الفصل الأول بصمتٍ وهدوء مدروسين دفع بالعملة الورقية إلى بائع الصُحف، الذي مدّ إليه صحيفة (أجراس الحرية)؛ حتى دون أن يطلب منه ذلك. كانت تلك عادته الصباحية التي لم يُغيّرها منذ ثلاثة أشهر. تصفّحها بصورة سريعة، وتنقل بين عناوينها الرئيسة. اعتلت ابتسامة باردة على وجهه بطريقة مفاجئة، ثم وضع الجريدة تحت إبطه بعناية. استدار بطريقة عسكرية ناحية الطريق العامة، أخرج علبة البرنجي المختومة من جيب بنطاله الجينز، وأشعل سيجارة كان ينتظرها بفارغ الصبر؛ إذ لا يُحب أن يُدخن سيجارته الصباحية قبل تصفح الجريدة. نفث دخانها المبدئي عاليًا، وكأنه يطرد، معها، قرفه الموسمي المسكون بين جنباته منذ جاء، ثم مرّر نظره في الأرجاء، وكأنه يبحث عن شيء ما، وغادر بذات الصمت والهدوء المدروسين.
هكذا يفعل كل يوم، حتى أن العم خليل (بائع الصحف) ناحل الجسد، المكتئب على الدوام، حفظ سلوكه الهادئ المريب عن ظهر قلب، واعتاد عليه. كانت الأسئلة المتكررة تتقافز إلى ذهن عم خليل، في كل مرة يراه فيها: هيئته الموحية بالترف، اهتمامه الاستثنائي بتسريحة شعره، وحرصه على ألا تتطاير خصلاته مع مرور العربات المسرعة في الطريق العامة، بشرته الصافية التي لم تتمكن منها أجواء السودان الحارقة بعد، حذاؤه الأسود اللامع على الدوام، رغم الأتربة التي تثيرها رياح المدينة الكئيبة بين الفينة والأخرى، ساعته الاسكواتش الفاخرة، حرصه البالغ على إسدال أطراف قميصه؛ كي لا تكشف عن كرشه الصغيرة، عندما تهب نسمة صيفية قوية، وحتى الطريقة التي يناوله بها ثمن الصحيفة اليومية.
كان يتساءل دائمًا عن سر وجود شخص مثله في هذا المكان، وعمّا إذا كان ضيفًا طارئًا أم أحد السُكّان الجدد، وعن سر حرصه على اقتناء الجريدة بذات الطريقة كل يوم، كما يدهشه ذلك الحزن الأثري الذي يبدو على عينيه الرماديتين، وكأنه يحمل سرًا عزيزًا وحميمًا بين جنبات أضلاعه. بطريقة ما، كان يبدو له شخصًا مختلفًا عن بقية زبائنه، وربما أحبّه سرًا أو شعر نحوه بميل خفي، رغم أنهما لم يتبادلا أحاديث خاصة من قبل.
لا أحد، هنا، يحرص على شراء صحيفة (أجراس الحرية)؛ سوى القلّة، منذ أن بدأت بوادر الانفصال بين جنوب البلاد وشماله تظهر جليةً وواضحة، ككارثة كونية وشيكة؛ بل ومتوقعة. لا أحد يحرص على ذلك؛ إلاّ من تبقى من جنوبيين، في انتظار القرار المصيري الموعود، وقلّة من الشماليين المهتمين لأمرهم، وكأن اقتناء (أجراس الحرية) تهمةٌ قد تجعل الآخرين ينفرون منك أو تكون هدفًا لسهام نظراتهم المزدرية. من المعتاد أن تسمع جملة مثل: "أجْرَاس الحُريَّة؟ إنْتَا (حركة شعبية) ولاَّ شُنو؟" ولكنه كان حريصًا على اقتناء نسخته من الحريدة كل صباح؛ لاسيما الملف الثقافي (تعارف) الذي تصدره الصحيفة كل يوم ثلاثاء.
بدا وكأنه كان يتوقع قراءة خبر ما، على إحدى صفحاتها، وتعلّم العم خليل أن يضع (أجراس الحرية) في مقدمة الصحائف المعروضة؛ لاسيما كل يوم ثلاثاء. لا يتذكّر أن جريدةً أخرى أثارت انتباهه، أو شدّه عنوان مثير على الصفحات الأولى لإحداها، وكأنه لا يرى من الجرائد الاثنتي عشرة، التي يبيعها في طبليته المتواضعة، إلاّ جريدته المفضلة!
تفاجأ ذلك اليوم، خلافًا لما كان يظن، وعلى عكس ما يُوحي به منظره، بأنه ليس على دراية تذكر بما يجري على الساحة السياسية، عندما سأله دون مقدمات، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تجرأ فيها على التكلّم معه: - تِتْوَقَع يَهْصَل شُنو في السُّودَان بَعَد تِسْعَة يُوليُو الجَّاية دَا؟ - إشْمِعْنَا التَّارِيخ دَا بالتَحْدِيد يَعني؟ - إنتي مَا عَارِفة ولاَّ شُنو؟ دَا تَاريخ إعْلان انفِصَال الجنوب رَسْمِي وشَعْبي! - أهَا! مَعْنَاتُو مَا في أيَّ مَجال للتَوَقُعات ولا هُم يحزنون، الانفِصَال كِدَا كِدَا وَاقِع، وأكِيد في دَوْلَة جَديدة حَتْقُوم في جُنوب السُّودان. - بَسْ كِدَا؟ - بَفتَكِر إنو السُّودان حَيَخْسَر حُدُودُه الجنوبية مَع كَام دَوْلَة، وَبالتَّالي حَيْخَسَر مَسَاحْتُه الكُنَّا فَرْحَانين بِيها!
كان يتكلّم بثقة وهدوء مفرطين، وكأن الأمر بالنسبة إليه استدعاء لذكرياتٍ حدثت في الماضي، أو كأنه لا يكترث لأكبر حدث في تاريخ السودان، منذ استقلاله، ويشغل بال أربعين مليون سوداني في جميع أنحاء العالم. تكلّم عن الأمر ببساطة مفرطة ومستفزة. ابتسم، في نهاية حديثه، بلباقة أرستقراطية غير متكلفة، ثم غادر المكان بهدوئه المعتاد، تمامًا كما يفعل كل يوم، تاركًا العم خليل في دهشته.
أنهى العم خليل اندهاشه بسرعة، وأعاد وضعية قبعته البيضاء المرقطة التي اعتاد على ارتدائها مع بنطاله الرمادي مكفوف الأطراف، وقميصه الأبيض المائل إلى الصُفرة، وعاد إلى كرسيه المصنوع من الحديد الخفيف. وضع منديلًا قماشيًا بين قفاه وياقة القميص تجنبًا للعرق. استأنف قراءة صحيفة (الانتباهة) التي يضعها جانبًا في كل مرّة يأتي فيها زبون آخر ليسأله عن جريدة ما، أو لينفض الغبار عن جرائده المعروضة بانتظامٍ تدرّب عليه عبر سنوات عمله في هذا المكان.
عشر سنوات قضاها العم خليل الحلفاوي في آخر المحطة الذي ينتهي عنده شارع الكلاكلة شرق. يعرف كل شيء، وكل شخص في هذا المكان، ويحبه الجميع، رغم مزاجه النزق، وسبّه المتواصل للدين؛ كلّما ضايقه أحدهم. نحيل كأعواد الخيزران، حتى أن ملابسه الفضفاضة لم تنجح في إضفاء كتلة إضافية على حجمه، وصوته الرقيق الذي كحشرجة محتضر، يجعلك تعتقد أنه غير راغب في الكلام، وأن الكلام مهمة شاقة عليه؛ فيشعر البعض، ممن لا يعرفونه جيدًا، تجاهه، بالإشفاق؛ فلا يحاولون دفعه إلى الحديث، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
لا أحد يعلم متى، تحديدًا، يأتي العم خليل من بيته الكائن في محطة 17، غير أن طبليته تكون نظيفة وجاهزة قبل شروق الشمس من كل يوم، وجرائده الاثنتي عشرة مرصوصة بأناقة مبتكرة، قبل أن تطأ أولى الأقدام البشرية رصيف شارع الكلاكلة شرق، والأرض الترابية من حول طبليته مرشوشة بالماء في شكل شبه دائري، ومذياعه الترانزيستور، القديم مثله، مُدار على إذاعة أمدرمان.
يعتبره البعض قدوة في النشاط والحيوية، رغم سنوات عمره السبعين ونيف، ويحكي البعض عنه قصصًا غريبة ومثيرة، فيُشاع أنه بنا بيتًا من طابقين من الحديد المسلّح في حي يثرب الراقي، وأنه تزوّج ثلاثة نسوة، وأنجب منهن أربعة عشر ولدًا وبنتًا، وأنه يمتلك كافتيريا سياحية في أَبْ حَمَامَه، وسيارة برادو Full Option جديدة؛ بالإضافة إلى زريبة بهائم في (تِرِيَعْة البِجَا) بمساحة تقدّر بنحو 1200 متر مربع، ومشتلًا راقيًا في حي الشجرة، وكل ذلك من بيع الجرائد فقط، بينما يقول البعض عنه إنه مخبر سرّي لجهاز الأمن القومي، وأن بيع الجرائد ليس سوى واجهة يتستر وراءها، بينما يقول آخرون إنه كان ثريًا؛ فاحش الثراء، وأفلس عندما صادر أبناؤه كل شيء منه؛ بإيعاز من نسوته الثلاث، عندما علمن برغبته في الزواج من رابعة؛ فطردوه، ولم يتبق له إلاّ طبليته التي يبيع فيها اثنتي عشر جريدة، وبعض المجلات التي يبيعها في الخفاء.
كل شيء قد يُقال عن العم خليل الحلفاوي، ولكن الأمر الأكثر ثقة ووضوحًا أن الجميع هنا يحبه ويحترمه، ويعتبرونه أبًا لهم. قال أحدهم، مستوحيًا حكمته مما يُنسج من شائعات حول العم خليل: "حَاجْتِين، في البَلَد دِي، مُمْكِن تُوَدِي الزُّول وَرَا الشَّمِس: الحُكُومَة والنِسْوَان!" كانت حكمة عم خليل الأثيرة: "مَا تَدِّي أيّ زُول كُلُ حَاجة، لأنّو مَافي زُول بيسْتَاهَل أصْلًا." ما يشي بحكمة واثقة، لا يعلم أحدٌ منابعها الأولية، ولا يدرك عمقها جُل الذين يترددون على طبليته المتواضعة؛ إما لشراء جريدة أو لتبادل الأحاديث الضاحكة معه، ورغم ذلك كان لا يحاول إظهار ملامح هذه الحكمة دون دواعٍ لذلك، فلا أحد، في نظره، يستحق.
قبل عدة سنوات؛ عندما داهمت قوات الشرطة طبالي آخر المحطة، كانت طبليته الشهيرة هي الوحيدة الناجية مما أسماها الجميع بمجزرة الطبالي. لا يجرؤ أحد، حتى الشرطة، على إزالة طبلية عم خليل الحلفاوي، وفيما يرى البعض أن تلك دلالة على شهرته، ومحبة الآخرين له؛ حتى رجال الشرطة، يراه البعض دليلًا على علاقة مريبة تربطه بالحكومة؛ وهو ما كان يدفع البعض للخوف أو الحذر منه، ولم يجرؤ أحد على مجاراته في أحاديثه السياسية؛ إلاّ القلّة.
ذلك اليوم كان مبتسمًا، وهو يُعلّق لافتة كتبها بيده بخطٍ رديء: "الثَّقَافَة بِقُرُوش، والمعَرِفَة جَهْجَاهَة" وتبددت ابتسامته الحكيمة، عندما جادله أول زبون صباحي، حول سعر جريدة اعتاد على شرائها بجنيه واحد فقط، فصرخ في وجهه قائلًا: "هِي جَات عَ الجَرَايد؟ مَا كُلُ هَاجَا مَاشْيَ في زِيَادة." ثم أشار، بحماسة مفرطة، إلى اللافتة الجديدة، وكأنه يُشير إلى حكمته المتقدة، أو دماغه الفذ الذي علّقه على واجهة الطبلية، وكأن الأمر صادر من جهة عليا يجب الانصياع لها، والتسليم بأمرها.
في العادة؛ لا يجادله أحد، تحاشيًا للسانه السليط، أو مخافة سبّه للدين، ولكنه كان في مزاجٍ مُتعالٍ ذلك اليوم؛ حتى أنه لم يتلفظ بكلمة واحدة نابية. ربما سبّ الدين في سرّه، عندما هبّت نسمة قوية أفسدت ترتيب جرائده، فعاد يُثبتها بقطع من الحجارة الصغيرة، وهو يزمجر دون أن يفهم أحد ما يقوله. خاطبه أحدهم ساخرًا: "﴿وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يُحاسبكم به الله﴾ يَا عَمْ خَلِيْل!" فأشاح بوجهه، وهو يُصارع ابتسامة كادت أن تنزلق من بين شدقيه عنوة.
يُؤكد العم خليل على أنه كان حاضراً عندما رفع الزعيم الأزهري العَلم، إبان استقلال السودان، ويحكي قصصاً عن تلك الحقبة، ويذكر أسماء أشخاص، لايعرفهم أحد، كانوا معه، عندما وقفوا في الجهة المقابلة للقصر الجمهوري من النيل، مع حشد كبير من الناس، وهم يُصوّرون لحظة استلام السودانيين مفاتيح القصر من الإنكليز. يحكي ذلك بكثير من الفخر، وكأنه كان السبب المباشر في نيل السودان استقلاله: - يُوم دَاك، وِقِفْنَا كُلَّنَا فُوق كُونْتَيْنَر إنْجِلِيزي بِتَاعَتْ عَمَّك زِرْيَاب تَرْزِي الهِلَّه. رَفَعْنَا الشُّفَع فُوق رُوسْناَ، وقَنَّبْنَا نِعَاين في أزْهَرِي وُهُو بِيرْفَع عَلَم السُّودَان. كَان وَاقِف جَمْبُو عَبد الخَالِق مَحْجُوب، وزُول خَوَاجَا كِدَا، ونَاس لابْسِين قَفَاطِين بِتَاعَت الأزْهَر، وُقُول تَلَاتَه أَرْبَعَه نِسْوَان قَبِيْحَات. مَافي رَاجِل مِن الوَاقْفِين دِيل مَا بَكَا يوُم دَاك. الدُّموع جَرَت شَّوْ مِنْ عُيونَا، زَي المات لَيْنَا زُول! البَارَات وَزَّعَتْ الشَّرَاب بِالمجَان، والما كَان بِيشرَب في اليُوم دَاك شِرِبْ. وأنَا القِدَامْكُم دَا رَقْصَتَا في الشَّارِع بي العَرَّاقِي بِتَاعِي. جِيلكُم المنَيِّل التَّعْبَان دَا مَا حِضِر زَمَن البَارَات الأمْرِيْكَاني في خَرْتُوم اتنيَن، والدَّيم، والهِلَّه الجَدِيْدَه، والسُّوق العَرَبي، والسَّجَّانَه، قَبُل نِمَيْرِي يَجِيب لَيْنَا قَوَانِين سِبْتَمْبِر دِي. أنِهْنَا عِشْنَا جِنِس أيَّام يَا أوْلادِي، مَا أظِن هَأَعِيش وأشُوفَو بِعِيني تَاني. تَاني يُوم، مَشِيْنَا القَصْر الجُّمْهُوري، كَان هَاجَا هَيْلَمَانَا، مَا زَيّ هَسِّي! لِقِيْنَا خَلِق زَيّ النَّمِل وَاقْفِين في شَارِع النِّيل. بي جَاي وجَاي زَاهَمْتَا النَّاس، أنَا وأخُوي مَرْزُوق عبد الشَّفِيع رَحْمَةُ اللهِ عَلِيْهُو، لَغَايِة مَا دَخَلْنَا القَصُر جُوَّا، وسَلّمْنَا عَلى أزْهَري زَاتُو. أتْزكَر يَوْمَتَا قُلْتَا لَيْهُو: "البَلَد بِقَتْ أَمَانَا في إيْدَك، أبْقَى عَلِيْهُو عَشَرَا يَا أزْهَرِي." والتِلْفِزْيُون صَوَّرَنَا، وهَاجَا هَيْلَمَانَا خَالِص!
لكنته الحلفاوية المميزة، تعجب الكثير من زبائنه الصباحيين، وأصحاب المحلات التجارية المجاورين له؛ لاسيما عندما ينطق الحاء هاءً أو يُذكّر المؤنث، ويُؤنث المذكر، ولكنه كان يفعل ذلك بتلقائية شديدة، ولا يهتم كثيراً لملاحظات الآخرين اللغوية. حكمته الحاضرة دائماً كانت "الكَلام لَو بِتَصَل، مَا مُهِم بِتَصَل كَيْف!" عندما حلّ موسم حج عام 2009 اتخذه الناس محل سخريتهم؛ فكانوا يسألونه دائماً عن استعداداته للحج، وهو يُجيبهم بكل حزم: "حَج بِتَاعَاتْ السَّاعَة كَام، الزَّحْمَة دَا أنا مَا بِنْحِبُّوُش" واعتاد الناس عليه على هذا النحو، واعتبروا صراحته البحتة تلك سبب طرافته وظرفه.
11-03-2011, 08:47 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
إنها الساعة العاشرة وعشر دقائق صباحًا على ساعته الاسكواتش، ولكنها كانت تلفح العابرين بأشعتها الحارقة، ضاربةً بعرض الحائط كل منطق جغرافي. قال لبعض أصدقائه ذات يوم: "وَاحْدَة مِنْ مَآسِي السُّودَانيين إنَهُم لِقُوا نَفْسَهُم، دُون إرَادتهُم، في بُقعَة مَدَارِيَّة مُتْعَامِدا مَع الشَّمِس. يِمْكِن دَا السَّبَب الخَلَّا أَسْلافَنَا يَعْبُدوا الشَّمِس زَمَان." شمس السودان ليست كشمس أيّ دولة أخرى، كأنها شمس مخصصة للسودانيين فقط. شمس يبدأ مفعولها السحري الحارق منذ الساعات الأولى لكل صباح، حتى في فصل الشتاء تكون الشمس عديمة الرحمة.
تتغلغل أشعتها الحارقة بين المسامات، وتحقن فيتامين (د) في الأوردة مباشرةً، وتترك بصماتها على الجلود المتيبسّة، فتعرف الناس من بشرتهم المغبرّة، المصابة بالأشف، وكأنهم جنود أنهوا للتو مناورة عسكرية في رابعة النهار، ولكنها كانت الساعة العاشرة وعشر دقائق على ساعته الاسكواتش.
