوم ، دخل علينا الوكيل وطلب من الأستاذ (استعارتي) لبعض الوقت. وفي غرفة المدير بشروني بأنني حصلت على المركز الأول في تلك المسابقة .. وأن هنالك جائزة مالية وشهادة تقديرية في انتظاري في مقر إدارة التعليم. وخيروني بين أن يرسلوا مندوباً عني لاستلام الجائزة أو ذهابي لذلك الغرض. فطلبت أن أقوم أنا بتلك المهمة.
إن لذلك الخبر وقعاً لا أكاد أنسى ملامحه حتى اللحظة. فقد كنت أحسب الدقائق والثواني حتى ينتهي اليوم الدراسي .. بل كنت ألعن الشارع الذي مد لسانه لي فشعرت به أطول من ذي قبل. وما أن وصلت البيت حتى صرخت. نعم صرخت بكل قوة. فزجرتني أمي: بسسسسم الله .. يا ولد بتكورك مالك؟ فلما أخبرتها بما في جعبتي من أخبار مفرحة ، هزت رأسها وهي تقول: طيب ما تكورك كده!! لم أكترث كثيراً لتجاهلها هذا الخبر .. فلقد أصبحت لدي مناعة من الإحباطات المتكررة. ورغم أن أبي رفض الذهاب في ذات اليوم غير أنني كنت مصراً على الذهاب واستلام الجائزة فذهبت وحدي. ولما علم والدي بذلك ضربني لأنني (لم استطع أن أنتظر حتى الغد ليذهب معي) ضربني لأن (راسي ناشفة) على حد تعبيره ، لم يسأل نفسه لماذا كنت أستعجل الذهاب ، بل لم يكلف نفسه عناء أن يتفهم لي ذلك الاستعجال ، وكأن الموضوع يتعلق بشراء (خروف) لا يضير لو تم شراءه اليوم أو غداً أو حتى بعد غد. فتقبلت الضرب بابتسامة ظاهرية ، ولكن القلب ما زال عامراً بالنكت السوداء.
وأذكر من تلك القصيدة هذه الأبيات:
أطوي على قلمي حداده وأطوف من يشري مداده ما عاد يلهمني الرؤى ودمي نذرت العمر زاده أتعبت فيه حشاشتي ووهبت من بصري سوداه وهربت منه إليه في زمن يذم بلا هواده هذا يعيّب ما كتبت وذاك يستدعي مراده وتلوكه الأفواه ممن لا حديد ولا براده عمرو يشدّ لجامه وعويمر يرخي قياده
إلى آخر القصيدة .............
إنني لأحمد الله الذي منحني الصبر بل الثبات على الشعر كما لم يمنحنيه على ولعي بكرة القدم. فلقد كان والدي (أطال الله في عمره) يحاول ما استطاع أن يجعلني أكرس حياتي كلها في الدراسة.... الدراسة فقط. ربما لم يكن يعي آنذاك أن للحياة أكثر من باب وأكثر من نافذة. وأن الهوايات أمر مطلوب بجانب الدراسة كذلك. وهذا الأمر دعّم لدي إحساسي السالب جداً تجاه (السعودية) بأنها مقبرة الأحياء ... وبأن علي أن أصبر حتى أخرج من هذه الشرنقة الضيقة الخانقة حتى أتنفس الصعداء ، وحتى تتنفس تلك المواهب هواء الحرية الذي حرمت منه. وبدأ صبري ينفذ بعد تخرجي من الثانوية .. وأنا في انتظار أن تفتح الجامعة أبوابها
<<<<
| |
|
|
|
|
|
|
Re: بورتفوليو (2) (Re: هشام آدم)
|
- الورقة الرابعة من البورتفوليو -
كمن يوهب الحياة بعد الموت ، كذلك كنت عندما وطأت قدماي أرض (الوطن) ها أنا ذا أخيراً في السودان. أشتم عبق الانتماء والإلفة في رائحة ترابها ورائحة عرق الحمالة في مطار الخرطوم. واستشف الحميمية من تضاريس الوجوه الكالحة والباهتة. استقبلها بابتسامة الودود المحب منتظراً ساعات من السلامات العائلية لاستمتع بعدها بتعبئة الأماكن في العيون والذاكرة. أدهشتني الخرطوم للوهلة الأولى حيث كانت تبدو لي كطفل صغير يقف بكل بجاحة بريئة وقد ارتفع قميصه وأسفرت عن انتفاخة بطنه الصغير. طفل لا يكترث كثيراً بأن يهذب ثيابه أو يمسح ما تساقط من ما أنفه على فمه!! ورغم ذلك فإننا نحب الأطفال ونرى أن وسخهم براءة تدعو للضحك واستجلاب المودة. وهكذا كانت الخرطوم عندما رأيتها أول مرة.
