دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
ملف للازمة المالية: العالم المتلفز لـ"الإباحية العقاريّة"
|
عن لوموند ديبلوماتيك
(1)
أديتيا شاكرابورتي العالم المتلفز لـ"الإباحية العقاريّة"
عندما يتحول الحجر إلى ذهب
في بضعة أشهر، تحوّلت العربة العقارية الذهبيّة إلى قرعة خائبة تقبع في حديقةٍ مليئةٍ بالمصارف المفلسة، وبالوكالات العقارية المقفلة، بالورش المهجورة وبآلاف العائلات المدمّرة. إذ انهارت الأسعار بعد سنواتٍ من الارتفاعات الهائلة المسبّبة للدوار. فقد انخفضت الأسعار في الولايات المتحدة بمعدل 16,6 في المئة بين صيفي 2007 و2008. وفي فرنسا، تحاول الحكومة معالجة انخفاض عمليات البيع الذي بلغ 44 في المئة في الربع الثالث من العام 2008. نلحظ أيضاً هذا الانخفاض في إسبانيا وفي أماكنٍ أخرى. ذلك كلّه في حين كان الجميع يراهن على الارتفاع: المؤسسات الناشطة في القطاع العقاري التي غذّت الفقاعة، ووسائل الإعلام التي ضاعفت من الملفّات الخاصة حول الموضوع، والمسؤولون السياسيون الذين حفّزوا هذه الخيارات، وكذلك المؤسسات المالية التي أقرضت بشروطٍ غير معقولة. أمّا في المملكة المتحدة، فقد تمّ تخصيصي برامج تلفزيونية كاملة حول العقارات بهدف إقناع الناس بأن السكن يمكن أن يكون مادةً للمضاربة أكثر منه مادّة أساسيّة ضروريّة.
مع فجر القرن الحادي والعشرين، بدأ صنفٌ مجهول ينتشر على الشاشات الصغيرة في بريطانيا وقد بدا ممثّلو هذا الصنف قريبي الشبه من المشاهدين الذين اجتاحوا المعارض: بدايات الصلع هي نفسها، ونفخة البطن الزائدة هي أيضاً نفسها. أمرٌ واحد ميّزهم عن البشر العاديين: هو قدرتهم على تحويل الحجر ذهباً.
فبفضل نصائحهم سوف يتمكّن الجميع من الاستفادة من أنفجار أسعار العقارات. وقد أعدّوا برامج من تلفزيون الواقع حيث يقوم أناسٌ حقيقيون بأعمال حيّة (مثلاً شراء منزلٍ أو بيعه أو تجديده)، تحت الرقابة اللصيقة لفريقٍ تلفزيوني. هذه صيغة أصبحت مستنفذة كلّياً، ولكنّ الموضوع، أي الاستثمار في الحجر، قد أضحى معاصراً بشكلٍ لا يقاوم.
هكذا بات بإمكان أغرار تجارة العقارات، قبل أن ينطلقوا، أن يتريّثوا وهم يشاهدون "اشترِ أو لا تشترِ؟". وبمجرّد أن يستقرّوا، لم يكُن عليهم إلاّ أن يتبعوا نصائح برنامج "مشرف الديكور" لكي يعطي طابعاً حديثاً ومميّزاً للمسكن الجديد. وإن نقصت الأفكار، يسمح التلفزيون بالقيام بزيارة إلى "منزل الجيران". وعندما يحين موعد البيع لجني الربح، يأتي برنامج "الارتقاء في المستوى" لكي يوضّح لهم كيف يشترون بيتاً أكبر. وبعد سنوات، تمّ حتّى إعداد برنامج يقترح مساعدتهم على "الاستثمار في الخارج"؛ فما كان فيما سبق عمليّةً معقّدة فيها مجازفة كبيرة، بات الآن في متناول الجميع. لكن موضوعاً واحداً فقط لم يتمّ التطرّق إليه في هذه البرامج: كيف العمل عندما لا تتوفّر الإمكانية لتسديد الدفعات الشهرية.
هكذا أبحرت هذه البرامج في خضمّ أهم انفجارٍ عقاري شهدته بريطانيا في تاريخها، والذي راحت الأسعار خلاله ترتفع سنوياً بنسبة 20 في المئة تقريباً. وراحت الصحف اليومية بانتظام تصدر "بعناوينٍ" حول تحقيقات عن تطوّر حركة السوق. وتخلّت بعض مجلات الديكور المحترمة جدّاً أساساً عن المقالات عن مصابيح أسرّة غرف النوم المثالية، لكي تهتمّ بالمقالات عن العمل على الغرانيت. لكن الضحيّة الأولى لهذا الفيروس كان التلفزيون مع أكثر من عشرين برنامجاً فصلياً، في ذروة الفقاعة، مخصّصة لهذا الموضوع.
بدايةً، أحسبوا كم يبلغ ثمن منزلكم في لندن صار البريطانيون، في كلّ مساء على مدار الأسبوع، يعودون إلى منازلهم سكارى بعالم العقارات. ولماذا يصحون من سكرهم، طالما هم يعرفون أن قيمة مساكنهم قد زادت في يومهم هذا مبلغاً أعلى من المبلغ الذي ربحوه في عملهم؟ فما أن يستلقوا على أريكتهم، يمكنهم الاستمرار في الارتواء من النصائح الرشيدة من الملاكين الأثرياء. وتعيد محطّات الشبكة الكابليّة بثّ البرامج قدر المستطاع لإكمال السهرة حتى آخر الليل.
لم يكًن مقدّمو هذه البرامج من مشاهير الشاشة الصغيرة، ولا حتّى من صحافيي التحقيقات. بل كان لديهم بالأحرى ميلٌ غريب لأن يكونوا سماسرة لعالم العقارات أو متعهّدين أو مهندسي ديكور الداخلي. ولا يبدو أن ما كان يحقّقه هؤلاء "الخبراء" جميعاً من مكاسبٍ من انتفاخ الفقاعة قد طرح أدنى مشكلة. فقد استمرّ معظمهم أساساً في ممارسة عملهم الرئيسيّ، حتى أنّ بعضهم لم يتردّد في تطوير عمله بفضل الشهرة التي حقّقها مؤخّراً. أكثر من تقديم النصائح، تلك كانت عقيدة التي راحوا يكرّرونها طوال عرض برامجهم: "اشتروا، رمّموا، بيعوا، اجمعوا الأرباح... وأعيدوا الكرّة".
وقد جسّدت هذه الحالة الذهنية على أفضل وجه، السيّدة "ساره بيني"، مقدّمة برنامجي "أصبِح ملاّكاً " و"كيف تسدّد قرضك السكني في سنةٍ واحدة". وكانت وصفة برنامج "أصبِح ملاّكاً"، الذي كان يجتذب أسبوعياً أربعة ملايين مشاهد، في منتهى البساطة. إذ كانت "بيني" تأخذ على عاتقها زوجين (الأمر دائماً يدور مع زوجين) اشتريا للتّو منزلاً، وهما يريدان ترميمه وإعادة بيعه لتحقيق فائض قيمة كبير. هكذا كانت المبالغ التي ينفقها المختاران السعيدان ثم التي يأملان أن يجنيها ترتسم على الشاشة بحروفٍ عريضة مزخرفة بشكل فاخر.
قبل قدوم "بيني" ونظرائها الكثر، لم يكن التلفزيون يهتمّ بالعقارات إلاّ من زاوية الديكور والتزيين. والأستاذ الذي لا منازع له في هذا المجال كان "باري بوكنيل"، الذي قام اختصاصه على تثبيت ألواح سنديان رهيبة الشكل على الأبواب الفيكتورية الرائعة. ويجب الاعتراف أن المحطّات التلفزيونية لم تكتشِف على الفور إعجاب البريطانيين المتنامي بعالم الحجر الرائع. فعندما بدأت مارغريت تاتشر تبيع المساكن الاجتماعية في ثمانينات القرن الماضي، كانت نسبة الملاّكين بين السكان لا تتعدّى الـ60 في المئة، أمّا في العام 2000 فقد تجاوزت النسبة 70 في المئة.
بعد الحرب العالمية الثانية، ظلّ المسكن من الضرورات الأساسيّة الأولى؛ وكانت الدولة تؤمّن بشكلٍ عام سياسة توزيعه وإدارته. أمّا اليوم فقد بات الآن سلعةً كغيره من السلع، ومؤشراً ظاهريّاً على الثروة، يستحقّ أن يخصّص له كلّ فردٍ قسماً متزايداً من مداخيله.
ولم يكن لحزب العمال أن يجعل هذا القطار يفوته. فقبل أن يصبح السيّد غوردون براون رئيساً للحكومة بقليل، وكشخصٍ مخلصٍ من أتباع "مجتمع الملاّكين" الذي نادى به جورج و. بوش، راح يقدّم الوعود بأنّ بلاده ستصبح "ديموقراطية حيث بإمكان كلّ فردٍ أن يمتلك بيتاً وأن يقوم بالاستثمارات المالية وأن ينعم بإيرادات الفوائد" [1]. لكن هذه الأمور الثلاثة قد اختلطت على معظم الناخبين؛ فقد باتت النظرة إلى البيت لا كمسكن يأوي، بل كاستثمارٍ يؤّمن أرباحاً كبيرة. فالبريطانيون، الذين راحت الشكوك تساورهم أكثر فأكثر حول تقاعدهم، وبعد انفجار الفقاعة التكنولوجية (في العام 2000)، وبعد فضيحتي شركتي "إنرون" و"وورلدكوم" (في العامين 2001-2002)، قد وضعوا كلّ آمالهم في الخفّان والاسمنت. هكذا فقد العقار شيئاً فشيئاً في المخيّلة الوطنية وظيفته الأولى، أي السكن.
وقد عكست شعبية "ساره بيني" تماماً هذا التطوّر. فطلما أحبّت تكرار هذه الجملة: "كلّ واحدٍ منّا يحبّ في أعماقه أن يصبح متعهّداً عقاريّاً"، مقدّمةً نجاحها الشخصي في مجال العقارات كنموذجٍ على الأمر. وكانت كلّ أسبوع توزّع كيفما كان حكمتها على ضيوفٍ بهرهم هذا المنطق العظيم. لكن في أغلب الأحيان، كان أصحاب الملايين المستقبليّون يقعون مجدّداً في العاطفة المتكلّفة البالية، ويحاولون تدبير منزلهم على ذوقهم، بدلاً من التفكير في رفع سعر مبيعه إلى أقصى الحدود. ولنقُلْ، في تحريف ساخر لقول "لو كوربوزييه" أنّ المنازل قد أصبحت آلاتٍ... لطبع الأوراق النقدية. ولكنّ تلامذة "بيني" غالباً ما انتهوا إلى تأييد حججها. ففي نهاية المطاف، هم هنا أيضاً لكي يصبحوا أغنياء. إذ كانت تذكّرهم أحياناً: "أنّنا عندما نزور هذه المنازل، نجد الرفوف مليئة بالكتب التي توضِح لنا كيف نصبح من أصحاب الملايين في عامٍ واحد".
وشيئاً فشيئاً تغيّرت مظاهر البيوت. كان السيّد دايفد بولوك سمساراً عقارياً منذ أكثر من عشرين عاماً في أحد أحياء لندن الذي كثيراً ما ظهر في هذه البرامج. وكلّما انتفخت الفقاعة كلما توحّدت أشكال الشوارع. "أعيد طلاء المنازل بلونٍ زهريّ أو رماديّ أو بيضاوي. لم يعُد يظهر الأزرق الفاتح أو الأحمر القرميدي التقليدي. فقد أصبح كلّ شيءٍ باهتاً أكثر، مصطنعاً لا ميّزة له. وقد تخلّى الناس عن إضفاء لمستهم الذاتية. كانوا يرمّمون منازلهم لا لكي يسكنوها بل ليعيدوا بيعها". التلفزيون مرّ من هنا.
وقد تمّ إيجاد عنوان أطلق على هذه البرامج، وهو "الإباحية العقارية"؛ هذه عبارة ابتكرتها "روزي ميار"، الصحافية السابقة في محطّة "بي.بي.سي." والمتخصّصة في الفنون الجميلة، والتي جدّدت تأهّلها في مجال سوق الحجارة الجديد البالغ النفوذ (وهو خيار مهنةٍ يعطي فكرةً عن طبيعة تطوّر المجتمع البريطاني مؤخّراً). فقد صرّحت قائلة في العام 2002: "تولّد الإباحية العقارية تعوّداً. أوّلاً تقدِّر كم يساوي منزلك في لندن، ثمّ تبدأ باستطلاع الإعلانات الصغيرة في الصحف. تنتابك أفكارٌ مشكّكة مدانة. هل تختار مزرعةً قديمة بثلاثة أجنحة؟ أم قصراً ريفياً صغيراً باثنتي عشرة غرفة؟ أم مسكناً كلاسيكياً جديداً مع حقلٍ وبحيرة صغيرة؟ [2]".
ولو أنّ كلّ اللندنيين قد فعلوا ذلك لزال الفرق في الأسعار بسرعة ما بين العاصمة والريف. لكن "ميار" وكذلك قرّاؤها، لم تهتمّ كثيراً لقواعد الاقتصاد الأساسية. ففي رأيها أنّ "الصحف تمتلئ أسبوعياً برسومٍ بيانية تبرهن من دون ريب على أنّ الأسعار في الجنوب الشرقي قد دخلت في مرحلة صعودٍ مطّرد. وبالنتيجة، لا تبدو فكرة الانتقال إلى قصرٍ ريفيّ صغير مستحبّة. وماذا إذا استمرّ سعر بيتك في الارتفاع بعد أن تكون قد بعته؟ ستكتشف فائدة أن تؤجّر بيتاً لتشتري آخراً".
صحيحٌ، فلنذكر هنا فقّاعة الإيجارات! حيث بلغت هستيريا العقارات أوجها. فمجرّد أن أصبح الناس مولَعين بالشراء والبيع، بدا طبيعياً أن يشتري الجميع لكي يؤجّروا بأسعارٍ خيالية تسمح بتمويل أعمال شراءٍ أخرى. ويستند الرهان دائماً على الفرضية السابقة ذاتها، أي الارتفاع الدائم في الأسعار لكن مع مضاعفة الرهان. ففي العام 1998، تمّ إحصاء تسعة وعشرين ألف قرضٍ من أجل القيام بعملياتٍ من هذا النوع. وفي العام 2006، أصبح هناك ثمانمائة وخمسون ألفاً منها. وصار ثلث كل هذه الإيجارات يستعمل لتمويل عمليات شراء العقارات. ووجد الشبّان الذين كانوا يفتّشون عن مسكنٍ بغرفتين للإقامة فيه منافسةً من شراةٍ أكبر منهم سنّاً بمرّتين، انطلقوا لمطاردة الدجاجة التي تبيض ذهباً. وكانت الشقق الجديدة هي الهدف المفضّل لهؤلاء المموّلين الهواة الذين توصّلوا للاستئثار بأكثر من 60 في المئة من هذا النوع من المساكن في لندن عام 2006.
استثمروا في أسواق المستقبل كما دوردونيا، توسكانيا أو كراكوفيا ومن البديهي أن يكون هناك مجازفة كبيرة في هذا النوع من العمليات، التي كانت من قبل محصورة فقط بفئةٍ صغيرة من العاملين في المهنة ومن الأسر الميسورة جدّاً. وهكذا نجد أن أحد المصارف التي انهارت هذه السنة لم يكُن سوى مصرف "برادفورد وبنغلي"، المتخصّص في هذا النوع من القروض. لكن على التلفزيون، وجد الجميع هذا الأمر طبيعياً جدّاً، وراح مقدمو البرامج يشجّعون الملاّكين على تأجير منازلهم في لندن من أجل تمويل أعمال شراء مساكنٍ في الريف، كما كانت تحلم أن تفعله "روزي ميار". بل هناك ما هو أهمّ، إذ إنّ هؤلاء "الخبراء" قد راحوا ينصحون المشاهدين بالاستثمار في الأسواق المستقبلية، في دوردونيا (فرنسا) مثلاً أو توسكانيا (إيطاليا) أو كراكوفيا (بولونيا).
فإلى أي مدى يمكن اعتبار الإباحية العقارية مسؤولةً عن انتفاخ الفقّاعة؟ لقد قام آدم سامبسون، قبل أن يصبح رئيساً لمؤسسة "شلتر"، وهي منظّمة خيرية متخصّصة بالمسكن، بأبحاثٍ متلاحقة حول الإباحية. وتوصّل إلى قناعةٍ مفادها أنّ هذين النوعين يعطيان النتائج نفسها: "فالإباحية الجنسيّة تحوّل العواطف والتصرّفات التي تُعتَبَر غير مقبولة في الأساس إلى ممارساتٍ طبيعية. والإباحية العقاريّة لم تخترِع فكرة إمكانية تحقيق الثروة عبر المضاربة في مجال العقارات، لكنها شرّعت هذه المسلكية".
لكن السكرة راحت الآن. ففي السنة الماضية انخفضت الأسعار في بريطانيا بنسبة 15 في المئة تقريباً؛ ويمكن توقّع انخفاضاً بالنسبة نفسها لهذا العام أيضاً. وإذ دخلت البلاد في حالةٍ من الانكماش، يتردّد منتجو التلفزيون في إطلاق برامجٍ الهدف منها هو فقط الوعد بتحقيق الثروة سريعاً. وعلى كلٍّ، لن يكون من السهل عليهم إيجاد الأمثلة الوافية على ذلك. وبما أن المصارف لم تعُد تسلّف، فمن النادر أن نجِد من هم قادرون على إيجاد المال الكافي لشراء منزلٍ فكتوري فخمٍ ونزع روحه منه بما يكفي لكي يجتذب مجلاّت الديكور. أضِف أن لا أحد يريد أن يجازف بالبيع بخسارة وهو ما أدّى إلى تجميد السوق. ففي الصيف الماضي بثّت الـ"بي.بي.سي." سلسلةً من البرامج، كان على مقدّم البرنامج فيها أن يساعد البائع على التحضير لزيارة زبائنٍ محتملين. وفي كلّ مرّة كان يحضر زوجان فقط، أو أربعة، ويجولان في المنزل من دون تركيز ويغادران حتّى من دون السؤال عن السعر.
ومؤخّراً قال أحد المنتجين في ردّه على أسئلة صحيفة "غارديان": "سيبقى قطاع العقارات موضوعاً يثير اهتمام التلفزيون، لكن يجب أن نتكلّم في الموضوع بطريقةٍ أخرى. لقد انتهى زمن تقديم النصائح للاستثمار في مجال العقارات" [3]. ما يعني أنّ لحالات الانكماش حتّى بعض الحسنات.
* صحافيّ، لندن.
[1] صحيفة الغارديان، لندن، 14 أيار/مايو 2007.
[2] صحيفة الغارديان، لندن، 12 أيار/مايو 2007.
[3] صحيفة الغارديان، لندن، 20 تشرين الأول/أوكتوبر2008.
|
|
|
|
|
|
|
|
ملف للازمة المالية: الهجوم المعكس لكارل ماركس (Re: esam gabralla)
|
عن لوموند ديبلوماتيك
(2)
لوسيان سيف الهجوم المعكس لكارل ماركس
تنظيم قطاع المال أم تجاوز الرأسمالية؟
تثير أعمال كارل ماركس الاهتمام من جديد على الرغم من أنّها كانت ملفوظةً من قبل الأحزاب الاشتراكية الأوروبية كأنّها "أحلام قديمة مبسّطة" يتوجّب القطع معها بسرعة، وأنّها وضعت ضمن الآراء الشيطانيّة في الجامعة بعد أن كانت لفترة طويلة تدرّس كقاعدةٍ للتحليل الاقتصادي. ألم يقم الفيلسوف الألماني بتشريح آلية الرأسمالية التي تصيب فوضاها الآن الخبراء بالضياع؟ ففي حين يدّعي المتوهّمين "تهذيب" قطاع المال "أخلاقيّاً"، قام ماركس في حينه بتعرية العلاقات الاجتماعية التي يرتكز عليها.
كادوا أن ينجحوا في إقناعنا: انتهى التاريخ، والجميع مسرورٌ كون الرأسمالية قد باتت الشكل النهائي للتنظيم الاجتماعي، واكتمل "الانتصار الإيديولوجي لليمين"، بوعدٍ من رئيس الوزراء الفرنسيّ؛ فقط بعض الذين يجترّون أفكاراً فارغة، غير القابلين للشفاء، كانوا لا يزالون يلوّحون بمستقبلٍ آخر مجهول المعالم.
قضى الزلزال المالي المذهل الذي وقع في تشرين الأول/أكتوبر 2008 بضربةٍ واحدة على هذه التركيبة الذهنيّة. ففي لندن، كتبت صحيفة الديلي تلغراف: "سيبقى 13 تشرين الأول/أكتوبر 2008 في التاريخ أنّه اليوم الذي اعترف فيه النظام الرأسمالي البريطاني بفشله [1]". وفي نيويورك، رفع متظاهرون أمام وال ستريت، لافتات كُتب عليها "ماركس كان على حقّ!". وفي فرانكفورت، أعلنت إحدى دور النشر بأنّ مبيعاتها لكتاب "رأس المال" قد ازدادت بنسبة ثلاثة أضعاف. وفي باريس، فنّدت مجلة معروفة، في ملفٍّ من ثلاثين صفحة، "أسباب ولادة جديدة" لمن قيل عنه بأنّه مات نهائياً [2]. ها هو التاريخ يعود ليفتح أبوابه...
عند الغوص في كتابات ماركس، نكتشِف أكثر من أمر يلتصق بالواقع الحالي. أسطرٌ كُتِبَت منذ قرنٍ ونصف تبدو أنّها تتحدث عن حالنا اليوم بدقّة مُلفِتة. مثلاً: "كون الأرستقراطية المالية تنصّ القوانين، وتدير شؤون الدولة، وتهيمن على السلطات القائمة وتسيطر على الرأي العام في الواقع وعبر الصحافة، نحن نشهد في كافة الأوساط، من البلاط الملكي وصولاً إلى "المقهى التعيس"، على تناسخٍ للعُهر نفسه، وللخداع المخجِل نفسه، وللتعطّش نفسه إلى تكديس الثروات، ليس من خلال الإنتاج، إنّما عبر بسرقة ثروة الآخرين [3]...". كان ماركس يصف بهذا حال الأمور في فرنسا عشيّة ثورة العام 1848... ما يجعلنا نحلم.
لكن ما وراء أوجه الشبه الملفتة، تجعل الاختلافات بين حقبةٍ وأخرى أيّة مطابقة مباشرة أمراً زائفاً. فالمعاصرة، الواضحة مرّة أخرى، لـ"نقد الاقتصاد السياسي" المتقن في كتاب "رأس المال" لماركس، تتموضع أكثر في العمق.
فما هو، في الواقع، سبب ضخامة الأزمة الحالية؟ إذا ما قرأنا ما يُكتَب عنها، يجب البحث في نزعة المنتوجات الماليّة المتطوّرة للتطاير، وفي عجز أسواق المال عن تنظيم نفسها بنفسها، وفي ضعف المعايير الأخلاقية المفرِط لدى رجال المال... باختصار، إنّها مكامن ضعف النظام النافذ الأوحد، أو ما يطلقون عليه، في مواجهة "الاقتصاد الحقيقي"، تسمية "الاقتصاد الافتراضيّ"؛ كما لو أنّه لم يتبيّن مؤخراً كم أنّه هو أيضاً حقيقيّ.
مع أنّ الأزمة الأساسية للرهون العقارية المخاطرة subprime هي أصلاً وليدة الإفلاس المتزايد لملايين العائلات الأميركية بسبب استدانتها لتصبح مرشّحة لتملّك المنازل. مما يرغمنا على الاعتراف بأنّ مأساة "الافتراضيّ" تستقي جذورها في نهاية المطاف من "الاقتصاد الحقيقيّ". و"الحقيقيّ"، نظراً إلى ذلك، هو المجموع المعولَم للقدرات الشرائيّة الشعبيّة. فما وراء انفجار فقاعة المضاربة الذي أحدثه التضخّم المالي، هنالك الاستحواذ العالميّ، من قبل رأس المال، على الثروة التي ينتجها العمل؛ وما وراء هذا التشويه حيث انخفضت الحصّة العائدة إلى الرواتب بأكثر من عشر نقاط، وهذه نسبة تدنٍّ ضخمة، هنالك ربع قرنٍ من التقشّف تخصّ العمّال باسم العقيدة النيوليبرالية.
أبواق الدعوات إلى تهذيب القطّاع أخلاقيّاً نقصٌ في التنظيم المالي وفي المسؤوليّة الإدارية وفي المعايير الأخلاقية في البورصّات؟ دون شكّ. لكنّ التفكير من دون قيود يدفعنا إلى الذهاب أبعد من ذلك بكثير: إلى إعادة النظر بالعقيدة التي يُحافَظ عليها بغيرة لنظامٍ يفوق بذاته كلّ الشبهات، والتأمّل في هذا المآل الأسمى للأمور الذي يسمّيه ماركس "القانون العام للتراكم الرأسمالي". فهو يبرهن أنّه، عندما تكون الشروط الاجتماعية للإنتاج ملكيّةً خاصّة للطبقة الرأسمالية، "تتحوّل كافة الوسائل الهادفة إلى تطوير الإنتاج إلى وسائل للسيطرة على المنتِج واستغلاله"؛ فهو الذي يُضحّى به من أجل استحواذ المالكين على الثروة؛ وتكديس الأموال هذا يتغذّى من ذاته وهو بالتالي عرضة للإصابة بالجنون. إنّ الوجه المعاكس لـ"تكديس الأموال لدى قطبٍ واحد"، هو بالضرورة "تكديس متوازٍ للبؤس" لدى القطب الآخر؛ ومن هنا تتولّد حتماً بوادر أزمات تجاريّة ومصرفيّة عنيفة [4]. والأمر هنا يتعلّق بنا بالذات.
اندلعت الأزمة في دائرة القروض، لكنّ قوّتها المدمّرة تشكّلت في دائرة الإنتاج، مع التقاسم الجائر أكثر فأكثر للقيم المُضافة بين العمل ورأس المال. إنّه مدٌّ لم تتمكّن النقابيّة الهادئة من منعه، حتّى أنّه كان مرافَقاً من قبل يسارٍ اشتراكي ديموقراطي يصف ماركس بأنّه الكلب الميت. يمكننا عندها أن نتخيّل ما ستكون عليه قيمة الحلول للأزمة -"تهذيب" رأس المال أخلاقيّاً، و"تنظيم" القطّاع المالي- التي تصدح بها سياسات وإداريّون وعقائديّون كانوا البارحة يتهجّمون على أدنى تشكيكٍ في صوابية "الليبيرالية الشاملة".
"تهذيب" رأس المال "أخلاقياً"؟ هذه كلمة سرّ تستحقّ جائزة في الكوميديا السوداء. إذ إن كان هنالك من تراتبيّة للاعتبارات تتبخّر بفعل نظامٍ قائمٍ على المنافسة الحرّة المقدّسة، فهي طبعاً الاعتبارات الأخلاقيّة: فالفعّالية الصلفة هي دائماً الرابحة، بقدر ما أنّ العملة السيّئة تطرد تلك الجيّدة. والهمّ "الأخلاقي" هو من باب الدعاية فقط. وقد عالج ماركس المسألة في بضعة أسطر، في مقدّمة كتابه "رأس المال": "لا أرسم أبداً باللون الزهريّ شخصيّة الرأسمالي أو صاحب العقارات"، لكنّ "أدنى من أيّ منظورٍ آخر، إنّ منظوري للأمور، الذي يعتبر نموّ المجتمع كتركيبة إقتصادية على أنّه آليّة تاريخية طبيعيّة، لن يتمكّن من تحميل الفرد مسؤوليّة علاقاتٍ ليس هو سوى ناتج اجتماعي عنها [5]..." لهذا، فمن المؤكّد أنّه لن يكفي توزيع بعض الصفعات الخفيفة من أجل "إعادة تأسيس" نظامٍ يبقى فيه الربح هو المعيار الوحيد.
لا نعني أنه يجب إهمال الطابع الأخلاقي للأمور. بل على العكس تماماً. لكنّ المشكلة، إذا ما أخذناها على محمل الجدّ، ليست أبداً على مستوى جنوح أرباب عملٍ لصوص، أو طيش مضاربين مجانين، أو حتى فحش المكافآت الذهبية التي يحصل عليها المدراء في نهاية خدماتهم. ما يُعجَز الدفاع عنه في الرأسمالية من هذه الناحية، أبعد من أيّ تصرّفٍ فرديّ، إذ أنّه مبدأها نفسه: فالنشاط البشريّ الذي يُنتج الثروات يتمتّع وفقه بصفة "بضاعة"، وهو لا يُعامَل بالتالي كـ"هدفٍ بحدّ ذاته، إنّما كمجرّد وسيلة". لا حاجة لأن نكون قد قرأنا "كانط" لنرى في ذلك مصدراً دائماً لكون النظام خارج معيار الأخلاق.
وإن أردنا حقاً إضفاء الأخلاق على الحياة الاقتصادية، يجب التهجّم حقّاً على ما يجرّدها من أخلاقيّتها. ذلك يمرّ بلا شكّ - إنّه لاكتشافٌ بديعٌ لعددٍ من الليبراليين- بإعادة بناء الضبط الدولتيّ. لكنّ الاعتماد لتحقيق هذه الغاية على الدولة الساركوزية التي منحت درعاً ضريبيّاً للأغنياء وأطلقت خصخصة البريد، يتخطّى كافة حدود السذاجة... أو النفاق. فما أن ندّعي التطرّق إلى مسألة التنظيم، يصبح من الضروريّ العودة إلى العلاقات الاجتماعية الأساسية: وهنا، مرّة أخرى، يقدّم لنا ماركس تحليلاً لا يمكن تفادي طابعه المعاصر: تحليله "للاغتراب" (aliénation).
ففي معناه معناه الأول، الذي توسّع به ماركس في كتابات شبابه المعروفة [6]، يُشار بهذا المفهوم إلى تلك اللعنة التي ترغم أجير رأس المال على عدم إنتاج ثروة لغيره إلاّ عندما ينتج بؤسه الخاصّ، المادّي والمعنويّ: إذ عليه أن يخسر حياته ليكسب عيشه. إنّ اللاّإنسانيّة المتعدّدة الأشكال، التي يقع ضحيّتها جموع الأجراء اليوم [7]، من تفشّي أمراض العمل، إلى تفشّي عمليّات الصرف بسبب أزمات سوق الأسهم، مروراً بتفشّي الأجور المتدنّية، تجسّد، بقساوة بالغة، الدقّة التي لا يزال يتّسم بها تحليلٌ كهذا.
لكن، في أعماله الناضجة، يعطي ماركس "للاغتراب" معنىً أوسع من ذلك: فبما أنّ رأس المال يولّد باستمرار القطيعة الجذريّة بين وسائل الإنتاج والمنتجين - إذ أنّ المصانع والمكاتب والمختبرات ليست ملكاً لمن يعمل فيها-، فإنّ النشاطات المنتجة والذهنيّة لهؤلاء، التي لا يتمّ التحكّم بها بصورة جماعيّة في الأساس، تبقى عرضة لفوضى نظام المنافسة حيث تتحوّل إلى آليّات تقنيّة وإقتصاديّة وسياسيّة وعقائديّة لا يمكن تفاديها، تلك القوى الضخمة العمياء التي تقهرهم وتقضي عليهم.
فالبشر لا يصنعون تاريخهم، بل تاريخهم هو الذي يصنعهم. وتجسّد الأزمة الماليّة هذا "الاغتراب" بصورة مرعبة، كما تفعله الأزمة البيئيّة وكذلك ما يجب تسميته بالأزمة الأنتروبولوجيّة، أزمة الحيوات البشريّة: إذ لم يسعَ أحد إلى هذه الأزمات، لكنّ الجميع يتكبّدها.
إنّ الغياب المدمّر لوسائل انضباط منسّقة هو وليدة حتميّة لهذا "التخلّي العام" المفرِط من قبل الرأسماليّة. لذا فمنْ يدّعِ "تنظيم الرأسماليّة" هو حتماً مخادعٌ سياسيّ. فالتنظيم الجذريّ سيتطلّب أكثر بكثير من مجرّد التدخّل الحكومي، مهما بدا ضرورياً، إذ منْ سينظّم الدولة بحدّ ذاتها؟ يتطلّب ذلك استرداد وسائل الإنتاج من قبل المنتجين الماديّين/الثقافيّين الذين تمّ أخيراً الاعتراف بهم على ما هم عليه، وما ليس هم عليه حملة الأسهم: إنّ لـ"خالقي" الثروة الاجتماعية، بصفتهم هذه، حقاً يتعذّر دحضه في المشاركة بالقرارات الإدارية التي تتعلّق بحياتهم نفسها.
وفي مواجهة نظام يكلّفنا عجزه الواضح على تنظيم نفسه ثمناً باهظاً، يجب، إذا ما اقتدينا بماركس، المبادرة فوراً إلى تخطّي الرأسمالية، وتلك مسيرةٌ طويلة نحو تنظيمٍ اجتماعي آخر يتحكّم فيه البشر معاً، وفق أشكالٍ اتّحادية جديدة، بنفوذهم الاجتماعيّ الذي أُصيب بالجنون. كلّ ما تبقّى هو ذرٌّ للرماد في العيون، وبالتالي خيبة أملٍ مأساويّة موعودة.
يردّد الجميع أنّ ماركس، القويّ في مجال النقد، لا مصداقيّة له في مجال الحلول، فشيوعيّته التي "اختُبِرَت" في الشرق، قد فشلت فشلاً جذريّاً. كما لو أنّ الاشتراكية الستالينيّة البريجنيفيّة المرحومة، كان لها أيّ قاسمٍ مشترك حقيقي مع أهداف ماركس الشيوعية، التي لا يحاول أحد في الواقع الاستدلال على معناها الحقيقي، الذي يقع في الموقع المعاكس لما يضعه الرأي العام في خانة "الشيوعيّة". وفي الحقيقة، يرتسم أمام ناظرنا، بشكلٍ مختلفٍ كلّياً، ما يمكن أن يكون عليه، بالمعنى الماركسيّ الحقيقي، "تخطّي" الرأسمالية في القرن الواحد والعشرين [8].
لكنهم يوقفوننا عند هذه النقطة: السعي لخلق مجتمعٍ بديل هو وهمٌ قاتل، ذلك أنّه "لا يمكن أن نغيّر الإنسان". و"الإنسان" يعرفه الفكر الليبراليّ ويدرك ماهيّته: حيوانٌ يستمّد تكوينه الأساسي من جيناته وليس من العالم البشري، تحرّكه مصلحته الفردية فقط: "إنسانٌ اقتصاديّ" homo œconomicus [9]؛ وبالتالي، ليس هنالك أمامه سوى احتمال قيام مجتمعٍ من الملاّك الخاصّين يخوضون منافسة "حرّة وغير مغلوطة".
غير أنّ هذا التفكير أيضاً قد انهار. فما وراء الفشل الكبير لليبرالية الفعليّة يظهر في السرّ إفلاس الليبيرالية النظريّة و"إنسانها الاقتصادي" . إنّه لفشل مضاعف. على الصعيد العلميّ أولاً. ففي الوقت الذي يتخلّى فيه علم الأحياء عن شموليّة جينيّة ساذجة، تقفز إلى الواجهة غباوة فكرة "الطبيعة البشرية". فأين هي جينات الذكاء والوفاء أو المثليّة الجنسيّة التي كان يُجاهَر بها في الماضي؟ وأيّ عقلٍ مثقّف لا يزال قادراً أن يصدّق بأنّ التحرّش الجنسيّ بالأطفال يأتي من صفة متوارثة؟
فشلٌ أيضاً على الصعيد الأخلاقي. ذلك أنّ ما تتبنّاه منذ دهور عقيدة الفرد التنافسيّ، هو تربية مشينة تقول بأن "تتحوّلْ إلى قاتل"؛ وهذه تصفية مبرمَجة لأشكال التضامن الاجتماعي لا تقلّ مأساةً عن ذوبان الجليد القطبيّ؛ وهي تدميرٌ للحضارة على كافة الأصعدة عبر جنون المال السريع، يُفترَض أن يُخجِل كلّ من يتجرّأ على الإعلان عن "تهذيب الرأسمالية أخلاقيّاً". فتحت الغرق التاريخي الذي تغوص فيه ديكتاتوريّة المال ونحن معها أيضاً، هنالك أيضاً غرق الخطاب الليبيرالي عن "الإنسان".
وهنا أكثر ما نتفاجأ به في عصريّة ماركس. ذلك أنّ هذا الناقد المذهِل للاقتصاد هو أيضاً، وفق التوجّه نفسه، رائد ثورةٍ حقيقية في الأنتروبولوجيا. إنه بُعدٌ مجهولٌ تماماً من فكره لا يمكننا عرضه في عشرين سطراً. لكنّ أطروحته السادسة حول فيورباخ تلخّص ذهنيّته بجملتيْن: "الجوهر الإنساني ليس تجريداً لا يتجزّأ من الفرد إذا ما عزلناه. بل في حقيقته، إنّه مجموع العلاقات الاجتماعية". فعلى عكس ما يخيَّل لمذهب الفرديّة اليبيرالية، إنّ "الإنسان" الذي تطوّر عبر التاريخ، هو "عالم الإنسان". هنا مثلاً تتمحور اللغة وليس في التركيبة الجينيّة. هنا تستقي وظائفنا النفسيّة العليا مصدرها، كما برهنه، بشكلٍ رائع، هذا الماركسيّ الذي بقي مجهولاً لفترةٍ طويلة والذي كان أحد أكبر علماء النفس في القرن العشرين: ليف فيغوتسكي، الذي شقّ بذلك الطريق أمام رؤيةٍ مختلفة تماماً للفردية الإنسانية.
ماركس معاصرٌ وحتّى أكثر مما نتصوره؟ نعم، هذا إذا ما أردنا أن نجدّد الصورة التقليدية التي غالباً ما صنعناها عنه.
* فيلسوف. أصدر مؤخراً الجزء الثاني من كتاب Penser avec Marx aujourd’hui, intitulé L’homme ? (La Dispute, Paris).
[1] The Daily Telegraph, Londres, 14/10/2008.
[2] Le Magazine littéraire, n° 479, octobre 2008.
[3] Karl Marx, Les Luttes de classes en France, Ed. sociales, Paris, 1984, p. 84-85; cité dans L’international des riches, Manière de voir, n° 99, juin 2008.
[4] Karl Marx, Le Capital, Livre I, Editions sociales, 1983 ou PUF, 1993, p. 724.
[5] Le Capital, Livre I, p. 6.
[6] Manuscrits de 1844, « Le travail aliéné ».
[7] Christophe Dejours, Travail, usure mentale, Bayard, 2000 ; Actuel Marx, « Nouvelles aliénations ». n° 39, Paris, 2006.
[8] في كتابه Un futur présent : l’après-capitalisme (La Dispute, Paris, 2006)، يرسم جان سيف جدولاً مذهلاً لبوادر التخطّي هذه التي يمكن ملاحظتها في مجالات مختلفة جداً.
[9] Tony Andréani, Un être de raison – critique de l’homo œconomicus, Syllepse, Paris, 2000.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ملف للازمة المالية: العالم المتلفز لـ"الإباحية العقاريّة" (Re: esam gabralla)
|
عن لوموند ديبلوماتيك
(3)
سمير العيطة أحلام دبيّ المتعثّرة
كان "التصحيح" العقاري في بلدان الخليج معلناً [1]، لكن السقوط كان عظيماً وترافق مع انهيار البورصات الإقليميّة التي خسرت 50 في المئة من قيمها خلال ستة أشهر، وحتّى 70 في المئة بالنسبة لدبي المعجزة الضخمة لحقبة الرأسمالية النيوليبرالية الجديدة [2]. المشهد اليوميّ لا يعطي حجم الأزمة: لا الألعاب الناريّة ونجوم هوليود التي قدمت للاحتفاء بفندق أطلنطس، ولا خروج آلاف العمّال الآسيويين من الورش القائمة نحو الحافلات التي تقلّهم إلى بعيد.
ولكنّ المعنويّات لم تعُد كما كانت. فقد أغلقت بورصة الكويت بين 14 و17 تشرين الثاني/نوفمبر إثر شكوى قضائية تقدّم بها المودعون الصغار. وقد تداعت عمليّات بيع العقارات [3]. وأعلنت شركات بناء ناطحات السحاب الفرعونية والجزر البيئية الضخمة (نخيل، إعمار، داماك، أمنيات، الخ) وقف الأعمال في مشاريعها الجديدة وصرف عاملين لديها [4]. حتّى في قطر الثرية جداً، يتساءل مدير "العمليات المصرفيّة الشاملة" في مصرف HSBC البريطاني النافذ إذا "كان الهبوط سيتسم بالليونة أم سيكون قاسياً؟ وقد حان الوقت لإدخال مزيد من الانضباط على الأسواق ولإدارة المخاطر بتشدّدٍ أكبر" [5].
مصرف "سيتي غروب" الأميركي لا يتوخّى الحذر نفسه في الكلام، عندما يتساءل خبيره مشتاق خان عن النموذج الاقتصادي نفسه ويعلن في تقريرٍ أخيرٍ له [6] "أن حلم دبي ربّما انتهى". فللإمارة "همّين خاصّين: قطاعها العقاري وكيف ستموّل ديونها؟". فقد كانت قد استدانت الكثير من أجل مشاريعها العقارية وتملّكها في الخارج. المسألة حسّاسة إلى درجة أن حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم قد استقبل مدير مصرف "سيتي غروب" السيد وينفريد بيشوف، صبيحة التقرير [7].
يوضح لنا أحد المصرفيين العاملين في دبي متمنيّاً عدم ذكر اسمه: "لم نصَل إلى قعر الأزمة بعد. فقد ألغيت عطلتي في شهر كانون الأول/ديسمبر مع أنّها لا تشمل سوى سبعة أيام عمل. بالنسبة إلينا، المدى الطويل لا يتجاوز اليوم الثلاثة أشهر. وقد حجزنا على أملاكٍ عقارية، لكنّ السلطات تمنعنا من بيعها في الوقت الذي نحتاج فيه بشدّة الى السيولة".
آليات الفقاعة هنا مختلفة عنها في الولايات المتحدة. لكن المكوّنات جميعها حاضرة: الصعود المذهل والسريع للأسعار (أكثر من أربعة أضعاف في خمسة أعوام) بفضل السيطرة على العرض؛ قروض رهنيّة معطاة مباشرةً من شركات التنمية العقاريّة حيث لا إدارة لمخاطر الزبائن (وهامشياً من قبل المصارف)؛ استثمارات مع قروض مصرفيّة تفوق كثيراً حجم رأس المال على كلّ المستويات: لشركات التنمية العقاريّة، ولشركات الإنشاء، ولشركات الإدارة وللصناديق السياديّة؛ توزيع المخاطر من خلال المنتجات المالية "المشتقّة"، العادية منها أو "الإسلامية"؛ مخزون من مواد البناء الأوليّة اشتريت بأسعار مرتفعة تحسّباً لمشاريع ستتوالى بإيقاعٍ محموم، وحتّى "مخزون يد عاملة" كبير لتفادي بطء الإجراءات الإدارية... لقد قام منطق هذه الفقاعة على التصاعد المستمر ليس فقط لأسعار العقارات، بل أيضاً لأسعار المواد الأوليّة، وفي النهاية لسعر النفط. لكن كلّ شيء قد تراجع. والسؤال اليوم هو حول خسائر الصناديق السيادية، وحول درجة رهن إيراداتها المستقبليّة.
في هذه الأثناء، انهار ثاني أكبر مصرف في الكويت (مصرف الخليج) بعد خسائر رهيبة في المضاربات في... أسواق العملات. في حين، تمّ تغيير اسم سوق دبي المالية إلى "ناسداك دبي"، بهدف إطلاق مشتقّات مالية جديدة في البورصات؛ بينما صوّت جمهور برنامج تلفزيونيّ في قطر على مقولة أنّ "دول الخليج تفَضّل الأرباح على الإنسان" بنسبة 75% موافقاً. ومن الملفت أن يصفّق الجمهور بحرارة وعفويّة لأحد رؤساء تحرير الصحف البحرانية، عندما يعلن أن "بلدان الخليج تشتري صمت نخبها وفئة من الشعب كي لا تطالب بحقوقها الاجتماعية" بما في ذلك الحق في مسكنٍ لائق أو في الخدمات العامة"، أثناء البرنامج التلفزيوني لمحطّة الـ"بي بي سي" (باللغة الإنكليزيّة حتماً) [8].
* اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك ورئيس مجلس ادارة موقع مفهوم A Concept mafhoum, www.mafhoum.com
[1] « Dubai Real Estate correction “very close” », Arabianbusiness.com, 28 septembre 2008.
[2] Mike Davis, Le Stade Dubaï du capitalisme, Les Prairies Ordinaires, Paris, 2007 ; Akram Belkaïd, « Derrière la vitrine écologique du Golfe », Le Monde diplomatique, août 2008.
[3] http://www.arabianbusiness.com/5385...
[4] http://www.arabianbusiness.com/5385...
[5] « Financial Leaders Forum », Doha, 16-17 novembre 2008.
[6] « Dubai Dream » may be over on lower oil prices, Citigroup says », Bloomberg.com, 19 novembre 2008. http://www.bloomberg.com/apps/news?...
[7] Gulf News, Dubaï, 19 novembre 2008.
[8] « Arab States place profit before people », The Doha debates, Nov. 17 2008; http://www.thedohadebates.com/news/...[/B]
| |
|
|
|
|
|
|
|