وقتها كان باعة الثلج قد أخرجوا ألواح الثلج المستطيلة، وغطوها بغرائر متسخة، وباعة الخضار فرشوا خضرواتهم على الأرض بعد أن دهنوها بالزيت، ورشوّها برذاذ الماء لتعطي اللمعان المطلوب، وبدأ الحدادون عملهم اليومي؛ فتطايرت شرارات اللحام في المكان، وتعالت أصوات طرقاتهم على الحديد، وبائعات الشاي فرشن أدواتهن في أمكانهن المخصصة، واندفع صوت (محمود عبد العزيز)، الجهوري، مُغنيًا من بعض أجهزة التسجيل الخاصة بصوالين الحلاقة، ومحلات السعوط:
كان بالإمكان، مع قليل من التركيز، سماع أنين الطعمية الحميم في الزيت المغلي على الصاج بوضوح بِكري لا يُخطئه الجائعون، وتعالت أصوات بائعي المرطبات، والماء البارد: "بَرِّد .. بَرِّد" وأصوات محركات المركبات العامة، ومحركات الركشات المزعجة، وأبواق المركبات الخاصة، وأخذت عوادم السيارات تملأ خياشيم العابرين بروائح الجازولين المحترق، وأعينهم بالدخان المسوّد الكثيف، حتى المتسولون اتخذوا مواقعهم المألوفة. كل شيء بدأ يأخذ وضعيته الصباحية المعتادة.
كانت تلك هي المرة الأولى التي يجلس فيها، منفردًا، على إحدى سلالم محلات (الكلاكلة شرق) التجارية. لم يكن صعبًا عليه، في ذلك المكان، إيجاد قطعة كرتونية ليضعها تحته، حتى لا يتسخ بنطاله، فالمكان يعج بالصناديق الكرتونية التي يُلقيها الباعة، من محلاتهم، على قارعة الطريق، وكان ذلك بديلًا جيدًا ومهذبًا، بالنسبة إليه، عوضًا عن افتراش الصحيفة، وأسر في نفسه أنه لا بأس من الاستفادة، أحيانًا، من فوضى الآخرين.
لم يكن الجلوس على الأرصفة، ومراقبة المارة، أو قراءة الصحيفة هناك تستهويه، ولكنه، ذلك اليوم، كان في انتظار طه شريف (صديقه الحميم)، الذي تأخر عشر دقائق عن موعده. لم يجد شيئًا آخر يفعله سوى تدخين سجارته، ونفث دخانها في وجه الأتربة المتصاعدة في المكان. لوهلةً ما، أحس بأنه في غرفة لاختبار التلوث، ولم تكن الرؤية، بسبب الأتربة والدخان الكثيف المتصاعد من فرندات وأفنية المطاعم، واضحة بما يكفي، وكان كل شيء يبدو، بالنسبة إليه، قديمًا وبائسًا وموحيًا بالكآبة، ومحرضًا على الاستياء.
الوقت، هنا، مسألة تقريبية لا أكثر، تمامًا كما يُمكنك وصف شخص رأيته، بصورة عابرة، قبل عدة سنوات في محطة القطار؛ هذا يعتمد على مدى قوة ذاكرتك، أو توقعك المسبق بأن تُسأل عنه لاحقًا! لا أحد، هنا، يأتي في الوقت المحدد؛ فالجميع يعلمون أن الساعة العاشرة لا تعني، بالضرورة، العاشرة تمامًا؛ فالوقت، هنا، مسألة تقريبية لا أكثر، ورغم ذلك فالسودانيون هم أكثر الشعوب افتقارًا لخصلة الصبر، وأكثرهم بغضًا للانتظار.
الاستياء والازدراء هما السمتان الأكثر بروزًا في ملامحه، حتى أنه عندما مرّت شاحنة بضائع عملاقة، وأثارت ورائها عاصفة ترابية؛ لم تتغيّر ملامحه كثيرًا، واكتفى بإعادة تصفيف شعره الأملس بيده بكل هدوء. دائمًا ما يُسرّ في نفسه: "الكَلَاكْلَة مَا بِتْحِبَ لِيْهَا زُول، ومَعْ كِدَا أَهَلَا بِيمُوتُوا فيها مُوت! دِي مَا بَلَد نَضَافَة، أَخِير الزُّول مَا يِحَاوِل يَبْقَى نَضِيْف في البَلَد دِي، لأَنّو مَا بِيلْحَق يِسْتَمْتِع بِالنَّضَافَة لِوَكِت طَوِيل!"
في الجانب الآخر من الشارع، وقفت فتاة سمراء نحيلة بعض الشيء، وهي تحاول إيقاف ركشةٍ ما. بدا عليها الانزعاج، وهي ترمق ساعتها اليدوية البخيسة بين الفينة والأخرى، وضجيج المكان والعابرين لا يوحي بأن أحدهم يتعاطف مع محنتها الخفية. حتى هو نفسه لم يكترث لها، واعتبرها جزءًا من لوحة المكان المثيرة للاشمئزاز والاستياء. خمّن أن استياءها ذلك منح ملامحها قبحًا إضافيًا؛ إذ بدا له أنها لم تكن بحاجة إلى العبوس لإبداء الاستياء؛ فقسمات وجهها كفيلة بذلك تمامًا؛ فهي مُعبرة عن الاستياء بصورة طبيعية.
ربما كانت الصدفة المحضة هي التي دفعت بركشةٍ، كُتب عليها من الخلف عبارة (ابتسامة حبيبي تكفي)، للتوقف أمام الفتاة المتجهمة مباشرةً، ولكنها استقلت الركشة دون أن تقرأ ما كُتب عليها، ودون أن تبتسم؛ فكانت كأنها لعبة قدرية ساخرة إلى الحد المثير للضحك والدهشة.
ثمة شابان أمردان يتغزلان بفتاة بدت عليها ملامح التسامح الجنسي، ترتدي عباءة سوداء ضيقة ومثيرة، مطرزة، بنقوش من الترتر الفضي اللامع، على الأطراف، ونقش عليها، من الخلف، رسمة عقرب تنتهي ذيلها عند مؤخرتها المنتصبة باكتناز كطبليّ قرع بلدي مكتملي الاستواء. كان واضحًا، من تبرّجها وزينتها ومشيتها، أنها ليست سوى إحدى مومسات الكلاكلة شرق اللواتي يظهرن في آخر المحطة لاصطياد الشبان، ومع هذا فإنها لم تلق لهما بالًا، وانطلقت متهاديةً في طريقها ناحية كشكٍ لبيع كروت الشحن، وإكسسوارات الهواتف المحمولة.
في جانبٍ ما، كانت ثمّة سيّدة تنهال على ابنها بالضرب لأنه سكب الفول المطبوخ من إنائه دون قصد. رجل يُصلح سفنجته التي انقطعت فجأة، وهو يحاول عبور الطريق. بدين يتهادى على مهل كبرميل قطران، غير مكترث ببدانته وأطرافه المترهلة. فتاة منشغلة بحديث، يبدو جادًا ومصيريًا، عبر هاتفها المحمول، غير آبهة بنظرات وهمسات البعض، ممن وقفوا لمغازلتها بلطف. أطفال أشقياء يلاحقون عربة كارو تحمل شحنة من البحص والرمل الأحمر، يقودها رجل حاد الملامح. سيدة مزدرّية تحرّك جريدةً أمام وجهها دفعًا للغبار، أو جلبًا للبرودة في انتظار شيء ما. شاب مجعّد الشعر يلوك علكًا، وهو يرمي بنظراته الاشتهائية على بعض المراهقات، من طالبات الثانوية، العابرات أمامه. عربة فارهة تقف، فجأة، أمام فتاة حسناء، نظيفة، لا تتوانى في الركوب فورًا؛ حتى دون التحقق من هوية السائق. رجل طاعن في السن، بائس المنظر، متسخ الثياب، يمشي، بتثاقل يُوحي بالقرف، هائمًا على وجهه، ويصطدم في كل مرة بأحد المارة. شاب يعبر بين الأفواج، بكل مرونة، بدراجته الهوائية، حاملًا أنبوبة غاز. كـلـب عجوز يعبر الطريق بعد تردد لم يدم طويلًا، وكأنه يختبر سلامة الطريق. مشاحنة بين بضعة رجال حول أمر سخيف وتـافـه، وسيدة، يبدو أنها زوجة أحدهم، تراقب من بعيد في انتظار ما ستنتهي إليه المشاجرة.
كل شيء، رغم حركته الدائمة، وضجيجه المستمر، يبدو عاديًا ورتيبًا بالنسبة إليه، وكأن هؤلاء البشر ليسوا سوى روبوتات مُبرمجة آليًا لفعل ذات الأشياء كل يوم. إنها الكلاكلة شرق؛ حيث كل شيء ممكن، وخارق للاعتيادية.
في مكان ما، قريب، يقفز أحدهم من حافلة ركاب كانت على وشك التوقف، ليُردد بنبرة عالية ومميزة: "عَرَبي ... عَرَبي ... عَرَبي" فيبدأ الناس بملاحقة الحافلة؛ حتى قبل أن تتوقف تمامًا، بينما وقفت سيّدة أربعينية، تحمل بيديها أكياسًا ثقيلة غامقة اللون، لتسأل الكُمساري: "بِالغَابَة ولاَّ بِالحُرِيَّة؟" ليُجيبها بنصف اهتمام: "بِالغَابِة يَا خَالَة!"
الرجال هم الأوفر حظًا في مثل هذه المواقف، ولم يعد الكثير منهم يترك مقعده لسيدة أو فتاة، أو حتى يتنحى لها جانبًا لتصعد إلى المركبة أولًا، تلك خصلة أثرية قديمة، يتذكرها البعض بكثير من الشجن والسخط على ما آل إليه الحال. "الحُكُومَة هِي السَّبَب!" هكذا برر البعض، بينما رأى آخرون في ذلك سذاجة مفرطة تستحق السخرية.
"الكَلاكْلَة مَدِينَة مَا بِتتغَيَّر!" هكذا كان يقول؛ لاسيما بعد عودته من اغتراب دام ثلاثة عشر عامًا؛ منذ أواخر التسعينيات، وعاد ليجدها، كما هي، لم تتغيّر إلاّ بقدر ما كان يكفي لأن يشعر بأنها ليست جزءًا من الكون المتغيّر على الدوام. خمّن أن الكلاكلة لا يعنيها تسارع العالم المجنون خارجها، وأنها تراهن على أن تكون أول بقعة، في هذا الكون، لا تستفزها الرغبة في التغيّر أو الحركة المليميترية، ولا تسري عليها قوانين الفيزياء الطبيعية. الشيء الوحيد الذي يتغيّر في هذا المكان هم الناس.
شهدت الكلاكلة في حقبة ما، نزوح آلاف الجنوبيين إليها، عندما سقط الجدار الجغرافي الذي كان يفصلها عن حي مانديلا وحي مايو القديم، بعد التوسع الكبير الذي شهدته الكلاكلة في السنوات السبع الأخيرة، في الوقت الذي انشغل فيه كثير من المحس والحلفاويين وبعض الأعراب، من سُكان الكلاكلة الأصليين، بالهجرة إلى الخليج، أو السعي المحموم وراء الحصول على لجوء سياسي مُلفق في إحدى الدول الأوربية.
وُلدت أجيال جديدة، ومات الكثيرون ممن عمّروا المكان سابقًا، وتبدلت الخارطة الجينية للكلاكلة، فلم يعد يعرف فيها إلاّ القلّة التي بقيت، وبعضًا من أقاربه الذين استوطنوا المكان منذ حقبة بعيدة؛ عندما كانت الكلاكلة، كالمنفى، على أطراف العاصمة القومية، وكان يُعتبر الذهاب إليها مجازفة غير مدروسة العواقب؛ إذ كان الكثيرون يتعاملون معها على أنها قرية ريفية، يحتاج الذهاب إليها استعدادات طويلة مُبكرة، كاستعدادات السفر. كُتب على الكلاكلة أن تكون من أحياء شماليّ الخرطوم؛ هكذا خططت الحكومة، ولكنها أبت إلاّ أن تكون مدينة قائمة بذاتها.
نهضت بعض البيوت الخرسانية المسلحة، على استحياء، في أرجاء متفرقة من الكلاكلة، بينما كانت البيوت المبنية بالطوب الأحمر هي الأكثر هيمنة على المدينة، بالإضافة إلى بعض البيوت الجالوصية البائسة. ثمة شارع أسفلتي جديد، يبدو أنه تم إنشاؤه قريبًا، يربط بين أحياء الشَّجَرَة والصَّحَافَات وجَبْرَة وبين حي الكَلاكْلَة الوِحْدَة والدِّخينَات والشِّقيلاب وأُم عُشر. لم يشهد مولد هذا الشارع الحيوي، والذي سُمّي، فيما بعد، بشارع شَرِق، الذي ينتهي، بالنسبة إليه، عند تقاطع حي الكلاكلة الوحدة مع حي الإسكان العشوائي؛ حيث السوق ومحطة المواصلات الرئيسة.
شعر بانتعاش سوق اللفّة الشهير، بعد أن كان مُجرد محطة للمركبات العامة، التي تربط بين العاصمة القومية والكلاكلات، وكان يعتبره البعض نقطة استراحة بين العاصمة وبين (جبل أولياء) جنوبًا. قال في نفسه: "تَلاطَاشَر سَنَة كَافْيَة جِدًا عَشَان مَا تُقُوم ثَوْرَة في بَلَد بِحَالا، لَكِن الظَّاهِر مَا كَافْيَة عَشَان الكَلاكْلَة تِتغَيَّر!" ولكن اللفّة، الآن، أصبحت تنافس سوق ليبيا، وسَعَد قِشْرَا، وأصبحت عالماً آخراً قائماً بذاته، لم يلتفت إليه أحد. كل شيء يُمكن أن يحدث في اللفّة دون أن تعلم به الحكومة، وربما بعلمها كذلك، وكأنها مدينة خارجة على القانون. بإمكانك أن ترى لوحة بانورامية للسودان والقبائل السودانية، بمجرد وقوفك في اللفة، أو أحد محلاتها التجارية، وتستمتع بالتنوع الذي سوف تراه في سحن البشر، ولهجاتهم ولكناتهم.
شوارع الكلاكلة الترابية توحي لك بأنك في مدينة تاريخية، لا تسكنها سوى أشباح الأسلاف، ولعنتاهم المقدسة. تنظر إلى البيوت الجالوصية، وتلك المبنية من الطوب الأحمر المحروق؛ فيُخيّل إليك أنها بيوت أقوام أخذهم الوباء في أزمنة سحيقة، ولا يكون في إمكانك الجزم بأن بيوتًا كهذه قد تكون مأهولة بالسُكان!
مؤخرًا أخذ سُكان الكلاكلة بالاهتمام بالزراعة؛ لاسيما أمام بيوتهم، ما أعطى المكان لفحة حيوية، يُعززها مرور الكلاب باحثة عن وحلٍ ما، تمرّغ فيه أجسادها من حرارة الشمس الحارقة، ونهيق بعض الحمير المنهكة، وتلك التي تنتصب أعضاؤها الذكرية، وهي تأكل برسيمها النضر في ملل وضجر باديين، مثيرةً، بذلك، غيرة الرجال وحياء النساء.
كلاب الكلاكلة تنام نهارًا، وتعمل ليلًا، فليس لها شيء تفعله سوى النباح طوال الليل، إما في وجه اللصوص والغرباء أو في وجه بعضها البعض، وهي تحاول رسم حدود سيطرتها. كان يقول دائمًا: "الكَلاكْلَة مَدِينَة الكِلاب وَالنَّاس!" إذ يُلاحق البشرُ الكلاب نهارًا، وتلاحقهم الكلاب ليلًا. يعرف الكلاب، هنا، متى يُمكنها النباح في وجه البشر، ومتى يجب ألاّ تفعل، كأن الأمر متفق عليه مُسبقًا.
في الماضي كان شباب الكلاكلة يجتمعون عند إطارات السيارات المستعملة المغروسة على الأرض في زاوية ما من الحي، ولكنهم الآن تركوا تلك العادة، وانصرفوا إلى لعب البلي ستيشن، والبلياردو ، وشرب الشيشة في المقاهي العامة، وربما ازدادت فتيات الكلاكلة جاذبية وسحراً؛ لاسيما بعد انفتاحهم على القنوات الفضائية، وتعرفهم على عوالم نسائية أخرى لم يكنّ على دراية بيها فيما مضى.
أصبح من الطبيعي أن تسمع أغنيات عمرو دياب أو نانسي عجرم كنغمات لهواتف الشباب المحمولة، ولم تكن تلك ظاهرة بادية قبل عشر سنوات. أثرت القنوات الفضائية على توجيه ميول كثير من الشباب، حتى أن معايير الجمال التي كانت تتنافس حولها الفتيات اختلفت، فلم تعد السمرة أمراً محبباً كم في السابق، وبدأت مستحضرات التجميل، وكريمات تفتيح البشرة: فير آند لفلي، وكيللي تنتشر في الأسواق والصيدليات، حتى أن حبوب تكبير الأرداف والأثداء وجدت رواجاً كبيراً في الآونة الأخيرة.
أصبح من المعتاد، الآن، أن ترى، في شوارع الكلاكلة وأسواقها العامة، فتاةً بوجه أبيض، ويدين سمراوين، أو فتاة نحيلة منتصبة الأرداف! ولم يكن لذلك، بالنسبة إليه، إلاّ دلالة واحدة، وهي أن ثقافة الإغراء عرفت طريقها إلى المرأة السودانية، وكان ذلك سبباً في تقاعد مومسات الكلاكلة القديمات، اللواتي لم يكن أهلاً لمنافسة جيل الإنترنت، والقنوات الفضائية؛ هذا الجيل الذي يمتاز بالجرأة، ويتقن لغة الجسد.
غاب عن المكان، وهو يُصارع قساوة الانتظار، وراح يتذكر بعض الذكريات غير المرتبة في عقله. أول ما أسعفته ذاكرته باستدعائه، كانت ذكرياته، الأكثر حداثةً، عن مصر، ورحلته التي قام بها مؤخرًا لتدشين روايته الأولى (أنسنة الشيطان). منحته تلك الذكرى بعض السلام الذي كان يفتقده، وأشعرته بالراحة والطمأنينة.
بطريقة تلقائية وجد نفسه أمام صورتها المحفوظة، بعناية، في إحدى أقبية اللاشعور: جميلة كما رآها أول مرّة، واقفةً أمام مبنى السفارة السودانية في حيّ جاردن سيتي بالقاهرة، وهي تتفقد هاتفها المحمول بقلقٍ لم يستطع أن يُخفي ملامحها الفاتنة.