كان في استقبالي بعض تلك الملامح المغايرة نوعاً ما لما رأيتها في الصورة التي كانت أمي تحتفظ بها في حقيبتها الزرقاء تحت سرير الدبل ، ولكن وكما يرتبك أحدنا في الامتحان – رغم استذكاره الجيد – فإنني اختلطت علي الوجوه والأسماء ـ وتشابه علي البقر ، فلم أذكر أحداً باسمه. حاولت أن أركز في المناظر الخارجية من نافذة سيارة الأجرة الصفراء المتهالكة التي يقودها رجل عجوز بملامح مبتسمة ودودة ، ولكنهم لم يعطوني الفرصة الكاملة لذلك. شعرت حينها بسعادة غامرة وأنا بين أهلي وفي بلدي وهؤلاء العابرون في الشارع يعرفون لغتي ولا يستهجنون لون بشرتي. وكل غريب فيما أراه محبب إلى نفسي ، الشوراع التي تخلو الإنارة ، الوجوه المتعرقة حتى ليلاً ، البيوت الشاحبة ، الألوان التي يعلوها الغبار ،،،، كل شيء ، كل شيء.
وبقدر ما أحببتها ، بقدر ما أساءت إلي!! كيف؟
منذ اليوم الأول ، مساءً ، حين جلسناً أرضاً لتناول العشاء ، بدأ الجميع – كلٌ على طريقه – يسخر إما من طريقة أكلي ، أو يلقي بأسلة كنت أعتبرها في البداية مغازلات للطعام السوداني من قبيل: "ما في حاجات زي دي في السعودية ... مش؟" أو "شوية شوية المعدة حتتعود" فكنت أبادلهم تلك العبارة بابتسامة مجامِلة وبعض الكلمات المقتضبة. كنت أركز كثيراً على كل ما يقولون وكل ما يفعلون ليس لشيء ، إنما من أجل أن أكتسب المعرفة السلوكية واللفظية فقط. كنت أعتبر أن كل سوداني عاش وتربى في السودان شخص كامل بطريقة أو بأخرى، أو في أسوء حالته فإنه – قطع شك – سيكون أفضل مني وأغزر خبرة. فمعلوماتي أنهم اعتركوا الحياة واعتركتهم بما يكفي. وربما كان ذلك ما يفسر قبولي – أو فلنقل رضوخي - للكثير مما كنت أراه أو أسمعه منهم.
كنت أعتبر نفسي سفيراً لعائلتي ، وعليه فإنني كنت أحاول أن أتصرف بطريقة لبقة ، وأكثر تهذيباً . بيد أني فوجئت بأن هذه اللباقة كانت محل سخرية الجميع. فلقد كانت كل تصرفاتي وسلوكي يعزى لديهم لتربيتي في السعودية. كان الأمر يدعو فعلاً للسخط والاستياء. غير أني لم أشأ أن أجعل هذا الشعور السالب يتملكني. وكنت كذلك أرى أنهم ربما كانوا على حق ، بل إنهم فعلاً على حق. وكان هذا ما يغريهم بالكثير من التجاوزات.
ببساطة ، لم أذهب إلى السودان للسياحة. بل للدراسة. فأنا – كنت في نظر نفسي – طالباً لا يملك إلا حقيبة ثيابه وبعض النقود (مصروفي الشهري) وبعض ما تبقى من ذكريات أبي التي كان يليقها على مسامعي عن بعض أفراد هذه العائلة التي من المفترض أن أقضي معهم سنوات دراستي الجامعية. بعد العشاء ، استأذنت بكل لطف وطلبت منهم أن يخبروني أين يمكنني أن أضع حقيبة ملابسي لأنني أريد أن أبدل ثيابي واستعد للنوم، ففعلوا. فتحت الحقيبة أخرجت (الغيارات) ثم سألتهم عن مكان (الحمام) فضحكوا جميعاً قبل أن يستدرك أحدهم قائلاً : "إنتا داير تتسيّر ولا داير تستحمى؟" فقلت لهم : "الاثنين" فانقلبوا ضاحكين.... لم أفهم تحديداً سبباً لضحكاتهم الهستيرية تلك. غير أنني كنت أشعر بغضب عارم من تلك الضحكات التي لا تعني إلا الإمعان في امتهاني. حاولت – بلطف – أن أسأل عن سبب ضحكهم فأخبروني الفارق الجوهري بين (الحمام) و (الأدبخانة) واستخدامات كل منهما ، فتبسمت في سخرية وقلت وأنا أتجه إلى (الحمام) : "خلاص بالله أدوني كتلوج عشان أمشي عليهو" ورغم أن سخريتهم مني كانت مبررة إلا أنهم – جميعاً – اتفقوا على أن جملتي كانت (منتهى الوقاحة وقلة الأدب)!!!!
وبعد أن انتهت من حمامي المسائي الدافئ ، توجهت إلى حيث وضعت حقيبتي ، ففوجئت بهم جلوساً أمام الحقيبة وقد أخرجوا ما بها من ملابس وهدايا وخطابات. توقفت لبرهة غير مدركاً لهذا الوقاحة التي لم تكن – بالنسبة لهم – غير سلوك اعتيادي ، فهذه الهدايا لهم ، والخطابات مرسلة إليهم (أقصد أغلبها) ، أما عن مصادرتهم لبعض ملابسي وأحذيته فهو سلوك مبرر ، فهشام قد يرسل إلى أبيه فيزوده بما يحتاج من أحذية وملابس ... كيف لا .. فهو ابن (مغترب) .. هذه الكلمة أصبحت تثيرني جداً فيما بعد ، لورودها بين كل جملة وأختها ، بمناسبة ومن غير مناسبة. فكانت تساوي تماماً كلمة ( يا سوداني ) التي كان الأطفال ينعتوني بها هناك.
تكررت تلك المشاهد الضاحكة والساخرة كثيراً لدرجة. تصنعت الاعتيادية وأنا أرى أحدهم قد باشر في ارتداء إحدى ملابسي التي لم أضعها على (جتتي) بعد ، والآخر بدأ يقيس الحذاء الذي كنت أنوي الذهاب به إلى الجامعة في اليوم التالي.
انقضى اليوم الأول بخيره وشره ، ونمت تلك الليلة في خليط من المشاعر المتداخلة. مشاعر جميلة وأخرى سيئة جداً. ولا أفشي سراً إن قلت أنني أحسست (بالغربة) تلك الليلة. نعم ! لقد شعرت فعلاً بالغربة. الجديد في الأمر أنني أنام وفوقي السماء الزرقاء مباشرة بدلاً عن مروحة السقف المتهدلة تلك. وأصوات كلاب تأتي من جميع الاتجاهات. وأصوات الجنادب والضفادع .... (موسيقى الأدغال) بيد أنه ليست ثمة أشجار كثيفة ، بل مساحات واسعة من التراب والأراضي غير المسكونة. لم أستطع النوم إلا في وقت متأخر ، حيث أنني بدأت في حوار ذاتي ، أعالج فيه ما تولد لدي من أحاسيس منذ عناقي لأول شخص استقبلني في المطر وحتى آخر كلمة سمعتها (تصبح على خير).
<<<<
| |
|
|
|
|
|
|
Re: بورتفوليو (2) (Re: هشام آدم)
|
________-
صباحاً ... كان شهوة الاكتشاف تستيقظ قبلي ، عندما وجدت أيادي الشمس تنزع عني غطائي الخفيف وتمسح برفق على عيني أن ( قم ) ففتحت عيني على أناس جالسين (تحت الراكوبة) يتعاطون الشاي بالحليب ، وما أن وقع بصرهم علي حتى اتصل خيط الأمس بكلمات من قبيل ( في السعودية بتنوموا قدر ده؟ ) ( أنسى إنّك كنت في السعودية واتعود تصحى بدري) .... إلخ . فقلت في سري (يبدو أنني على موعد مع رفيقة الأمس "إحساسي بالغربة") فرسمت ابتسامة خفيفة .. ونهضت.
هناك .. يتعامل الناس معك على أنك طفل صغير ، لا يجب أن تخرج بمفردك ، قبل أن تتعلم أبجديات الشارع وخارطة المنطقة ، أظنهم لم يسمعوا بشغف الإنسان للاكتشاف ، وبوصلته الداخلية !! ويتكلمون معك بلغة تشعر بها أقرب إلى لغة الإشارة أو لغة الصم والبكم ، متخيلين أنك من كوكب آخر قد لا تفهم اللغة الاعتيادية إلا بشكلها المبسط السخيف الذي يشعرك بالبدائية ، وكأنك تتعلم الكلام والفهم لأول مرة. ويفترضون فيك أشياء هي من البديهيات ، مثل ظنّهم أنك قد لا تعرف ميكانيكية فتح علبة الساردين (هذا إن وجدت علبة ساردين أصلاً) !!!
بعد أن أخذت حمامي الصباحي ، واستمعت إلى نشرة الإساءة التاسعة (أقصد نشرة الساعة التاسعة) هممت بالخروج لأنني أريد أن أعرف المكان إضافة إلى أنني لم أكن أطيق المكوث في المنزل لأنني كنت أحس بالاختناق. تشعر بهذا الاختناق لأنه نوع من الاغتراب الداخلي ، وعدم التوافق بين تلك الصور التي كنت تراها وبين شخوصها الحقيقيين الماثلين أمامك ، ربما كان نوعاً من الصدمة التي أفهم لها تفسيراً مريحاً يجعلني أتقبل الوضع على أنه وضع وسوف أعتاد عليه لاحقاً بالممارسة الاجتماعية الواعية والكثيفة.
وعلى حين غفلة من لغتي الركيكة (بالنسبة لهم) أردت فقط أن أعبر لهم عن رغبتي في الخروج والتجول في المناطق المجاورة ، فقلتها بكل براءة (أرح نمشي نتمشى شوية في الحارة) … فبدأوا بالضحك من كلمة (الحارة) تلك . إنه اختلاف القواميس الذي كان من المفترض أن يتم التعامل معه بشكل أفضل وأقل مساساً بخيارات اغترابي اللغوي الذي لم يكن لي يد مباشر فيه. فابتلعت الإساءة على مضض وتعلمت أن أحوّل (حارة) إلى (حلّة) وخرجت!!!
في الشارع … وعلى امتداد البصر لم أجد غير (التراب) لا شوارع مسفلتة على المدى البصري البعيد ، فتعجبت .. غير أنني لم أشأ أن أبدي هذا التعجب بسؤالٍ يفتح باباً للسخرية جديد. الكلاب … البهائم المنفلتة في زريبة بلا أسوار .. ولأول مرة أعرف آيدلوجيا الرعي البيئي .. أن ترعى البهائم في شوارع وخرائب تأكل من فتات الأوراق وعلب الجبنة الفارغة وأكياس النايلون !!!! هزيلة ، تشفق عليها وعلى ضرعها المجوّف .. تمشي فتتمسح بالجدران الجالوصية المتهالكة أصلاً .. فتعجبت مرةً أخرى.
في لقطة أخرى .. وجدت مركبة (عرفت فيما بعد أن اسمها "دفّار") تنطلق بسرعة في ما كان يطلق عليه اعتباطاً شارع (ردمية) ظننت للوهلة الأولى أنها سيارة لنقل النفايات عندما رأيت أحدهم يقف على بابها الخلفي مطلقاً صافرات بشرية من فمه .. وصعقت عندما وجدت إحداهن تستعد لركوبها !!!!
ذكرتني هذه المشاهدات مع (الدليل السياحي) المرافق لي .. بمشاوير موسى والصالح خضر … وعرفت أن لي غضبة موسى التي لا تطيق صبراً على غرائب الخضر. فسألته: "إنتا السيارة دي شنو بالضبط" فأجابني بعد ضحكة طويلة ومملة "دا اسمو الدفار … إنتا ما سمعت (الدفار شغلو حار) … دي المواصلات بتاعتنا" فقلت (سراً) "سبحان الله"
والغريب في الأمر أن المارين لم يكونوا متضايقين مما تخلفه تلك المركبات (الدفار) من غبار مزعج ورائها .. وكأن لهم خياشيم تنتقي الأوكسجين من بين تلك الأتربة العالقة في الهواء.
لقد كانت رحلتي الأولى في الجوار ، أكثر دهشة من أي رحلة افتراضية عشتها في مخيلتي عن السودان أو حتى عن تأملاتي حول مشوار البشرية إلى ساحة الحساب يوم الحشر !!!
<<<
| |
|
|
|
|
|
|
Re: بورتفوليو (2) (Re: هشام آدم)
|
_____________
- أول يوم في قلب العاصمة القومية -
في أول رحلة من نوعها للتعرف على معالم العاصمة القومية عن قرب ، وبعد موافقة مجلس الشيوخ العائلي ، اتفق الجميع على تفويض (عماد) لمرافقتي في هذه الرحلة للتعرف على شوارع العاصمة القومية الرئيسية ، ومعالمها الأساسية ، ومواقف المركبات العامة وخطوط سيرها ، وما ذلك إلا خطوة أولى تمهيداً لإطلاق سراحي. ولأنني كنت أتوق لهذه الرحلة فلم يكن لدي أدنى اعتراض على هوية المرافق ، طالما أنني سوف أتمتع أخيراً بمشاهدة ما لم يتح لي مشاهدته لدى قدومي لأول مرة.
منذ الوهلة الأولى تعرفت على مبدأ أساسي غاية في الأهم يجب عليك التقيد به قبل أن تنوي الخروج لقضاء حاجة من حوائجك خارج نطاق المنطقة التي تقيم فيها. والقاعدة الأساسية تقضي بأن تحمل ملابسك النظيفة التي تريد الذهاب بها في حقيبة يدوية وتكتفي بارتداء ملابس اعتيادية في طريقك إلى حاجتك ، ولك أن تبدل ملابسك في أي منطقة بعد الوصول. لأنك إن أسرفت في التأنق والتطيب فسوف لن تصل إلى (شارع الزلط) إلا وأنت كما نمت بالأمس ، رث الثياب أشعث الرأس ومن يراك سوف لن يخمن أنك قضيت ساعة في الاستحمام ومثلها في التطيب والتأنق. الغبار الذي سوف يهبه لك مالكو السيارات الخاصة والعامة لن يجعلوا لك فسحة من الوقت لتنعم بمتعة النظافة لمدة طويلة ، فلا ترهق نفسك كثيراً.
وصلت إلى الخرطوم (استاد الخرطوم الدولي) وللوهلة الأولى أحسست أنني قد قطعت المسافة من الكلاكلة الوحدة إلى استاد الخرطوم سيراً على الأقدام ، فقد كنت متعباً إلى حد أنني أصبحت أجري بعض التمرينات الخفيفة أمرّن فيها قدماي على السير (من باب تجديد الدماء فقط).
الغبار كان هو العامل المشترك بين ما تركته هناك ، وما أراه هنا أمامي. الهيئة الرثة ، الشفاه اليابسة بفعل العطش ، الجباه الغارقة بالعرق ، الأعين المصابة بالرمد. هكذا كانت الوجوه من حولي ، ورغم أني لم أكن لافترض في نفسي ذات الشيء ، فقد كنت كذلك فعلاً. لم أصدق في البداية عندما وجدت (زير) ماء في وسط هذه المعمعة ، تطفو على وجه مائه مكعبات الثلج الباااااردة. فقلت في سري ( لله دركم أهل النيل ، أطول نهر في العالم قاطبة) فاقتربت وشربت من الماء حتى ارتويت تماماً .. وبكل هدوء تركت الكوب وانصرفت لحال سبيلي ، لأجد أحدهم متعلقاً ببنطالي بطريقة مثيرة للإزعاج. في البدء ظننته متسولاً .. فبدأت أشرح له أنني لا أملك مالاً لأعطيه ، غير أنه كان يتكلم بلهجة لم أكن أدرك تفاصيلها ، ولكنها في المجمل كلمات تطالبني بالنقود (بطريقة آمرة) .. ظننت أن متسولي السودان – كغيرهم – يختلفون عن بقية متسولي العالم. وأن هذه هي طريقتهم في التسول .. فأصريت على موقفي وبأنني لا أملك ما أعطيه إياه. ولم يزل ذلك الطفل الذي لم يتجاوز الثامنة متشبثاً ببنطالي حتى خفت أن ينزلق في يديه فتطالني فضيحة كبرى في قلب العاصمة القومية. عندها – أي عندما بدأ القلق يتجاوز حده – صرخت ( عماد .. عماد ) فهرع إلي ليجدني بتلك الحالة ، فانفجر ضاحكاً وأخبرني بأن هذا الطفل لا يتسول ولكنه يطالب بحقه في ما شربته من مائه. توقفت كثيراً عند كلمة (مائه) فالماء ماء الله ، ونحن في بلد لا يعطش فيه بشر ولا بهيمة ، أو هكذا يفترض به أن يكون. عرفت فيما بعد أن أولئك الأطفال ( أعانهم الله ) يتخذون من بيع الماء مصدر رزق شريف يعيشون منه ، رغم قلّة مدخولهم من ذلك.
بدأت أعتاد على الاستياء شيئاً فشيئاً ، حتى أصبحت أرى أن الاستياء هو الوضعية الافتراضية في حياة الخرطوميين حتى !! في الشارع السوداني ، ترى أنك مثل (الشدة ) المنفردة مختلفاً عن الجميع ، وكأنهم يعرفون أنك غريب عن هذه البلاد. لم تعتريك (الغباش) بعد ، وما تزال محتفظاً بالنظافة الناصعة التي ليست هي العلامة المحببة دائماً. وعانيت ما عانيت من مناداتي (بالحنوكش) و (بالسحسوة) و (ود الراحات) و (ود السعودية) و (المغترب) من أناس لا يعرفونني حتى !!! تذكرت أطفال السعودية الذين كانوا (يزفوننا) هاتفين (يا سوداني .. يا زول .. يا عبد) فلم يزل تلك اللعنة تطاردني حتى في بلدي !!!
في الجامعة ، أنت مجرد (شهادة عربية) ، في البيت وفي الحي أنت (ود السعودية) وفي السعودية أنت (عبد) … ومن يسمع إلى كلماتهم يشعر أنهم كارهين لكل ما لم علاقة بالسعودية أو بمبدأ الاغتراب ، بينما تعج الطرقات المؤدية إلى السفارة السعودية صباحاً بالآلاف من الراغبين بالهروب من جحيم السودان إلى كيف (الكدنشة) و (التفاح).
وصمة العار التي لا تفارق صاحبها أبداً … ولكن ما زال السؤال معلقاً ( هل كان ذنبي؟)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: بورتفوليو (2) (Re: هشام آدم)
|
هشام عم صباحاً جميل أن نجد كوة مفتوحة باتساعات مختلفة على حيوات أُخرى أسعد بتمعن البورتفوليو
************* شكلك لسة مغبون
| |
|
|
|
|
|
|
|