|
للتشابه مقا:( غانا، النموذج المُشكّك فيه: من العداء للإمبريالية إلى الاتفاقات مع البنك الدوليّ)
|
لوموند ديبلوماتيك
Quote: *ياو غراهام
في السادس من آذار/مارس، احتفلت غانا بالعيد الخمسين لاستقلالها، بحضور اثني عشرة رئيس دولة من القارّة وشخصيّات مرموقة كالقسّ الأمريكيّ جيسّي جاكسون. فـ "شاطئ الذهب" القديم كانت أول دولة إفريقية تتحرّر من الهيمنة الاستعمارية بدفعٍ من كواميه نكروما، الوجه التاريخي للنضال ضد الامبريالية. ولكن في العام 2007، تحوّلت أكرا إلى نموذجٍ في نظر البنك الدولي وورقة رابحة في لعبة الولايات المتحدة الأمنيّة.
"يجب أن نكون على مستوى الامتياز الإفريقي". جرى اختيار هذا الشعار التوافقي لمواكبة الاحتفالات الرسمية بالعيد الخمسين لاستقلال غانا في 6 آذار/مارس الماضي. لكن هذا الشعار قد أدّى، على العكس، إلى إثارة السجال: من وماذا في تاريخ البلاد يمكن أن يرمُز إلى الامتياز الإفريقي؟ منذ ذلك التاريخ تشهد الصحافة نقاشاً واسعاً يشمل كلّ شيء، من ميراث كواميه نكروما، أوّل رئيسٍ لهذه الدولة الصغيرة في غرب إفريقيا وأحد وجوه النزعة الإفريقية الجامعة، وصولاً إلى سياسة الرئيس الحالي جون كوفيور.
وبعد مرور خمسين عاماً على تحرّر هذا البلد من الهيمنة الاستعماريّة، ما زال يواجه نفس المشاكل التي عاشها في العام 1957، وهي نفسها التي تعاني منها إفريقيا في مرحلة ما بعد الاستعمار: كيف السبيل لإعادة هيكَلَة الاقتصاد المتخلّف والمرتهِن لبعض المواد الأوليّة (المعدنيّة والنباتية) ذات الأسعار المتقلّبة؟ كيف يمكن تحويل وزيادة مداخيل زراعة ذات إنتاجيّة ضعيفة قائمة على الملكيّة الصغيرة؟ كيف الطريق إلى تصنيع بلدٍ سوقه المحليّ ضامرٌ وعلاقاته بالأسواق العالميّة تحدّدها الاقتصادات الغربية؟ وكيف يمكن خلق موارد للتحسين المستدام في وضع شعوبٍ كانت آمالها قد تضخّمت في مرحلة الاستقلال؟ [1].
في الاقتصاد كما في السياسة، جرّبت غانا كل ما جرّبته إفريقيا منذ الستينيات. الاقتصاد الموجّه في عهد نكروما، مع الاستثمارات في البنى التحتية والقطّاع الاجتماعي. كانت الحكومة آنذاك تقود سياسة تصنيعٍ تهدف إلى الحدّ من الاستيراد، وقد أثار نكروما، الداعية المناهض للإمبريالية، السخط في البلدان الغربية. وبعد الإطاحة به عام 1966 إثر انقلابٍ مدعومٍ من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، السي آي إي، دخلت البلاد في حالةٍ من انعدام الاستقرار السياسي حتى العام 1982؛ وتعرّضت بعدها لنتائج التقلّب في أسعار المواد الأوليّة؛ ثم واجهت، على غرار سائر أقطار القارة، الفساد وسوء الإدارة لتتحوّل، في عهد الرئيس جيري رولينغز، إلى اقتصاد السوق بدعمٍ من المؤسسات المالية الدولية وبلدان الشمال. وهكذا بعد أن كانت نموذجاً للتجارب ما بعد الاستعمارية في الستينيات، تحوّلت غانا إلى نموذج السياسات النيوليبرالية. استراتيجيٌّ عبقريٌّ لامع
بعد أن خلف السيد رولنغز في سدّة الرئاسة عام 2000، سيُكمل السيد كوفيور ولايته في العام 2008؛ ويكون بذلك ثالث رئيسٍ غانيّ، من أصل ثمانية، من حيث طول مدّة ولايته (8 أعوام): بعد السيد رولينغز (18 عاماً) والسيد نكروما (9 أعوام). وبحسب أميلكار كابرال [2]، كان نكروما "مُخططاً استراتيجيّاً عبقريّاً في محاربة الاستعمار الكلاسيكي". أما السيد رولينغز فكان مهندس غانا الحالية. فبعد أن وصل إلى السلطة عن طريق الانقلاب في 1981، انتُخب مرتين رئيساً للدولة. وهو يبدو على صورة "جانوس" (إلاه التغيير) في السياسة المحليّة، الجسر بين نكروما وكوفيور. فخلال سنوات رئاسته الأولى، ركّز على ضرورة الإصلاحات الاقتصادية البنيوية والعدالة الاجتماعية ومناهضة الامبريالية في السياسة الخارجية. وقد حارب الفساد وحكم بلاده بقبضةٍ قوية.
أثار هذا التموضع العام ريبة واشنطن في البداية. فالسيد رولينغز، المطلق الصلاحيات والديماغوجي، نجح في تجسيد آمال الغانيين والحصول على ثقتهم عن طريق إبراز الطموح الاجتماعي للنخبة. لكنّه، وبالرغم من تذكيره بنكروما في بداياته، فإنّه عند مغادرته السلطة عام 2000، كان قد حوّل بلاده إلى نموذجٍ لليبرالية الاقتصادية التي نعرفها اليوم. وكان انفتاحه على الأسواق الخارجية يقوم خصوصاً على البحث عن استثماراتٍ أجنبية. ولقد أعاد إطلاق النمو الاقتصادي وأرسى الاستقرار السياسي، لكنه تخلّى عن هدف تحويل بنى الاقتصاد الغاني من التبعية التاريخيّة للخارج.
بعد الانتصارين الانتخابيين الذين حققهما في عامي 1992 و1996، وبالفوز على الرئيس اللاحق كوفيور في الانتخابات الثانية، اعتقد السيد رولينغز أن البلاد تتجاوب مع سياساته. لكن بعض العناصر داخل الحزب الحاكم، "المؤتمر الديمقراطي الوطني"، وقسمٌ لا بأس به من الغانيين، ما زالوا يتوجّسون الخشية من اقتصاد السوق. أضِف إلى ذلك أن فئاتً كبيرةً من النخب كانت ترفض الإقرار بما تدين به للسيد رولينغز، لاسيّما الإصلاحات الاقتصادية الكبيرة وترميم سلطة الدولة، وهما الشرطان اللازمان للاستقرار.
أمّا من قاموا بتمويل النهوض الاقتصادي فقد اعتمدوا موقفاً أكثر براغماتيةً؛ إذ زار كل من الرئيس الأميركي كلينتون والملكة إليزابيت الثانية أكرا للإعراب عن امتنانهما للسيد رولينغز بسبب إعادة غانا إلى الدائرة الغربية. فمعاداة الامبريالية المو عن السيد نكروما قد استبدلت بمناخ الكومنولث المنضبط. بيد أن الدول الكبرى بقيت على ارتيابها من رجلٍ صاحب أطباعٍ غير متوقّعة، قاعدته الاجتماعية بادية الهشاشة.
ونجم فوز السيد كوفيور عام 2000 عن عواملٍ عدّة، وجاء ليحلّ هذه التناقضات. ففي ذلك الحين، كان حزب المؤتمر الديمقراطي الوطني يجتاز مرحلة نزاعاتٍ داخليةٍ أثارتها مسألة خلافة السيد رولينغز، الذي ضعف موقعه بسبب استشراء الفساد، وبسبب سلوكه التسلّطي الذي راح يُبعِدُهُ عن الشعب. لكن الأزمة الاقتصادية عام 1999 التي تسبّب بها انهيار أسعار المواد الأوليّة هي التي أطاحت في النهاية بالنظام. فالموارد الرئيسية للبلاد، أي الذهب والكاكاو والخشب، تقهقرت أسعارها بين 1998 و2000 (وقد وصل التراجع إلى الثلث في حالة الكاكاو). وفي الوقت نفسه، كانت كلفة استيراد النفط تتضاعف بسبب ارتفاع سعر البرميل في الأسواق العالمية.
وهكذا بعد سنواتٍ من الكبت الاجتماعي الناجم عن تزايد الفروق، جاءت هذه الأزمة لتكشف أيضاً عن الضعف البنيوي في الاقتصاد الغانيّ، أي عن التبعية للمساعدات الخارجية وعن حجم الدين الذي ارتفع من مليار دولار عام 1983 إلى 6 مليارات عام 2000. فعقدين من الليبرالية الاقتصادية والتجارة الحرّة كانا قد أضعفا الإنتاج المحليّ (الزراعة والصناعة) وفاقما من التبعية للخارج، وهي مشكلة كانت تواجهها غانا منذ البداية وما تزال تحاول التغلّب عليها إلى اليوم. أضِف إلى ذلك أن الضربة القاضية لحكومة رولينغز جاءت من خلافٍ مع المانحين أخّر وصول المساعدات حتى نهاية التسعينيات. وما زال البعض في صفوف حزب المؤتمر الديمقراطي الوطني يعتقدون بأن المؤسسات الدولية هي التي شجّعت فوز السيد كوفيور الذي يمكن التحكم فيه بصورةٍ أفضل.
في العام 2001، وافق الرئيس الجديد على "مبادرة البلدان الفقيرة ذات المديونية العالية" PPTE. ويعني هذا القرار الاعتراف بأن الإصلاحات الليبرالية التي طالما امتُدِحَت، هي في الحقيقة التي أفلست البلد وجعلته أكثر عرضةً لشروط المؤسسات المانحة. لكن السيد كوفيور أعرب عن استعداده لتوسيع وتعميق هذه السياسات نفسها. وفي المقابل، توافق المؤسسات المالية على إلغاء قسمٍ من الدين. هكذا عادت المساعدات، وتمكّنت الحكومة من دعم التعليم الابتدائي والبنى التحتية. وبين 2001 و2006، ارتفع النمو من 3 إلى 6 في المئة. بيد أن استمرار الفروق والضعف البنيوي للاقتصاد بقيا بمثابة قنبلتين موقوتتين في نظامٍ مستقرّ ظاهرياً.
إن نسبة العشرين في المئة من أكثر السكان فقراً تمثّل اليوم 8،4 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي، في حين يمثل العشرون في المئة الأكثر ثراءً 41،7 في المئة من هذا الناتج. وفي العام 2002، أظهرت دراسة لمركز "التنمية الديمقراطية" للأبحاث حجم البطالة والعمالة غير المستقرة، لتشهّر بالـ "هوّة المتعاظمة بين الأغنياء والفقراء" [3]. فثلثا الأشخاص الذين طُلب رأيهم يعتبرون الوضع الاقتصادي سيئاً، وأغلب المشاركين في التحقيق يضعون إيجاد فرص العمل والحدّ من الفقر والتهميش على رأس أولوياتهم.
وتكاثرت الإضرابات خلال السنوات الأخيرة بسبب سوء الأجور وظروف المعيشة؛ لكنها انتهت دون أن يحصل العمّال على مطالبهم. أما التدابير المحدّدة لمكافحة هجرة الأدمغة (علاوات للعودة والحملات لاستدراج المقيمين في الخارج...) فإنّها قد تسبّبت في تفاوتٍ كبيرٍ في سلّم رواتب القطاع العام.
انتخب السيد كوفيور رئيساً عام 2000 بعد أن وعد بتحقيق "العصر الذهبي للأعمال". لكن بعد سبعة أعوام، يشتكي أصحاب الأعمال المحليّون منهم، لاسيما في الصناعة الصغيرة، من أنّ الحكومة تفكّر فقط في تلبية رغبات الرأسمال الأجنبي. فالأولوية المعطاة للتبادل الحرّ تضرّ بتنمية القدرات الإنتاجية لـ "شاطئ الذهب" القديم. وفي العاصمة أكرا، تحوّلت المعامل المهجورة إلى مستودعاتٍ للاستيراد أو إلى كنائسٍ تستقبل أعداداً متزايدة من المؤمنين من أتباع الحركات الإنجيلية.
فالاقتصاد المبني على تشجيع تصدير الكاكاو والغاز والنفط والمعادن أيضاً (ذهب وفضة ومنغنيز)، لا يخلق ما يكفي من فرص العمل ويخلق القليل من الوظائف ذات الأجور المرضية. هذا ما يؤدّي إلى هجراتٍ داخلية وخارجية، أشهرها الهجرة في القطاع الطبّي [4]. أما أوسع أشكال النزوح، فتطول عشرات آلاف الشبّان القليليّ التدريب ولكن المتعلّمين؛ هؤلاء يوفّرون عند نجاحهم في الخارج مداخيلاً تسمح للعديد من العائلات بالبقاء في البلاد فوق عتبة الفقر. عدم استقرار في القطّاع العقاريّ
من بين عشرات آلاف الموظفين المصروفين من الخدمة خلال الإصلاحات الليبرالية المعتمدة في الثمانينيات والتسعينيات، قلّةٌ فقط وجدوا لأنفسهم عملاً جديداً. وقد تضخّمت صفوف العاطلين عن العمل لآجالٍ طويلة بسبب النزوح الكبير من الريف والإفقار الحاصل هناك. وبالفعل، انهارت الزراعة الغذائية المحليّة بسبب سياسة الانفتاح على الأسواق العالمية والنقص في الأراضي الصالحة والفرص الاقتصادية. ولانعدام الاستقرار الاقتصادي في هذا العالم الريفي، الذي يعيش فيه العدد الأكبر من الغانيين، وجهٌ خاصٌّ يتمثّل في من لا يملكون الأرض. فغالبية السكان هناك ليسوا من الملاّكين، بل مرتهنون لطرفٍ آخر: أجراءٌ زراعيين، مرابعين، شبّانٌ أو نساءٌ يفقِدون حقوقهم بسهولة. وطالما لم تنجح الحكومة في إيجاد الحلول لانعدام الأمان القانوني هذا، فإن عدم الاستقرار العقاري يزعزع البلاد، كما في بعض مناطق إفريقيا الغربية، حيث كان ذلك هو المسبّب الأساس لموجاتٍ من العنف [5].
وفي العام 2000، كان 80% من الأهالي ممّن هم في سنّ العمل يشتغلون في القطاع غير النظاميّ: باعةٌ صغار في الشوارع، حرفيّون يفتحون لأنفسهم دكاكينً بلا ترخيص في مناطقٍ محميّة، عددٌ متزايدٌ من محتلّي الشقق... وفي معظم المدن الكبرى، تردّ الحكومة على هذه الظاهرة بتدابيرٍ أمنيّة. وفي الواقع، لقد أدّت مصاعب الحياة اليومية والفساد المتنامي إلى تآكل الثقة بالحزب الحاكم، "الحزب الوطني الجديد". فغانا، البلد الرمز، لم تنجح في رسم طريقٍ مستقلٍّ للتنمية، ولا في إرساء التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية الضرورية لازدهارها.
* باحثٌ في العلوم السياسيّة، ينسّق أعمال شبكة Third World Network Africa
[1] Gareth MacFeely, “ Le Ghana entre rêves et maux d’antan ”, Le Monde diplomatique, octbre 2001
[2] كان السيّد أميلكار كابرال (1924-1973) على رأس الحزب الإفريقيّ لاستقلال غينيا بيساو والرأس الأخضر PAIGC هو بطل النضال ضد الاستعمار البرتغالي
[3] http://www.cddghana.org/information.asp?tl=Annual%20Reports&cd=8
[4] كارل بلانشيه وريجينا كيث: "إفريقيا تحاول التمسّك بأطبائها"، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، كانون الأوّل/ديسمبر 2006، http://www.mondiploar.com/article765.html
[5] www.amenagement-afrique.com[/QUOTE]
|
|
|
|
|
|
|