بأصبعيها: الوسطى والبنصر، أزاحت خصلات شعرها الجامح عن وجهها الوادع، لتضعها وراء أذنها، وكأنها كشفت له، بصفة خاصة، عن كنزها الأثير. كان جمالها من النوع الذي جعله يتوقف فجأةً، ثم لا يبرح مكانه. تعلقت عيناه بها، وراح يراقبها دون أن يُشعرها بالتطفل. سمراء صافية البشرة، وشعرها مفتول بالمشاط الكُردفاني بدقة متناهية، ممشوقة القوام إلى الحد الذي يسمح بأن يأخذ كل عضو، في جسمها، حقه من الاكتمال والنضوج المثيرين. لها ثديان بارزان كأنهما ثمرتا أناناس استوائي في غير موسم الحصاد، وشفتان صغيرتان ومثيرتان كأنهما تخصان دمية بلاستيكية أو طفلة صغيرة.
ترتدي بنطالًا من الجينز الأزرق الغامق، وأطراف جيوبه وقدميه موشحة بخيوط حريرية حمراء رقيقة. يضيق عليها البنطال ليشفّ عن ساقٍ أنثوية مستفزة، وأرداف مكتنزة في تناسق مثير، وقميص أبيض ذو ملامح أفريقية بلا ياقات، أكمامه مطرزة بنقوش ذات ألوان جاذبة، وفي منتصف قميصها، من الخلف، رسمة تجريدية مشهورة لتشي ﭼيفارا. ترتدي قبعة شبابية معكوسة، أضفت إلى جمالها جمالًا ذا بُعد يُناهض الكلاسيكية.
فتاة أفريقية النكهة والمذاق، رقيقة كأنه تم تخليقها للتو! كانت تنقر على لوحة مفاتيح هاتفها المحمول بأصابع ناعمة وطويلة، وترتدي خاتمًا متعدد الألوان في إبهامها الأيسر، ورغم أنه لم يتمكن من رؤية عينيها المختفيتين وراء نظارتها الشمسية الكبيرة؛ إلاّ أنها تمكنت من استفزازه، وجذبه إليها بكل يُسر وسهولة.
عندما أحس بأنها على وشك المغادرة، تقدّم إليها بخطوات مُسرعة، دون أن يعلم ما يُمكنه قوله لها، ولكنه لم يشأ أن يفقدها أو أن يدعها تذهب دون أن يتحدث معها. - السَّلامُ عَليكُم. أَقْدَر أقَدِّم لَيْكِي أيّ خِدْمَة؟ شَايْفِك زِي الوَاقْعَا لَيْكِ في مُشْكِلَة. - شُكْرًا؛ بَطَّارِيَة الموبَايل زَي الدَّايرَا تَقَع، ودَايْرَا أَعْمَل تِلِفُون مُهِم أَوِي. - عِنْدِك إجْرِاءات في السِّفَارة ولاَّ شُنو؟ - آي، بتَعْرِف لِيْك زُول في السِّفَارة؟ - صَرَاحَة: لأ، لَكِن مُمْكِن نِجَرِّب سَوا، يِمْكِن نَقْدَر نَعْمِل حَاجَا. - شُكرًا لِيْك كَتِير، لَكِن لازِم أَمْشِي عَشَان أكْسَب زَمَن. - حَنِتْقَابَل تَاني؟
أعجبها سؤاله الطفولي الجريء، بذات القدر الذي شعرت فيه بالدهشة، ولكنها نظرت إليه بعمق لبعض الوقت؛ قبل أن تجيبه بغنج أنثوي مدروس: "لَو عَايِز!" ثم ابتسمت ابتسامة ذات مغزى، جعلته يتبعها، ويسيرا، معًا، نحو ميدان السادات. توقفا قليلًا بجوار مبنى مجمّع التحرير؛ حيث عرض عليها تناول وجبة سريعة في مطعم هارديز المطل مباشرة على ميدان التحرير.
صعدا إلى الطابق الثاني من المطعم، وجلس في مواجهتها تمامًا، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يستمتع فيها برؤية عينيها الساحرتين، عندما خلعت نظارتها الشمسية: عينان واسعتان تكادان تلتهمان كل شيء تنظران إليه، نظراتها حادة وموحية للغاية؛ من ذلك النوع الذي لا يستطيع أحد مقاومتها، وكأنهما تدعوان إلى الاقتراب حدّ الاحتراق أو الهرب حدّ التعلّق. أدرك، عندها، بأنه غرق فيهما حدّ اشتهاء التنفس؛ فخرج على الفور، وتناول سجارة أحس بأنها ساعدته على استعادة التوازن. خفق قلبه بقوة، مثلما لم يخفق من قبل، وشعر بسعادة غامرة؛ كونه ظفر بأنثى فاتنة تشاطره إحدى لحظات اغترابه السريع.
تحدثا لوقت طويل عن القاهرة وشوارعها وأهلها، وعن السودانيين القاطنين فيها منذ سنوات. كانت تتكلم عن ذلك بحزن بالغ، وشعر بأنها تخشى أن تصبح واحدة من أولئك الذين ابتلعتهم شوارع القاهرة في كرشها، وقذفت بهم إلى غياهب اليأس والمجهول دون رحمة. كانت لكنتها السودانية مشوبة بشيء من اللكنة المصرية؛ الأمر الذي أعطى لكلامها بعضًا من الرونق والغنج المحبب. - دَي الزِّيَارة الأُولى لِيْكِي؟ - لأ، لَكِن دِي أرْوَع زِيَارة لَي. - وجَاي تَعْمِل إيَه في مَصْر؟ كَايِس لُجوء سِيَاسِي بَرْضَك؟ - لأ، أنا جَاي لحَفْل تَوقِيع رِوايتي الأولى. - واو! إنتا رِوَائي؟ - يَعْنِي؛ مُمْكِن تُقُولي كِدَا. يَا دَاب في بِدَايَة الطَّرِيق. - أنا بَمُوت في الرِّوَايات؛ وبِالزِّات الرِّوايَات السُّودَانية. بِتْحَسِّسني إني لِسِّه سُودَانية في الغُرْبَة الأرَف دِي. - شَكْلِك مُطَوِّلَة في البَلَد دِي. - لَو شَايِف إنو خَمْسَه سَنَة كِتِيْرَة، فَأنا أَعَدْت كِتِير. - بَسْ شَايْفِكْ بِتتكَلَّمِي مَصْرِي! - آي، أنَا فِيْني عِرِق مَصْرِي أصْلاً، مِنْ نَاحيَة أهَل مَامَا، لَكِن صَدِّقْني الخَمْسَه سَنَة دِي وَلا حَاجَة بِالنِسْبَة للنَاس البِتُؤعُد في البَلَد دِي بِالعَشَرَة والعِشْرِين سَنَة. - صَرَاحَة مَا اتْعَرْفَت لِسَّه عَلى زُول مِن الجَالِيَة السُّودَانية، لَكِن دَا مَوْضُوع تَاني، خَلِّينَا نِتْنَاقَش فِيْهُو بَعْدَين.
قبل وداعهما الأول؛ أبدت (شاهيناز حسب الرسول) بعض الارتياح لحديثها معه، ونجحت في نقل ذلك إليه بيُسر، فهي صنعة أنثوية لا تحتاج إلى كثير مراس. تحدثا مطولًا عن كل شيء؛ إلاّ الحب، وكأنهما اتفقا على ذلك مسبقًا، ولكنه كان يقول دائمًا: "أيّ حَاجَة إزَا كَانَت مَا بِتَفْضِي للحُب؛ فَأكِيد بِتَنْبُع مِنَّها." فكان حديثهما، بالنسبة إليه، مدخلًا إلى عوالمها الخاصة التي استطاع، عن طريقها، بناء تصوراته العاطفية تجاهها، فوجدها أنثى تحمل من الدفء ما يكفي لأن يحترق بها إلى الأبد، وانسابت ضحكاتها المدهشة في أذنيه كأرواح خيّرة سكنته، وتمكّنت منه فلم تفلته.
كان كل شيء فيها رقيقًا ومدهشًا ومثيرًا؛ حتى غيابها اللحظي عن المكان، وقلقها الذي كان يؤرقه بين الفينة والأخرى؛ عندما تتذكر معضلة نفاد بطارية هاتفها المحمول، وإجراءات السفارة العالقة، والتي لم تفصح له عن تفاصيلها، رغم حرصه على ذلك.
شعرت نحوه بميل غريب، وأدهشها ذلك، ولكنها كانت ترى في عينيه الحزينتين أمنياتها الضائعة في رجل يُمكنها أن تهبه حبها دون خوف أو توجس. تشعر المرأة بالإغراء تجاه أيّ رجل غامض، فالغموض خصلة أنثوية لها دلالاتها؛ لذا تشعر المرأة بالإرباك تجاه الرجال الغامضين، لأنهم، بطريقةٍ ما، يُنافسونها على أحد أهم أسرارها على الإطلاق.
تبادلا أرقام الهواتف، وتواعدا على أن يلتقيا قريبًا؛ كان ذلك قبل أن يُفاجئها: "عَلَى فِكْرَة: أنَا بَطَّارِيَة مُوبَايلي مَلَانَة، مُمْكِن تِسْتَخْدِمِيها في مُوبَايلِك، وتِتْكَلَّمَي زي مَا دَايْرَا!" عندها فقط عرفت أنه كان بإمكانه اقتراح ذلك منذ البداية، وأحست في تصرّفه مكرًا لا ضرر منه؛ فاكتفت برسم ابتسامة متوددة، وهي تجيب: "شُكرًا، مَا كَان مِن بَدْرِي!"
ثلاثة أسابيع قضاها في القاهرة، لم يفترقا فيها إلاّ لمامًا، أنجزا فيها كل شيء معًا: الجلوس على مقاهي البورصة وخان الخليلي، احتساء السلحب بالمكسّرات والزبيب، أكل الترمس والذرة المشوية على كورنيش النيل ليلًا، وجبة كشري مُشبعة من (ملك الكشري)، الرحلات النيليلة، دور السينما، التسكع في الشوارع، وزيارة المكتبات الشهيرة، واقتناء الكتب وتبادلها، وحضرت معه حفل توقيع روايته في أتيليه القاهرة، وزارا، معًا، المتحف القومي، ومتحف الشمع، وأهرامات الجيزة. تمددا على حشائش حديقة مطصفى محمود الرطبة، وطافا محلات وسط البلد التجارية، ولابد أن ينتهي بهما اليوم عند (خمارة الحرية) في ميدان الفلكي، ليحتسيا السقارة الباردة، ويملأ كل منهما رأسه بالكحول المخففة، وينصرفا بعدها متعانقين، تملأ ضحكاتهما أوردة شارع صبري أبو علم؛ وهما متجهان إلى ميدان التحرير.
تلك الليلة؛ لم يكن بحاجة إلى كثير عناء ليُقنعها بالذهاب معه إلى شقته في باب اللوق، فقد كانت لديها رغبة عارمة في تقبيله بخصوصية، وصرّحت له بذلك. قالت في ثقة مفرطة: "أصَلْ مَا فَضّلش غِير كِدَا!" وفعلت الكحول فعلتها بهما تلك الليلة. في الصباح الباكر، استيقظ بتكاسل ليجد ورقة صغيرة على المنضدة، التي كانت مليئة بعلب السقارة الفارغة، والسجائر، وأعواد الكبريت المحترقة، كُتب عليها بخط مهزوز: "دِي كَانت أحَلَى غَلْطَة في حَيَاتي!" ولم يرها منذ ذلك اليوم وحتى سفره.
كانت قد أغلقت هاتفها المحمول، ولم يستطع العثور عليها في أي مكان، حتى أنه كان يذهب إلى السفارة السودانية يوميًا؛ علّه يجدها هناك، ولكن دون جدوى، فتركت بذلك فجوة في قلبه الذي كان قد أُغرم بها، كما لم يُغرم بفتاة من قبل. أراد فقط أن يسأل عن سر ما فعلته، أن يراها؛ ولو لدقيقة واحدة، أن يتأمل وجهها الملائكي الوادع، وأن يسمع ضحكاتها الطفولية الآسرة، أن يُداعب خصلات شعرها الكُردفاني الجامح، ولكنها لم تعد مرة أخرى.
الحياة دائمًا تمضي قدمًا، دون أن تكترث بما فعلناه، وبما لم نفعله، وحتى تلك الأشياء التي أغفلنا فعلها عن عمد؛ لذا فإن كل لحظة في حياتنا نادرة بمعنى الكلمة. استغلال اللحظة الآنية هي الطريقة المثلى لصناعة التاريخ والتوثيق له، فإن لم نكن ممن يهتمون بالحاضر، ويُحسنون استغلاله، فإننا، ولاشك، من الذين يبكون كثيرًا على الماضي، ويسجنون أنفسهم داخله.
لا شيء قد يُبهرنا سوى تلك المصادفات التي تبدو وكأنها هدايا قدرية ترمي بطريقها أمامنا، تلك لحظة لا يُمكن تعويضها؛ إلاّ باقتناصها فورًا، أو الاحتفاظ بها في أقبية الذاكرة، كأيقونات مُحرّضة على الحسرة؛ هي إنما بذرة النوستالجيا الحمقاء التي يُجيد أداءها الفاشلون والجبناء، ممن لا يُحبون المغامرة.
ثمة أشخاص يدخلون قلوبنا ويخرجون منها كل يوم. قلوبنا كغرف تبديل الملابس، ولكن شيء منهم يتبقى لنا في كل مرّة: روائح، أصوات، مقولات، ضحكات، مواقف، صور. أولئك الذين نحبهم: هم الذين يتركون بقايا أكثر وراءهم. عندما ينفلت خيط من بكرة القلب، فإنه يبقى مشدودًا إلى الأبد، وهذا ما يجعلنا، دائمًا، في حالة من الحنين والحسرة تجاه بعض الذكريات والأشخاص. شاهيناز حسب الرسول تركت أشياءها كلها في قلبه، وغادرته دون أن تغلق الأبواب.
كان من الصعب عليه أن يُصدق أن فتاة مثلها قد تدخله وتخرج بهذه السهولة؛ في اللحظة التي أحس فيها بأنه وجد واحته المفقودة. وقتها شعر بأنها غدرت به وقد أسلمها زمام حاضره وتاريخه، وحتى مستقبله؛ تلك كانت أكثر المآسي التي سجّلها في دفتر مذكراته، ولم يكن من السهل عليه توقع كيف يُمكن أن تكون الحياة بدونها. "أَرِيْتِني مَا لَاقِيتَا!" كثيرًا ما استغرب هذه العبارة ذات الدلالة العبثية، ولكنه وجد نفسه يُرددها كلما عاوده الحنين إليها، دون أن يجد حلًا لمعاناته تلك.
لا حيلة لنا إزاء ما حدث في الماضي، فليس بإمكان أحدنا تغيير ما حدث؛ ومن أجل هذا فإن الأشخاص الأقل ندمًا هم الأكثر نجاحًا في حياتهم. أذهلته تلك العبارة الحكيمة التي قرأها في كتاب عن الحضارة اليابانية القديمة: "عِش حاضرك؛ تكن راضيًا عن ماضيك!" ومنذ ذلك الحين؛ قرر أن يُطبق ذلك على نفسه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
11-03-2011, 10:20 AM
عصام دهب
عصام دهب
تاريخ التسجيل: 06-18-2004
مجموع المشاركات: 10401
كان الوقت يُقارب العاشرة والنصف صباحًا على ساعته الاسكواتش عندما بدأ يُحس بالملل. وعندما عقد العزم على مغادرة المكان، شاهده قادمًا من بعيد، وقد شمّر كُمّ جلبابه حتى بدا رسغه، بشعره الأجعد، ومشيته المميزة، وخطواته الواسعة، وهو ينتقل بنظراته بين الفتيات والنساء العابرات، والواقفات في انتظار المركبات العامة على جانبي الطريق، وكأنه لا يُريد أن يفوّت على نفسه أيّ مشهد على الإطلاق.
توقف فجأةً قبل أن يصل إليه. طفت على وجهه ابتسامة ماكرة يعرفها جيدًا، وهو يفرك شاربه الكث، المشوب ببعض الشعرات البيضاء، بأطراف سبابته، مصوّبًا نظراته المتصيّدة إلى الناحية البعيدة من الطريق؛ حيث تقف سيدة ثلاثينية بيضاء مكتنزة الجسم، لفّته، بعناية، بثوب أبيض مرقط بدوائر ملونة مختلفة الأحجام، وبدت الحناء مثيرةً على أطراف أصابع قدميها، اللتان برزتا من حذاء ذهبي ذا كعب عالٍ، وعلى يديها البضتين؛ لتضفي عليها جمالًا يزيد من جمالها.
عرف عندها أن صديقه في حالة مغازلة، لن يُغادرها قريبًا قبل أن يظفر بنظرة أو ابتسامة من تلك السيدة، التي بدا عليها أنها في انتظار شيء مهم، ولم تكن تلحظ وجوده على الإطلاق. تنهد مبديًا استياءه، وتقدّم نحوه بتثاقل:
كانت تلك واحدة من مآسيه التي أجبر نفسه على تحمّلها معه، وإحدى المتناقضات التي جمعتهما معًا. كان دائمًا يقول: "طَهَ شَرِيف: شَمْبُوَرَه كَبِيَرة قَام لِيْهَا رَاس بَني آدم!" له قدرة غريبة على ملاحقة الفتيات ومغازلتهن في أي وقت، وعلى أية هيئة. له حكمة يُرددها دائمًا: "مَافي جِكْسُويَة مَا بِتْحِب يِشَاغْلُوهَا، كُلَهِن بِيْحِبَن المشَاغَلات، بَسْ الشَّغَلَة دَايْرَة صَبُر وطُوْلَة بَال."
(طه شريف) شاب في أواخر الثلاثين من عمره، ممتلء الجسد، له كرش عملاقة، وشارب كث، وشعر مجعّد مشوبان بالشعر الأبيض الذي يحرص على إخفائه باستخدام الصبغة بين كل فترة وأخرى، وثمة ملامح وسامة قديمة بادية على عينيه العسليتين الماكرتين. إذا تكلّم فإن يداه تتحركان وفقًا للسانه، قال له صديق قديم متندرًا: "والله شَكْلَك كَان رَبَطُوا لَيْك يَدّينَك مَا حَتَقْدَر تِتْكَلَّم. في عِلَاقَة مِيْكَانِيْكِيَّة غَرِيبَة بين يَدّينَك ولِسَانَك، حَقُّو العُلَمَا يَدْرِسُوا حَالتَك دِي."
كان أحد الذين تركوا الدراسة والتحقوا بمعهد التدريب المهني، لم تكن لديه رغبة جادة في التحصيل الأكاديمي، وكان يرى أن القراءة، وكل ما يتعلق بها وما يُفضي إليها، أمر لا يعنيه في شيء. تتجسّد الدنيا، لديه، في شكل أنثى مثيرة تأخذه، من أم رأسه، إلى حتفه الجنسي المحتوم. "المشَاغَلَة مُتْعَة في حَدّ زَاتَا؛ كَان بِقَى فِيْهَا هَرْكَيَك ولاّ مَا بِقَى فِيْهَا" هكذا كان يرد على كل من ينتهره، عندما يكون في حالة مغازلة؛ ولذا لَقبّه البعض: (طه جكس)، وكان اللقب الأقرب إلى قلبه؛ إذا كان يعني في جانب منه: قدرته على اصطياد الفتيات ولفت أنظارهن، وتلك ميزة لا يتمتع بها الكثيرون من أصدقائه؛ فكان يرى فيها ميزة يُفاخر بها أمام الآخرين.
تشاجرا، كعادتهما، حول هذا الأمر، وظل ينتظره وهو يلف نظراته المفتولة، كأفعى أناكوندا لزجة، حول تلك السيدة التي توقفت عربة فارهة أمامها مباشرةً، فركبتها دون توانٍ، تاركةً إياه غارقًا في لُج نظراته الشبقة التي بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا هي الأخرى. أنهى حالته الشبقية بابتسامة ماكرة أخرى، وضعها على وجهه بشكل مدروس، وهو يلتفت إلى صديقه: "قَرَّبَت تَفْصِل مَعَاي!"
كمن لم يسمع شيئًا؛ فَرَدَ جلال هاشم (أجراس الحرية) أمامه، وهو يقول له بنبرة لا تخلو من اليأس: "أَخِيْرًا نَشَرُوا المقَال بِتَاعِي!" بينما حاول طه شريف اصطناع الجدّية، وهو يقرأ عنوان المقال الذي تصدّر الصفحة الثقافية بخط عريض: (توتياء الثقافة السودانية). حاول إظهار بعض الاهتمام المتكلّف، وخذلته طاقته وهو يتساءل: "التُّوتياء دِي شُنو؟" لم يتفاجأ جلال هاشم لهذا السؤال، غير أنه أخذ الجريدة من يده، وأعاد لفّها مرّة أخرى، وأجاب بنصف تركيز: "حَاجَة مَا عِنْدَها عِلَاقَة بِالجِّكْس."
بضربة خفيفة من الجريدة على مؤخرته، حثه على المضي قدمًا لما جاءا من أجله: "أَرَح نَمْشِي القَهْوَة، تَشْرَب الجَبَنَه بِتَاعتَك دِي، ونِنْتَهِي مِن الموضُوع البِيْض دَا." كان طه، وقتها، قد عاد يبحث عن أنثى يُشغل وقته بمغازلتها، فأمسك جلال هاشم بيده، وهو يتقدّم به: "يِمْكِن تَلقَى لَيْك وَاحْدَا في السِّكَّة يَا مُرَاهِق!" عندها توقف طه شريف؛ لينظر إلى ساعته باهتمام وجدّية غير مسبوقين: - سَمِحْ! لِسَّه الوَكِت بَدْرِي. حَوَدِّيك حِتَّه شَرْط الشَرِط. أنا مُتْأكِد حَ تَعْجِبَك للدِّين. - إنتا عَارِفني مَا بَحِب البَرَامِج المفَاجأه دِي. - إنتا مُش بِتْقُول بِتْحِب المغَامَرَه؟ - أها، نَاوِي تِوَدِيني وِين المرَّه دِي؟ - حَ نَركَب مُوَاصَلات (الصَّحَافَه شَرِق) لَغَاية آخر المحطَة، في السُّوق المركزي. - أها، والجَدِيد شُنُو في السُّوق المركزي؟ - حَ أوَرِيك عَالم سِتَّات الشَّاي العَلى أُصُوله. - سِتَّات شَاي؟ مَا هِنَا كَمَان في سِتَات شَاي بَرْضُو يَا طَه، مَافي دَاعِي نمشِي لَغَايِة السُّوق المركزي. - صَدِّقني دَا عَالمَ تاني، والأجْوَاء زَاتَا مُختَلِفَه شَدِيد: جَبَنَه وشِيْشَه وشَرَامِيط مِن أُمُّه. - والله إنتا زُول فَارِغ خلاص. بالله دَايِر تُوَدِيْنَا لَغَايِة آخر المحطَه عَشَان الكَلام الفَارِغ دَا؟ إنتا قِصَّتَك شُنو مَع أواخر المحطات دَايمًا؟ - إنتا نِسِيْت إني كُنْتَ شَغَّال سَوَّاق في خَطْ شَرِق دَا؟ بَمْشِي أَشْرَب ليّ كُبَّاية شَاي، وأَشَاغِل سِتَّات الشَّاي، وآخُد لي حَنَك حَنَكِين مَعَاهُم، لَغَايِة مَا نِمْرَتي تَجِي. حَيَاتي كُلَّهَا في أواخر المحطَات الما عَاجْبَاك دي، وبَعْدِين مَا تَعْمَل لي فِيْهَا مَا عِنْدَك عِلاقَه بالجِّكس، والله إلاَّ تَكُون زُول بَاطِل سَاي. - مَافِي زُول مَا عِنْدُو عِلاقَه بالحَاجَات دِي، مَا أصَلًا الحَاجَه دي غَريزيه، لَكِن لازِم تِتْعَلَّم تِهَذِّب غَرِايزك دِي، الشَّغَلَه مَا حَيْوَانِيه يَاخي. - عَليك الله مَا تَحِشَّ لَيْنَا أفْكَارْنَا. سِيبْنَا باللهِ مِن حَنَك المثَقْفَاتِيَّه المسْتَحَمِّي دَا، بَلا أَهَذِّب بَلا سَجَمْ رَمَاد.
وافق جلال هاشم على مضض، معتبرًا إياها مغامرة روائية جديرة بالمعايشة، وتذكر تلك اللحظات الخيالية التي كان يقضيها في مقاهى البورصة بالقاهرة، منتبهًا، إلى تفاصيل ما يجري من حوله، وكأنه يحاول تحنيط تلك اللحظات في ذاكرته الروائية. نساء ورجال بسحنات مختلفة، وأحاديث وضحكات، ومشاجرات، وأغنيات لا حصر لها؛ تتفاعل جميعها لتجعل من كل لحظةٍ لحظة فريدة من نوعها. بإمكان أيّ كان أن يخرج بتصوّرات درامية غنية ومشوّقة؛ فقط من استماعه إلى مشاجرة بين رجلين في مقهى البورصة، أو حديث خاص بين اثنين هناك. خيّل إليه أنها فرصة جيّدة لإغناء ذاكرته الروائية بأشياء ومواقف وشخصيات جديدة، فلم يُعارض مطوّلًا، غير أنه شعر ببعض الكسل حيال مشوار (طه جكس) المريب.
لم يكن يشأ أو يُحب أن يكون جزءًا من أحد مخططاته الشهوانية المراهقة؛ إذ لابد أن يتعلق الأمر بالنساء طالما كان طه جكس متورطًا فيها بطريقة أو أخرى. كان يتعجّب من قدرته على إبداء الاهتمام بالنساء، وكل ما يتعلق بهن في كل وقت، حتى عند ساعات الظهيرة القائضة التي يشعر حيالها الكلاب بالإعياء. كان يفعل ذلك، في كل مرّة، بمتعة متناهية، وكأنها آخر اللحظات أو أُولها، وظل يُردد على مسامعه: "عَليَّ الطَّلاق لَو مَا الجِّكْس دِيل، كَان انْتَحَرْتَ زَمَان."
الشيء الوحيد الذي خشيه: أن لا تروق له آخر المحطة، وألا ينسجم مع أجوائها، فلم يكن يثق بتقديرات طه، وتقييمه للأشياء. خشي أن يكون المشوار مضنياً بلا طائل، وفكّر في بدائل إن أفضى به الحال إلى ذلك.خمّن إن بإمكانه الذهاب إلى مكتبة (مدارك) في شارع الصحافة شرق، لاقتناء بعض الكتب، أو زيارة مركز (الخاتم عدلان) علّه يُصادف ندوة فكرية أو أدبية، أو ربما فكّر في الذهاب إلى مكتب(أجراس الحرية) في خرطوم 2 الذي لا يبعد كثيراً عن مكتبة مدارك، علّه قد يجد فيه بعض الأصدقاء، فيتبادل معهم أحاديث مفيدة، يحرص على سماعها منهم.
كل تلك المشاريع التي خطرت بباله، كانت ممكنة التنفيذ في حال لم تعجبه الأوضاع في آخر المحطة، ولكنه شعر حيال كل ذلك بالممل، وأحس بأن يومه ذلك سوف يضيع هباءً. لا يعرف سبباً لتلك الحالة التي أصابته منذ قدومه إلى السودان، فهو لم يشعر بأي حماسة تجاه شيء منذ جاء، حتى الأمسيات الأدبية التي كانت تقيمها بعض المراكز الثقافية، أو تلك التي يزخر بها المركز الثقافي الألماني (غوتة) لم يحرص على حضورها، فقط بدافع الكسل، وخشي أن يكون ذلك أمارة لذبوله، وانطفائه.
أحس بأنه قطعة فلين طافية على مياه النيل، تقودها الأمواج كيفما اتفق، تلقي به في ضفة رملية أو حجرية، أو تظل عائمةً، كما هي، إلى الأبد. شيء ثقل، ذلك الذي أحسه على كاهله، ولم يستطع أن يعرف ماهيته على وجه الدقة. لم يستطع أن يحدد ما إذا كان اختفاء شاهيناز حسب الرسول من حياته سبب ما يشعر به، أم إحساسه بالضياع في وطنه، ورغبته في مغادرة السودان في أسرع وقت. كان كل شيء، بالنسبة إليه، غامضاً وهلامياً، حتى أنه لم يكن قادراً على التكهّن بمستقبله القريب.
11-12-2011, 08:26 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
لم تكن تجربته الأولى التي يتذوق طعم فشلها اللاذع، فقد اعتاد على ذلك؛ منذ أن كان في المرحلة الثانوية. الحياة، بالنسبة إليه، سلسلة من الانكسارات والنكسات المتوالية؛ كما يقول. وكثيرًا ما أسرّ امتعاضه الواضح من تحيّز الإله ضدّه، ولكنه لم يجرؤ على إظهار ذلك؛ إلاّ لجلال هاشم، بعد عودته من اغترابه الطويل؛ ليجده أكثر امتعاضًا منه.
(طه شريف) هو الابن الأوسط لأسرة محافظة، متوسطة الدخل. ساءته المعاملة التي يفرّق بها والده عن أخويه: الأكبر والأصغر، وظل يُحدّث صديقه عن المواقف العائلية التي تشير إلى هذه التفرقة. كانت تلك واحدة من مشكلاته الأساسية مع أسرته، التي اضطر، لاحقًا، إلى تركها والاستقرار في بيت يسكنه شلّة من الشباب، ويتخذون منه ناديًا للعب الورق، والقمار أحيانًا. والده (شريف عثمان حَمَدين) أحد السودانيين الذين عملوا خدمًا في قصور الملوك والأمراء الخليجيين، عاد من اغتراب طويل، ولم يُفلح في إنجاز أمر مهم. كانت زوجته تعاتبه على الدوام، وتتهمه بهدر شبابها في انتظار اللاشيء، وتذكّره بما أنجزه المغتربون الآخرون لزوجاتهم، وكيف تغيّر نمط حياتهم إلى الأبد، ولكنه كان يعتبر أولاده خير إدخار له، بعد ترهل عضلاته، وتيبّس مفاصله، وإصابته بداء السُكّر. كان طه يتندّر بذلك؛ فيقول: "النَاس الشَّغَالِين في القُصُور رَجَعُوا لأولادْهُم بِمَرَاوِح طَرَابِيْزَه، وفِيديوُهَات، وتَلَّاجَات، وحَافْلَات عِدَّه، وَأبُوي جَانَا رَاجِع بسُكَرِي وضَغِط؛ عَليِك الله في كُجْ أَكْتَر مِن كِدَا؟"
لم تكن ثمة رابطة قوية تجمع هذه الأسرة؛ إلاّ بعض المناسبات الخاصة جدًا والاضطرارية، حتى أنهم لم يكونوا يتقيّدون بمواعيد الوجبات اليومية؛ فكان كل واحد منهم يأكل بمفرده، وقتما يحلو له؛ وفيما اعتبر البعض ذلك بادرةً لتحلل أسري من النوع المثير للشفقة، كانت عائلة شريف حَمَدِيْن تعتبره مُؤشرًا جيدًا للاعتمادية على النفس. لم يشعر أحدهم أنه بحاجة إلى الآخرين، ولكن طه شريف كان يُعاني كثيرًا من وحدته التي سببتها معاملة والده القاسية له، والتي جعلت من أخوته أقرب إلى الأعداء بالنسبة إليه.
في لحظة ميتافيزيقية، عندما أخذ طه شريف يشعر بالخدر في أطرافه، والثقل في رأسه، ترك زجاجة الخمر جانبًا، وراح يحكي لجلال هاشم عن بعض الأسرار العائلية الخاصة، وموقفه منها، دون أن يشعر بأنه كان قد كرر ذلك الحديث على مسامعه أكثر من مرّة. عاتبه جلال هاشم من قبل: "النَّاس بِتَسْكَر عَشَان تَنْسَى، وإنتا بِتَسْكَر عَشَان تِتْزكَّر!" لم تكن تعجبه فكرة أن يسكر المرء من أجل أن ينسى مشكلاته، فهو لم يكن واثقًا من رغبته في نسيان الأمر، وكأن ذلك يمنحه الغضب والحنق المحفّزين للحياة والبقاء.
كل ما كان يملكه ليتباهى به أمام الآخرين: لقبته الذي أُشتهر به، وبطولات يتذكرها له القلّة في أيام مراهقته، عندما كان يتشاجر مع من هم أكبر منه سنًا؛ ويتغلّب عليهم، أو سيطرته على فتيات حيّه، ولعبه دور الأخ الأكبر عليهن "عَليّ بِالحَرَام مَا في بِتْ كَانَت تَقْدَر تَلْعَب بِضَنَبَا في الحِلَّة؛ إلاَّ تَمْشِي تِتْشَكْشَك بَرَّه بَرَّه، لَكِن قِدَّامِي مَا كَان بِيَحْصَل. كَانُوا بِيْخَافُوا مِنِّي أكْتَر مِن أخْوَانُم. تِصَدِّق الكَلام دَا؟" تلك واحدة من الذكريات التي ظلّ يُرددها على مسامع صديقه اللدود جلال هاشم، عندما تعتريه الحسرة على ذاته، وينظر إلى ما آل إليه مؤخرًا.
قبل بضع سنوات؛ قرر أن يلتحق بمعسكر للخدمة الوطنية، هربًا من نظرات والده التي كانت تلاحقه في كل تصرّف، وتنزل عليه كسياط رعاة البقر القاسية، وهو يُعيّره بمأكله ومشربه معه في المنزل "قَاعِد لَي في البَيت زَيّ النِّسْوَان؟ مَا تَمْشِي تُشُوف لَيْك شَغَله، وتَبْقَى رَاجِل. وَلاَّ دَايِر تَقْعُد جَمْب أُمّك يَا وَدْ أُمّك؟" كرر عليه هذه العبارة مرات عديدة، رغم أنه كان يتفنن في تعديلها والإضافة عليها في كل مرّة؛ إلى أن جمع طه ثيابه وبعضًا من أغراضه الشخصية في حقيبة حديدية صغيرة، والتحق بمعسكر السِّلَيْد للخدمة الوطنية طواعيةً، وقضى بها ثلاث سنوات، لم تفلح في تغيير واقعه قيد أنملة.
لا يتذكر أنه كانت لديه طموحات عصيّة على التحقق، بل وربما لم تكن لديه طموحات على الإطلاق. كل ما كان يأمله من حياته أن يجد فتاةً جميلةً تعشقه بجنون. أن يعيش معها في مكانٍ ما، لا يهم إن كان ذلك المكان قصرًا منيفًا، أو راكوبةً من عيدان الخيزران، المهم ألا تطالبه بأكثر مما لديه، وألا تشعره بعجزه، كما تفعل والدته مع أبيه؛ تلك كانت أمنيته الوحيدة التي ملّ جلال هاشم من سماعها في لحظاتهما الميتافيزيقية الحميمية "أنَا لَو لِقِيْت لَي بِت عَرَب سَمْحَه تِحبَني، ومَا تَكُون مُطلِّبه، مَا دَايِر أيّ حَاجَه تَانْيَه" هكذا صاغ طه شريف أمنية حياته ببساطة متناهية.
النقطة الدافئة والوحيدة التي كانت في حياته الثلاثينية، تلك التي كانت تعيش فيها تماضر سيف الدين جبريل. أحبا بعضيهما منذ فترة المراهقة، وظلا كذلك حتى خيّرته ذات يوم بين أن يتقدّم لخطبتها أو بين أن يفترقا. لم يكن وقتها مؤهلًا لخوض تلك التجربة، ولم يكن مدركًا لحجم ذلك القرار المصيري الذي شكّل، بعد ذلك، حياته بكل منعطفاتها. تألم كذلك عندما علم أنه تم عقد قرآنها على رجل آخر، ولم يجرؤ على حضور حفل زفافها، حتى من باب إلقاء نظرة الوداع الأخيرة.
تركت تماضر فجوة عميقة في قلبه الذي لم يعرف معنىً للحب إلاّ بين يديها، فلم يكن من أولئك الذين يميلون إلى اصطناع الرومانسية؛ بل إنه كان يراها سخافة مثيرة للاشمئزاز. هي الوحيدة التي لم يستطع حيالها إلاّ المحبّة الصادقة. سعى، بكل جد، إلى الإبقاء على هذه العلاقة حيّة وحيوية، ولكنه لم يكن ليقبل بمقارنة ما مع أحدهم. هزّه الأمر كما لم يهزّه شيء من قبل. أدرك أنه خسر كل شيء، ولم يتبق له غير زجاجة الخمر التقليدية التي لم تخنه يومًا ما. كان يتفانى في الشراب، حتى أنه لم يعد قادرًا على النوم إلاّ باحتساء بعض الكؤوس.
ظل اسم تماضر سيف الدين جبريل محفورًا في قلبه كشاهد قبر رخامي لشخص عزيز. وكان يراقبها من بعيد في احتفالات العائلة الكبيرة، وهي تحمل طفلتها الرضيع بذارعها اليُمنى، ومتأبطةً ذراع زوجها (اللَّطْخ) بالأخرى، وقد ملأت ساعديها بالأساور الذهبية الغالية، وبعضًا من أصابعها بخواتم كبيرة لامعة، وكفيّها بنقش الحناء المثير.
لم تكن تماضر جبريل جميلة إلى ذلك الحد الذي قد يُثير اهتمام جلال هاشم، ولكنه احترم لصديقه قصة عشقه تلك؛ حيث أنها كانت الدليل الوحيد على إنسانيته، خلافًا لما يُوحي به منظره الشبق على الدوام، وتصرفاته الشهوانية. خمّن أن ما يفعله صديقه من انغماس في الملذت؛ لم يكن إلاّ بدواعي تعذيب الذات، والانتقام منها، فقدّر له ذلك كثيرًا، وعبّر عنه بجملة أعجبت حتى صديقه "شَاَن تِرتَاح، لازم تِنْدَاح" ولم يكن في إمكانه الجزم بالمعنى الحقيقي من وراء هذه الجملة، ولكنه كان يستخدمها كثيرًا؛ كلّما أبدى له صديقه الاستياء من سلوكه التغزّلي.
لم تفكّر تماضر في أمر الارتباط الرسّمي بطه شريف إلاّ عندما تخرّجت من جامعة أفريقيا العالمية، وجلست في منزلها في انتظار أحد الحُسنيين: إما الوظيفة أو العريس. كان الخيار الأفضل بالنسبة إليها هو الزواج، بحثًا عن رجل تتشارك معه الفراش، وتحمل منه أطفالًا يُحققون لها أمنيتها العزيزة في أن تكون أُمًا يُناديها أحدهم بتلك الكلمة السحرية (ماما)، لم يكن يبدو عليها أنها على استعداد للانتظار مطولًا، ساعدها على ذلك إصرار أمها على تزويجها؛ لاسيما بعد توافد الخطّاب على بابها، بعد تخرّجها مباشرةً. راح تضغط على طه شريف، كلّما سنحت لها الفرصة، في أمر الزواج، حتى أنها توقفت عن السماح له بتقبيلها ومداعبتها، لحين البت في أمر الزواج، وبدأت تردد على مسامعه عبارات لم يسمعها من قبل: "كَان دَايِرْني بِالجَد لَازِم تِتْقَدَّم لَي رَسْمِي، وَلا دَايِر تَلْعَب بي وَتَقْضِي وَكِت وخَلَاص؟" أمّا بالنسبة إليه، فكانت المرة الأولى التي يسمع منها رأيها حول عدم إكماله دراسته، والتي برزت كحجّة اعتمدت عليها تماضر في تبرير تفضيلها لشخص آخر عليه، وأحالت الأمر برُمته إلى تقديرات أمها التي لم يكن في إمكانها مناقشتها حولها.
"طُز!" هو التعبير الذي أجاد طه شريف استخدامه إزاء معضلته مع تماضر جبريل، ولكنه كان ينزف من داخله، وتلتف أوردته الغليظه على بعضها، لتخنقه وتعتصره بقوة مُهلِكة. تلك الليلة دمعت عيناه العسليتين، وتخلّتا، للمرة الأولى، عن مكرهما، وهو يتذكر قبلةً مسروقة أهدته إياه تماضر، في مناسبة عائلية صاخبة، وهي تقول: "مَافي رَاجِل غِيْرَك بِيمْلَا عَيني، ولا بَقْدَر أعِيْش مِن غَيْرَك" غير أنه ابتسم بعدها في سخرية، وردد مرّة أخرى: "طُز، وستِّين طُز!"
يومها؛ رآها، وهي تحاول أن تسترق النظر إليه، في حفلة عُرس ليلية، بينما كان يُراقبها، وهي تُلقم طفلتها قطعة بسكويت مخصص للأطفال. أبدت له بعض الاهتمام الماكر، ثم راحت تضحك مع بعض النسوة، اللواتي رُحن ينظرن نحوه تباعًا، وعلى شفاههن ذات الابتسامة الساخرة. غلت الدماء في عروقه؛ فتوجّه إليها مباشرةً، وصفعها على وجهها بقوة. ساد الصمت لبعض الوقت، قبل أن تنطلق الطفلة التي على ذراعها بالبكاء، ثم تعالت أصوات النساء المستهجنات لتصرّفه الأرعن، وقفز زوجها من مكان ما، ليرطمه على قفاه، وينهال عليه ضربًا، دون أن يتمكّن من الدفاع عن نفسه. أحدثت تلك الحادثة ضجيجًا في الوسط العائلي، وكان ذلك سببًا في أن يطرده شريف حَمَدين من منزله "عَامِل لَيّ فِيهَا رَاجِل؟ بِتْتشَطَّر عَ النُسْوَان يَا خَايِب؟ أَمْرُق مِن بيتي مَرَقَتْ رُوْحَك. مَا دَايِر أشُوف خِلْقَتَك تَاني. حَسْبي الله وَنِعْمَ الوَكِيل... حَسْبي الله وَنِعْمَ الوَكِيل."
منذ تلك الحادثة، وطه شريف يُقيم في منزل صديقه الأعزب، الذي يجتمع فيه الشباب للعب الورق، والقمار، ومعاقرة الخمر، وأحيانًا يجلب أحدهم بعض المومسات ليلًا، فيقضوا أوقاتهم بين النساء والخمر. قال أحدهم، مُتنكرًا في ثوب حكيم عارف:"أَوَل مَا تَرْضِي رَاسَك، لَازِم، بَعْدِيهُو طَوَّالي، تَرْضِي رَاس التُّوْمَه" وكان ذلك يعني أن الخمر تستدعي النساء مباشرةً؛ فلا تكتمل لذة الشراب، إلاّ بهن. أمّا بالنسبة لطه شريف فإن النساء كُّن خمره التي يسكر بها، رغم عشقه للخمر، ولكنه لم يكن ليُفضلها على النساء أبداً.
قد يقضي طه شريف ساعتين على التوالي، في ملاحقة فتاة أثارته، أو أحس بأنها قد تلين له، ولا يوقفه إلاّ أن ترفضه الفتاة صراحةً، أو ترضخ لرغبته المحمومة في نهاية المطاف. كان لديه إحساس متعاظم بأن له سحراً وجاذبية لا يُمكن لأيّ فتاة مقاومتهما، وأدخلته تلك الثقة المفرطة في ورطات انتهت بعضها في مخافر الشرطة. له تصوّر عام بأن أي فتاة، مهما بدت مستعصية، لها مفتاح سرّي يوصل إلى جسدها مباشرة، حتى الفتيات المنقبات لم يكن يسلمن من شباك نظراته المتحفّزة.
شخص متوتر على الدوام. يزعجه الجلوس في مكان واحد لأكثر من نصف ساعة، حتى أنه ليس بمقدوره أن يجلس جلسة واحدة لأكثر من عشر دقائق؛ فتجده متململاً، كثير الحركة، والالتفات. قال على نفسه: "أخِيَر تَكْتُلْني وَلا تِقَعِدْني في حِتَّه وَاحَدَه سَاعَه كَامْلَه" لدرجة أنه لم يُتابع برنامجاً تلفزيونياً حتى نهايته، وكأن الأمر يعني، بالنسبة إليه، حُكماً بالإعدام خنقاً، فتراه يُمسك بجهاز التحكم عن بُعد، ولا يكاد يستقر على قناة واحدة؛ إلا إن وجد فيها فتيات راقصات أو لقطات جنسية مثيرة.
11-12-2011, 08:56 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
الحياة سلسلة من الفرضيّات المعقدّة والاختيارات، ولم يكن أمام جلال هاشم؛ إلاّ أن يختار العودة إلى السودان، بعد اغتراب طويل. ربما لم يكن يملك الإرادة الحُرة للاختيار، ولكنه قرر أن يُقنع نفسه بأنه اختار العودة. ترسخت لديه قناعة، لم يعرف منابعها، أن السودان ليس الخيار المناسب له، ولكنه عاد. عرف أنه لن يتمكن من إنجاز شيء يستحق الذكر في بلده، فهي لم تعد البلد التي تحفل بمبدعيها، وتلقي لهم بالًا. كل شيء في هذه البلاد، يدفعه دفعًا للتفكير بالاغتراب، أو الإنزواء إلى الداخل. ظلّ يضمر من الداخل إلى الخارج، كفقاعة صابون جميلة وهشّة، تعلم أنها لابد أن تموت عند ملامستها لسطحِ ما، قبل أن تدرك لِم وُلدت أو تكوّنت أصلًا.
لم يكن على وفاق كامل مع اختياراته المتاحة؛ فجميعها كانت حتمية ومُلزمة، ووجوده في الكلاكلة أشعره بأنه اختار الانتحار الطَّوعي. هنا، في الكلاكلة، لابد أن تصادفكَ قصة أو علاقة غريبة، حتى أن نمط الحياة لم يكن سهلًا بالنسبة إليه. كل شيء، هنا، لا يأتي بالطريقة السهلة، أو قد لا يأتي على الإطلاق. شعر بأنه كائن غريب، وأحس بالوحدة التي بدأت تتسلل إلى روحه، شيئًا فشيئًا، كبكتيريا طفيلية تقتات على دمه.
عندما صرّح بملاحظاته تلك لأحد أقاربه، أكّد له بأن الكثيرين يتعاملون معه باحترام يتوافق مع مكانته الأدبية، كأول فرد في العائلة يمتلك موهبة الكتابة الإبداعية، وأن الآخرين يحاولون إظهار الإجلال له، ولما أنجزه في الآونة الأخيرة؛ حيث كانت أنباء حفل توقيع روايته، وإشادة النقاد المصريين بها، تأتيهم من القاهرة عبر وسائل الإعلام. لم يكن ذلك ليُقلّص من إحساسه بالإنزعاج والقلق حيال حياته ووضعه العائلي، غير أنه فضّل أن يُبدي بعض الارتياح، تظاهرًا منه بالامتنان والعرفان؛ رغم أنه يعلم، يقينًا، أن أحدًا منهم لم يقرأ روايته بعد، ولن يطلبوا منه ذلك على الإطلاق.
كانت شاهيناز حسب الرسول قد فتحت نافذة في قلبه، وتركتها مفتوحة على مصراعيها، ولم يكن شيء يوخز قلبه بقدر ما كانت ذكراها تفعل ذلك. ظلّت سوسة الندم تنخر في عظام وعيه، كيف أنه أضاعها من بين يديه. تملكه إحساس قوي بأنها فتاة لا يُمكن تعويضها بأخرى، وأنها ستظل علامة فارقة في حياته، تحول بينه وبين التفكير في خيارات بديلة لها، واعتبر ذلك كفّارة له، علّها تهبه الاطمئنان والراحة، ولكن دون جدوى.
الناس هنا متجهّمون، أو هكذا يبدون له، ولكنهم، في مواقف بعينها، يُظهرون قدرًا من الود واللطف، يندر أن تجد مثله عند غيرهم. أدرك هذه الحقيقة عندما وقع جدار هزيل في بيت صلاح كُنّة الجالوصي في ليلة مطيرة؛ فاستضافه بعض سُكان الحي وأسرته في منازلهم، وأعلنوا النفير؛ حيث أرسلوا أبنائهم الشبّان للعمل في إقامة الجدار، وأعمال تصريف مياه الأمطار من داخل المنزل. تطلّب الأمر خمسة أيام بلياليها، ساهم فيها الجميع بما يقدرون عليه: قام بعضهم بشراء الطوب، والبعض الآخر تعهّد بجلب الرمل الأحمر، والبعض الآخر بالعدة والأدوات؛ حتى أنّ الشيخ (صِدِّيق الأمين) صاحب المغلق اليتيم في الحي، والذي لم يكن أحد يحبه، وينعتونه باللص الجشع، تكفّل بجوالين من الأسمنت.
حتى بعد إقامة الجدار المنهار، وعودة صلاح كُنّة وأسرته إلى منزلهم، الذي كان نصفه قد أصبح من اللبن الهش ونصفه الآخر من الطوب الأحمر، ظلّت نسوة الحي يمددنهم بالطعام على مدار يومين كاملين. إنها الكلاكلة؛ مدينة المفارقات والعجائب!
(ود الجيران) هنا، بطل جُل قصص وحكايات فتيات الحي السرية؛ فهو بطل أول قبلة سريّة لأيّ فتاة، وأول قصة حب مراهقة، وأول من يقيس استدارة ثديها، وحتى أنه قد يكون أول من يفض بكارتها. لاحظ أنه يندر أن تكون هنالك فتاة، في الكلاكلة، لم تكن لها علاقة ما، مع ابن الجيران، وسمع قصصًا كثيرة عنهن، كان فيها ابن الجيران هو بطلًا خفيًا، لا يأتي ذكره إلاّ في أحاديث الفتيات الخاصة. لاحظ، أيضًا، أن تلك العلاقات، غالبًا ما، تنتهي بمجرّد أن تتخطى الفتاة أعتاب سن المراهقة، أو بالتحاقها بالجامعة. أدرك أن ذلك نوع من العلاقات الاضطرارية الطارئة التي لابد منها. تقيس، بواسطتها، الفتاة أنوثتها، ومدى رغبة الذكور بها، وغالبًا لا تكون حجةً يمكن محاكمة الفتاة بها لاحقًا.
ذلك المساء شاهد شابًا وفتاة، في بداية عقدهما الثاني، يقفان إلى جوار عمود إضاءة مطفأ، وبدا أنهما عاشقان مغرمان. تحدثا لبعض الوقت، ثم توجها إلى جهة أكثر إعتامًا، ولم يكن في مقدوره رؤية ما يجري؛ غير أنهما عادا سريعًا، وتفرّقا قبل أن يصلا إليه، وكأنهما لا يعرفان بعضيهما. كانت الفتاة ترتدي سفنجة منزلية، وتلف حول جسمها ثوبًا لم يستطع تحديد لونه، ولكنها كانت تجعلها تبدو مثيرة للغاية. مضت الفتاة في طريقها دون أن تلتفت إلى الوراء، ثم دخلت منزلًا منزويًا في نهاية الحي. ضحك في سرّه، وقال: "كُوَيِّس طَهَ شَرِيف مَا كَان هِنَا وشَاف الحَصَل؛ كَان حَيْكَابِس البِت رَجَاله حَسَنَه!"
يتذكر تلك البطولات المراهقة التي كان صديقه، طه شريف، يقصّها عليه بنبرة متحسِّرة،.كيف أنه كان يضرب فتيات الحيّ، عندما يشاهد إحداهن واقفةً مع شخص ما، في وضعية مريبة، وملاحقته لمن يشك بأمرها حتى يعرف أين ذهبت، ومن أين أتت. كان حادثًا غريبًا ذلك الذي قصّه عليه عندما كان عائدًا من اللَّفة، قبيل غروب الشمس، ووجد شابًا وفتاة يسيران على مهل في منطقة بعيدة من نطاق سلطته. شكّ بهما، وظل يراقبهما خلسةً، حتى رآهما يدخلان، بتوجّس، بيتًا مهجورًا؛ فانتظر قليلًا قبل أن يداهمها. عندها فرّ الشاب هاربًا، وبقيت الفتاة، ترجوه، في خوف، ألا يشيع ما رآه، فوافق شطر أن تمكّنه من نفسها؛ ففعلت.
ظلّ على الدوام يتساءل عن سرّ علاقته الحميمة بطه شريف، الذي لا يلتقي معه في شيء، غير صلة القرابة التي لم يكن بإمكانهما التنصّل منها. حتى أنه لم يكن يكترث لصلات القربى، ولا يراها سببًا في عقد صداقات قوية كتلك التي تربطه بصديقه اللدود طه شريف. خمّن إنه من المرجّح أن علاقتهما اكتسبت خصوصيتها من هذا التناقض، ولم يشأ أن يُخضع تلك العلاقة في امتحان من أيّ نوع.
يتحدّث الناس هنا عن (عماد الدين مُراد)، البَصَاوليّ الوسيم، الذي كان قد شغل قلوب الفتيات والفتيان على حدّ سواء. وبينما يحكي البعض، بثقة مفرطة، عن مثليته الجنسية التي تعززها قصص غريبة ومثيرة، يحكي البعض الآخر، عنه، قصصًا تنم عن فحولة لا يعتريها الشك. عماد الدين مراد: وسيم القسمات، أمرد، ناعم الشعر، طويل القامة، أبيض البشرة، واسع العينين، يميل إلى النحول، ليّن الأطراف، نظيف على الدوام؛ حتى أن الفتيات كُنّ يشعر بالغيرة والخجل أمام نظافته المفرطة. كانت نظافته مضرب الأمثال، ويُقال أن بعض الفتيات إذا أردن أن يُبالغن في وصف شيء جميل ونظيف يُرددن عبارة: "بَرِي، أنْظَف مِن عِمَاد مُرَاد يَا يُمّه!" يمتاز بكتف عريضة، وحواجب متناسقة، وربما كان أشهر شخصيات الكلاكلة شرق، وحي البصاولة بالتحديد، وكان يُعرف بعماد السُّوري لشبهه الشديد بهم.
حكا البعض عنه قصصًا تتناول مثليته، وكيف أنه كان محبوبًا عند طبقة رجال الأعمال، الذين يأتونه بعربات فارهة كل يوم أربعاء، فيقودونه معهم، ولا يعود إلاّ مساء الجمعة. وحكوا عن علاقته بشخص يُقال له (وليد دفع الله)، وكيف أنه كان يهيم به حبًا، حتى أنه قتل نفسه، بتقطيع وريده، عندما عرف بأمر زواجه من فتاة ريفية، تربطه معها صلة قربى بعيدة. قيل أنه كان يذهب مع بعض رجال الأعمال إلى فيللهم في الأحياء الراقية: العمارات، الرياض، الصافية، المنشيّة، كافوري؛ حيث يتبادلونه بينهم، بمائة ألف جنيه للساعة الواحدة. ويقول البعض إنه أوّل مثلي سوداني أشاع عادة الجنس المثلي الجماعي.
كانت الحفلات الراقصة التي يُقيمها عماد مراد في بيته الفخم، في حِلَّة البصاولة، في رأس السنة، تستقطب عددًا كبيرًا من رجال الأعمال، والتجار، وبعض لاعبي كرة القدم، وأفراد من الفرقة الموسيقية الرسمية للتلفزيون القومي، وحتى بعض رجال الحكومة. وكانت له علاقات طيّبة، ووثيقة، بالعديد من الفتيات الحبشيات والسودانيات اللواتي يعملن في مجال الدعارة في الأماكن الراقية، وكذلك بعض الفنانات الشعبيات اللواتي يُغنين في حفلات الزفاف المصغرّة، والمناسبات الأسرية الخاصة على نطاق ضيّق.
لم يكن ليفوّت شيئًا، على الإطلاق، في حفلات رأس السنة، فيهتم بأدق التفاصيل: الإضاءة، مستوى التكييف، المشروبات الغازية، المأكولات الخفيفة، جهاز الدي جي، الفيديو، كاميرا التصوير الرقمية، جهاز الشاورما، الجاتوهات، المكسّرات، أوراق المناديل المعطّرة، علب السجائر، البنقو، الشاش، العَرقي، الكاندوم، وحتى زجاجات الوسكي والجِن التي تأتيه كهدايا من أصدقائه الأثرياء. كان يهمه أن يجد كل ضيف ما يريده، وما يشتيهه في بيته. ورغم كل ما سمعه عن هذه الشخصية المثيرة للجدل، إلاّ أن أحدًا لم يستطع أن يُحدد له موقع منزله، واكتفوا بأنه في حي البصاولة. قيل له إن مومسات الكلاكلة شرق والقُطْعِيّة بكينه بحرقة بالغة، ونُحنَه كما لم ينحنَّ أحدًا من قبل، وبالغ أحدهم إذ قال: "يَازُول، أُسْبُوع كَامِل اللَّفه وُسُوق تَلاتَه دِيل مَا فِيْهَا شَرْمُوطَه حَايْمَه!"
في الكلاكلة القبّة، منزل واحد به ست أخوات جميلات، كلهن يُمارسن الدعارة باحترافية. تتقاضى كل واحدة منهن خمسمائة ألف جنيه عن الليلة الواحدة. كانت كُبراهن متزوجة حديثًا، وزوجها يعلم بأمرها وأمر أخواتها، ورغم ذلك لم يكن يجرؤ على فعل شيء. قال البعض إنها حملت منه سفاحًا، ولم يجد بُدًا من الزواج بها، ولكن وفق شروطها هي. وقال آخرون إنهن أردن فقط استقطاب رجل، أيّ رجل، ليسكن معهن في المنزل؛ قطعًا لألسنة سُكان الحي من الثرثارين والمتطفلين. وبينما كان ينظر البعض إلى (عوض صليحة) على أنه رجل محظوظ، يسكن في منزل الحسناوات؛ حيث بإمكانه أن يُضاجع أيّ فتاة يُريد، كان الأغلبية ينظرون إليه باحتقار لا تُخطئه العين.
رآه جلال هاشم، ربما مرّة أو مرّتين، مساءً، في شارع 15 المتفرّع من محطة الكبري، عائدًا من عمله في شركة شامبيون، حاملًا أكياسًا من الفاكهة: جوافة، موز، برتقال. يمشي مُطأطئ الرأس، لا يكاد يرد سلامًا على أحد. بدا أنه كان مهمومًا أو خجلًا من أمر ما، وسمع أحدهم من مكان قريب يقول، فيما يشبه الهمس: "البِرْكَبَنّوا النِسْوَان بِتْكُون دِي حَالتُه" فرثى لحاله. كان عوض صليحة قد غدا مضرب الأمثال في الخنوع والانكسار، فكثيرًا ما كان يسمع بعض شباب الكلاكلة القبّة يقولون: "قَالُوا لَيْك عَنِّي عَوَض صَلِيْحَه وَلاَّ شُنو؟" عندما يتعلق الأمر بالديوثية والغيرة على المحارم.
عم (جمال عبد الحي) من شخصيات حي وَدْ عَمَارة المطل على شارع شرق مباشرةً، تجاوز الخمسين من عمره بصعوبة. مُتهالك القوام، أصلع إلاّ من بعض الشعرات البيضاء المنتشرة في أجزاء متفرّقة من مؤخرة رأسه، شديد الإسمرار، يُحب أن يُنجز أشياءه، دائمًا، بسرعة، لا يُحب الراحة والكسل، لا تكاد تراه في لحظة استرخاء. الشيء الوحيد الذي يُنجزه بتمهّل اضطراري، معاشرته لزوجته الثرثارة المتسلّطة.
يعمل في دُكان بائس، مثله تمامًا، ولا يكاد يربح منه شيئًا. لا يتعامل مع تجارته بجدّية كبيرة؛ بل يأخذها من باب التسلية، وتقضية الوقت، وفي كثير من الأحيان، يلجأ إلى الدُكان هربًا من لسان زوجته، وشبقها الذي لا يفتر ولا ينضب.
له علاقة سرّية مُريبة بشاب يُقال له (طارق برنسيس)، لا تحبه زوجته كثيرًا، وتكره أن ترى زوجها يتعامل معه. كان طارق برنسيس يزوره، أحيانًا، في دُكانه، أو في حديقة منزله الخارجية، وبطريقة بها الكثير من السرّية والتكتّم، يدسُّ في جيبه مبلغًا من المال، يكفي لشراء قطعة من البنقو، الذي يشتهر به الآخر. يحلف جمال عبد الحي لزوجته أن علاقته مع طارق برنسيس لا تتعدى إطار الوفاء التقليدي لوالده المتوفى، والذي كان في يوم ما، صديقه الشخصي.
يتناول جمال عبد الحي سيجارة البنقو في الخفاء من زوجته، ثم يعود إليها بعد أن يشتري لها ما يُلهيها عن الانتباه لحالته المنتشية. "حَسِّي عَلِيْك الله دِي مَرَه يِقَابْلُوهَا بَي رَاس فَاضِي؟ جِنّهَا نِقَّه ونَيْك!" قالها مرّة لطارق برنسيس، وهو يدفن شوشاوة البنقو في الرمل، استعدادًا للعودة إلى منزله. نادرةٌ هي اللحظات التي يتعاطى فيها جمال عبد الحي سيجارته منفردًا؛ إذ لا يعرف تقنيات لفّ السيجارة؛ فيترك تلك المهمة الصعبة لصديقه السرّي الخبير بهذه المسائل.
عندما اجتمع أهالي الحي، وأبدوا رغبتهم في بناء زاوية في ميدان غير مُستغَل، قبل حلول شهر رمضان؛ كان أول من أبدى حماسةً للمشروع، وعندما بدءوا في الإنشاء، أظهر كثيرًا من تلك الحماسة؛ بالإضافة إلى التفاني في العمل، وظل كذلك حتى انتهى البناء. فعل ذلك، في بادئ الأمر، بدافع إيماني محض، ولكنه وجدها حجة جيّدة يراوغ بها من زوجته ليلًا، مًنهكًا من العمل طوال النهار. عندما بلغ البناء حدّ القاعدة الأساسية، استغلها رجال الحي في الجلوس عليها وتبادل الأحاديث السامرة؛ منذ غروب الشمس وحتى وقت متأخر من الليل، وكانت لهم الزاوية، عند ذلك الحدّ، كنادٍ ليلي، تتم في مناقشة قضايا الحي وأخباره المتفرِّقة، والأوضاع السياسية للبلاد، وشكواهم المختلفة من أبنائهم، والمعضلات التربوية التي يعانون منها، وحتى الشؤون الكروية.
قرر الجميع أن يكون جمال عبد الحي مؤذنًا للزاوية الجديدة، ولم يعترض على ذلك؛ بل وافق في حبور متواضع. وأصبح العم جمال السُطلجي، مؤذن الزاوية! وظلّت علاقته بطارق برنسيس محفوفة بالسرّية، ربما أكثر من ذي قبل. علّقوا لافتة في الجهة الشمالية للزاوية، كتبوا عليها (مسجد عثمان بن عفّان – تأسس في: 16 يوليه 2011)
يقول جلال هاشم: "الكَلاكْلَه كَرِش قِرِش" منتبهًا لمجمل المفارقات التي تزخر بها الكلاكلة، ولكنه توقف مؤخرًا عن عدّ المفارقات، عندما وجد نفسه أمام مشكلاته الخاصة، التي كانت تبدو مُستعصية بالنسبة إليه. حاول، مع كل ذلك، أن يُظهر بعض الاحترام للكلاكلة التي ظلّت تبهره في كل مرّة، ولم ينس يومًا، أنها تلك المدينة التي لا تتغيّر أبدًا.
11-12-2011, 07:03 PM
الرفاعي عبدالعاطي حجر
الرفاعي عبدالعاطي حجر
تاريخ التسجيل: 04-27-2005
مجموع المشاركات: 14684
الشيء الوحيد الذي كان يُرضي جلال هاشم، في الكلاكلة شرق، هو الخمر الذي تصنعه لُوشيِّة الجنوبية؛ عرف ذلك بعد أن اختبر خمر أَدُوْت، وأبْوِيج، ورَابيكا، فاستقر أخيرًا على لُوشيِّة، وخمرها التي تتقن صناعتها بتفانٍ غير مسبوق. خمرها، بالنسبة إليه، لم تكن لاذعةً، ولم تكن تحمل ذلك الطعم المقزز للخميرة، ولا مزيدةً بالماء كالبقية، كانت شرابًا مُنعشًا، ومُسكرًا كما يُحب أن تكون الخمر. "العَرَقي فَنْ قَبِل مَا يُكُون صِنَاعَه" تلك كانت حكمته التي ردّدها كثيرًا على مسامع طه شريف، كلّما ارتشف أول كأس من خمر لُوشِيِّة المعتّق.
وفي الوقت الذي تكلّم فيه الكثيرون عمّا يُسمى بشرطة النظام العام، والتي كانت قد بدأت في الانتشار في السنوات الأخيرة، والمداهمات التي كانوا يقومون بها لبيوت الخمر بين كل فينة وأخرى؛ إلاّ أنه لم يكن يخشى شيئًا عند زيارته لبيت لُوشيِّة، الذي هو عبارة عن ثلاث غرف صغيرة متلاصقة من الطوب الأحمر، وفناء واسع بلا أسوار، وسريران، وطاولة يتيمة هي كل أثاث المنزل.
للوهلة الأولى خُيِّل إليه أنه بيت مهجور، ولكنه، فيما بعد، اعتاد على رؤية بشر يسكنون مثل هذه الأماكن المفتقرة لأبسط المقومات الحياتية، والتي يُطلقون عليها اسم (منزل) اعتباطًا. كان الجميع يفترشون الأرض حرفيًا، ولا تستر أجسادهم سوى بعض الثياب المهلهلة، أو قطع القماش البالية. لم تكن هنالك أسرِّة مُريحة، ولا مياه باردة، ولا جهاز تلفزيون، ولا يحمل أحدهم هاتفًا محمولًا، ولا وجود لشُبهة كهرباء في المنزل، فكان الظلام والحُلكة هما سيدا الموقف في بيت لُوشِيِّة؛ لذا فإنها، وأبنائها، وأقاربها، ينامون مع حلول الساعة التاسعة مساءً.
نشأت علاقة جميلة بينه وبين لُوشيِّة بائعة الخمر، بدأت بثقتها في جيبه الممتلئ بالنقود على الدوام؛ إذ لم يكن يبخل عليها بالمال قط، وكان لا يُطالبها بما يتبقى له من نقود، عندما يدفع لها أكثر من قيمة زجاجة الخمر التي يشتريها يوميًا. لُوشِيِّة جنوبية من قبيلة المِسِيْرِيِّة، جميلة، وفارعة الطول، مكتنزة الأرداف، متمساكة الأثداء. تزوّجت من جَعَلِيّ يُدعى (محمد بشير شوبار)، الذي طلّقها بعد شهرين من زواجهما لسبب غامض. كان بعض السُّكارى، من المرتادين لبيتها البائس، يُلّقبها بالشُّوبارية؛ نسبةً إلى زوجها، الذي أنجبت منه فتاةً تشبهها كثيرًا، أسمتها (قِسْمَة).
جلال هاشم هو الوحيد الذي بإمكانه أن يبتاع خمر لُوشِيّية الجيّد دون أن يدفع نقوده مُقدمًا، ولكنه كان دائمًا ما يفي بوعده معها، فيُعيد إليها المال في اليوم التالي مباشرةُ. ذلك اليوم وجد جلال هاشم شابًا، لا يعرفه، في بيتها، وهو يحاول إقناعها بإعطائه كوبين لحين ميسرة، ولكن دون جدوى. ألقى التحيّة، فنهضت لُوشِيِّة مُرحبةً به باهتمام بادٍ أثار حفيظة الشاب. طلب منها زجاجتين آجلتين، فدفعتهما إليه دون تردد، فشعر الآخر بالسخط والحنق وقلّة القيمة: "شُنو دَا يَا لُوشّيِّه؟ أنَا قَاعِد لَي سَاعْتِين بَحنِّس فِيْكِ فُوق كُبَّايتين، تَقُومِي تَدِّي الزُّول كِرِسْتَالتَين مِلِحْ؟ الخِيَار والفَقّوُس دَا حَتى في العَرقي؟"
في الأمسيات التي يأتي فيها جلال هاشم وطه شريف إلى بيت لُوشِيِّة، كان طه شريف يُطيل النظر، من خلال العتمة الضاربة في الأرجاء، إلى أثدائها العارية تمامًا، ويرمق قوامها الممشوق والمثير، وهي في طريقها لجلب قنينة الخمر. "يَاخي عِنْدَهَا جِسِمْ زَي سُوط العَنَج! عَليّ الطَّلاق دِي بِيْكُون فِيها جِنِسْ هَرْكِيك." ولا يتوانى جلال هاشم في قمع رغبات صديقه الجنسية:
كانت ليالي الكلاكلة شرق تحمل، تلك الأيام، رطوبةً غير مُعتادة، وبدأت بوادر الخريف تظهر شيئًا فشيئًا، فظهرت العواصف الترابية، وتلبّدت السماء بالغيوم الداكنة، دون أن يهطل مطر جاد. يُثير البعوض أعصابه ليلًا، والذباب المِلحاح نهارًا، وبين الفينة والأخرى، كان يشتم حرق النفايات ذات الرائحة النفاذة الموتِّرة؛ فزاد ذلك من سخطه. لم يفهم جلال هاشم سرّ الملامح الغاضبة للكلاكلة؛ فمنذ ثلاثة عشر عامًا كانت الكلاكلة تحمل ذات الملامح المتجهّمة؛ حتى أنها وسمت وجوه سُكانها بها، فأصبحوا متسقين معها تمامًا. حاول مرارًا أن يصطنع تلك المحبة التي يُبديها أهل الكلاكلة لها، ولكنه لم ينجح في كثير من الأحيان.
للكلاكلة سر غريب، لا يفهمه أحد. ربما لم يستشعر سُكان الكلاكلة أية غرابة فيها، وربما اعتداوا عليها، ولكنه لم يكن بمقدور جلال هاشم أن يتجاهل البؤس الذي يلف الكلاكلة كالكفن. أعلنها مرّة صراحة أمام رخط من أصدقائه "كَان مُتَّ زَاتُو مَا تَدْفِنُوني في الكَلاكْلَه دِي، أمْشُوا أدْفِنُوني في الصَّحَافَه، ولاَّ اللَامَاب، ولاَّ أيّ حِتَّه تَانْيَه." ولم يأخذ أحدٌ كلامه على محمل الجد.
في الجوار، وإلى الناحية الشرقية من منزله المبني من البلوك الحجري، كانت تسكن (إيمان عبد المنعم صلاح)، فتاة متخرّجة حديثًا من الجامعة، جميلة إلى الحد الذي أطلق عليها شباب القرية لقب (عروس البحر). لها قوام المليكانات وعارضات الأزياء، ولون بشرتها موحٍ بالنظافة، والنضارة، لها خصر شديد الضمور، وحوض مستو الاستدارة؛ كأنه دورق كيميائي بشري، شعرها الأسود المسترسل يُثير الشكوك بأنه ربما كان شعرًا مُستعارًا؛ بيد أنه لم يكن كذلك. لا تحمل ملامح سودانية خالصة، وقيل إن لها جذورًا تركية أو فارسية. هكذا يقول الناس، ربما لفرط جمالها، ولكن لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منها أو حتى إلقاء التحيّة عليها. شخص واحد فقط اسمه (الجزولي مهند) اعتبره شباب الحي محظوظًا، لأنه ادعى أنها ألقت عليه التحيّة مرّة، وهي عائدة من جامعتها. كان ذلك قبل أكثر من ستة أشهر، ومازال الجزولي فخورًا بذلك حتى ذلك اليوم.
عندما قابلها جلال هاشم أول مرّة، أدهشته، ولكنه لم يفرد لها مساحة في تفكيره، حتى أنه عندما رآها للمرّة الثانية لم يكن متأكدًا من أنها الفتاة نفسها التي رآها من قبل. لم يستطع افتعال النسيان، وأحس بأن ذلك إهانة بالغة لذكرياته التي جمعته بشاهيناز حسب الرسول. كان جادًا في وفائه لها، واكتفى بأن بالإعجاب الذي يطفو على عينيه كلّما رأى عروس البحر، وهي تعبر ميدان الحي إلى الطريق الأسفلتية؛ حيث المركبات العامة.
ذلك اليوم، وهو واقف عند دكان الحي، وبينما أراد أن يشغل سيجارته المسائية، لكزته طفلة صغيرة من الخلف، بجراءة لم يكن ليتوقعها "هُوي، البِتْ الوَاقْفَة هِنَاك دَايِرَاك." لم يكد يُصدّق عينيه عندما رآها واقفة تحت ظل شجرة (دقن الباشا) وارفة. أمسك بيد الطفلة قبل أن تولّي راكضة "يَاتُو بِتْ قَاصْدَه؟ دِيك الوَاقْفَه في الضُّل دِيك؟" واكتفت الطفلة بهز رأسها في مكر طفولي وادع. تردد أولًا في الذهاب إليها حاملًا سيجارته في يده، ولكنه لم يشأ أن يطفئها قبل أن يتأكد من أنها تريده هو بالفعل.
تحدثا لفترة قصيرة جدًا، بحسابتهما، ولكنها كانت طويلة بما يكفي، لأن يشعر شبان الحي الجالسون أمام أحد البيوت بأن ثمة أمرًا ما بين عروس البحر وجلال هاشم، ضيف الحيّ، الجديد. راحوا يتهامسون ويتغامزون فيما بينما، حتى إذا مرّ من أمامهم، وقف أحدهم وهو يوجّه إليه الكلام "حَارْقَه مَعَاك تَشْ يَا مَنْجَا، خَطِير لَكِن!" رأى في أعين بعضهم نظرات غيرة، وفي أعين الآخرين قرأ إعجابًا بما أنجزه للتو.
في الخفاء، كانوا يتناقلون خبر الحدث التاريخي الأول من نوعه في الحيّ: "عَرُوس البَحَر الما بِتْعَبِّر زُول، قَسَّمَت مَع جَلال الحَنْكُوش، ووِقْفَت مَعاَهُو تِحِت شَجَرَه نَاس عَلَوِيَّة بِتَاعت البُوتِيك، عِيْنَك يَا تَاجِر، سَاعَه كَامْلَه!" أخذ البعض يزيد في القصة الأصلية، ويُضيف إليها بحسب ما يوحي إليه خياله. تساءل البعض حول سرّ إعجاب إيمان عبد المنعم بجلال هاشم. قال البعض "دِي، أصْلًا، زُوَله مَادِّيه وطَغْيَانه، ومَا عَجَبَا في الزُّول دَا إلاَّ قُرُوشُو ووَجَاهْتُو. البَنَات دِيل جِنَّهُم مُغْتَرِبين. دِي شَكْشَكَه مِنَّهَا سَاي. عَامْلَه لِيْنَا فِيهَا قَطِيْمَه ورَافْعَه نَخَرَتَا، وهِي أصْلًا مُويَه مِنْ تِحت تِبن؛ يَا قُول المصْرِيين." وحلل آخرون: "يَا جَمَاعَه، الزُّولَه دِي يَا بِتْكُون قَرِيبتُو، يَا حَاجَه زي كِدَا. مَافي سَبَب بِخلِّي الزُّولَه دِي تَقِيف لَيْهَا مَع زُول حَنْكُوشَا زَي دَا. وَجَاهة شُنو؟ عَليّ بَالحَرام الزُّول دَا مَا شَاف الوَجَاهَه بَعِيْنُو." وقال بعضهم: "وَحَات الله الحَنْكُوش الما عَاجِبْكُم دَا عِنْدُو حَنَك سَنِين لمن غَلَط" بينما صرّح بعض المنصفين بأن الأمر لا يخرج عن إطاره الطبيعي، وأن ما رأوه لم يكن إلاّ حادثة طارئة، وعابرة لشخصين يسكنان في الحي نفسه؛ بل ولا يفصل بينهما سوى جدار مشترك. وأيًا يكن الأمر فإن تلك الحادثة كانت السبب في إطلاق لقب (إمبراطور) على جلال هاشم.
اللقاء الأول العابر الذي جمع بين جلال هاشم وإيمان عبد المنعم، منحهما مقدمة تبريرية لتبادل النظرات والابتسامات، وبعض اللقاءات العابرة الأخرى، وراح صديقه طه شريف يُلّمح له بمكر أنّ بإمكانه الاستفادة من هذه الفرصة التاريخية، لإنجاز ما لم يستطع شبّان الحي إنجازه: "الزُّوله دِي جَاهزه يَا فَرْدَه، طَالما عَامْلَه فِيها مُكسَّره فِيك، حَاوِل تَجِس نَبْضَهَا، يِمْكِن تَلقى مِنَّها بُوسَه ولاَّ هِبِّيشَه." ولم يكترث جلال هاشم كثيرًا لنصائح صديقه الخبيثة، ووطّن نفسه ألا يذهب في هذه العلاقة إلاّ بمقدار ما يحفظ عليه وفاءه الحديث لشهيناز حسب الرسول، رغم إحساسه بالميل تجاهها فعليًا.
11-14-2011, 11:35 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
تلك الليلة، استطاع أن ينام بعد مجاهدة مُضنية؛ إذ لم يكن باستطاعته تغطية وجهه كاملًا أثناء النوم؛ لاسيما عندما يكون الجو حارًا، ولكنه فعلها مُضطرًا بسبب بعوض الكلاكلة الشرس. استيقظ، على صوت بائع الخضروات الصباحي، آتيًا من مُكبِّر صوت مزعج، وهو يُكرر بلا هوادة: "عَجّوُر .. جَرْجير .. لَيْمُون .. بَطَاطِس"، نظر إلى السقف دون نيّة مُتعمِّدة، فرأى ضبًا مُعلقًا، لا يُحرك ساكنًا. شعر بشيء من القشعريرة إزاء لونه، ونظراته المتحفِّزة تلك، وبطريقة مُفاجئة تذكر موعده مع صديقه طه شريف في آخر المحطّة. نظر إلى ساعته الاسكواتش، فوجدها تشير إلى التاسعة والنصف. نهض مُسرعًا، وأخذ حمامه الصباحي البارد، وبدَّل ملابسه، وتأكد من تهذيب شعره، وخرج على الفور.
انتبها على صوت العم خليل، وهو يتشاجر مع أحدهم "الجَّرِيده دَا بِتَاع حَبّوُبْتَك تَقْرَاهُو وتَخَلِّيهُو؟" فابتسم بلا اهتمام؛ بينما أخذ طه شريف ينظر إلى ساعته مرّة أخرى "يَا زُول هُوي، السَّاعَه عَمَلت حِدَاشر إلاَّ! حَ تَمْشِي مَعَاي آخر المحَطَه، ولاَّ نِجلِّي الموضُوع؟" هزّ جلال هاشم رأسه موافقًا، وانطلقا في طريقهما إلى موقف المركبات العامة؛ حيث كان صبي وسيم القسمات يردد بنبرة موحدة: "شَرِق ... شَرِق ... شَرِق" فركبا الحافلة، ولم يفت على جلال هاشم تلك الابتسامة المنتصرة التي رسمها صديقه على شفتيه، ولكنه لم يأبه له كثيرًا.
عبر مذايع الحافلة، كانت الأخبار عن تداعيات انفصال الجنوب، تشغل جُل الرُكاب، ولكنه لم يهتم لذلك كثيراً. جلس إلى جوار النافذة، التي من خلالها رأى الكلاكلة، وكأنها مدينة أشباح استوطنها البشر. لا شيء يبدو مرحًا في هذا المكان. كل شيء فوضوي وعابث، ولكنه لاحظ اختفاء البهائم السائبة من الشوارع، وظهرت، بدلًا منها، ركشات كأسراب غراب متوحشة، تجوب شوارع الحي الأسفلتية، وطرقاتها الترابية، حتى لم يعد بإمكان أحد، هنا، الاستغناء عنها. كما لم يعد الناس يهتمون بتربية الدواجن والحمام كما في السابق. الأرض الترابية تمتد على مرأى بصره، وكان بإمكانه أن يسمع أصوات الانفجارات الآتية من منشأة التصنيع الحربي في الحزام الأخضر شمالًا، مُضيفةً بذلك عنصرًا ضوضائيًا إلى قائمة الضوضاء التي تعج بها الكلاكلة، منذ الصباح الباكر، وإلى أن تغرق الشمس في مياه النيل الأبيض في المساء، لينطلق بعدها كورال الكلاب، والضفداع، وصرصور الليل الموحي بالشجن والوحشة.
تذكر تلك الأمسية التي قضاها مع شاهيناز حسب الرسول، بعد عودتهما من كافتيريا الومبي بالمهندسين، على متن حافلة ركاب صغيرة، بالكاد تتسع لعشرة أشخاص، كان سائقها يصيح مُرددًا: "إسْعَاف .. إسْعَاف" كلّما رأى حشدًا من الناس في انتظار المواصلات العامة. كانا يجلسان متلاصقين، فأحس بجسدها البض: مثيرًا ومغريًا، وانتبهت إلى ذلك؛ فأخذت تقترب منه أكثر فأكثر: "بِتْ الكَلب، كَان عِنْدَها مَزَاج تِهيِّجْني" هذا ما أسرّه في نفسه، وهو يبتسم لتلك الذكرى الحميمة، التي تقافزت إلى ذهنه دونما مبررات واضحة.
عاد من غيابه الروحي بلكزةٍ من طه شريف، وهو يقول: "أَرَح يَابن خَالي، وِصِلْنَا آخر المحَطَّه خَلاص." بدا سعيدًا، ومنتشيًا لهذا المشوار المفاجئ، ولم يخب ذلك البريق الماكر في عينيه. سار به مُسرعًا، حتى دخلا سوقًا مبنيةً من الرواكيب المتراصة، وطغت الأجواء الاحتفالية على المكان: صوت أحمد الصادق ينطلق من محل لبيع العصائر الطازجة، متغنيًا بصوته الشجي:
وصوت جمال فرفور آتٍ من محل آخر، ورجل يرش الماء أمام محلِّه الذي يبيع فيه المراكيب الجلدية، وملابس الرجال الداخلية، وصوت أنثوي مثير يُردد من مكان ما: "شَرِيحَه زين بجنيه، ورَصِيد باتنين جِنيه. أرقام مُميزه"، وموسيقى أجنبية صاخبة ومتداخلة، تأتي من محلات لتحميل نغمات الهواتف المحمولة.
رغم حرارة الجو في الخارج، كان السوق كواحة ظليلة، وقد حجبت المشمّعات، الممدودة على طول رواكيب السوق، أشعة الشمس، مخلفةً، بذلك، ظلًا وارفًا وباردًا. تمنى جلال هاشم أن يطول مقامهما في هذه السوق، وألا يخرجا منها إلاّ مساءً. هنا يُباع كل شيء تقريبًا: أجهزة كهربائية، ملابس جاهزة، أحذية، إكسسوارات الهواتف المحمولة، معدات رياضية، حقائب سفر مختلفة الأحجام، إكسسوارات وأدوات تجميل نسائية، أقراص مدمجة لألعاب الأطفال (PlayStation)، منظفات منزلية، محلات لتجهيز العرائس، وأخرى لبيع وإيجار فساتين الزفاف، أدوات الخياطة ومستلزماتها، الملابس الرياضية والأزياء المدرسية، كتب دينية وأخر ثقافية متنوعة، أشرطة كاسيت، أجهزة كمبيوتر بإكسسواراتها، وأجهزة كمبيوتر محمول. كان طه شريف يقول، وكأنه يُكلِّم نفسه: "دَايِر أشْتَري لَي بَنْطَلَوُن جَدِيد، بَدَل البَنْطَلَوُن عَبْد الوَاحِد العِنْدِي دَا!" يُقال إنه بإمكانك أن تجد في السوق المركزي أيّ شيء تبحث عنه: من الإبرة وحتى الصاروخ! على الطرف الآخر من السوق المركزي، ثمة رواكيب أصغر حجمًا، تجلس تحتها فتيات حبشيِّات جميلات، يبعن الشاي والجَبَنَة الحبشيِّة المشهورة. ما أن تمر أمامهن حتى يرمقنك بنظرات متغزلة، وابتسامة مُرحبة، يستقطبن بها الزبائن. كان طه شريف، كعادته، يتنقل بنظراته بين الحسناوات، ويبتسم لهذه، ويتغزّل بتلك، وفي سبيل ذلك، كان يمشي بتهمّل مثير للملل؛ حتى أنّ جلال هاشم أحسّ أنهما أمضيا في رواكيب السوق المركزي دهرًا كاملًا. شعر أنهما لن يتوقفا حتى ينتهيا إلى أطراف الكرة الأرضية، وأن مشيهما هذا لن يتوقف ولن ينتهي. لم يشأ جلال هاشم أن يُقاطع طه شريف أو أن يستوقفه، فقد كان المكان يبدو له مألوفًا، وكان منسجمًا معه بطريقة حميمة، وبدا أنه يعلم تمامًا وجهته في هذا المكان الأشبه بالمتاهة.
خرجا، أخيرًا، من رواكيب الحبشيِّات، وقطعا مسافةَ عشرة أمتار؛ كانت هي المسافة الفاصلة بينها وبين خط طويل من الفرندات المبنية من الطوب الأحمر. كان الأمر أشبه بدهليز حجري طويل لا نهاية له. كانت الفرندات مبنية على شكل مربعات متجاورة على جانبي الطريق، وفي كل مربع ثلاثة غرف تستخدمها ستات الشاي كمطابخ صغيرة، يضعن فيها أدواتهن، ويغسلن فيها الأكواب المتسخة، ويصنعن فيها الماء البارد بعد إضافة مكعبات الثلج العملاقة إليه، وفي بعض الأحيان لاستقبال الشخصيات الخاصة. أمام كل غرفة من هذه الغرف، تضع كل بائعة شاي كراسٍ بلاستيكية ملوّنة لجلوس الزبائن، في شكل مُربع غير منتظم الأضلاع تمامًا.
تتراص مربعات الكراسي هذه، بجوار بعضها على الجانبين، لتصنعا طريقًا ضيقةً في المنتصف، يتنقّل عبرها المارون، من بين بائعات الشاي المنتظرات للزبائن، ليستقر كل واحد منهم، أخيرًا، أمام بائعةٍ منهن. من الناحية العُليا تمتد مشمّعات زرقاء تربط بين أطراف الفرندات، وفي نهاياتها فتحات مربعة صغيرة تسمح بمرور السَّبَلُوقاتِ المتدلية من أعلى الفرندات، وتتدلى كذلك أشعة الشمس، من تلك الفتحات، على طول جدار الفرندات، مربعاتٍ ضوئية آسرة؛ لتترك الأمر برُمَّته كلوحة سريالية في منتهى الروعة.
كانت، بالفعل، عوالم جديدة بالنسبة لجلال هاشم، الذي كان مبهورًا بتلك الأجواء، ومأخوذاّ بما يجري من حوله. فرندات آخر المحطة كخلية النحل، لا تتوقف فيها الحركة، ولو لثانية واحدة. تدخل روائح الشاي والجَبَنَة والبخور ودخان الشيشة، في تمازج غريب، أنوف العابرين، وتداعب أدمغتهم المشتاقة إلى كوب من المفترات الساخنة. الجميع هنا في حركة دائمة، وبائعات الشاي يتفنن في عرض ما لديهن من مشروبات وخدمات، بابتسامات أنثوية رائعة ومُحببة. جُلهن يرتدين ثيابًا تلف أجسادهن في إثارة بالغة، وبعضهن يضعن الحناء على أيديهن وأقدامهن.
تهتم كل واحدة منهن برشّ مربعها، غير المنتظم، بالماء بين الفينة والأخرى، وتنظيفه من بقايا السجائر، والسعوط المبصوق، وأعواد الثقاب المحترقة، ورماد الأبخرة وبقايا الفحم، وبصقات الزبائن المخاطية المقززة. تنحي النسوة، هنا، لكنس الأرض من الأوساخ أو لمساواة آثار أقدام الكراسي التي ترسمها على الأرض. كل واحدة تكنس منطقتها الخاصة بمكنسة تقليدية. تتراوح أعمراهن بين الثالثة عشرة، وحتى الخامسة والثلاثين، ولكل واحدة منهن صبيّة تساعدها على حمل الطلبات إلى الزبائن، وجلب الثلج والسكر والشاي، وربما في بعض المشاوير السرّية الخاصة. كان يسمع ضحكات النسوة المتعالية في غنج غير مصطنع، وبعض الأحاديث الهامسة من شباب بدوا، بالنسبة إليه، في لحظة استجداء للجنس العاجل، وأصوات اصطكاك الأكواب الزجاجية، وخرير ماء الشيشة الآسن المنسكب على الأرض، وحتى كشكشة مُلمِّعي الأحذية، وباعة السجائر والعطور المتجوِّلين.
العديد من الوجوه والسحنات التي تمر أمام ناظره، كأنها بورتريهات في معرض فنان محترف. بعض تلك القسمات تخترقها أشعة شمس هاربة من جهة ما، تتسلل من بين بعض جنبات الفرندة المتكسّرة؛ فتمنح تلك القسمات بُعدًا فنيًا. لا توجد اختلافات كبيرة بين هذه السحنات، وتلك التي رآها جلال هاشم في الكلاكلة شرق؛ فجميعها تحمل ذات البؤس الدفين، الذي يوحّد السودانيين. معظم زبائن هذا المكان هم من سائقي المركبات العامة، والكماسرة، وميكانيكية الورش الصناعية المجاورة، وبائعي السوق المركزي.
طه شريف يتحرّك بأريحية تنم عن انتماء أصيل للمكان، وكان يُلقي التحية لبعض الجالسين والعابرين، وبعض بائعات الشاي، وجلال هاشم يسير خلفه في اندهاش كامل، مما يراه ويسمعه. تتجاذبه أحاسيس غريبة تجاه فرندات آخر المحطة، شيء خفي يشدّه لهذا المكان، وآخر يجعله ينفر منه، ولكن الأمر الأكثر ضراوة ووضوحًا، بالنسبة إليه، وربما بالنسبة للآخرين أيضًا، أنه كان ككائن فضائي غريب أو صحفي أجنبي، جاء ليلقي نظرةً على مكان موبوء، ويلتقط بعض الصور، ويستمع إلى حكايات وقصص زوّار المكان والعاملين به، ويُسجّل إفاداتهم، ثم يمضي في حال سبيله إلى حيث ينتمي.
انتهيا إلى سيّدة ثلاثينية مكتنزة الجسم، هادئة الملامح، جميلة القسمات. لها عينيان واسعتان، وزادهما الكُحل اتساعًا على اتساعهما، يكاد حاجباها، المرسومان يدويًا، يلتقيان أعلى أنفها المصقول بعناية، وشفاهها غليظة ومثيرة، ولها أثداء مُستفزِة ومُصادِمة، وأرداف ممتلئة كأنها محشوّة بالقطن المبلول، لونها يميل إلى البياض، ولكن تشوبه حُمرة مُحببة، لها ابتسامة وادعة غير مُتكلفة. ثوبها القرمزي المتطرِّف يلف جسدها بخبث مثير، ومشيتها الأنثوية تزيد الأمر تعقيدًا. عندما رأت طه شريف، رسمت ابتسامتها المرحِبة، ومدت يدها إليه بالسلام:
كان من الواضح أنهما على علاقة وطيدة، ولم يستطع، في بادئ الأمر، مجاراتهما في الحديث، أو حتى اصطناع الاهتمام. كان مايزال، وقتها، مأخذوًا بأجواء المكان الغريبة، والمدهشة، وكأنها مَشاهد مُركَّبة في مسلسل تاريخي فنتازي، أو رحلة من رحلات سندباد في بلاد الهند. جلسا إلى جوار إجلال، واستمر طه شريف في تبادل الأحاديث الماجنة معها، بينما أخذ جلال هاشم يُنقل بصره في الأرجاء.
مجموعة من الشباب يجلسون أمام بائعة شاي جميلة، يحاول كل منهم شدّ انتباهها بطريقته الخاصة، بينما تكتفي هي بابتسامات مِهنية مُجامِلة. بائعة شاي بدينة تصرخ لأخرى بعيدة: "يَا فَوْزِيَّه؛ ثبِّتي لي بِتَاع الوَرْنيش دا، عِندي زَبون دَايِر يَضْرَب وَرْنيش"، وأخرى تتنقل بين الكراسي البلاستيكية برشاقة مُغرية، وتنحني إلى الأمام، لتسكب بعض الماء على الأرض الترابية، أمام طبليتها؛ تفعل ذلك، وهي تعلم أنها تثير، بحركاتها تلك، ثلاثة رجال، يجلسون في الجانب الآخر، يراقبونها باهتمام وصبر غريزي. صبي ينتقل بين مربعات الكراسي غير المنتظمة، وهو يُردد: "سَجِّر .. سَجِّر" حاملًا صندوقًا خشبيًا مُعلقًا، بكتفيه، بقطعة قماشية عريضة. شاب يجلس إلى جوار بائعة شاي، بطريقة حميمية، يتبادل معها أرقام الهواتف، وبعض المقاطع الغنائية عبر تقنية البلوتوث، وطفت نظرات الإعجاب المتبادلة بينهما؛ بحذر مُتكلف. مجموعة من الشباب، في الطرف الأخير من الفرندة، يلعبون الورق، ويصدرون صرخات مزعجة.
أصوات طرقات السَّمكرجية على حديد السيارات يُسمع من وقت لآخر، من مكان ما، ليُغطِّي على صوت قرقرة مياه الشيشة، واصطكاك الأكواب، وطقطقة الفحم المحترق على نار مواقد بائعات الشاي. خليط من الأصوات البشرية المتداخلة، تعطي شعوراً بحيوية المكان وحركته الدائبة. كانت الأجواء خيالية ومُوحية، بالنسبة إليه؛ فانصرف يتأمل كل شيء بدهشة بالغة، ويلتقط الصور في ذاكرته البصرية. لاحظ أن أمام كل بائعة شاي طبلية سماوية اللون، عليها عدد كبير من البُرطمانيات المتنوعة، تُوضع فيها أدوات العمل اليومية: سُكر، شاي، عصير بودرة، قِرفة، نعناع، فشار، حلاوة مَلْبَن، أعواد الصندل، بودرة السَّحلب، حليب مُجفف، أكياس الكركدي. البرطمانيات ليست سوى علب تانج فارغة، وتتحرك أيادي بائعات الشاي بين البرطمانيات المختلفة بخفة وحرفية مُتعالية. تتعاون بائعات الشاي فيما بينهن، ويتبادلن الأشياء والأحاديث الضاحكة، والتعليقات الساخرة. كان الأمر وكأنه بيت عائلي كبير لأخوة ليسوا من أُم واحدة. بدا أن هذا الجو العائلي راق لجلال هاشم كثيراً، ولكن طه شريف كان مايزال منهمكاً في الحديث الهامس إيَّاه، مع صديقته إجلال، التي أخذ يرمقها بنظرات مختلسة من فترة لأخرى.
رجل واحد يجلس بين بائعات الشاي، كواحد منهن، تناديه النسوة بلقب (حلبي)، ورغم أنه لم يكن شديد البياض لدرجة يستحق عليها ذلك اللقب، ولكنه بدا مرتاحاً لهذا اللقب كاسم له. لا أحد يعرف هنا اسمه بشكل قاطع، ولكنه محبوب بين بائعات الشاي، وحتى زبائنهن الذين يأتون لتدخين الشيشة. له محل صغير في طرف ما من أطراف الفرندة، يضع فيها عدة الشيشة، وعندما يحتاج إلى جمر ما، فإن كل ما عليه فعله، هو تناوله من أيّ موقد لأيّ بائعة شاي إلى جواره، ولم يكنَّ ليرفضن له ذلك.
بعد أن انتهى طه شريف من أحاديثه السرّية مع إجلال، رفع رأسه بتثاقل، وتنقل بنظره قليلاً، قبل أن يُنادي على (حلبي): "حَلَبي؛ شُنُو يا عَمَّك، الشِّيْشَه وِيَن؟ خَدَمَاتَك بِقَتْ تِك" نهضت إجلال بتكاسل أنثوي مثير، ودخلت الغرفة الخاصة بها، وبدأت في غسل بعض الأكواب، بعد أن أعادت لف ثوبها على جسدها المكتنز بتماسك. كان جلال هاشم يختلس النظر إليها، مستشعراً أنوثتها الطاغية. عرفت إجلال، بحسها الأنثوي المتقد، أنها استطاعت إثارته، فأخذت تفعل ما بوسعها، للنيل من غريزته، فكانت تنحني، كاشفةً عن أرداف مثيرة ومستفزة، وتنحني مرّة أخرى، أمامه، وهي تناوله كوب الكركدي الحار، كاشفةً عن ثديين متوثبين، ومكتملي الاستدارة، يتدليان من قميص مفتوح الصدر.
شعر جلال هاشم بشيء من الخجل لموقفه ذلك، فراح يُلهي نفسه عنها بقراءة الجريدة، التي فردها أمام وجهه. كانت صورة إجلال المثيرة تتقافز أمامه حتى على صفحات الجريدة، وهو يحاول ألا يُسلم زمام أمره لرغباته، ولكن أنوثتها كانت أقوى من قدرته على التحمّل. لم يكن، وقتها، يقرأ شيئاً على الإطلاق، عندما فاجأته بسؤال:
كاد قلب جلال هاشم أن يتوقف، وهو يلمح في عيني إجلال ذلك البريق الأنثوي الخاطف. كانت تنظر إليه بغنج آسر، وتميل إليه، فيشتم عطر جسدها المعطون برائحة الطّلْح والشَّاف المثيرتين، ولا تتوانى عن إثارته، كلما سنحت لها فرصة إلى ذلك. تذكر مقولة طه شريف التي قالها له ذات يوم أمامه: "أيّ مَرَه، حَتَّى لَو كَانَتْ قَرْقُورِيَّة دِشْنَه، مُمْكِن تِجَنِّن لِيْك أَجْعَص رَاجِل، وتَحْرِق أَعْصَابُو. دِيل مَخْلُوقِين عَشَان كِدَا أصْلاً!"
انتبه لحركة فعلها طه شريف بإصبعه بين فخذي صبيّة تحمل علبة شاي، ولكنه في الوقت ذاته، وجدها غير مكترثة لما فعله كثيراً، عندما ابتسمت في وجهه، وهي تقول بدلال مستفز: "بِعيْنَك يَا عَوَالِيْك!" فلكزه وانتهره:
لم ترضه الكلمات التي تفوّه بها طه شريف، وأحس بامتعاضٍ استشعرته إجلال من تعابير وجهه. لم تكن، بعد، قادرةً على تحديد موقفها من هذا الغريب، الذي لا يبدو منتمياً إلى هذا المكان، ولكنها كانت منجذبة إليه بطريقة ما. بصورة مفاجئة خطف طه شريف الجريدة من يده، وألقاها في حجر إجلال، وهو يقول: "الزُّول دَا بِيَكْتِب مَقَالات في الجَرايِد!" نظرت إلى صورته المرفقة بالمقال، وأبدت إعجابها بما رأته، وأخذت تقرأ قليلاً، قبل أن تقول: "دَا شُنُو الكَلَام الكُبَار كُبَار دَا؟ مَا شَا الله عَلِيْك"
في ذلك الوقت كان طه شريف، يُغيّر وضعية جلوسه متململاً، فوضع ساقه اليسرى على اليمنى، وهو يُدخن شيشته، ويُطلق ابتسامته الماكرة على بعض بائعات الشاي مع كل دخان يخرج من فمه، ومنخاره، وكأنه تنين أسطوري في موسم تزاوج. وضعت إجلال هاتفها المحمول فوق إحدى البرطمانيات الموجودة أمامها، بعد أن أدارت أغنية لم يعرف مُغنيّتها:
أخذت تتراقص، من مكانها، على أنغام الأغنية، التي وجدها جلال هاشم صاخبة أكثر من اللازم، ولكنه أخذ يعتاد عليها شيئاً فشيئاً. في ذلك الوقت كان (حلبي) يسكب ماءً آسناً من شيشة غريبة الألوان، وهو يتحدث بصوت عالٍ، دون أن يعرف جلال هاشم مَنْ المخاطب بحديثه ذلك: "واللهِ كَان عَامِل فِيْهَا شِفِت، أنا بَقَطِّعَا لَيْهُو فُوق رَاسُو. أصْبُرِي لَي بَسْ! هُو قَالُوا لَيْك أنِحْنَا بِيْهِمَّنَا حُكُومَة ولاَّ مَبَاحِث، واللهِ كَان بِقَا الجِّن الأزْرَق زَاتُو، بَوَرِيْهُو لَيْك الجِّن الكَلَكِي الما بِعَرْفُو." ثم أعاد الشيشة إلى مكانها داخل الغرفة المعدَّة لذلك.
تذكر جلساته مع شاهيناز حسب الرسول في مقهى البورصة، وعشقها الخرافي للشيشة، ولعب الطاولة، التي لم يكن يُجيدها. أحس بنشوة لا مبرر لها، وهو يتذكر ذلك، وراح يتصوّرها، وهي تطلق دخان الشيشة البارد من منخارها، وكيف أنه كان يعجبه ذلك. سمع ضحكاتها الطفولية، وهي تغزو حاسة سمعه، وتزاحم ضوضاء المكان، الذي أخذ يغرق فيه دون أن يشعر. نجحت في احتلاله لبعض الوقت؛ فيرسم، في كل مرة، ابتسامة راضية على وجهه، وإجلال تراقب كل ذلك عن كثب، دون أن تبدي أيّ تعليقات على ما تراه.
الذكريات مرتبة بطريقة أبجدية في أدمغتنا. يكفي أن نصادف موقفاً ما، لنستدعي المواقف المشابهة لها، وفي كثير من الأحيان نتذكر مواقف بعينها، دون مبررات واضحة؛ ربما كانت رغبتنا الدفينة في خلق مقاربات بين حاضرنا وماضينا، أو ربما كانت حاجة لاشعورية للخروج من الحاضر، والهروب منه إلى الماضي، الذي نشعر تجاهه بالدفء والأمان. لا شيء يعدل ذكرى حميمة؛ إلاَّ تصنيع واحدة جديدة!
العاشقون يُعرفون بسيماهم، ومن اليسير أن تتعرف على وجه عاشق من بين مئات السِّحن المبتلاة بأشياء وهموم حياتية أخرى. ليسوا هم السعداء، ولا مرتاحو البال؛ إنما هم الأنقياء دائماً، والمتصالحون مع كل شيء حولهم. الحب يُهذب النفوس والغرائز، ويجعلها تصب في الوقت وفي المكان المناسبَين؛ بل وللأشخاص المناسبِين كذلك. يجعلنا نشعر بالرضا عن أنفسنا، لأنه عندما تعشقك الأنثى، تريك مكامن قوتك، ومواطن الإنسانية فيك. تهديك إلى نفسك التي لم تكن لتتعرف عليها إلاَّ بشق الأنفس؛ وعندها لابد أن تتواضع أمام بقية الأشياء، وتفهم أنك جزء من هذا الكون، والنظام البديع. حلقة ضمن حلقاتها، وأنك محل اهتمام من إنسانة مستعدة أن تهبك كل شيء، حتى معرفتها بنفسك، وتقديرها لك.
كهذا تفعل الأنثى بنا، فقط عندما تعشق، ولا تعشق الأنثى إلاّ عندما نعرف ونفهم كيف نحبها، ونحترمها في المقام الأول. ثمة نساء يفعلن أكثر من ذلك حتى دون أن نشعر، وتلك، ربما، تكون أروع قصص العشق التي لم يُكتب لها أن تحيا لتُروى. الحب مُجرّد احتياج، ورغبة في الشعور بالانتماء لشخص بعينه. ربما لا يهمنا أن نعرف كيف نختار أولئك الذين نحبهم؛ بقدر ما يهمنا أن نعرف كيف يجب أن نحبهم، وأن نحافظ عليهم في حياتنا.
حاول جلال هاشم الاحتفاظ بشاهيناز، وعشقها الذي تغلغل داخله كالوباء، وكان سعيداً لأنها لم تستطع مغادرته طوال هذه المدة. ولكنه في جانب ما منه، كان يحتقر نفسه، عندما يُخمّن أن سعادته تلك لم تكن إلاّ بدافع ذاتي يستحق عليه التقدير والإشادة؛ إذ كان يعني أنه فَرِحٌ لإنجاز أمر يفعله البعض بتلقائية متناهية. عندما تشعر بالسعادة لإنجاز أمر ما، ستكون سعادتك، تلك، أمارةً على أنك كنت تخشى أن تخفق في إنجازه، وعندها تعلم أنه لم يكن في نيّتك الخالصة إنجاز ذلك؛ لأن ثمة أشياء لا يجب أن نجاهد أنفسنا كثيراً في إنجازها، بل تأتي بتلقائية مدهشة وبسيطة، والاحتفاظ بمن نحب أحد هذه الأشياء.
تغيّرت نبرة إجلال، ومعالمتها لجلال هاشم بعد قراءتها، غير المتمعنة، لمقاله في (أجراس الحرية)، وبدأت تنظر إليه بشيء من التوقير والاحترام، ولكن، وفي الوقت نفسه، فإن تلك النظرات ذات المغزى الإغوائي لم تتغيّر. خاطبته فيما يُشبه الرثاء أو الندم: "أنَا امْتَحَنْتَ شَهَادَه سُودَانِيَّه. جِبْتَا 65، صَحِيح نِسْبَه مَا عَاليَه، لَكِن مَا كَان في إِمْكَانِيَّه أعِيد تَاني. كَان عِنْدِي رَغْبَه أخُشْ الجَّامْعَه، لَكِن أَهَلِي مَا كَان عِنْدَهُم قُرُوش." لمعت في عينيها بريق غريب، ومحزن. ظلت تنظر إلى جهة ما قريبة، ولكنها كانت غارقة في التفكير، قبل أن تُكمل: "إنْتَا عَارِف؟ كَان نِفْسِي أقْرَا قَانُون، وأطْلَع مُحَامِيَّه!" انتهى الأمر فوراً، عندما سمعت إحداهن تقول: "إجْلَال؛ عَلَيْكِي الله أدْيني شُوَيَّة سُكَّر." فرّدت عليها، وهي تحاول أن تمسح ملامح الأسى، الذي ارتسم في وجهها: "عَواطِف؛ هُوي يَا عَواطِف! مَا كَمَّلْتي لَي سُكَّري! أمْشِي اشْتَرِي بَرَاكِي. العِنْدِي يَادَاب يِقَضِّيني لَغَاية آخر اليُوم."
في تلك الأثناء، توقف شخص أبكم أمام طبلية إجلال، وأخذ يُشير بيديه لعضوه الذكري، ويضحك، دون أن يفهم طه شريف أو صديقه ما يُحاول قوله. قالت إحدى بائعات الشاي، وهي تضحك: "واللهِ الأطْرَش دَا مَا قَاعِد في الوَاطَه. قَاعِد يِكَشِّف للبِحْصَل هِنا سَاي" وعمّ المكان صوت ضحكات بعض بائعات الشاي القريبات. ترك طه شريف الشيشة من يده، واقترب من إجلال، وراح يسألها:
تعالت الضحكات، وأخذ الأبكم يقهقه، ويضرب كفيه ببعضهما، وهو مايزال يُؤدي بعض الحركات التوضيحية، التي زادت من ضحك الناس. قامت إحداهن، وهي تضرب الأبكم في كتفه بطريقة غير جادة، وهي تغالب الضحك: "الله يَفْضَحَك يَا المفْضُوح، قَاعِد لجِنِس دَا إنْتَا. أمَشْ شُوف لَيْك شَغَلَه بَلَا يَخُمَّك" خمّن جلال هاشم أن تكون تلك بدرية الهوساوية المقصودة بحكاية إجلال، فابتسم لمجمل الموقف، وراح يتابع في اهتمام. التفتت الفتاة، وهي تعيد لف ثوبها: "العَجَب لَاقَاني تَاني يُوم الصَّبَاح. مُخيِّت وِشُّو بتَلاتَه غُرَز. أَوَّل مَا شَافني زَاغ طَوَّالي. وَدْ الكَلْب"
وتكلّمت امرأة أخرى، من مكانها، وهي تشير على فتاة في خواتيم العشرين من عمرها، وهي تقول: "الغَبْيَانَه دِي الِّليَله الصَّبَاح لَمَّنْ جَات تَنْزِل مِن الموَاصَلات، كَان في عَمَّك جُلُك قَاعِد في كُرْسِي النُّص، وخَاتي لِيْهُو طَبَق بِيَضْ في الوَاطَه. قَامَت قَالَتْ لَيْهُو: يَا عَمَّنَا عَلَيْك الله زِح بِيْضَك دَا مِن الطَّرِيق، دَايْريِن نَنْزِل. عَمَّك جَرَّا لَيْهَا نُور طَوِيل، وقَال: حَسِّي يَابتي بَيْضِي دَا المعَتِّر لَيْكِي؟ نَاس الحَافْلَه كُلَهُم قَنَّبُوا يَضْحَكُوا عَ الغَبْيَانه دِي، وهي مَا فَاهْمَه الحَاصِل شُنُو. عَلِيْكُم الله شُفْتُو جِنِسْ الِمحَن دِي؟" كان الأبكم، وقتها، يضحك بصوت متقطع وعالٍ، وهو يُصفق بقدميه، ويمسح جبينه الذي تصفد بالعرق، فانتبه جلال، عندها، للرطوبة العالية، التي أغرقت الوجوه بقطرات العرق الصغيرة، ورغم ذلك استمر الجميع بالضحك، ما عدا الحلبي الذي لم يفلح في إطفاء ثورة غضبه.
مرّت ثلاث ساعات، وهما في فرندات آخر المحطة، ولم يشعرا بالوقت. بدأ جلال هاشم ينسجم مع تلك الأجواء، وأحس بمتعة غريبة، وألفة تجاه المكان. كانت إجلال، وقتها، قد استأذنته في أخذ هاتفه المحمول، وأعادته إليه بعد أن سجّلت رقمها عليه "دِي نِمْرَتي، سَجِلَا عِنْدَك بإجْلَال وَاَرْقُو" ففعل. لم يفت هذا المنظر على طه شريف، الذي بدت نواجذه الماكرة، وهو يرمق صديقه بنظرات حاسدة، وبطريقة مفاجئة، وضع طه شريف خرطوم الشيشة من يده، وأشار إلى جلال هاشم ليدفع الحساب. أخرج جلال النقود من جيبه، سألها عن الحساب، فأجابت برقة مُعاتبة: "خَلِّيْهَا عَلِيْنَا الدُّوْرَه دِي." وعندما أصر جلال على الدفع، أجابته، بذات الرقة: "تَلَاتَه جِنَيه" فدفع إليها بورقة نقدية من قيمة الخمس جنيهات، وغادرا على الفور، ولم يطالب بالباقي.
11-14-2011, 11:52 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
الأحبّة إنه مُجرّد مشروع رواية لم تكتمل، ولم يُكتب منها -حتى الآن- سوى الفصول التسعة المنشورة هنا أتمنى أن تنال الأجزاء المنشورة ولو قسطاً من إعجابكم، على أمل أن يصفو المزاج العكر وأتمكن من إتمام بقية الرواية حتى آخرها
ولملاحظاتكم على ما نُشر من الرواية أرجو مراسلتي على بريدي الإلكتروني [email protected]
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة