________________ كنا على وشك الرحيل عندما قبّلتني سوليداد فيدل جدتي لأبي وهي تضع في يدي بطريقة سريّة عملة ورقية بائسة. ورغم أنني لم أكن وقتها أعرف قيمتها على وجه التحديد، كما أنني لم أتوقع منها أن تفعل ذلك إلاّ أنني غضبت لأنها لم تجد غير تلك العملة المهلهلة لتعبّر بها عن مدى حبها لي، واكتفيت بالسماح لها بتقبيلي، بشفتيها الرطبتين، دون أن أبادلها القبلات تعبيراً مني عن استيائي البالغ للإهانة التي وجهتها لي. أذكر أنها بكت ذلك اليوم لسبب لا أعرفه، فلم أكن لأصدق أنها تحبني لدرجة البكاء عند توديعي. غير أنني اكتشفت عكس ذلك عندما وصلنا إلى "كوينكا" بعد رحلة طويلة ومتعبة أصبت فيها بالجدري، وربما كانت أمي أكثر المتضررين من هذه الرحلة، إذ كان عليها أن ترعى طفلاً مريضاً، وفتاة مزاجية مشاغبة هي جوانيتا سارجينيو أختي التي تكبرني بعامين. والدي الذي ظلّ في أرتكاتا حيث يعمل في منجم للألماس، كان قد أوصى والدتي في إحدى مكالماتهما الهاتفية السريعة، التي لم تكن تتخللها كلمات عاطفية قط، أوصاها أن تأخذنا إلى حيث مسقط رأسه لنتعرف إلى أقاربنا هناك. كان تصرفه هذا الذي بدافع صلة الرحم يحوي في حقيقته مغزىً بالغ الأهمية بالنسبة له لا يخلو من زهوٍ ذكوري طالما رغب أن يشعر به منذ أن تزوج بأمي في العام 1971م. شعرت بسعادة غامرة وأنا أسمع صافرة القطار وهو يغادر توليدو ملوحاً بيدي لولئك الذين اصطفوا على امتداد رصيف الميناء البري حتى دون أن أعرفهم.
في الفترات القصيرة والمتباعدة التي كنت أفيق فيها من الإعياء كنت لا أرى عبر نافذة القطار غير أرضٍ صخرية مجدبة،متلائمة تماماً مع الحمى التي كانت تتناوشني طوال الرحلة، الأمر الذي كان يوحي لي دائماً بأنني قد أموت من العطش. وما كان يزعجني أكثر من تلك الحمى الجدرية هو صوت صفائح عربات القطار التي توحي لك بأنها سوف تنفصل عن بعضها في أية لحظة، وأصوات عجلاتها الحديدية التي كانت تشبه نبضات قلب مارد عملاق. كانت هذه الأصوات مثيرة للاكتئاب والخمول لا سيما مع الجو الحزائني الذي كان يكتنف القمرة. الشيء الوحيد الذي علق بذهني بقوة من تلك الرحلة هو رائحة جلد المقاعد التي كانت تشبه رائحة وبر القطط إلى حدٍ بعيد. كنت في تلك الفترة محاطاً باهتمام النساء العجائز الأمر الذي جعلني مبكراً أشعر بالتقزز من رائحة كبار السن ومنظر تجاعيد جلودهم وعاداتهم الغذائية التي كانت تبعث في نفسي الرغبة في التقيؤ. ورغم ذلك فقد كنّ أكثر الناس اهتماماً بي. وعلى صعيدٍ آخر فإن ثمة ضغينة أسرية قديمة سبّبها سلوك والدي الاستقلالي المبكّر والذي اعتبره جدي عقوقاً من النوع السافر، عندما رفض أبي أن يسميني على اسمه، وأرسل برقية من سطر واحد "نهنئكم بولادة كاسبر سارجينيو" كان ذلك عام 1974م. ولم يحقق له أحد أبنائه حلم أن يحمل أحد أحفاده اسمه الذي لا يوجد إلاّ في الفرنسية القديمة. وكان ذلك سبباً وراء تخفيف غضب جدي على والدي بعد مرور أكثر من خمسة أعوام على ولادتي. غير أن شظايا من ذلك الغضب الأبوي القديم انتقل بطريقة ما إلى أخوته الذين شهدوا النوبة القلبية التي أصابته عندما قرأ برقية أبي المستفزّة. غير أن الحقيقة هي أنهم لم يكونوا ليطيقوا نجاح أبي في الفرار من جحيم أورفل بودن المتسلط ليعمل في منجم الألماس الأشهر آنذاك، تاركاً إياهم بين قبضة والدٍ صعب المراس، وطبيعة اجتماعية قاسية يصعب معها الطموح. وربما كانت إحدى المآثر النادرة التي أذكرها لوالدي هو رفضه تسميتي بأورفل، إذ كان ليبدو كاسم مهرّج غير معتد النسب "أورفل ساجرينو أورفل."
تشاركنا ذات القمرة سيدة فضولية كثيرة الكلام ترتدي فستاناً أسوداً مرقّطاً بدوائر بيضاء صغيرة، ونظارات تبدو أنها لحفظ البصر، وقفازات سوداء متوافقة مع لون الفستان. اكتشفت فيما بعد أنها زوجة أحد أصدقاء والدي. لم تكف تلك السيدة - شارلوت كوربن - عن إسداء النصائح لأمي عن الطرق الشعبية المثلى لتطبيبي نظراً لخبرتها الطويلة في هذا المرض الذي أصاب أخويها وابنها مؤخراً، وتعجبت كيف نجت منه. كانت أسوأ تجربة مررت بها في هذه الرحلة عندما تركت أمي أمر رعايتي لهذه السيدة الفضولية وذهبت لقضاء حاجتها.
كانت هي المرّة الأولى التي اكتشف فيها ميل أهلي من القبائل النوركية للعلاجات الشعبية وتصديقها أكثر من العلاجات الطبية الحديثة. كانت نظرتهم للطب وللتكنولوجيا عموماً أقل احتراماً، لذا فإن أقرب مشفى كان على بعد مسيرة يوم كامل من كوينكا. من خلال النافذة كنت استمتع بمشاهدة الباعة المتجولين في المحطات التي يقف فيها القطار لمدة لا تتجاوز الربع ساعة على الأكثر. كان منظر المحطات بائساً لدرجة أنها توحي لك بالنعاس، ولولا مرور بعض الوجوه النمطية لخيّل إليك أنها مهجورة. كما أنها لم تكن تحتوي على لافتات تحمل أسماء تلك المحطات، عرفت ذلك من أسئلة السيدة كوربن التي كانت تتدلى من النافذة لتسأل المارة "أية محطة هذه؟" وما زلت أذكر تلك الفتاة النحيلة التي كانت تبيع في سطل تقليدي قديم عصائر بلون أحمر معلّبة في أكياس شفافة، عندما أشرتُ لأمي لشرائها، فتقدمت السيدة الفضولية لتنصحها بألا تفعل لما قد تسببه المشروبات الباردة عليّ وعلى حالتي الصحية، ورغم اقتناع أمي بكلامها إلاّ أنني كنتُ قد وصلتُ في كراهيتي لهذه السيدة إلى مراحل متقدمة جداً يصعب معها أن أتقبل منها نصيحة، أو أن أهزم أمامها وأمام نصائحها الفضولية، واعتبرتُ أن مسألة شراء المشروب المثلّج مسألة عائلية خاصة، ولم يكن أمامي سوى أن ألجأ إلى البكاء معتمداً على كوني مريضاً، ودائماً ما تنجح هذه الخطّة، فالمرضى لهم معاملة خاصة، وهم أكثر دلالاً من الأصحاء. ولكنني لم أكن لأعرف طعم ذلك العصير بسبب مرارة لساني. لا يهم فقد أحسست بنشوة الانتصار على أية حال.
لا أدري لماذا كان يخيّل إليّ أن السيدة كوربن كانت ترمقني بنظرات تبادلني فيه الكراهية من تحت نظاراتها الخفيفة. ظلت الحرب غير المعلنة بيني وبينها مستمرة حتى وصل القطار في ظهيرة يوم قائض إلى "كاتوشيا" حيث تجمع عشرات الرجال والنساء الذين قدموا للاستقبال. وكان ذلك آخر عهدي بالدفء الأمومي. كنت أشعر بحزنٍ ووحشة غير منطقيين وأنا أراقب تلك المشاهد الميلودرامية لأُسر حكم عليها الحرب بالانفصال والتشريد.
11-17-2006, 01:59 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_____________________ كانت لتلك الكلمات المحلية الحزينة، التي كانت أمي والنساء يتبادلنها وقعها المؤثر في نفسي رغم أني لم أكن أجيد اللهجة المحلية بشكل احترافي، حتى أنني كنت أكتفي بالإيماء ولغة الإشارة في كثير من الأحيان لدرجةٍ ظنّ فيها الكثيرون أنني أبكم. أعجبتني الطريقة التي يتحوّل بها الناس من حالة البكاء إلى الضحك ثم إلى القهقهة بدون تدرّجات تمهيدية. ولكنني عرفت فيما بعد أن ذلك يسهل التدرّب عليه. كان عمري حينها لا يتجاوز الثمان سنوات، وكانت ملامح الثراء التقليدية بادية عليّ كما على أمي التي لم تكن تجرؤ على خلع أسوارها الذهبية التي ينوء بها معصمها كأنها حارسة لمعبد بوذي، وكأن ذلك هو البرهان الوحيد الذي يثبت أنها قادمة من أرتكاتا بلد الألماس. ورغم أنني لم أكن أعرف سبباً واضحاً لضرورة أن تبرهن على ذلك، إلاّ أنني بالمزيد من الاحتكاك بالقبائل النوركية عرفت أنهم يهتمون بهذه التفاصيل إلى درجة بعيدة.
كان اللون الأصفر الشاحب هو اللون الأساسي في كل ما رأيته وما أتذكره من تلك المدينة التي تنتشر منازلها على مسافات متباعدة من بعضها تاركة مساحات واسعة كميادين يستغلها الأهالي للمناسبات. كنت وقتها قد تماثلت للشفاء بما يسمح لي بالسير بمفردي. "يا إلهي .. إنه ابن سارجينيو" كانت هي الجملة التي يقولها الجميع عندما تسقط أعينهم عليّ. عندها فقط تكشّفت لي خيوط المؤامرة الذكورية التي مارسها والدي عندما أصر على أمي بأن تأخذنا إلى أرتكاتا. لم أشأ أبداً أن يعاملني الآخرون على أنني "ابن سارجينيو" ولكنهم كانوا يفعلون ذلك بغبطة أهلنا البسطاء. وتحملت عشرات القبلات من نساء ورجال لا أعرفهم بأريحية غريبة. ورغم أن كل واحدٍ منهم كان يعرّفني بنفسه إلاّ أنني لم أكن مهتماً بذلك كثيراً. فقط كنت أقرأ في وجوههم سعادة لم تكن متكلّفة، وحياتهم البسيطة كانت سبباً في أن أترك خجلي جانباً وأسأل "أين الحمام هنا؟" دون أن أخبر أمي سراً برغبتي في التبوّل كما كنت أفعل دائماً عندما أشعر بالخجل من الآخرين. لم تكن ذكرياتي عن "كاتوشيا" ذكريات مثالية، ربما لأنني لم أمكث فيها غير يومين فقط كنا خلالهما في انتظار عربة تقلنا إلى "كوينكا" حيث نهاية المطاف.
كانت الرحلة أشبه برحلات الهجرة غير الشرعية التي كان يقوم بها البعض سراً إلى "لاميمبون" عبر الحدود الغربية، مستخدمين في ذلك وسائل النقل المختلفة. في إحدى جلساتهم المسائية على ضوء القمر، حضرت سيدة ما تزال تحافظ على ملامح أرستقراطية تركها اغتراب قديم لم ينتهي إلا منذ سنوات قليلة خلت، بينما كانت تمسك في يدها لفّة قماشية وضعت داخله بعض الهدايا التقليدية. قدمته لأمي التي حملتها بأريحيتها ووعدت بتسليم الهدية لصاحبها في "كوينكا".
.
11-18-2006, 04:28 AM
خضر حسين خليل
خضر حسين خليل
تاريخ التسجيل: 12-18-2003
مجموع المشاركات: 15087
الغالي الحبيب هشام انا اتذكر ليله من ذات ليالي صيف الخرطوم المتشظي كانت مجموعه من اربعه شباب بياكلوا في صحن فول في دكان ناصيه في الديم بعدين ياهشام جابو عيش كتير فجاءة العيش كمل يا اخوانا العيش مشاء وين فتشك فتشك اتخيل يا هشام الناس ديل لقو العيش تحت الصحن غايتو حسب الفي راسهم نفضوهو من التراب وواصلو اكل وضحك.
11-18-2006, 09:55 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
خوفي يا ياسر أكون أنا منهم أصلو بعيد عنك ذاكرتي بقت تعبانة وبحاول أجددها لي فترة
لكل منّا يا عزيزي قصة يعرفها ولكنه لا يحكيها فقط اجلس في هدوء ورتّب شريط ذكرياتك حسب الأسبقية ستجد أنّ لديك مخزوناً كاملاً من السينما المتحركة صور وأصوات وروائح وأشخاص وألوان وضوء وظل
أشكرك على المرور من هنا يا عزيزي
11-18-2006, 09:20 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_________________ تحدّث الجالسون عن قضايا لم تكن ذات أهمية لدي، كانت أغلبها تدور حول موتى فارقوا الحياة فترة غياب أمي عن كاتوشيا ورحيلها مع زوجها إلى أرتكاتا، وأناس هاجروا إلى بلاد بعيدة وانقطع ذكرهم بعدها، وأخبار الزيجات الحديثة التي وقعت مؤخراً، ونتاج بعضها الذي أسفر عن مواليد جدد. بينما كنت منهمكاً في مراقبة ورل ضخم كان يحفر لنفسه بكل همّة حفرة في منطقة رملية قريبة. ظننته تمساحاً في بادئ الأمر، غير أنّ أحدهم ربّت على كتفي مطمئناً وهو يقول "إنها المرة الأولى التي ترى فيها حيواناً كهذا .. أليس كذلك؟" وابتسم ابتسامةً جعلتني أخشاه. في اليوم التالي كان جورجينيو أمادو قد وصل في الصباح الباكر بعربته الأشهر على الإطلاق في المنطقة مطلقاً أبواقاً موسيقية لا أزل أتذكرها حتى اليوم. كان أهل القرية يعرفون كل سائق من صوت بوق سيارته، بل وإن الأطفال كانوا يتبارون في محاكاة تلك الأصوات الموسيقية بأفواههم. وكسيدة أرستقراطية تقدمت أمي لتركب في المقعد الأمامي بجانب السائق حيث لا يسمح لغير الوجهاء بالجلوس، بينما أخذ الجميع يفرشون حصائرهم في حوض العربة الخلفي. كانت السيدة كوربن بينهم، الأمر الذي جعلني أشعر بشيء من الشماتة تجاهها. كانت البادرة الأولى واليتيمة التي تحسب لها، أنها عرضت على أمي أن تأخذ أختي جوانيتا وتجلسها معها في الحوض. في مرحلة عمرية متقدّمة عرفت أنّ ما قامت به السيدة كوربن لم تكن إلاّ تقنية تربوية محترفة، فيمكن للبالغين معاقبة الأطفال بتجاهلهم والاهتمام بطفلٍ آخر. وما هي إلا دقائق حتى امتلأت الساحة بالمودعين، وامتلئ الحوض بالركّاب رجالاً ونساء وكأنهم نازحون أفارقة. هذا المشهد الاحتفالي يتكرر كل يوم أربعاء بذات التفاصيل تقريباً دون أن يقلل ذلك من أهمية طقوس الترحيب والتوديع لدى أهالي كاتوشيا.
غرقت قبعات الرجال ومناديل النسوة المودعات مع عليّات البيوت وهي تغيب عن الأنظار وتتلاشى تحت خيط شفقي أحمر، بينما اتجهنا شمالاً إلى كوينكا عبر وادي غوادا لاخارى الحجري الذي كان الأسلاف يعبرون خلاله بقطعان خرافهم إلى مراعي السافانا الخصيبة بينما يستحيل الوادي إلى مجرى نهري جارف خلال المواسم المطرية التي تستمر في بعض الأحيان لأكثر من ثلاثة أشهر. لم تكن بي رغبة فضولية لمراقبة الطريق ومعرفة معالمها ، لذا فإنني لم أر بيوت قبائل البتشو المنحدرة من أصول قوقازية، ولا جبل "عين الشمس" الذي تنفذ الشمس فيه من خلال ثقب هائل في قمته، بل قرأت عنها من رحلات بياتوس ودمنغو فيما بعد.
.
11-18-2006, 11:30 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
___________________ كنت أتعجّب لمقدرة أمي الغريبة على النوم مع حركة العربة المزعجة التي تسببها وعورة الطريق. كان يخيّل إليّ في كثيرٍ من الأحيان أننا في هودج على ظهر جمل عربي، يزيد من هذا الشعور قماشة حمراء منتهية بضفائر مخملية مطرّزة تتدلى من سقف كابينة القيادة يستخدمها أمادوا كزينة لعربته. واستيقظت أمي مذعورة لترسم بيديها علامة الصليب في ميكانيكية تعبّدية خاشعة عندما صاح أمادو فجأةً " لورِد"[1] كنت لا أعرف سر الخشوع الذي هبط فجأة على الاثنين وهما يطلان بنظراتهما على مكانٍ ما في الخارج. أخرجت رأسي من النافذة لأرى، وأنا ابتسم للعدوى الفضولية التي يبدو أنها انتقلت إليّ من السيدة كوربن. لم أجدى سوى صرح شبه هرمي عليه علامة الصليب، كان يبدو لي كدير لم يوفق بانيها في اختيار المكان المناسب. التفت إلى أمي لأجدها ما تزال في خشوعها الكاثوليكي فسألتها " ما هذا المكان؟ " فأشارت لي بيدها بأن أصمت. ابتسم أمادو وجذبني من ذراعي إليه، وجعلني إلى جواره:
- سوف أحكي لك يا بني .. يقال أن مراهقة كاثوليكية تدعى بيرنيدت سوبيروس أتت إلى غار ماسيبيل[2] - الذي تراه أمامك هناك - معتزلةً الناس والحياة، وطالبت السيدة العذراء بالمثول أمامها إن كانت تستطيع أن تفعل ذلك. - وهل ظهرت لها السيدة العذراء حقاً؟ - أظن ذلك؟
ورغم أنني كنت أعشق القصص من ذلك النوع الذي يتناول سيرة الغابرين والأسلاف، إلاّ أن رواية أمادو هذه كانت محبطة وتنقصها الكثير من التفاصيل، فلجأت إلى خيالي الطفولي لإضافة المزيد من المؤثرات لقصة أمادو المبتورة.
رغم خصوصية الجلوس في كابينة القيادة الأمامية، ودلالاتها البرجوازية؛ إلاّ أنني لم أكن مرتاحاً لذلك، فلم يكن بوسعي أن أتمدد أو أن أتحرّك أية حركة دون أن ترمقني أمي بنظراتها المتشددة، إذ كانت حريصة كل الحرص على أن نبدو في شكل مهذب أمام الآخرين لا سيما الكبار، وكنت أجاهد كثيراً لأحقق لها هذه الرغبة، غير أنها لم تكن تلاحظ إلاّ الهفوات النادرة.
في مكان ما توقف أمادو وأطفأ محرك سيارته، وأعلن استراحة لنصف ساعة. ترجلنا وبدأ البعض بمطّ جسمه المنكمش بفعل الزحام، بينما جثا البعض على ركبهم غير بعيد للتبوّل. كان البرد قارصاً لدرجة أن الرجال كانوا ينفثون من أفواههم أبخرة كأبخرة التنانين الأسطورية، بينما لفّت النساء وجوههن بمحارم قطنية. كانت تعجبني فكرة خروج الأبخرة من الأفواه فولّدت لدي رغبة انحرافية، فكنت أضم سبابتي والوسطى كما يفعل المدخنون المحترفون وأتظاهر بالتدخين. أشد ما أعجبني أنني لم أكن أخاف من أمي وأنا أفعل هذه الحركات. كانت جوانيتا تتوسل لأمي بأن تأخذها معها إلى كابينة القيادة، ليس لنزعة برجوازية، ولكنها - على ما يبدو - ضجرت من مرافقة السيدة كوربن. وأعجبني موقف أمي الصارم، رغم أنني كنت أشفق على جوانيتا أيّما إشفاق. تجمّع البعض في حلقات وبدأوا يتسامرون ويطلقون ضحكات كانت تهتك سكون المنطقة الموحشة. راح أمادو في كل ذلك يرتشف قهوته المسائية من حافظة كان يخبأها معه. كنت استغرب إدمان البالغين على القهوة والشاي وهذه المنبهات التي لم استسغ طعمها يوماً. كان يخيّل إليّ أنها مخصصة للكبار فقط، وأن تناول كوبٍ من الشاي الساخن هي إحدى دلالات البلوغ الأساسية. نحن - الصغار - كانت أمهاتنا يبرّدن لنا الشاي بعملية تكرير مضجرة وأحياناً بإضافة بعض الماء البارد عليه.على أي حال فأنا لم أشرب كوب شاي في حياتي؛ كنت أؤجل هذه المهمة لحين أكبر.
من جهةٍ ما سمعنا صوت فتاة عشرينية وهي تكيل لأحدهم الشتائم، عرفنا فيما بعد أنه حاول التحرّش بها بينما كانت تتبول. خيّم - عندها - سكون متوتر على المكان فيما كان البعض يتندّرون بهذه الحادثة ويتغامزون فيما بينهم. أحسست بشفقة ساذجة تجاه الفتاة عندما عاقبتها أمها بصفعة قوية وحكمت عليها بملازمتها طوال الرحلة. لم أعرف سر هذه العقوبة التي أوقعتها الأم على ابنتها الضحية، في حين اكتفى الجميع بتقطيب جباههم للجاني، واستيائهم الذي زال بعد دقائق معدودة. هذه الحادثة جعلت بقية النساء يطبّقن ذات العقوبة على بناتهن. شعرت بأنهن كقطعان ضأنٍ لا حيلة لها غير مصادقة الذئاب التي تمارس دوراً مزدوجاً: حمايتها والتهامها في آنٍ معاً !!
______________ [1] Lourdes صرح مخصص للحج إلى السيدة مريم العذراء أنشأ في عام 1858م [2] Grotto of Massabielle
11-19-2006, 02:30 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
____________________ بمزاجية متعالية نهض أمادو وهو ينفض عن بنطاله ما تعلّق به من تراب وهو يقول بطريقة آمرة "انقضت النصف ساعة .. فليستعد الجميع" ربما لم تنقضِ النصف ساعة تماماً، فقد كان حساب الزمن بالنسبة إليه مسألة تقديرية. أخذ الجميع مواضعهم مرّة أخرى، ثم انطلقنا بذات الهدوء القاتل والبرودة التي كانت تتسلل داخل ملابسنا الداخلية دون خجل. ظللت مستيقظاً طوال الطريق. منعني من ذلك أمادو الذي كان يغني بصوته القبيح أغنية شعبية لم تطربني كثيراً، واهتزاز العربة الذي لم يكف حتى وصلنا إلى كوينكا فجر اليوم التالي. أول ما رأيته كنّ نساء يحملن دلاء الماء الصفيحية فوق رؤوسهن وهن يراقبن مرورنا من على البعد. وبطريقة احتفالية بدأ أمادو يطلق أبواقه الموسيقية في إشارة إلى وصولنا. استيقظ الجميع على صوت الأبواق، وأخذوا ينظرون من حولهم كأنهم يبحثون عن شخص ما بعينه. كنت أرى في عيني أمي حنيناً مهذباً وهي تلتفت يميناً وشمالاً، جعلني ذلك أحس بأنني أنتمي لهذا المكان بطريقةٍ ما.
ما إن سمعوا صوت الأبواق حتى بدأ الناس يخرجون من البيوت. وبطريقة لا تخلو من تعالي أيضاً ظلّ أمادوا يدور بعربته في شكل دائرة كبيرة، قبل أن يتوقف تماماً في ساحةٍ رملية. ذات المشاهد الاحتفالية في كاتوشيا تكررت مرّة أخرى في كوينكا. كنت قد بدأت أشعر بحنين منقطع النظير لأرتكاتا، وتمنيت أن يكون ما أراه حولي مجرد حلم عابر. تفاصيل الاستقبال والكلمات المتكررة والقبلات والنظرات الفضولية والتعليقات الساذجة كانت مرهقة إلى حد الضجر. أخذت جوانيتا تبكي عندما أهملتها أمي وتركتها محاصرة بين فتيات ذوات منظر بشع، بينما كنت محاصراً بفتيان لا يرتدون غير شورتات وفنايل داخلية متسخة. عرفت فيما بعد أن أكبرهم سناً كان خالي سانتياغو إميليو الذي أراه للمرة الأولى. لم أشعر تجاهه بغير ما شعرت به تجاه البقية. كان الواجب الأكثر قداسة هو إلقاء التحية لكبار السن لا سيما أورفل بودن الذي كنت أخشى مواجهته حاملاً جرم والدي في حروف اسمي، غير أنه كان لطيفاً على عكس ما توقعت. كان قاصاً مغموراً، أو معروفاً في نطاق أرتكاتا فقط. وسمعت أنه ألّف رواية "ما وراء النهر" التي لم أكن قرأته بعد آنذاك. بالإضافة إلى كونه قسيساً في كنيسة القيامة. فوجئت عندما عرفت أنه متزوج من امرأة أخرى تدعى يواماريز روجيليو، أصغر سناً وأجمل قليلاً من سوليداد فيدل. كانت تلك أول مواجهة لي مع جذوري العرقية، وعرفت فيما بعد أن أورفل بودن بتعدديته قد استعدى شريحة واسعة من النوركيين الذين لم يقروا يوماً مسألة تعدد الزوجات هذه، لذا فإن سوليداد جهزت حقائبها وأخذت ابنتها الصغرى دايمتا أورفل، وغادرت كوينكا إلى توليدو حيث تقيم بناتها مع أزوجهن.
كانت توليدو مستعمرة للنازحين من جحيم الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1936م واستمرت لثلاث سنوات، عانت فيها قبائل النورك أشد حالات الجوع إذ كانوا يأكلون ثمرة البرتقال للغداء بينما يتعشوّن بقشره ليلاً. فيما بعد أصبحت توليدو ذائعة الصيت، كما أنها كانت مقراً لأبناء وبنات أورفل بودن المتزوجين منهم وغير المتزوجين، فلم يكن أحد ليطيق مزاجيته وعصبيته. بعض أفراد الأسرة الأورفلية المنادين بالوحدة الأسرية وجهوا انتقاداتهم لسوليداد فيدل التي قسمت الأسرة برحيلها إلى شقين بينما أوعزوا ما فعلته إلى أنها محض غيرة نسائية غير واعية. وكان أورفل القسيس قد أنجب من سوليداد وحدها سبعة أبناء. كان أبي أكبرهم ثم تيرا أورفل المتزوجة من ابن عمها والتي تعيش في توليدو منذ أيام زواجها الأولى. ثم كيوريدا أورفل العشوائية التي تزوجت رجلاً قصير القامة من خارج نطاق العائلة، وأقامت معه في توليدو أيضاً حتى قبل سنوات الحرب الثلاث. كانت العمة كيوريدا الوحيدة التي مارست التوتمية[3] في عائلة أورفل. واعتبرتها العائلة أول مارقة على النظام الأورفلي الصارم. ثم دوليسينيا أورفل الوحيدة التي بقيت في كوينكا بجانب والدها، ليس محبة له، بل طاعة لزوجها الذي كان يعمل في النقل النهري هناك. ثم سلفادور أورفل عازف الأورغن والمولع بالموسيقى وبحياة الترف. ثم سانتوس أورفل الأكثر شعبية بين أبناء أورفل. كان صاحب نكتة، ومرحاً إلى الحد الذي يجعلك لا تصدق أنه أورفلي على الإطلاق. وقيل أنه توفي مسموماً عام 1989م وهو أول من توفي من أبناء أورفل بودن. وأذكر أن وفاته كانت أكبر فاجعة تلقاها الأورفليون على الإطلاق. وأخيراً دايمتا أورفل التي سوف تكون لي معها قصة عدائية طويلة فيما بعد. ومن يواماريز روجيليو أنجب أورفل أربعة أبناء هم: الدكتور زينون أورفل الذكر الوحيد بين ثلاثة إناث، ثم أدونيسا التي أصيبت بسرطان وتوفيت به عام 1999م، وإيميرالد وإسبرانزا وهيرمينيا.
___________________ [3] التوتم Totem هو في الغالب حيوان أو نبات يوجد اعتقاد جازم لدى القبائل البدائية أنها من نسله. والتوتمية نظام أسري للقبائل البدائية، يعتقد أنها كانت البذرة الأولى لتحريم الزواج من المحارم. إذ يحرّم النظام التوتمي لقبيلة توتمية معينة الزواج من نفس قبيلة التوتم.
.
11-19-2006, 04:41 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
هؤلاء كانوا مجرد أسماء أقرؤها على شجرة العائلة، ولم أكن أعرف أحداً منهم قبل زيارتي التاريخية لكوينكا فيما عدا العم سلفادور الذي كان يعيش معنا في أرتكاتا حتى وفاة سانتوس أورفل. كانت مهمتي الصعبة تكمن في التعرف على أفراد العائلة، بل وأن استشعر تجاههم بالعاطفة الأسرية التي لم يكن لها وجود يذكر. كان الفتيان الذين ما زالوا محيطين بي يرمقونني بنظرات لم أستطع تفسيرها على نحو منطقي، وكأنني كائن فضائي ذو ملامح بشرية. ولم يبعدهم عني غير صوت الجد أورفل بودن وهم يتقدم إليّ بعرجة خفيفة سببها له النقرس، متأملاً في تفاصيل وجهي الذي يراه للمرة الأولى. وبميكانيكية أبوية قبّلني قبلة واحدة وهو يتساءل:
* أهذا هو كاسبر؟
ثم تقدمت يواماريز روجيليو التي بدت لي أطيب بكثير من سوليداد، فلم تكن عيناها تحملان نظرات المكر التي كانت تحملها عينا سوليداد. لم أعرف حينها الدافع الحقيقي وراء احتفائها بي. لم أستطع أن أحدد ما إذا كانت أحبتني فعلاً، أم أنها ادعت ذلك لإرضاء أورفل. هل كانت فعلاً فرحة لرؤيتي، أم كانت تريد فقط أن تظهر لأورفل أن باستطاعتها أن تحب أبناء أورفل من زوجته الأخرى. فيما بعد اكتشفت أن شفتيها لم تكونا رطبتين كما شفتي سوليداد، غير أن لها ذات الرائحة.
دخلت منزل العائلة الكبير، وأنا أحس أنني أعبر من خلال بوابة زمنية إلى عالم قديم، كرّس ذلك الشعور الغبار المتواجد بكثرة على كل شيء. كنت أبحث عن أمي بين الجموع ومن عيني تتقافز نظرات وجلة ومترقبة، عندما فاجأني أحدهم بجملة ناصحة اعتبرتها أمراً "اذهب والعب مع الأطفال بالخارج" كان الصبية يجمعون بعض النقود لدخول المسرح المتنقل الذي يقام كل صبيحة عيد الفصح. فوقفت متفرجاً دون أن أبدي أي رغبة في المشاركة. تقدّم إليّ سانتياغو إميليو وخاطبني بنبرة أكثر جدية "هل تملك نقوداً" عندها تذكرت تلك العملة المهترئة التي خبأتها جدتي سوليداد في جيبي بسرية، شعرت بالخجل من الإنكار ومن الاعتراف. غير أن الاعتراف بحمل عملة بائسة كان أخف وطأة من الإنكار الذي يعني فلس الثري، وكان ذلك طعنة لكبريائي الأرستقراطي المفترض، فأخرجت العملة الورقية على مضض وناولتها إياه. فاكتشفت على الفور أن ما كنت أحمله في جيبي بإهمال كان عملة بالغة القيمة لدرجة أن الجميع أعادوا نقودهم إلى جيوبهم. كانت العملة التي أحملها كافية لدخولنا جميعاً للمسرح المتنقل ولشراء مرطبات باردة أيضاً. عندها أحسست بالفخر تجاه سوليداد، وعندها فقط عرفت مقدار محبتها الحقيقية لي.
أطفال كوينكا يتمتعون ببراعة حرفية عالية، إذ يصنعون عربات صغيرة من صفائح الزيت الفارغة، بينما يبحثون في مكب النفايات عن أحذية قديمة يصنعون منها الإطارات. ثم يضعون عصا طويلة منتهية بحلقة دائرية كبيرة مثبتة على العربة تتحكم بتوجيهها. كانت تروق لي كثيراً تلك العربات التي يصنعونها بأنفسهم، وقد بدا ذلك عليّ لدرجة أنّ أحدهم أهدى لي واحدة منها، كانت هي البداية الحقيقية لكسب علاقات ذات طابع حميمي مع البعض. وقت الظهيرة بينما ينام البالغون، كان يتجمع الصبية في ساحة قريبة وبيد كل واحدٍ منهم عصا عربته، ثم ينطلقون إلى ضفة نهر كويربو . كان منظر النهر بمياه الصافية المنسابة في خيوط دقيقة كأنها خيوط عنكبوت بارعة، كان مغرياً إلى حد يجعل الصبية يقررون في كل مرّة السباحة بعيداً عن رقابة الكبار الذي كانوا يحظرون السباحة على الأطفال. ولأنني لم أكن أجيد السباحة فقد كنت أكتفي باللعب بالماء في المنطقة الضحلة من النهر قرب الضفة التي تنتشر عليها حصوات كبيرة ملساء وكأنها بيوض طائر خرافي. كنت وما أزال أخاف من السباحة في الماء. يخيّل إليّ أنني كقطعة الإسفنج، ولم أتعلم بعد تقنية الطفو أو الإبصار تحت الماء. حتى أنه ما تزال تتملكني مخاوف غير مبررة من المخلوقات المائية. في المساء، حين يحل الظلام، كنا نقضي الوقت في ساحة رملية واسعة أمام منزل الجد مانويل إميليو (جدي لأمي) المستقر في أرتكاتا. يعيش في هذا المنزل خالاتي: يومايريس وإلدورا إميليو إضافة إلى جدتي لأمي ماريابيلا تانكريدو. لا أذكر أن لي مع إحداهن ذكريات تذكر، وهكذا كان الحال مع أقربائي من جهة أمي. كان الخال سانتياغو إميليو يشرح لنا قواعد لعبة "عيون النمر" إذ يأخذ عظمة حيوانية قديمة ويرمي بها بشكل عشوائي بينما ندير ظهورنا إلى الناحية الشمالية، ثم نبدأ البحث عن العظمة الضائعة معتمدين على ضوء القمر فقط.
.
11-19-2006, 10:12 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_____________________ كوينكا هذه المدينة الجبلية المسكونة بالأرواح الشريرة كما تروي ماريابيلا تانكريدو، لم تكن تبدو مخيفة إطلاقاً إذا استثنينا الأصوات الغريبة التي تسمع ليلاً من وادي لاس توركاس. وفي حين تتفق روايات نساء كوينكا على أنها أصوات الأرواح الشرير المحبوسة في مكانٍ ما من الوادي، فإن قلّة من الناس توعز هذه الأصوات إلى مرور الرياح على الوادي الذي على شكل مخروط مقلوب. تقول ماريابيلا أن أرواح شهداء الحرب الأهلية المدفونة في وادي الشهداء القريب من الأسكوريال تنتقل ليلاً عبر وادي الريسكو دي لانابا والأودية الأخرى المترابطة كأنها حلقات سلسلة عملاقة، في ثورة غاضبة لا سيما أولئك الذين فصلت رؤوسهم عن أجسادهم. وتقول أن كاهناً قد حاصرهم وحبسهم في وادي لاس توركاس حيث مصدر الصوت بعد أن رفضت أن تسكن في تمثال ضخم نُصب خصيصاً لهم - حسب رواية الجدة تانكريدو - وكانت هذه الرواية متداولة بكثرة لا سيما بين أطفال كوينكا الذين لم يكن يسمح لهم بالخروج ليلاً لأي سبب كان.
ما زلت أذكر ملامح العم سانتوس الذي لم أشهد أيام شقاوته التي كان والدي يتندر بها دائماً. كانت ملامحه توحي بدفء محبب كأنه شخص تعرفه منذ زمن بعيد. يومها عندما ذهبت أمي مع العمة كيوريدا أورفل إلى عزاء أسري تركتني ومورس لونيل في عهدته. وبينما كان منهمكاً في عزف مقطوعة موسيقية شعبية على جهاز البيانو الضخم الذي يحتفظ به في غرفته، وسوس لي مورس لونيل أن نقتفي أثر أمهاتنا، ليس لشيء سوى كسر الأوامر وخلق مغامرة من نوعٍ ما. كان مورس لونيل القادم مع والدته - العمة كيوريدا أورفل - من توليدو قد سبق له زيارة كوينكا من قبل، الأمر الذي جعلني مطمئناً إلى أنه يعرف المنطقة بشكل جيد. في طريقنا إلى أبيلا مررنا بحرش أوسيكبو الذي يعتبر محمية الغزلان الأكثر شهرة على الإطلاق في المنطقة. وبعد مسيرة نصف ساعة على الأقدام وصلنا إلى مقبرة في أطراف أبيلا. كانت شواهد القبور الحجرية المنتهية بعلامات الصليب توحي لي بأن الموتى يخرجون لنا ألسنتهم الخشبية من باطن الأرض. كانت المقبرة موحشة وتدعو للقشعريرة. أحسست بشعر رأسي يقف كأشواك قنفذ متحفّز لقتال. كانت ثمة رائحة غريبة تنبعث من المكان. خيّل لي أنها رائحة الموتى أو ربما كانت رائحة الموت نفسه. وفي جانبٍ ما من المقبرة وقف عشرات الرجال والنساء المتشحون بالسواد وهم يستمعون إلى تلاوات قسيس جاد الملامح ذو لحية بيضاء جعلتني أشعر تجاهه برهبة غريبة. وأمام الجميع تابوت خشبي مكشوف الغطاء، يرقد بداخله في سلام رجل لم نتمكن من رؤيته، لا يزعجه صوت القسيس المحشرج، ولا أشعة الشمس التي تسقط عامودية عليه. كانت ثمة تفاصيل جنائزية حريّة بالمشاهدة،لذا وقفت أنا ومورس لونيل خلف شجرة بلّوط نراقب مراسم الدفن بكل انتباه، حتى اكتشفتنا عينا امرأة لم تكن منتبهة لتلاوات القسيس على ما يبدو. عادت بنا أمهاتنا متوعدين إيانا بعقوبة بالغة القسوة. كانت فكرة الضرب في حد ذاتها ليست مخيفة بالنسبة لي، إذ كنت معتاداً عليه من أبي، ولكنني خشيت أن يفقدني الضرب هيبة واحترام الزائر الجديد لذا فقد كنت أحاول طوال الطريق أن أوجد مخرجاً من هذا المأزق. ولم تخطر ببالي أية فكرة منقذة إلا أمام العم سانتوس الذي تلقى إهانات بالغة من أمي ومن العمة كيوريدا لإهماله في رعايتنا أثناء غيابهما. وبطريقة حازمة اقتادنا إلى غرفته وجلس على سريره وأمرنا بالجلوس أمامه. كان كالقاضي الذي يستمع إلى المتهمين قبل إصدار الحكم. سألنا بغضب "ألم أحذركم من الخروج؟" كانت نظراته لي تحمل - بالإضافة إلى الغضب - عتباً من النوع الذي يعني خيبة الأمل. فنطق عفريتٌ ما على لساني:
* لقد غرر بي مورس. كان يصر على الذهاب بينما كنت أمنعه من ذلك، فغافلني وخرج. وعندما خرجت وراءه لأثنيه عن ذلك لم يستمع لي. وبينما أسير وراءه رأيت أيلاً في حرش أوسيكبو تضع مولودها. شدني المشهد الذي كنت أراه للمرّة الأولى. ولأن عملية ولادة الأيل استغرقت وقتاً طويلاً لدرجة كانت كافية لأن أنسى ما كنت بصدده. وهذا ما حدث بالضبط. والرب يشهد على ذلك.
كانت هذه أول كذبة أتذكر تفاصيلها. ورغم أنها كانت ساذجة وسيئة الحبكة إلاّ أنها راقت للعم سانتوس كثيراً، واعتبرها كذبة خلاّقة مقارنة لطفلٍ في مثل سني. وكان مورس لونيل ضحية هذه الألمعية إذ تحمّل العقوبة وحده. بالنسبة لي كانت كذبة شديدة الحبكة، ومترابطة لدرجة أنني شعرت بالفخر، وربما كانت تلك البذرة الأولى لموهبة التأليف والسرد القصصي، غير أني لم أعتبرها كذلك حينها، فقد كان الغرض منها هو التملّص من عقوبة وشيكة ليس إلاّ.
11-20-2006, 02:15 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
__________________ أمسيات كوينكا هادئة في الغالب ما عدا تلك الأمسية التي سمعنا فيها صراخاً أنثوياً قادماً من ناحية غربية. للوهلة الأولى اعتقدت أنها سيدة لربما تعرضت لهجوم من إحدى الأرواح الشريرة، لا سيما وأننا كنا نتحدث عن الأرواح الشريرة تلك الأمسية، وبدا لي هذا الاعتقاد راسخاً لدرجة لم أشأ فيها الخروج لمعرفة الحقيقة. ما دفعني للخروج هو عزم الجميع على معرفة مصدر الصوت. فخرجت معهم لأنني خشيت أن أمكث وحدي. كان الصوت ما زال مسموعاً من ناحية ما. سرنا بموازاة نهر كويربو. كنت خائفاً من رؤية هذه المرأة المصابة بالمس، بل كنت أشعر أن الروح الشريرة التي دخلتها سوف تتركها وتدخلني لمجرد رؤيتي. في حالات الخوف لا يكون هناك إحساس جمعي. الخوف إحساس فردي وحالة ذاتية جداً. كانت صرخاتها تتعالى كلما اقتربنا من مصدر الصوت. وبينما كنت بالكاد أحرّك قدمي، كان الجميع يحثون الخطى. تملكني الخوف بصورة مفزعة. وأخذت أركض حتى ألحق بهم، فلم أكن أشأ أن أتخلف عنهم بمسافة طويلة.
عندما وصلنا إلى مصدر الصوت، كنت أتحاشى رؤية المرأة الممسوسة رغم فضولي الشديد لرؤية ما يجري. وعندما صاح أحدهم "لقد غرق فرانكلين" تبخرت مخاوفي فجأة، وانقلبت دون تدرج إلى شعور بالشفقة. عندها تجاسرت ورفعت بصري إلى المرأة التي كانت تقف على حافة النهر. كانت تحمل الماء بكفّيها وتسكبه على رأسها بهستيريا مخيفة وهي تقول "فرانكلين يا حبيبي لا تمت .. أرجوك" ولكن فرانكلين لم يسمع نداءاتها تلك. كانت تعلّق بصرها بنقطة ما في نهر كويربو الهادئ وقتها. خمّنت أنها النقطة التي رأت فيها فرانكلين آخر مرة. شعرت بغضب شديد تجاه النهر، وكرهت السيولة التي تبتلع أجساد البشر هكذا دون أن ترحم أحداً. كان هدوء النهر مستفزاً . لقد ابتلع النهر جثة طفلٍ لم يكمل عامه التاسع بعد. ربما كان أحد الصبية الذين التفوا حولي عند قدومي الأول لكوينكا. الرجال الذين خلعوا ملابسهم على إحدى الصخور العملاقة، عادوا جميعاً بعد أن قلبوا النهر رأساً على عقب بحثاً عن جثة فرانكلين. قال أحدهم بصوتٍ لاهث "ربما جرفه التيار إلى مكانٍ بعيد." تلك المرأة المفجوعة لم تكن تهتم كثيراً لتحليلاتهم طالما أن وليدها ما زال مفقوداً في هذا النهر الراقد في خبث أمامها. كانت تضرب بكفيها الماء. كنت أتساءل : ماذا لو كان النهر بذلةً جميلةً لوحشٍ بشع لا يتغذى إلاّ على لحوم البشر؟! هذه الحادثة جعلتني أكره المسطحات المائية وأتخذ منها موقفاً مبدئياً. كما كانت تفعل السيدة ، فقد علّقت بصري بتلك البقعة الساكنة من النهر، أترقب أن يخرج أحدهم منها رأسه. سواء أكان فرانكلين أو فرس النهر أو النهر نفسه.
وفي يأس مقيت ردد البعض عبارة مشيئية "لقد غرق الصبي وانتهى الأمر" كانت هي قاصمة الظهر بالنسبة للسيدة النائحة. وبينما بدأ الجمع بالعودة إلى منازلهم، كان قلّة منا فقط وقفوا لإقناع السيدة بنسيان الأمر. كنت أتساءل "ترى أين زوجها؟" ولماذا خبت نار الحماسة فيهم فجأة؟ وكأن الأمر لا يعنيهم. ترى ماذا سيكون مصير هذه السيدة؟ لم أنتبه إلاّ عندما أمسك كروسفينو إميليو بيدي معلناً خاتمة لتراجيديا كانت قد بدأت للتو "هيا بنا إلى البيت" وبطريقة لا شعورية تملصت من يديه وأنا أقول ببراءة "ولكن القصة لم تنته بعد" فصرخ في وجهي بتعالٍ "ليست فرجة لتقول ذلك" وربما كان ذلك أول مرة أكتشف فيها غباء خالي وعجرفته. قلت له: "ولكن السيدة ما تزال تبكي" كان يخيّل إليّ أنها لن تبرح مكانها طالما أن ابنها لم يخرج بعد. كانت تلك أول تجربة موت أخوضها عن قرب. كان النيل بهدوئه المستفز يبدو كقاتل أجير يعيد ارتداء سترته المطرية ويغسل يديه بلا مبالاة. تمنيت أن لو فقأوا عيني المرأة المفجوعة حتى لا ترى قاتل ابنها حراً طليقاً أمامها دون أن يستطيع أحد أن يثأر لها منه.
ذلك اليوم لم أستطع النوم. كانت ذاكرتي تعيد عليّ شريط الحادثة المأساوية باستمرار. وكانت صرخات تلك السيدة ما تزال تسبح في فراغات مسامعي كأنها ذرات غبار عالقة في متاهة فضائية خارج نطاق الجاذبية. كنت أبكي، بينما كان البعض قد أخرجوا قوارير النبيذ، لا سيما العم سانتوس الذي كان يعشق احتساء النبيذ ومات به. لذا فقد كانت النسوة لا يسمحن لنا بالجلوس معهم، ونضطر إما لمرافقتهن وسماع أحاديثهن المملة، أو نلعب في فناء المنزل المليء بالحشرات، ألعاب سرعان ما كنت أضجر منها. كانت أمي والجدة ماريابيلا تانكريدو تتسامران عندما دخل أحدهم دون أن يطرق الباب لاهثاً ليفتح الباب على مصراعيه سامحاً بدخول آخرين يحملون على أكتافهم شاباً مصاباً.
كان هذا الشاب هو جرسفندور رسل ابن العمة تيرا أورفل. قيل أنه لدغته أفعى سامة. أسرعت النسوة وجلبن بعض القطع القماشية وربطوا بها فخذ جرسفندور الذي كان يتصبب عرقاً غزيراً. بينما راح أحدهم يفتح جرحين غائرين بمحاذاة اللدغة. كنت أشاهد بصعوبة بالغة إجراءات عملية استخراج السم من قدم جرسفندور القادم إلى كوينكا لقضاء العطلة السنوية. وضع المعالج مادة بيضاء على الجرح فما كان إلى أن أوشك جرسفندور أن يقفز من مكان لولا أن أمسك به الشباب بقوة، وما هي إلا دقائق حتى خرجت مادة صفراء مسودة كأنها سكر محروق وهي تفور محدثة فقاعات هوائية على جلده. ثم غطّ جرسفندور بعدها في إغمائة عميقة.
كانت أفاعي أحراش أوسيكبو المرقطة تثير خوف النوركيين في قرية كوينكا إذ كانت تهدد حياة أبنائهم بالخطر كلما اضطروا لعبور الحرش إلى القرى المطلة على جبال السييرا نيفادا المغطاة بثلج لا يذوب على مدار السنة. وكان هو المنفذ الوحيد لكوينكا للعالم الخارجي، حيث أنها محصورة بين نهر كويربو غرباً وسلسلة جبال الرملة شرقاً. وما أثار دهشتي أنني كنت المذعور الأوحد في تلك الأثناء، إذ أن البقية كانوا قد اعتادوا على حوادث اللدغ تلك. كانت ثمة سيدة شاركت الشبان في تطبيب جرسفندور، وكانت تمسك بإحدى ذراعيه، بينما كانت جاثية على قدميها بطريقة قرفصائية، الأمر الذي جعل أطراف فستانها يتدلى دون أن تشعر هي بذلك سامحة لملابسها الداخلية بالبروز بوضوح لا يتكرر دائماً. كنت أظن أن الجميع منشغلون بلدغة جرسفندور، غير أن العم سانتوس أورفل كان قد لاحظ ذلك.
11-20-2006, 03:48 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
__________________ إيزابيل نيرون سيدة متزوجة وصغيرة السن، وربما كانت جميلة بحسب معايير النوركيين الكوينكيين. وهي نسخة مكررة من عشرات السيدات المتزوجات من رجال اضطرتهم ظروف المعيشة القاسية لهجرة كوينكا إلى أرتكاتا أو سيجوبيا أو ماربيا أو حتى إلى لاميمبون غرباً. تاركين زوجاتهم في كوينكا بعد أشهر قليلة من زواجهم. غالبيتهم لا يعود إلا بعد ثلاث أو أربع سنوات، ليتكشف أنه أصبح أباً لطفلٍ ذو عامين. وبعضهم يكتشف أنه أصبح أباً لأطفال غير شرعيين. لذا فقد كان الزنا ثاني أكثر ظاهرة متفشية في كوينكا بعد السُكر، وتعاطي النبيذ الذي يصنعونه محلياً بأيديهم. وكان صنع النبيذ من اختصاص رجال كوينكا، في حين كانت النساء يقمن بالأعمال الأكثر أهمية ونفعاً.
لم يكن تقييم النوركيين للزنا بمفهومه الديني جريمة أو خطيئة تجرمها الكنيسة، بل كانوا ينظرون إليه على أنه أمر أقل قليلاً من الطبيعي. ولذا فإنهم لم يكونوا يمارسونه في الطرقات. كان عليهم أن يخفوا ذلك، ولكنهم لم يتوجب عليهم أن ينكروه أبداً. وكما قد تجد أحدهم مرمياً بقرب المذبح بعد أن أسرف في الشراب. كذلك لم يكن الجنس لدى النوركيين خطيئة إلا عندما تكتشف. هذا الاكتشاف الاجتماعي ما جعلني أفهم سر عدم اكتراث الرجال بما فعله ذلك الوغد بالفتاة العشرينية أثناء رحلتنا إلى كوينكا.
.
11-20-2006, 08:21 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
______________________ ذكرياتي عن كوينكا منحصرة في إطار اكتشافي للعناصر الأساسية المؤثرة في الهيكلة الاجتماعية للنوركيين الذين ظلوا فيها ولم ينزحوا كغيرهم إلى أماكن أخرى. كذلك اكتشافي لموهبة الكذب التي أماط اللثام عنها العم سانتوس أورفل وباركها. في تلك المرحلة لم تكن لدي أي نزعة أدبية ، بل كانت مجرد مرحلة اكتشاف وتخزين لا شعورية. على المستوى الشخصي جداً كان الاكتشاف في حدّ ذاته لا يأتي إلا عبر مغامرة تتطلب الخروج قليلاً عن بعض التعليمات الأسرية الصارمة التي كان يفرضها علينا الكبار. ولم تكن نزعتي لحب المغامرة عملة صعبة، بل كان أطفال كيونكا جميعاً يشتهرون بحبهم للمغامرة وكسر التعاليم.
كان أورفل بودن - الأديب المترهبن - يحاول خرق قوانين الطبيعة البشرية بجعلنا نسخة متكررة عنه، متغاضياً عن الفوارق الجوهرية بين حقبتين متباعدتين زمانياً وثقافياً. لم تكن لدي نزعة إيمانية قوية عندما أصر علينا الذهاب إلى كنيسة القيامة، ورغم ما تثيره الكنيسة من رهبة في قلوبنا نحن الصغار، إلاّ أننا لم نستشعر يوماً جودة التراتيل التي كانت تتلى بصوتٍ كورالي شجي. فقط في لحظات الملل الحركي كنت أطيل النظر إلى اللوحات الجدارية الضخمة التي كانت تتوسط الكنيسة. كانت تعجبني الرسومات المتقنة لذلك الرجل الوسيم ذو اللحية السوداء والشعر الطويل المصلوب بكبرياء على صليب ذهبي فاخر ولم يغب على الرسّام أن يترك بعض التفاصيل الدرامية على النسوة والأطفال من حوله، وهم يبكون بقداسة.
لم أكن مواظباً على الذهاب إلى قدّاس الأحد الذي كان جدي يحاول أن يرغمنا على الذهاب إليه. ورغم ذلك فإن جدي لم يفتأ يقص علينا في كل مرة قصة أحد الأسلاف الذين سخّر له الرب ذئباً يمتطيه ويستخدمه في رحلاته القصيرة بين القرى الصخرية. كما حدثتني يواماريز روجيليو – زوجة أورفل الثانية – في جلسة ودودة عن الأورفليين الذين عرفوا منذ قرون طويلة بأن أطفالهم الأكثر سذاجة وجرأة في خوض المغامرات بين أطفال النوركيين، يظلون كذلك إلى أن يبلغوا سن الأربعين أو أقل قليلاً ليصبحوا قساوسة ورهبان بعدها. ورغم أن هذا الكلام لم يكن علمياً إلا أنها أكدت لي بنماذج كثيرة جداً على ما تقوله. وكان والدي إحدى هذه النماذج المصادقة لهذا الخط الأسري القديم.
فلم يعرف والدي درب الكنيسة إلا بعد أن أنجب زوريكا أختي التي تصغرني بأربعة أعوام. وسمعت من الجدة يواماريز والعمة التوتمية كيوريدا عن والدي قصصاً ومغامرات لم أكن لأصدقها لولا أنهن أقسمن بالرب وروح القدس على صدقهن. كما أن ثمة نسوة سردن عليّ ذات القصص فيما بعد. ما جعل صورة والدي المتدين تنكسر في نظري وتجعلني أؤمن بأن هنالك عهداً قادماً يتوجب عليّ أنا الآخر أن انتظره. حتى ماريو لوبيز اللقيط الذي عاش في كنف الجد أورفل بودن قارعاً لأجراس الكنيسة، الذي كان يظنه الجميع الأكثر ورعاً وتقوى، لم يكن ذا صلة وثيقة بالكنيسة وطقوسها، حتى يحكي أنه ذات ليلة تعلق بحبال الأجراس، فجلجلت الأجراس في غير موعدها. وأكتشف العامة أنه ثمل عندما أحاطوا به تلك الليلة، وجلده أورفل بسوط مصنوع من جلد البقر وأمر بحلق شعره. ومن يومها لم ينبت شعره ثانية. وصار ماريو حليق الرأس قارع أجراس الكنيسة نهاراً وعربيد بذيء اللسان ليلاً، إلى أن تجاوز عمره الأربعين وظهرت بعض الشعرات البيضاء على شاربه. ولم يتزوج حتى شاهده البعض يمارس العادة السرية خلف بنشٍ خشبي طويل داخل الكنيسة، عندها قام أورفل بودن بتزويجه من مطلقة لا تنجب. "بأمرٍ من الرب" هكذا قال أورفل للجميع.
11-21-2006, 09:20 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
______________________ كانت رحلتي تلك إلى كوينكا - والتي صادفت موسم حصاد التوت – ليست بذي بال على الصعيد الأسري، إذ أنني كنت في الثامنة من عمري، وما أن عدت إلى أرتكاتا حتى نسيت كل شيء، ما عدا ما اتسعت الذاكرة لحفظه إلى اليوم. كانت رحلتي تلك أشبه برحلة إلى عالم الموتى والعودة من جديد. إذ لم تكن كوينكا كأرتكاتا زاخرة بالسيارات والدراجات النارية والمباني الزجاجية وشوارع الأسفلت القاتمة. كان ريف كوينكا ساحراً ومخيفاً لكنه لم يستطع أن يحل محل أرتكاتا لدي. ولم تحل القيوط والراكونات الضخمة في كوينكا محل القطط الأليفة التي كنت أعشقها وأهوى تربيتها في المنزل، رغم اعتراض والدي على ذلك. لذا فقد كنت أشتاق إلى منزلنا في أرتكاتا وإلى سريري المصنوع من خشب الماهوجني المحروق بعناية. رغم أنني كنت سعيداً بابتعادي عن والدي الذي لم يأخذ من أورفل بودن غير عنفه وعصبيته المفرطة، بالإضافة إلى أنفه الكبير الذي كان علامة الأورفليين المميزة.
ذلك الصباح الذي أيقظني فيه ذباب لحوح قليل التهذيب، وصوت سقوط رفوف المطبخ الخشبية على قدم جوانيتا، لم يكن صباحاً اعتيادياً على الإطلاق، فقد كان آخر يوم لنا في كوينكا. كنت أشعر بسعادة غامرة وأنا أراقب أمي وهي تعد الحقائب لرحلة العودة إلى توليدو، بعد أن لفت قدم جوانيتا بشاشٍ طبي واستطاعت جدتي لأمي كفّها عن البكاء بصعوبة. كانت جوانيتا تخاف من منظر الدماء ورائحته، وكانت تبكي لرؤية الدم حتى وإن لم تستشعر الألم فعلياً. بينما لم أعر كل ذلك اهتماماً، وأنا أودع سانتياغو إميليو وبقية الرفاق الذين لم يكفوا عن مناداتي ب"القط الأرستقراطي". ونسيت أن أودع أورفل بودن عندما سمعت صوت أبواق عربة أمادو وهو يدور دورته الاحتفالية في الساحة العامة. وغادرنا كوينكا عصر ذلك اليوم، وحملت معي في جيبي خلسة بعض ثمار التوت التي لم أتذكرها بعد ذلك إلاّ عندما ساحت وتركت بقعة حمراء كبيرة حسبتها أمي جرحاً.
أول ما فعلته عندما وصلنا إلى توليدو أن ذهبت إلى سوليداد فيدل وقبلتها تقديراً وعرفاناً مني بما عرفته من محبتها لي بدليل العملة القيّمة التي اكتشفتها فيما بعد، وكانت سعيدةً بذلك أيما سعادة. كانت سوليداد تكره الأورفليين من غيرما سبب واضح عدا غضبها من أورفل بودن الذي تزوج عليها مخالفاً بذلك عرف الكنيسة الذي هو قسيسها الأكبر. وكانت ترجو من الرب ألا يجعلني نسخة مكررة من أحدهم، لذا فقد كانت دائماً تكرر جملتها المشهورة "إذا كنت تريد أن يرضى عنك الرب؛ فلا تكن أورفلياً صرفاً" كان ثمة سؤال يدور في ذهني ولم أجرؤ أن أطرحه على أحد: كيف وازن أورفل بودن بين حبه للرب وحبه للنساء؟
- نهاية الفصل الأول -
.
11-21-2006, 11:23 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
بعد عودتنا إلى توليدو، بدأ مانويل أوليوس - صديق والدي وزوج السيدة شارلوت كوربن، الفضولية التي رافقتنا في رحلتنا إلى كوينكا - بعمل الإجراءات الضرورية لسفرنا إلى أرتكاتا حيث ينتظرنا والدي هناك. وكان إخلاص أوليوس لوالدي سبباً في أن يحرص على أن يجد لنا حجزاً على متن طائرة ستقلع في اليوم التالي مباشرةً، في حين تحدث الآخرون عن امتلاء المقاعد على الرحلات الجوية تلك الأيام بسبب عودة الآلاف بعد انقضاء الإجازة والاستعداد لموسم المدارس. لا أستطيع أن أحدد علاقتي بالطيران بشكل قاطع، فأنا لا أخاف الصعود إلى الطائرة، ولكنني أشعر بالتوتر لحظة الإقلاع. كما أنّ هنالك سبباً آخر يجعلني لا أملك الجرأة الكافية لأعلن خوفي من الطيران صراحة، وهو أنني أخاف من الشعور بالعجز. لن يتبقى لي غير المشي على الأرض إذا أضفت على رهبتي من الماء والسباحة، رهبةً أخرى هي رهبة الطيران. على أي حال، فأنا لا أركب الطائرات كثيراً. ولكنني أستطيع أن أحدد علاقتي بأوليوس الذي لم يعجبني إخلاصه بتلك الطريقة المتعجلة، فقد كانت لي رغبة بالمكوث في توليدو لفترة أطول.
يناسبني الجو الملاحي العامر بالفخامة: الإشارات والرسومات الضوئية، وأصوات الرنين التحذيرية، وأقمشة المقاعد الوثيرة، وأرضيات الطائرة المكسوة بسجاد أحمر لم تلمسه الأقدام العارية. يخيّل إليّ أن ملاحي الطائرة يجدون متعة في المشي على تلك السجاجيد حفاة بعد انتهاء كل رحلة. ما لا يعجبني في الطائرة الوجبات التي يقدمونها لا سيما على متن الرحلات القصيرة. تذكرني بالوجبات التي تقدمها المستشفيات أو تلك التي تتناولها جوانيتا عندما تتبع الحمية، كلما أحست بسمنة مفرطة. وكانت لا تحس بذلك إلا عندما تضيق عليها ملابسها.
في تلك الليلة، ودعتني توليدو بطريقة احتفالية خاصة جداً جعلتني أضيف إلى قائمة الأشياء التي أخشاها اسماً جديداً عندما طلبت مني أمي باعتمادية كبيرة أن أشتري لها عسلاً من إحدى المتاجر القريبة. كانت تخطط أن تحمله كهدية لوالدي الذي يعشق العسل كالدببة الأسترالية. ولأنها كانت على قناعة كاملة بأن عسل أرتكاتا مغشوش ومزيد بالماء فإنها كانت ترى أن خير هدية تحمله لأبي من توليدو هو رطلين من العسل الطبيعي. وبخطوات مسئولة ومعتدة خرجت من البيت حاملاً معي وعاءً ذو غطاء خاص. وفي طريق العودة بعد أن اشتريت العسل الذي وضع لي فيه البائع بكرمٍ جم خلية شمعية من النوع النادر بعد أن أخبرته بأن هذا العسل سوف يذهب إلى أرتكاتا خصيصاً، وفي إحدى التقاطعات رأيت كلباً يقف بشموخ على صخرة هائلة بينما كان يرمقني بنظرات مريبة، وكأنه يحاول أن يقرأ ملامحي غير المألوفة لديه. وعلى طريقة الألمان بادر بهجومٍ غير مبرر، الأمر الذي جعلني أركض بهستيريا كمن يحاول الهرب من صاعقة سماوية من النوع المباغت. لم تكن أرض توليدو صالحة للجري المستقيم، فكانت الحفر والتعرجات التي تثخن الشارع تحول دون أن أفلت من بين أنياب ذلك الكلب النازي.
عندما بدأت أسمع صوت زفيره خلفي مباشرة بوضوح تام، كأنه تنين همجي جائع، عندها بدأ الأدرينالين يرتفع لدي، وأدركت بفطنة الخائف أن وعاء العسل الذي أحمله يثقلني بطريقةٍ ما، فرميته أرضاً لأنجو بنفسي. غير أني سقطت غير بعيد من وعاء العسل الذي كان قد تكسر وجرى بتثاقل كأنه جدول من الحمم البركانية. ما جعلني أشعر بالاستفزاز أن الكلب أقفل راجعاً عندما سقطت أرضاً دون أن يبدي أدنى مشاعر متأسية أو حتى دون أن يعض قدمي. لم أعرف عندها سبباً منطقياً لمطاردة الكلب لي طالما لم يكن العض في نيته! الأمر الذي كان أكثر واقعية هو أنني نجوت من عضة الكلب، لأقع ببلاهة بين يدي أمي التي لم تغفر لي سكبي للعسل أرضاً وكسري للوعاء الثمين، كأنها لم تكن لتبالي لو أن ذلك الكلب الهمجي التهم جزءاً من قدمي. لم يعجبني أسلوبها البراجماتي أبداً، واكتفيت بنظرة معاتبة لها وأنا أقول "المهم أنني عدت إليك سليماً"
.
11-22-2006, 05:24 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
__________________ أمي بسذاجة نساء عصر النهضة، تعتقد أن الأبناء مجرد مظهر اجتماعي. لذا فقد كانت تفعل ما بوسعها لتثبت للجميع بأن أبنائها هم الأكثر تهذيباً والأقل مشاغبة. لم يكن ذلك سلوكاً فردياً، بل كانت تعاليم والدي الصارمة هي في الحقيقية الجانب النظري الذي تعتمد عليه في كل ما تقوم به دائماً. والدي الذي استقام مؤخراً، أحس برغبة ملحة في إنشاء أسرة محافظة، فكان له ذلك. ولكم كانت تعجبني دقة والدي في عمله. حتى على المستوى الأسري فقد أنجب من أمي ستة أبناء، حرص على أن يجعل بين كل اثنين سنتين، وبين كل أربعة أربع سنوات. ولا أعلم كيف استطاع أن يحدد ذلك بكل دقة! غير أن هذه المزاجية التناسلية العالية والمنظمة لدى والدي كانت تروق لي كثيراً.
لم تحظ أمي بكفاية من التعليم. عندما أبلغها الجد مانويل إميليو هاتفياً بخاطب يطرق بابها، بينما كانت تقضي عطلتها المدرسية في الريف الفرنسي لدى خالتها الجدة تريسا بيلي. وربما كانت جذور أمي الفرنسية سبباً في احتفاظها باللون الأبيض المائل إلى الصفرة، بينما كان والدي كبقية النوركيين ذو بشرة حنطية مشوبة بالحمرة الهادئة. كانت أمي لا تعرف والدي جيداً عندما تقدم لخطبتها، غير أنها – كما تقول دائماً – كانت تثق بأن جمالها الفرنسي الآخذ كفيل بأن يجذب إليها قلوب الرجال على اختلاف مشاربهم. وفي إحدى غرف بيت العائلة الصغير بتوليدو كانت ثمة صورة قديمة لوالدي ووالدتي في يوم زفافهما معلقة بعناية على الحائط. يقف فيها والدي وقفة عسكرية ونظرات ساذجة مشدوهة تدل على أنه لم يعتد التصوير، بينما جلست أمي كسيدة بارونية نبيلة بابتسامة دافئة فوق عادية. وبخط يدوي أسفل الصورة على شريط أبيض لاصق كتبت جملة: "حفل زفاف سارجينيو أورفل بودن/ كارول مانويل إميليو – شتاء عام 1971م."
أمي التي أخيراً توقفت عن البكاء على العسل المسكوب، كانت قد بدأت في وقتٍ متأخرٍ من الليل في إعداد حقائب السفر، وبأسلوبٍ توددي كنت أساعدها في ذلك، بينما نامت جوانيتا في حضن سوليداد فيدل التي ظلت تراقبنا من فوق سريرها النيكلي دون أن تنبس ببنت شفة. تلك الليلة لم أستطع النوم. تناوشتني مشاعر متضاربة ما بين الحنين إلى غرفتي وقطتي التي صنعت لها تحت سريري سريراً من الكرتون وفرشت عليه لحافاً قديماً استأذنت أمي في استخدامه. كان والدي يكره القطط وما تخلفه من روث وروائح. كان دلالها يثير فيه حنقاً غريباً لم أستطع أن أفهمه. قلت "من لا يحب القطط لا يملك قلباً بشرياً!" ولا زلت أذكر ذلك اليوم الذي بلغ به ضجره من القطة أن أمسكها ووضعها في شوالٍ من ذلك الذي يستخدم في تخزين الفحم الحجري، وأفلتها في مكانٍ بعيد. وكم كانت دهشتي عندما رأيتها بعد ثلاثة أيام تقف على شباك غرفتي الأرضية وهي تمارس المواء المتعب بطريقة معاتبة. كان يبدو عليها الإرهاق والجوع، منظرها ذلك جعلني أشعر بكثيرٍ من الأسى تجاهها وبمثله من الغضب على والدي. كانت أمي تقول لي دائماً أن أرواح الموتى من الأطفال تتلبس أجساد القطط وتتمثل بهم. وأذكر أنها قصت عليّ ذات ليلة قصة ارتدعت منها فرائصي خوفاً. كانت تقول القصة:
"أن أماً فقدت ابنها ذو الأربع سنوات في إحدى الطواعين التي كانت قد انتشرت وقتها. وظلت حزينة عليه حتى أصيبت باكتئاب حادٍ أصبحت بعده قليلة الخروج من البيت، بينما كانت بدأت اهتمامها بتربية قطة صغيرة عثرت عليها في مطبخها دون أن تعرف من أين أو كيف دخلت إلى هناك. كان يبدو عليها الجوع، فأطعمتها الحليب وظلت ترعاها وتسلي نفسها بملاعبتها. كانت مشاغبة القطة تشعرها بالمرح الذي افتقدت طعمه منذ رحيل طفلها قبل ما يربو على العام.
ذات ليلة أغلقت السيدة باب مطبخها دون أن تعلم بوجود القطة داخله. وظلت تبحث عنها في كل مكان في أرجاء المنزل. خمّنت أنها قد تكون في مكانٍ ما، وأنها لا بد أن تعود. خلدت السيدة للنوم بعد أن طمأنت نفسها بعودة القطة في ذات الليلة. غير أن حلماً مزعجاً جعلها تستيقظ فزعة وهي تحاول أن تستدرك واقعية ما رأته من لا واقعيته، إذ رأت في منامها أن ابنها يهمس في أذنيها وفي نظراته خوف طفولي طازج "أخرجيني من المطبخ يا أمي، أنا محبوس هناك" وبارتياب وقلق باديين، نهضت السيدة بهمة وتوجهت مباشرة إلى المطبخ، وما أن فتحت الباب، حتى فلتت القطة من بين أقدامها مسرعة." ولم تذكر القصة ما فعلته السيدة بالقطة بعد ذلك.
.
11-22-2006, 05:54 AM
معتصم الطاهر
معتصم الطاهر
تاريخ التسجيل: 11-26-2004
مجموع المشاركات: 3995
____________________ في مطار أرتكاتا المسقوف بالزجاج العازل للحرارة والصوت، والأرضيات الرخامية المغرية للتزحلق. كانت أمي تحاول جاهدة تجفيف ما تبقى من دموعها التي ذرفتها في توديع الأهل بتوليدو. كنت أنا وجوانيتا منشغلين بمتابعة النافورة الموسيقية الموضوعة بدقة في منتصف صالة الانتظار، بينما كانت أمي تقف جوار الناقل المتحرك في انتظار الحقائب. وبطريقة متحفظة جداً استقبلنا والدي خلف السياج المصنوع من معدن الكروم والمخصص لانتظار المستقبلين. كان يرتدي قبعته المافياوية والتي كانت موضة ذلك الوقت، بينما كان لا يزال يدخن السيجار الكوبي كثيف الدخان كمظهر أرستقراطي عديم الجدوى. قبّل أمي في جبينها بدون عاطفة جادة، واكتفى بالمسح على شعورنا، كأننا أشابين، وهو يمسك بالعربة المتحركة - التي كانت تحمل الحقائب - من يد أمي.
في البيت، وبينما كانت أمي تعيد ترتيب الأشياء. اكتشفت أنني أحن بطريقةٍ ما إلى كوينكا. ربما لأن رطوبة الجدران الأسمنتية كانت تحول دون أن نتنفس هواء نقياً كذلك الذي كان يمنحه لنا الرب في كوينكا. تلك النسمات الدافئة القادمة من أحراش أوسيكبو ووادي غوادا لاخارى ولاس توركاس الآهلة بالأيول والغزلان البرية. كما أنني لم أعثر في البيت على أيٍ من القطط التي كنت أربيها تحت سقيفة الدرج المؤدي إلى الخارج. ولم أجرؤ على سؤال أبي عن مصير القطط.
ما زاد إحساسي بخيبة الأمل هو أنه كان يتوجب علينا الإعداد للمدرسة مباشرة، الأمر الذي جعلني لا أطمئن لكوني سأعود للمقاعد الدراسية بعد ثلاثين يوماً من الحرية. لم أكن كبقية أطفال كوينكا الذين يعشقون الجو المدرسي لما يجدون فيه من متعة الالتقاء بالأصدقاء والشغب الطلابي البريء. كنت على يقين بأن المدرسة أمر ضد الرب وضد البشرية، وهي – بطريقة ما – إصلاحية في شكل أكاديمي تقريباً. فكان مجرد فكرة الاستيقاظ من النوم في الصباح الباكر في شهر أيلول يبدو كالتعذيب الذي يتلقاه السجناء السياسيون في سجن باتورن باي ذو الأسوار العالية الصماء. وما كان يزيد الأمر سوءً هو ربط والدي الدراسة بالإيمان! فلم يكن والدي يحرص على تذكري بشيء بقدر إنهاء الواجبات المدرسية والذهاب إلى الكنيسة بانتظام وحفظ التراتيل التي كانت تدرس لنا فعلاً في المدرسة. هذه المرة، كان إحساسي بوالدي مغايراً بعد معرفتي لتاريخه المراهق الذي لم يكن ناصع البياض كما كان يحاول أن يقنعنا به.
كانت الرغبة الجامحة لوالدي هو أن يمحي تاريخه القديم من ذاكرة الآخرين، وأن يبدؤوا بمناداته باسم "الأب" ورغم أنه تحصّل فعلاً على اللقب بمباركة باباوية في إحدى احتفالات التنصيب بالكنيسة إلا أنني لم أكن على قناعة بهذا التنصيب، فقد كان والدي ديماغوجياً[3] من الدرجة الأولى، لاسيما بعد أن أثبت قدرة عالية على حفظ أعداد لا بأس بها من التراتيل والآيات والأدعية الأنجيلية. وكان والدي يحتفظ في غرفته في المنزل بعدة نسخ من الأنجيل من العهدين القديم والجديد. وليس لدي أدنى شك بمدى صدقه في أن يكون رجلاً متديناً، ولكن ما كان يثير حنقي عليه، هو أنه لم يدخل غرفة الاعتراف قط. وكان يعتبر أن تاريخه المشين، تاريخ لشخص آخر غيره. وربما عقد صفقة ما مع الرب ليمحي عنه تاريخه مقابل أن يقيم أسرة ذات نهج كاثوليكي محافظ. وربما أوصاه بابنه كاسبرو تحديداً لسببٍ ما. هذا ما كان يخطر لي عندما أجده متشدداً حيال جعلي كاثوليكياً مأدلجاً منذ وقتٍ مبكر.
ثمة أسماء ووجوه أتذكرها كلما مررت بشريط ذكرياتي بالصدفة على مرحلة عمرية ما من حياتي: إخيليو نوريس وماريو كانسيليو هذا بالإضافة إلى العم سلفادور أورفل والجد مانويل إميليو الذي ارتبط اسمه لدي بشوكولاته جوز الهند، إذ كان يعمل في مصنع يعمل في صناعة هذا النوع من الشوكولاته. ولم يكن يأتي منزلنا إلاّ وهو يحمل علبة كبيرة تحتوي على 24 إصبعاً من الشوكولاته المغلفة بطبقة من جوز الهند الفاخر. مانويل إميليو أحد المئات الذين هاجروا كوينكا مبكراً، واختلفت الروايات حول سبب هجرته. فبينما تقول أمي أن والدها هاجر بسبب الطاعون الذي عصف بكوينكا أواخر الخمسينيات. تقول إحدى الروايات التي يتناقلها الرجال الذين عاصروا جدي أيام شبابه، أنه عندما غادر كوينكا إلى مالقة أولاً قبل وصوله إلى أرتكاتا، كان قد ذهب بحثاً عن فاتنة برتغالية كانت بائعة أقمشة متجولة مرّت بكوينكا تبيع الحرير والكتان المطرّز. اشتعل في صدره حبها عندما رآها ذات يوم عند حافة النهر بينما كانت تغسل قدميها مستعينة بصخرة ملساء لهذا الغرض. مالقة هذه المدينة البحرية التي كانت تسميها بعض كتب التاريخ بالمالكة أو الملكة على حد تعبير إحدى كتب التاريخ المعاصر لأسبانيا، هي أول مدينة يدخلها صناعة تجفيف الأسماك وتمليحها. وتقول إحدى المصادر أن اسم مالقة ربما اشتقت من "مالحة" لهذا السبب. وكانت الآثار الفينيقية ما تزال موجودة بها عندما غزتها الجيوش العربية قديماً.
____________________ [1] الديماغوجية: هي القدرة على كسب ثقة الآخرين عبر التأثير عليهم بالخطاب العاطفي.
11-23-2006, 02:06 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
______________________ لم ترق لي تلك الرواية التي تحاول وصف مانويل إميليو بالمراهق الذي يركض خلف شهوته الضائعة بين فخذي فاتنة برتغالية عابرة. بينما كانت ملامحه أكثر رزانة مما كانوا يحاولون تصويره. لذا آمنت برواية أمي. وربما لم أكن أرغب بتصديق تلك الرواية الماجنة لأنني لم أشأ أن أكره الشخص الوحيد الذي أحببت هداياه القيّمة.
في منزلنا المكوّن من طابقين، كانت ثمة سيدة عمياء تسكن في الطابق العلوي. زوجها السيد فرانكو ماتيوس الذي كان يعمل في شركة للإعلانات التلفزيونية، كان عديم الذوق كما يصفه الجميع. رجل حاد الطباع، ذو ملامح متخشبة. كنت أقول في سري أن الرب لحكمة جليلة أفقد هذه السيدة بصرها حتى لا ترى هذا الثور الخشبي الذي تعاشره. ولكنهم أخبروني أنها فقدت بصرها بعد سنتين من زواجهما، الأمر الذي جعلني أعتب على الرب كثيراً. كانت السيدة سابيلا آندروس رغم فقدها لبصرها، عكس زوجها الثوري، منشرحة ومنبسطة الملامح. ولأنها لم ترزق بأطفال طيلة حياتها الزواجية، فقد كانت تحب الأطفال كثيراً وتعشق ملاعبتهم. لا أنس أنها كانت السبب في إقناع أبي في أن يشتري لي أول دراجة أركبها في حياتي. عندما توفيت سابيلا آندروس بالسل، حزنت كثيراً لدرجة أنني أضربت عن الطعام حتى أنّ أمي أخذتني إلى المستشفى القريبة من منزلنا، وبقيت لثلاث ساعات بتغذية وريدية عن طريق مغذٍ الجلكوز.
الأطفال يحبون الجميع بطبعهم، فالحب هو الفطرة الإنسانية الأولى، بينما يكتسب الإنسان الكراهية بالتدريج عبر مراحله العمرية المختلفة. والكراهية لدى الأطفال ببساطة تعني التوقف عن الحب. ولأنهم، الأطفال، أكثر شفافية من غيرهم، فهم يستطيعون التفريق بين من يحبهم بصدق، وبين من يتظاهر بذلك. في مرحلةٍ ما يميل الأطفال، بالتعلّم، إلى كراهية البالغين، لأنهم يحاولون فرض سلطتهم عليهم. والأطفال لا يحبون السلطة بطبعهم. الحرية والحب والحركة. هذه هي الحاءات الثلاث التي يتغذى عليها الأطفال إضافة إلى حاء الحليب. فهم بحاجة لحرية تسمح لهم أن يتحركوا ليكتشفوا هذا العالم، وأسراره التي تبعد عن أيديهم فقط بضعة أقدام. وهم بحاجة ماسة إلى أن نحبهم بالدرجة التي تجعلها لا نقرأ حركتهم هذه على أنها "أفعال تخريبية"
.
11-23-2006, 07:00 AM
معتصم الطاهر
معتصم الطاهر
تاريخ التسجيل: 11-26-2004
مجموع المشاركات: 3995
هذه الرواية ليست موجودة على صفحات موقعي الإلكتروني فقط هي منشورة في منبر سودانيزأولاين وفي بعض المنتديات الأخرى مثل (الراكوبة) و (منابر الثقافية).
أما بخصوص تجربة الطباعة والنشر فأنا الأن بصدد نشر رواية بعنوان (بين حجرين) وسوف ترى النور قريباً بمجرد أن أتفرغ قليلاً من بعض المشكلات التي ربما تضطرني للسفر إلى القاهرة لبحث موضوع الإجازة. فكما تعلم فعملية النشر في المملكة العربية السعودية تحتاج إلى إجازة الرواية من قبل وزارة الإعلام أولاً الأمر الذي يجعل مجمل الرواية خاضعة إلى لعبة الاحتمالات والتي من المرجح أن تنتهي برفض نشر الرواية كما أن مسألة التوزيع في الوطن العربي هي واحدة من المشكلات التي أعاني منها في نشر الرواية.
بالنسبة لهذه الرواية فهي لم تنشر ولم يتم تحضيرها للنشر ولكنها سوف تنشر بعد نشر رواية (بين حجرين) ونجاح التجربة بإذن الله تعالى ... أتمنى منكم الدعاء لي بالتوفيق والنجاح
وأكرر لك شكري على المتابعة وعلى القراءة
11-25-2006, 01:08 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
إخيليو نوريس إحدى الشخصيات التي ما زلت أتذكرها جيداً في طفولتي. كان والدي يعتمد عليه في الاعتناء بنا أثناء غيابه وأمي عن البيت لوقتٍ طويل. لذا فقد اعتبرته كالقاتل المأجور. ورغم أن مهمته كانت تنحصر في منعنا من إحداث حالات شغب منزلي، أو الخروج إلى الشارع، أو اللعب بالآلات المطبخية الحادة، إلاّ أنه كان يتجاوز كل ذلك إلى منعنا من مشاهدة التلفزيون وحتى إجبارنا على النوم في مواعيد محددة. تولدت لدي مشاعر سالبة تجاه هذا الإخيليو نوريس، الذي كان يمارس علي أنا وجوانيتا سلطوية عالية الامتهان. ولا شك أنه كان يجد متعة في ذلك.
قرأت ذات مرّة في كتاب منزوع الغلاف أن الأبيض ليس لوناً بل هو "اللالون". وعدمية اللون، لون آخر محايد تماماً، لذا فإن البشرية اتفقت منذ القديم على اختيار اللون الأبيض كدلالة للاستسلام والسلام، رغم الفارق الكبير بينهما. كما ذكر الكتاب أنه يصعب على وجه التحديد معرفة اللون الأول في العالم. بينما تذهب بعض النظريات الفيزيائية إلى أن الألوان وجدت لذاتها كلاً على حدا، إلا أنه تم تحديد ألوان "معاصرة" كاللون الأرجواني، والبنفسجي، والقرمزي التي اكتشفها الإنسان بمحض الصدفة. ورغم أن هذه النظرية اللونية مشكوك فيها إلاّ أن لها مدارس تلقى رسالتها رواجاً كبيراً بين فئة كبيرة من الرسامين التشكيليين الذين يؤمنون بعصرانية الألوان لذا فإننا نجد لوحاتهم الأكثر غرابة ورمزية هي التي تتخذ من التلاعب بالألوان عنصراً أساسياً فيها معتمدين في ذلك على "التجديد" الذي هو نقلة نوعية في عالم التلوين. ربما لم يكن ذلك ذا علاقة مباشرة بالأطفال، ولكنني فقط أحسست أن ثمة رابط بين نشأة الألوان، ونشأة المشاعر الإنسانية في تمحورها من الحب إلى الكراهية. إذ تتدرج الألوان من الأبيض "الأكثر صفاءً" إلى الأسود "الأكثر قتامة".
كان إخيليو نوريس "القاتل المأجور" الأكثر قابلية من غيره من الذين فرضوا أنفسهم دون تكليف رسمي من والديّ حتى! الأمر الذي كان يثير شعوري بالامتعاض الشديد من هؤلاء البالغين. بينما كانت التقاليد تسمح بأن يتدخل كل الكبار في تربية وتأديب كل الصغار. وكأننا جراء لقبائل بدائية. الأمر الذي جعلني أكثر حساسية تجاه الآخرين، وأكثر تحفزاً. كانت الحياة في أرتكاتا حياة جامدة رتيبة. وكأنها حياة مسبقة الصنع في قوالب متناسخة بحيث يمكنك تخمين مجريات اليوم التالي لكل يوم. كان أبي شخصاً نمطياً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. فلم يكن يعشق التغير، لا سيما الفجائي منه. وهذا ما جعله يبدو أكثر حذراً وتردداً.
11-25-2006, 07:53 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_____________________ لم يكن من الصعب عليّ أن أعرف أنني أنتمي لأسرة أحمسية[5] تميل إلى المسالمة، وربما كانت القبائل النوركية قبائل أحمسية بطريقة ما. وعلى الطريقة النوركية التقليدية فقد كانت أمي تحذرنا من التشاجر مع الآخرين "لا تختلق المشاكل، وإن واجهتها تملّص منها" هذه الطوباوية جعلتني إلى وقتٍ قريب لا أستطيع أن أحدد الفارق على وجه الدقة بين الجُبن والحكمة. ولا زال النوركيون يعتبرونني همجياً مقارنة بمعايير مذهبهم المسالم. وكنت لأقبل بأية قيمة مقابل أن أعرف موقفهم من الحرب الأهلية التي اندلعت في منتصف الثلاثينيات.
كان أبي رغم الفخر الذي كان يخفيه بإنجابي، يعاملني معاملة قاسية، تذكرني بالحياة العسكرية التي كان يعيشها الجيش الإسباني بداية تشكليه. إنه يحاول أن يصنع مني رجلاً قوياً – كما كان يقول – غير أنني كنت أكيداً من أنه أخفق تماماً في جميع توجهاته. ولقد عرف ذلك عندما أنجب أخوتي البقية، عندها، شعر بحوجته لاقتناء كتب متخصصة عن الأساليب التربوية الحديثة وطبقها عليهم. لقد كانوا أفور حظاً مني ومن جوانيتا. فقد كانت القسوة هي السمة الغالبة في التعامل الأمر الذي خلق حاجزاً بيني وبين والدي، ما زلت استشعره حتى اليوم. وكالخيط الرقيق الذي لم أستطع أن أراه بين الجُبن والحكمة، كان هنالك خيط آخر يجب عليّ أن أراه بين الخوف والاحترام. ربما الآن أستطيع أن أقرر بأنني كنت أخاف أبي دون أن أشعر بالاحترام تجاهه. ربما ظنّ أن القسوة تجلب الاحترام، وربما لم يستطع أن يفرق هو الآخر بين الخوف والاحترام.
رغم كل ذلك كان السلوك الأبوي يطفو رغماً عنه في بعض المواقف النادرة جداً. وأذكر أنني لم أكن لأصدق تلك الانقلابات المزاجية التي كان يمر بها عندها. فعندما عدت أمسية ذلك يوم من رحلة مدرسية إلى متحف سانت كورت، وجدت الجد مانويل إميليو في انتظاري على درج المنزل، والمشهد الخلفي من ورائه لأناس أعرف بعضهم ولا أعرف البقية. كانت الأنظار كلها تتجه نحوي بشفقة. لم أستطع وقتها أن أخمن سبب وجود هؤلاء بهذه الصورة المتجمهرة، غير أنني لم أستطع أن أتقدم أكثر، حتى لوّح لي مانويل إميليو بيديه المرتعشتين بأن أتقدم. وعندما فعلت احتضنني بقوة وهو يبكي بحرقة. كانت نظرات الرجال من ورائه تثير فيني تساؤلات متفاقمة. وكانت دموع مانويل الحارقة تفتفت حجار دهشتي وتحيلها إلى كِسَر من الخوف والرهبة. "أين كنت يا عزيزي؟ هل أنت بخير" كانت اللهفة الأبوية التي سألني بها مانويل لا تقبل القسمة على أكثر من تخمين. عندها عرفت أن ثمة أمراً ما سمعه هؤلاء عني. أمراً جعلهم يظنون أنني لست بخير.
لم يكن لأبي أو أمي أي أثر في المنزل، الأمر الذي زاد من توجسي. وما هي إلا بضع ساعات وعاد أبي يتقدم بخطوات مترددة بينما كانت أمي تمسك بدرابزين الدرج وهي تحاول الصعود. وكأنها خائرة القوى. سقطت أمي على ركبتها قبل أن تكمل صعود الدرج بينما أشارت لي بيديها بعد أن رسمت على صدرها علامة الصليب في امتنان، فارتميت على أحضانها لتبكي ما شاء الرب لها أن تبكي. وجهي الذي بللته أمي بالقبلات والدموع كان الشيء الوحيد الذي تمنى أبي أن يراه قبل أن يجثو على ركبته مخبئاً وجهه بين كفيّه. علمت بعد حين أنهما تلقيا اتصالاً هاتفياً من مجهول يفيدهم بأن الباص المدرسي الذي كان يقلني قد تعرض لحادثة تصادم في طريقها إلى متحف سانت كورت.
بعد هذه الحادثة قرر والدي الرحيل من المنزل إلى منزل آخر. وهذه المرة اختار أن تكون الأقرب إلى الكنيسة. كان والدي يتعجّب كيف لم يحترم أولئك الكاذبون هيبة ردائه الأسود ذو الياقة البيضاء، وكان يسمهم بالمارقين، كلما جاء ذكرهم. طوباويته المفرطة التي جعلته لا يتوقع الشر من الآخرين. كثيراً ما كانت أفكار جهنمية تراودني حول الانتقام من أولئك "المارقين" بطريقة تجعلني استعيد دموع أمي التي ذرفتها عليّ هدراً، ولكنني لم أفلح في جميع محاولاتي البائسة أن أفعل. وحققت على المستوى الشخصي رضاً نسبياً بنجاحي تلك السنة بتفوق.
_______________ 5 الأحمسا: أو مذهب اللاعنف وهو مذهب يدعوا إلى مواجهة الكره بالمحبة وبالمحبة فقط. ويعتبر الماهاتما غاندي مؤسس هذا المذهب المثالي.
.
11-26-2006, 01:48 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_______________________ في المنزل الجديد، لم يكن الحظ حليف والدي القسيس الذي تفاجأ بعد أسبوعين من الانتقال، بأن جاره الذي يقطن في الشقة السفلية مباشرة يعمل قوّاداً. وفي مكانٍ ما كانت القوادة مهنة نبيلة، حيث تقوم على فلسفة التوفيق بين راغبين في ممارسة "الراحة الفطرية" التي ألقاها الرب لدى الجميع. لم أكن أفهم سبباً منطقياً لموقف أبي الغاضب من هذا القوّاد، إذ لم أكن أعرف على وجه التحديد خبايا هذه المهنة، حتى رأيت من خلال فتحة بين خشبة عتيقة ومكيف الهواء ما جعلني أشعر تجاه ماليوني بوبيكا بتقزز لم أشعر به تجاه شخص آخر. عرفت فيما بعد أن ماليوني الأمرد القوّاد كان يقضي ليله في مقهى مولينوس يصطاد زبائنه من الشباب وأثرياء المدينة. كان يملك في بيته ما يزيد عن تسع فتيات تتراوح أعمارهن بين الثامنة عشر والثلاثين. بعضهن كنّ يعشن معه في ذات المنزل، بينما تسكن أخريات في الجوار. ورغم تقززي من منظر العُري الذي رأيته من فتحة التكييف، إلاّ أنني استشعرت نبل هذه المهنة لا سيما وأنها لم تكن بالإكراه، فكل شيء يتم برضا وقبول الطرفين.
ماليوني – مجهول الجذور – كانت لديه عادة احتساء فنجان النسكافيه الساخن في شرفته كل صباح، وهو يقرأ الجرائد اليومية، ويراقب المارة دون فضول. كان لمنظره الناعم والبراق أثره البالغ في كسب علاقات واسعة جداً لا سيما بين الطبقات الأرستقراطية. وعندما أتاحت لي الفرصة ذات يوم الدخول إلى شقته عرفت ولعه باقتناء التحف والتماثيل الخشبية منها والعاجية. في زاوية ما من منزله كان ثمة تمثال جبسي مطلي بدهانٍ خاص لامرأة عارية تحمل دلو ماء أو ما شابه، كان التمثال مصنوعاً بإتقان لدرجة أنني حسبته حقيقياً للوهلة الأولى. والغريب أنه كان يحتفظ في منزله بلوحة كبيرة لصلب المسيح. لم تكن اللوحات التي يقتنيها لرسامين مشاهير، ولكن يبدو أنه كان يختارها بعناية فائقة. على جدارٍ ما ثمة لوحة "العشاء الأخير" ليوناردو دافينشي يبدو أنها مزيفة بوضوح بألوان باهتة وغير مطابقة للوحة الحقيقية. "الحياة هي المتعة، وعلى الجميع أن يستمتع كما يحب!" هذه الجملة التي حفرت بإزميل على طريقة النحت بالحرق على واجهة خشبية ملونة كان موافقاً تماماً للحياة التي يعيشها ماليوني. بينما قد تسمع ضحكات نسائية آتية من جميع أرجاء المنزل المتكلّف. ولسببٍ ما كان ماليوني يعاملني بلطفٍ جم، وهذا ما كسر حاجز نفوري منه بعد حين. كان يناديني دائماً ب"كاسبرو" ورغم أنني في كل مرة كنت أصحح له "اسمي كاسبر يا سيدي" إلاّ أنه كان لا يأبه بهذا التصحيح، ويعتبره تهذيباً طفولياً.
ذلك اليوم، عندما ابتسم في وجهي، اندفعت بحماسة لأسأله. وكنا حينها قد اعتدنا على الأحاديث المطوّلة. أعتقد أنني الوحيد الذي اكتشف الجانب الإنساني لديه، بالإضافة إلى ميله للأطفال والتحدث إليهم. سألته عن صلة القرابة التي تربطه بهؤلاء الفتيات، فضحك حتى كاد يختنق، ولم يرد عليّ. فقط اكتفى بأن مسح على شعري وهو يقول "كاسبرو – أيها الشقي - مازلت في العاشرة من عمرك. غداً تفهم كل شيء" كنت قد أدمنت كراهية هذا المستقبل اللعين. فعندما كنت ألعب كان والدي يصيح في وجهي "غداً عندما تنتهي من الدراسة بوسعك أن تلعب بقية عمرك" ولم يكن هذا الغد ليأتي أبداً. وكأن الرب يخبئه عني تحديداً.
.
11-26-2006, 04:01 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
في السنوات القليلة التي قضيناها في هذا المنزل، لم يكن يزورنا غير قلّة من الذين كانوا يجدون في أحاديث والدي الوعظية متعة لا تضاهيها أية متعة أخرى، فهم كمن كانوا بحاجة إلى من يذكرهم بالرب وباليسوع. بعض النسوة كن يعتقدن أن أبي ينحدر مباشرة من ذرية أحد حواريي يسوع، وكنّ يتعاملن معه باحترام لا يليق بهن. لم تكن تلك الهالة القدسية حول والدي وحول جذورنا الدينية مثار اهتمامي على مدار تلك السنوات، فقد كنت شغوفاً بالمناكفة الطفولية واللعب. عندما بلغت الثانية عشر تعلّمت العادة السرية على يد صبي لم أكن على ود فعلي معه عندما سألني "ماذا تعرف عن العادة السرية؟" شعرت عندها أن ثمة مكيدة في سؤاله، فهو دائم الفخر بما يعرفه. فكرت قليلاً فيما يمكن أن يفعله المرء خِلسة قبل أن أجيب "أعرف أنّ عقوبتها وخيمة إذا تمّ اكتشافها" وبينما كان يتحدث لي عن قضايا جنسية متقدمة؛ كنت أتحدث عن التدخين الذي كنت أمارسه خلسة في كثير من الأحيان. وقد أذهلني هذا الاكتشاف الذي جعلني انتبه إلى الجانب الخفي من نفسي.
كانت الليلة الأولى التي أمارس فيها العادة السرية ليلة شتائية قارصة، وكنا في زيارة عائلية عندما أطال والديّ أحاديثهم المستنسخة حول الفاتيكان وهيمنة البابا على الأمور حتى الإجرائية منها، والهلع الذي يدور في أروقة الكنائس الكاثوليكية حول هرطقات ذرية السيد المسيح، وما قد تثيره هذه الهرطقات في نفوس أجيال المؤمنين القادمة. فقررت ألا انتظر حتى العودة إلى المنزل فدخلت الحمام. شعرت بداية بالسخف مما أفعله وعندها عرفت لماذا سمّيت سرية. ولكن الرجفة التي انتابتني عند الانتهاء جعلتني أفكر في معاودة الممارسة مرة أخرى وهذه المرة سوف تكون بطريقة أكثر رومانسية. أخبرني روماندو أنه يتوجب عليّ تخيّل موقف جنسي مثير، ولم تكن ذاكرتي تحوي في مجملها على ذكريات أو تجارب من هذا القبيل وهذا ما زاد من تعقيد الوضع. لاحقاً أدركت أنني يجب أن أتوقف عن هذه البلاهة فوراً. بعد محاولات سخيفة فكّرت أنني قد أرغب في البلوغ قبل الأوان، ما ساعدني على الإقلاع فوراً .
.
11-26-2006, 04:26 AM
معاذ حسن
معاذ حسن
تاريخ التسجيل: 11-14-2006
مجموع المشاركات: 3353
Quote: بالنسبة لهذه الرواية فهي لم تنشر ولم يتم تحضيرها للنشر ولكنها سوف تنشر بعد نشر رواية (بين حجرين) ونجاح التجربة بإذن الله تعالى ... أتمنى منكم الدعاء لي بالتوفيق والنجاح
.
الصديق الاديب هشام تسجيل متابعة واعجاب تحياتي لرانيا وأتمنى ان نرى اسم هشام ادم قريبا في المكتبات.
11-26-2006, 06:33 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة