|
من الليبرالية إلى مجتمع الاستهلاك..نقد بودريار للمجتمع المعاصر
|
عن الحوار المتمدن أشرف منصور مقدمة : تعد أعمال الفيلسوف الفرنسي المعاصر جان بودريار B audrillard من أهم و أشهر الدراسات في حقل الإنسانيات و الثقافة في الوقت الحاضر ، و هو يحتل مقدمة المسرح الفكري في فرنسا و العالم منذ أواخر الستينات و حتى الآن . و يتناول جانب كبير من هذه الأعمال نقدا لمجتمع الاستهلاك . فإلى جانب كتابه الذي يحمل عنوان " مجتمع الاستهلاك " The Consumer Society ، هناك مجموعة أخرى من الدراسات المنتشرة عبر كتبه الأخرى و التي يتناول فيها نفس الموضوع مثل " مرآة الإنتاج " The Mirror of Production و " نحو نقد للاقتصاد السياسي للعلامة " . A Critique of The Political Economy of The Sign Forو "التبادل الرمزي و الموت " Symbolic Exchange And Death .
يمكن النظر إلى نقد بودريار لمجتمع الاستهلاك على أنه ينتمي إلى تراث فكري كبير ركز على نقد المجتمع الغربي المعاصر ، و يشمل هذا التراث أعمال لوكاتش و فلاسفة مدرسة فرانكفورت و بعض البنيويين من أمثال رولان بارت و فوكو ، هذا بالإضافة إلى تراث طويل في القرن التاسع عشر يحتوي على أسماء ماركس و نيتشة و فيبلن . و الحقيقة أن دراسة بودريار لمجتمع الاستهلاك تدلنا على كيفية التحول من الليبرالية باعتبارها الصورة التي يرى عليها الغرب الرأسمالي نفسه إلى مجتمع الاستهلاك الذي هو الواقع الحالي و النهاية الأخيرة التي وصل إليها هذا الغرب . فعبر جميع دراسات بودريار يوضح لنا كيف تحولت القيم و المثل البورجوازية و الأيديولوجيا الليبرالية إلى قيم و معايير استهلاكية تتحكم بها المؤسسات الكبرى ووسائل الإعلام ، و إلى نسق من الرموز و العلامات التي لها منطقها الخاص و حياتها الخاصة التي تلغي الحياة الواقعية للبشر ، و كيف يصنع الإعلام و الاتصال عالما صناعيا يمثل واقعا مركزا Hyperreality أكثر واقعية من الواقع نفسه .
إن جميع قيم و مثل الليبرالية تجد تعبيرها الأكمل و الأخير و نهاياتها المنطقية في مجتمع الاستهلاك . فالحرية أصبحت حرية البيع و الشراء ، و التعددية أصبحت هي تنوع الموضوعات الاستهلاكية ، و العدالة أصبحت هي السعر المناسب The Fair Price . فهذا هو مصير الخطاب الليبرالي الذي تم استخدامه منذ بداياته الأولى كأيديولوجيا للرأسمالية و كدعم فكري لاقتصاد السوق . فقد تمت منذ القرن الثامن عشر ترجمة الليبرالية إلى مصطلحات الاقتصاد الرأسمالي ، و من المنطقي أن تترجم مرة ثانية في العصر الحاضر إلى قيم مجتمع الاستهلاك الذي هو التطور الطبيعي ، التاريخي و الاقتصادي ، للرأسمالية .
الفرد :
يغير مجتمع الاستهلاك التعريفات التقليدية لجميع القيم و المعايير الأساسية لليبرالية و ذلك لصالحه . فالفرد يصبح مشاركا في مجتمعه لا بالعمل الاجتماعي أو السياسي بل باستهلاكه لسلع و بضائع ينتجها هذا المجتمع ، فالمشاركة أصبحت مشاركة في نوع من الاستهلاك ، و الانتماء أصبح انتماء لشريحة استهلاكية معينة تكون علامة على المكانة أو المستوى الاجتماعي .
و لم تعد القيم الأخلاقية الغيرية التي تحكم سلوك الفرد مع غيره بقادرة على تحقيق التماسك و الاندماج الاجتماعي ، تلك القيم التي كان يرجع مصدرها إلى المسيحية و حركة الإصلاح الديني و على رأسها البيوريتانية . و لم يبق إلا القيم الفردية التي يحرص مجتمع الاستهلاك على إنتاج المزيد منها ، لأن هذه هي القيم القادرة الآن على تحقيق شئ من الاندماج الناتج عن الاشتراك في شئ واحد و هو الاستهلاك بالطبع . فقد غيرمجتمع الاستهلاك من معنى الفردية تماما . فلم يعد الفرد يسعى لأن يحقق ذاته بل أصبح يسعى لنيل موافقة الآخرين و كسب رضاهم و التماهي معهم . لم تعد الفردية قيمة مطلقة بل مجرد توافق وظيفي . و بدلا من السعي نحو إنجازات يغير بها المرء أوضاعه و يتجاوز بها حاله نحو حال آخر ، أصبح يسعى نحو مجرد نيل رضاء الناس .
يعتقد المستهلك أن سلوكه حر و ذلك بناء على أنه حر في اختياره بين كل ما يعرضه عليه مجتمع الاستهلاك، و يعتقد أنه يسعى نحو الاختلاف و التميز عن الآخرين ، و لا يجبره أحد على أن يكون كذلك ، فذلك نابع من داخله ، كما أنه لا يطيع قاعدة أو إلزاما معينا يجبره أن يكون مختلفا و متمايزا ، فهذه هي العلامة الأصيلة للتفرد . إلا أن حريته هذه وهمية و سعيه نحو الاختلاف زائف ، ذلك لأن تعددية موضوعات الاستهلاك و تعددية المواقف و الآراء و الأنماط الثقافية التي يختارها ليست إلا نتاج المجتمع الذي يحيط به و لاتكشف إلا عن منطق واحد و هو انسياق الفرد في الأسلوب الوحيد الذي يستطيع أن يعيش به في المجتمع و هو لمزيد من الاستهلاك . فالتعددية زائفة لأنها ليست إلا تنوع لموضوعات استهلاكية سواء كانت سلعا أو آراء أو أنماط ثقافية .
كما يغير مجتمع الاستهلاك من معنى الممارسة العملية و النشاط الاجتماعي للفرد . فهو يحول الممارسة الاجتماعية و السياسية Praxis إلى مجرد اهتمام بشئون الحياة اليومية Everydayness ، أي وجودا زائفا حسب فلسفة هايدجر . فالمجالات السياسية و الثقافية و الاجتماعية تختفي لتخلي المكان للحياة الخاصة و لكل ما هو خاص : العمل ، الأسرة ، وقت الفراغ ، التسلية و الترفيه ، دائرة الأصدقاء و المعارف . و بهذه الطريقة تستطيع وسائل الاتصال الجماهيري التدخل في الحياة الخاصة للناس ، و ذلك بسيطرتها على الترفيه و أوقات الفراغ و التعبئة التجارية للأذواق .
لكن هل لا تؤدي هذه الحالة إلى نوع من تأنيب الضمير و الشعور بالذنب الناتج عن تناقض بين السلبية الناتجة عن البعد عن كل ما هو سياسي و اجتماعي و بين الإيجابية المتأصلة في التراث الديمقراطي الغربي و تاريخه السياسي ؟ يجيب بودريار بان مجتمع الاستهلاك يعمل كذلك على القضاء على هذا الشعور بالذنب و التقصير، وذلك بأن يجعل الناس يشعرون بالأمان في بعدهم عن ما يسمى بغابة الحياة و مخاطرها . فكلما بثت وسائل الإعلام صورة بائسة و متوحشة و خطرة عن العالم كلما زاد شعور الناس بالأمان في بعدهم و انعزالهم عنه . إن شعورهم الزائف بالأمان يقضي على أي إحساس بالذنب أو التقصير ، كما يعد أحد عوامل قبول الوضع القائم ، إذ يجعلهم محايدين و سلبيين أمام كل القضايا و المشاكل الاجتماعية و السياسية . " إن علاقة المستهلك بالعالم الحقيقي و بالسياسة و التاريخ و الثقافة ليست علاقة اهتمام أو مسئولية ملتزمة ... بل هي علاقة فضول. "
و لم يعد التفرد Singularity هدف الفرد الذي يسعى إليه من خلال الاختلاف عن الآخرين ، فالعناصر التي يزود بها المجتمع الفرد لكي يحدث لديه شعور بالتفرد تجعله ينساق في حبائل أيديولوجيا الاستهلاك . هذه الأيديولوجيا تبث في الفرد نرجسية تجعله يرى تفرده على أنه يتمثل في نوع الملبس أو السيارة التي يستخدمها أو العطر الذي يضعه أو نوعية السلع التي يشتريها أو الطريقة التي يقضي بها وقت فراغه . و بذلك يتحول التفرد إلى مجرد التماهي مع مقاييس عامة يصنعها المجتمع ، و الاندراج في أنماط Types محددة يمثلها المشاهير و نجوم السينما و الإعلام. ينقلب التفرد الآن إلى أن يصبح تنميطا Stereotyping و توحيدا للمقاييس Standardization .
الحاجة :
ساد الليبرالية خطاب حول الحاجات Needs و حول الوسائل التي يسعى المرء لإشباع هذه الحاجات عن طريقها . و اعتمد هذا الخطاب على تصور عن الطبيعة الإنسانية و عن الإنسان باعتباره إنسانا اقتصاديا Homo Oeconomicus . ظهر هذا الخطاب في علم الاقتصاد السياسي و في بعض المذاهب الفكرية و الفلسفات مثل الفلسفة التجريبية الإنجليزية ، و ساد الفكر السياسي الغربي طويلا ، و الآن يعد أحد الدعائم الأساسية لمجتمع الاستهلاك . و تحتوي أعمال بودريار على نقد حاد و عميق لمفهوم الحاجة هذا .
ليست الحاجات التي يتكلم عنها الخطاب المدعم لمجتمع الاستهلاك حاجات بشرية صادرة عن الطبيعة الإنسانية ، بل هي حاجات من صنع مجتمع الاستهلاك نفسه . إنها ليست حاجات أولية . فحاجة الإنسان إلى الطعام مثلا تشبعها كمية محددة من الطعام ، إلا أن الطعام في المجتمع الاستهلاكي يتخذ صورا وأشكالا عديدة أخرى و يتحول للمجال الرمزي . فعلى الرغم من أن حاجات الإنسان الأساسية محددة إلا أننا نجد تنوعا هائلا في السلع التي تشبع هذه الحاجات . و يرجع هذا التنوع إلى مجتمع الاستهلاك الذي يخلق حاجات أخرى ثانوية بمجرد إنتاجه لكم هائل من السلع التي تشبع حاجة واحدة . فللإنسان حد أدنى يكتفي به و يستطيع عن طريقه إشباع حاجاته الأولية ، لكن مجتمع الاستهلاك خلق حاجات أخرى ترفية و رمزية لا يمكن إشباعها ، ذلك لأنه بمجرد أن يشبع الفرد حادة منها حتى تؤدي به إلى حاجات أخرى وإلى ما لا نهاية . و يرجع السبب في ذلك إلى أنها ليست حاجات تشبع عن طريق قيم استعمالية بل عن طريق قيم تبادلية . لا يأتي إشباع هذه الحاجات عن طريق امتلاك المرء لقيمة استعمالية لشيء ما بل لقيمة رمزية . فالسلع تستهلك لما تضفيه على المرء من مكانة أو وضع اجتماعي أو قيمة في المجتمع و صورة معينة عند الآخرين ، لا بما تشبعه من حاجات أولية لديه .
الحاجات في حقيقتها ليست حاجات أفراد بل هي حاجات نظام ، هي حاجات النمو . فالنمو المتزايد للمجتمع هو الذي يفرض حاجات معينة تخفي نفسها باعتبارها حاجات أفراد . فإذا كان العصر الحالي هو عصر ما بعد صناعي Post-Industrial يتمثل إنتاجه الأساسي في الخدمات و السلع الاستهلاكية و الصناعات اللينة و صناعات الإعلام و المعلومات فمن الطبيعي أن تكون القيمة السائدة فيه هي القيمة التبادلية و الرمزية لا القيمة الاستعمالية ، و من الطبيعي أيضا أن يعمل هذا المجتمع على خلق الحاجات التي يشبعها إنتاجه ، و بما أن إنتاجه استهلاكي و خدمي و خدمي و إعلامي فإن الحاجات التي يخلقها يجب أن تكون رمزية ثانوية .
خلق حاجات جديدة باستمرار كان من ضرورات بقاء النظام الرأسمالي ، فهذا النظام في حاجة دائمة إلى أسواق لتصريف إنتاجه . فكانت الإمبريالية ضرورية بالنسبة لهذا النظام و ذلك لفتح مزيد من الأسواق عبرجميع قارات العالم ، فإذا لم تجد الرأسمالية أسواقا فسوف تموت . أما استقلال المستعمرات فكان لابد و أن تخلق الرأسمالية سلعا جديدة تشبع حاجات جديدة . و بذلك فتحت أسواقا جديدة تعوضها عن الأسواق التي فقدتها في حركات الاستقلال ، فظهرت الأسواق الاستهلاكية ة الإعلامية و الخدمية التي ضخت دماء جديدة للنظام.
كما يغير المجتمع الاستهلاكي من طبيعة دوران رأس المال و من إعادة إنتاج النظام . فقد كانت علاقات الإنتاج من نظام طبقي و ملكية خاصة و ما يصحبها من قوانين و تشريعات هي التي تعمل على إعادة إنتاج النظام الرأسمالي و الحفاظ عليه و على تماسكه و ذلك في عصر الرأسمالية الصناعية ، أما الآن و في عصر رأسمالية ما بعد الصناعة فقد أصبح الاستهلاك و التبديد و الإهدار هو الذي يعمل على إعادة إنتاج النظام و الحفاظ على تماسكه . لم يعد يستند النظام على تحول القيمة الزائدة إلى رأسمال جديد يتراكم و يتوسع باستمرار ، بل أصبح يعتمد على إنتاج صناعات لينة يجب أن تهدر و تفنى لكي يعاد إنتاج غيرها باستمرار ، و هكذا يتم دوران رأس المال الآن .
لقد كفت الحاجات عن أن يكون لها استقلال و وضع خاص ، فهي لم تعد تتسم بأنها أولية و طبيعية و خاصة بالذات الإنسانية بل أصبحت من صنع النظام ، و بالتالي لم تعد تصلح لنقد الرأسمالية كما فعل ماركس و لوكاتش و فلاسفة مدرسة فرانكفورت و كثير من التيارات اليسارية . لقد أصبحت الحاجة مشروطة اجتماعيا و تحولت إلى أحد منتجات النظام ، و لذلك لا يمكن نقد هذا النظام بما ينتجه .
والحقيقة أننا نجد عند هيجل تشخيصا مشابها لمفهوم الحاجة و خاصة في كتابه " أصول فلسفة الحق " الذي وضع فيه نظرياته الاجتماعية و السياسية . فالحاجات عنده تتضاعف كلما تقدمت الحضارة ، و لا يستطيع الفرد إشباعها جميعا ، كما تتحول أكثر إلى أن تكون حاجات ترفية . لكن في حين ينتقل هيجل من تشخيصه لنظام الحاجات إلى مقولة العمل و يأخذ في تحليل الاقتصاد السياسي باعتباره ينطلق من مفهومي الحاجة و العمل يكتفي بودريار بنقد مجتمع الاستهلاك و الأيديولوجيا المدعمة له و لا يقوم بالخطوة التي قام بها هيجل و من بعده ماركس و هي نقد الاقتصاد السياسي نفسه القائم على مفهوم الحاجة ، بل يكتفي بنقد هذا المفهوم فقط. و يكمن السبب وراء ذلك في أن بودريار كان قد تخلى عن محاولة نقد الاقتصاد السياسي لأنه اعتقد أن ما حل محله الآن هو نسق الرموز والعلامات المتحكم في الاتصال و الإعلام و الاستهلاك .
المساواة :
المساواة أسطورة ، استخدمتها الأيديولوجيا الليبرالية دائما لتبرير أسلوب الإنتاج الرأسمالي و الحفاظ علىالوضع القائم . تحولت كل مساوئ هذه الأيديولوجيا و خبائثها الآن إلى مفهوم السعادة . أصبحت السعادة هي علامة المساواة و مقياسها . و لكي تكون السعادة حاملة لأسطورة المساواة يجب أن تخضع للقياس ، أي قابلة لأن تقاس في صورة موضوعات و علامات ، يجب أن تتحول إلى رفاهية . فقد ورثت دولة الرفاهية في الغرب التراث السياسي الليبرالي بجميع قيمه و معاييره ، و نظرت لنفسها على أنها هي المحققة لهذه القيم و المعايير و التطور الطبيعي لها ، فكان من المنطقي أن تترجم المساواة إلى مصطلحات مجتمع الاستهلاك الذي هو نتاج دولة الرفاهية ، و تصبح السعادة علامة على الرفاهية و الرفاهية علامة على المساواة .
لكن يتم عزل و إبعاد السعادة الأصيلة ، السعادة التي هي شعور داخلي لدى المرء و مستقل عن أي موضوع خارجي و التي هي رضا و قناعة ، تلك السعادة التي ليست بحاجة إلى دليل مادي ، و ذلك لتخلي مكانها للسعادة باعتبارها رفاهية يجب أن تقاس و يبحث عنها بمحك منظور . لا تعد السعادة هي فرحة الجماعة في الأعياد و الاحتفالات ، لا تعد معنوية و متجسدة في الحياة الجماعية المشتركة بل تصبح ذات معايير فردية. كما يذهب بودريار إلى أبعد من ذلك و يرى أن تراث الليبرالية منذ بدايته و هو يترجم المساواة إلى هذا المفهوم الضيق عن السعادة . فإعلان حقوق الإنسان و المواطن يعترف و ينادي بحق كل فرد في السعادة ، أي ينقل السعادة من معناها الجماعي العام و المعنوي و التساندي إلى معناها الفردي الذي يتحول إلى رفاهية و استمتاع بموضوعات استهلاكية . " تحول مبدأ الديمقراطية من مساواة حقيقية للكفاءات و المسئوليات و الفرص المتساوية … إلى مساواة أمام موضوعات التملك و الرموز المادية للنجاح الاجتماعي و السعادة ... و الظاهر أنها مساواة عينية إلا أنها شكلية تخفي و تحجب غياب الديمقراطية الحقيقية و اختفاء المساواة . "
و إذا كان المجتمع المعاصر يحقق شيئا من المساواة في الرواتب و أوضاع المعيشة و إشباع الحاجات فإن ذلك يعد نتاجا زائدا By-Product للوظيفة الأصلية للنظام ، و التي تتمثل في زيادة الامتيازات المادية لأصحاب الامتيازات ، أي لمن لهم امتيازات أصلا . فاللامساواة هي هدف النمو و ما المساواة إلا نتاجا زائدا حدث بالصدفة . فبينما كانت الليبرالية تعتقد في أن زيادة النمو سوف تقضي على الندرة و بالتالي على البؤس و الشقاء الذي تعاني منه الطبقات الدنيا و بالتالي تقضي على احتمالات الثورة و القلاقل الاجتماعية و تقلل من حدة التناقضات الطبقية و الفروق الواسعة بين مستويات المعيشة ، فإن النمو لم يؤد واقعيا إلى كل ذلك بل على العكس أدى إلى زيادة الفروق .
إذا كانت مبادئ الديمقراطية و المساواة تقوم في الخطاب الليبرالي التقليدي بممارسة السيطرة الاجتماعية و التنظيم الأيديولوجي للتناقضات السياسية و الاقتصادية ، فإنها لم تعد تقوم بمثل هذا الدور الآن . فقد جعل مجتمع الاستهلاك هذه القيم هشة و غير قادرة على أداء وظيفة الاندماج الاجتماعي لمجتمع يتناقض واقعه مع هذه القيم ، حتى إذا تم تمثلها عن طريق التربية و التنشئة الاجتماعية . فما يقوم بهذا الدور الآن عبارة عن آلية لاشعورية في الاندماج و التحكم . تتمثل هذه الآلية في إدخال الأفراد في نسق من الاختلافات ، أي في نظام من التعدد و التنوع الثقافي الذي يسعى فيه الأفراد لأن يكونوا مختلفين عن طريق اختيار موضوعات استهلاكية. و بذلك يتم إحلال الاختلاف محل التناقض . فالتناقض لا يحل عن طريق إحلال المساواة و التوازن محله ، بل عن طريق إحلال الاختلاف و التمايز ، الثقافي و الاستهلاكي و الإعلامي .
وهم الحرية :
يستخدم مجتمع الاستهلاك مفهوم الحرية بنفس الطريقة التي استخدمها بها مجتمع الصناعة . فقد كانت الليبرالية تدعو للحرية في بداية العصر الصناعي ، إلا أن هذه الدعوة كانت زائفة و أيديولوجية و يكمن ورائها أهداف أخرى . فقد كان على الفرد أن يتحرر من الإقطاع و من ارتباطه بكنيسة أو مذهب أو طائفة أو عرق و ذلك لكي يصبح عاملا أجيرا في ظل النظام الرأسمالي . فقد أدى مبدأ الحرية كما استخدمه المجتمع الصناعي مهمة قطع صلة الفرد بكل ما كان يربطه بوحدات اجتماعية سابقة على الرأسمالية و ذلك ليتمكن النظام من إدخاله سوق العمل و يصبح فيه سلعة . و نفس هذا التوظيف لمبدأ الحرية يستخدمه مجتمع الاستهلاك الآن ليطبقه على الجسد . يجب على الجسد الآن أن يتحرر ، أي أن ينفك ارتباطه بمفاهيم الخطيئة و السقوط و الذنب و المعصية ، أي بكل المفاهيم الدينية المسيحية و البيوريتانية التي تفرض على الجسد الزهد و التقشف ، و ذلك لكي يمكن أن يصبح موضوعا للاستهلاك ، أي حاملا لموضات أزياء و عطور و هدفا لطرق ممارسة الحمية ( الريجيم ) و صفحة بيضاء لأدوات التجميل و هدفا لتسويق الرياضة و الأجهزة الرياضية ، و سلعة جنسية أيضا .
كما لا تعد حرية المجتمع الحالية و سهولة الحوار بين كل أطرافه و تبادل الآراء و المواقف فيه نتيجة لتقدم أخلاقي أو لزيادة التحرر أو لفهم أفضل و أعمق للمشاكل الاجتماعية ، بل تكشف هذه الحرية عن أن الآراء و الأيديولوجيات و الفضائل و الرذائل أصبحت مادة للتبادل و الاتصال ، و هي متساوية القيمة في لعبة العلامات و الرموز التي يمارسها النظام . و لم يعد التسامح في هذا السياق حالة سيكولوجية باطنة أو فضيلة أو قيمة عليا ، بل هو شرط من شروط وجود النظام نفسه ، لأن هذا النظام يتمثل في إنتاج المعلومات و توصيلها و أداء الخدمات و خلق حاجات تشبعها سلع استهلاكية ، فمن الطبيعي أن تكون الحرية و التسامح من بين مقومات وجود النظام و أداءه لوظائفه .
كانت الليبرالية تفهم الحرية على أنها تجد تعبيرها الأكمل و التام في مفهوم الملكية الخاصة و ما يشمله من مفاهيم فرعية مثل الحيازة و حق الانتفاع و العقد Contract باعتباره اعتراف الأطراف المشاركة فيه بالملكية لبعضهم البعض و ما يتفرع عن ذلك من حقوق للمشاركين في هذا العقد . و يعد مفهوم الملكية الخاصة مصدر التنظيم القانوني و السياسي الليبرالي للمجتمعات الغربية منذ القرن الثامن عشر ، كما يشكل أساس الحقوق و الواجبات المدنية و السياسية و كذلك جزءا كبيرا من قانون العقوبات . لم يعد مفهوم الملكية الخاصة بمثل أهميته تلك في مجتمع الاستهلاك . فلم يعد هناك معنى لمفهوم الحيازة أو التملك أو الاقتناء ، فقد أخلت هذه القيم مكانها لقيم الاستعمال و الاستمتاع و الاستهلاك . الحيازة هي الاحتفاظ بشيء معين يبقى و يدوم و تكون الاستفادة منه طويلة الأجل ، أما الاستهلاك فهو إشباع لرغبة عن طريق إهلاك و إهدار لموضوع هذه الرغبة . كما أخلى مفهوم العقد مكانه لمفهوم السعر المناسب ، فبمجرد شرائك لسلعة فهذا يعني أنك توافق على سعرها ، و موفقتك على السعر تعني اتفاقك مع النظام . فبعد أن كان الاتفاق و الإجماع و الرضا أهداف يتم الوصول إليها عن طريق الحوار السياسي الاجتماعي بين المواطنين حول شئون حياتهم و مستقبلهم هادفين تنظيم التعامل بينهم ، أصبح يتم الوصول لهذه الأهداف عن طريق شراء سلعة .
يحول المجتمع الاستهلاكي الديمقراطية إلى شيء يقاس . فالنمو و زيادة الإنتاجية تعني الوفرة ، و الوفرة تعني الرفاهية ، و الرفاهية تعني الديمقراطية . و بالتالي فقياس النمو و الإنتاجية يعني قياس درجة الديمقراطية القائمة . و تصبح الحقوق الطبيعية للإنسان هي حقوقه في تملك و استهلاك موضوعات إشباع حاجاته . و بذلك لن يكون هناك معنى للتساؤل حول ما إذا كان هذا المجتمع يحقق الحرية و المساواة أم لا ، و هل هو ديمقراطي أم لا ، و هل قضى على أوجه اللامساواة السابقة أم لا ، لأن هذا المجتمع قد أبدل بالفعل قضايا الحرية و المساواة و الديمقراطية و نقلها من الميدان الاجتماعي و السياسي إلى المجال المادي الاستهلاكي .
الجماهير الصامتة :
يذهب بودريار إلى أنه منذ القرن الثامن عشر و خاصة منذ الثورة الفرنسية أصبح مجال السياسة مجالا للتمثيل Representation ، أي بدأ ما هو اجتماعي يجد التعبير عنه في ما هو سياسي ، و أصبح المواطنون يجدون في المجال السياسي تعبيرا عنهم ، فقد استندت الممارسة السياسية آنذاك على مفاهيم الديمقراطية النيابية و التمثيلية و على الرأي العام و فكرة الإرادة العامة . يترجم بودريار ذلك إلى مصطلحات البنيوية و ما بعد البنيوية . فهو يرى أن مجال السياسة أصبح منذ ذلك الوقت مجالا للدلالة و المعنى ، فما يحدث في السياسة هو دال Signifier لمدلول أساسي Fundamental Signified هو الإرادة العامة . و لا يزال الفكر السياسي الليبرالي يلعب على الحنين لهذا العصر الذهبي ، الذي كان فيه الاجتماعي مستقلا و ممثلا في السياسي.
أما الآن فلم يعد الاجتماعي مجالا مستقلا و لم يعد مصدرا للطاقات و القوى التي تمد السياسي بالدلالة و المعنى . فمع تحول المجتمع المدني Civil Society إلى مجتمع جماهيري Mass Society أصبح مستقبلا لكل ما تفرضه عليه السياسة و لم يعد له الدور الفاعل و المؤثر الذي كان يتمتع به . لم يعد المدلول الذي تشير إليه و تنتهي إليه الدالات السياسية . فلقد اختفى أي واقع اجتماعي أساسي يكمن تحت معني العملية السياسية ، و انعزلت السياسة أكثر و أكثر عن الجماهير و أصبح لها استقلال و تسيير ذاتي ، أي أصبحت لا تشير إلا لذاتها و لا دلالة لها إلا بالنسبة لمجالها فقط . فمع التداخل المتزايد بين الاقتصاد و السياسة ، و مع كثرة جماعات الضغط ذات المصالح الجزئية الخاصة و قوة تأثيرها ، لم تعد الجماهير مؤثرة في المجال السياسي . لم يعد هناك إلا مدلولا واحدا أو إحالة واحدة و هي إلى الأغلبية الصامتة التي أصبحت إحصائية .
لا تظهر هذه الأغلبية الصامتة ممثلة في شيء معين أو باعتبارها مصدرا لمعنى ممارسات سياسية معينة ، بل باعتبارها عنصرا إحصائيا . و لم يعد من الممكن لأي أحد أو أي منظمة أن تتحدث باسم الجماهير ، فقد كفت الجماهير عن أن تكون ذاتا بالمعنى التقليدي و لم يعد يمكنها أن تمر بمرحلة تكوين هويات سياسية . لم يعد هناك كذلك معنى للاغتراب ، لأن الاغتراب يحدث لذات في سياق عملية تكوينها الذاتي ، ذات لها احتياجات ووعي و خبرة . كما تنتفي كذلك فكرة الثورة ، فالثورة يفترض أن تحدث من قبل مضطهدين ، و يفترض في المضطهدين أن لهم هوية ووعي بمصالح مشتركة و أهداف واحدة ، إلا أن الجمهور ليس له هوية ، فهو مجموع إحصائي لا غير ، و كتلة كبيرة لا متمايزة تم تحييدها .
تتحول الجماهير في المجتمع المعاصر إلى كتلة ضخمة يراد جمع المعلومات عنها بهدف توجيهها و السيطرة عليها . و لم يعد لقياس الرأي العام و لعمليات استطلاع الرأي معنى ، فهي تفترض وجود رأي جاهز لدى الجماهير ووجود موقف محدد لديها يتم الكشف عنه ، إلا أن ذلك ليس صحيحا . لا يعمل قياس الرأي العام إلا على الإيحاء بوجود رأي عام ، و يقوم في ذلك بوظيفة النبوءة الذاتية التحقيق Self-Fulfilling Prophecy أي الإشاعة التي تتحول إلى حقيقة بمجرد انتشارها . أما وسائل الإعلام فلا تهتم بالمعنى ، فالمعنى هو المحتوى أو المضمون في عملية الاتصال ، في حين أن هذه العملية محايدة تجاه المحتوى و لا يهمها إلا التوصيل. فالمضمون ليس هو الرسالة ، بل إن وسائل الإعلام نفسها هي الرسالة The Media Is The Message كما يقول ماكلوهان . يتوصل بودريار من ذلك إلى أن الاتصال يحيد المعنى و يلغيه ،و يصبح هدفا في ذاته ، فهو اتصال من أجل الاتصال لا من أجل توصيل و نقل المعنى .
اكتمال الأيديولوجيا :
إذا كانت الأيديولوجيا ، و خاصة في المجتمع الصناعي ، تتمثل في عملية التشيؤ Reification التي تظهر فيها العلاقات الاجتماعية بين الناس على أنها علاقات بين أشياء ، و في عملية صنمية السلع Fetishism Of Commodities التي تتحول فيها العلاقات الاقتصادية إلى قوانين حتمية تماثل قوانين الطبيعة و تنعزل عن أساسها الاجتماعي و تصبح علاقات بين سلع ، فإن تحليل بودريار للمجتمع الاستهلاكي يكشف عن أن هذه الأيديولوجيا قد وصلت إلى نهايتها المنطقية .
حلل ماركس أسلوب الإنتاج الرأسمالي على أنه نظام منتج للسلع . فكل التنظيمات الاقتصادية و كل تفاصيل عملية الإنتاج في هذا النظام تهدف إلى هذه الغاية . و على الرغم من أن هذه السلع نتاج العمل البشري إلا أنها بمجرد دخولها في علاقات تبادل في السوق حتى يكون لها حياتها الخاصة و قوانينها الخاصة التي تسمى قوانين السوق ، مثل العرض و الطلب ، و بذلك تستقل عن أصلها البشري و الاجتماعي و يصبح لها كيانها الخاص . و ليس هذا و حسب ، بل إنها تصبح هي التي تنظم علاقات الأفراد ببعضهم و تنظم علاقاتهم بالمجتمع . و بذلك تأخذ الطابع الصنمي . كما أن طاقة العمل البشري تقاس بمدى قدرتها على إنتاج سلع ، و تتحدد قيمة هذا العمل بقيمة ما ينتجه من سلع . و هذا ما يؤدي إلى تشيؤ العلاقات الاجتماعية . فالعلاقات بين المنتجين التي هي في الأصل علاقات اجتماعية تظهر على أنها علاقات بين منتجات عملهم و تحكمها قوانين اقتصادية .
إذا كان ماركس قد ذهب إلى أن السلع و العلاقات بينها قد حلت محل العلاقات الاجتماعية ، فإن بودريار يذهب الآن إلى أن العلامات و الرموز قد حلت محل الواقع نفسه ، و بذلك أصبح الدال مستقلا عن المدلول و تم تعميم الأيديولوجيا . فالسلع تستهلك لا لما تسده من حاجات بل لما لها من قيمة رمزية ،أي تستهلك باعتبارها علامات . كما أن وسائل الإعلام لم تعد تنقل لنا إلا العلامات و الرموز ، و بذلك صنعت واقعا ثانيا بديلا عن الواقع الحقيقي . فلم يعد الدال يشير إلى مدلول معين ، و لم تعد العلامة علامة لشيء واقعي بل أصبحت علامة لعلامة أخرى ، و تم إخراج الواقع من هذه العلاقة الجديدة . فلم تعد القيمة التبادلية تشير إلى قيمة استعمالية ، إلى حاجة أو هدف أو غاية ، بل إلى قيمة تبادلية أخرى و علامات و رموز أخرى.فإذا كانت الأيديولوجيا هي استبدال الواقع بالعلامة و النظر إلى الدال على أن له الأولوية على المدلول ، فإن تحليلات بودريار تكشف عن أن المجتمع الاستهلاكي لا يقوم بعملية الاستبدال هذه و حسب ، بل إنه يحل العلامات محل بعضها البعض و يستبدل رموزا برموز و ذلك في غياب الواقع أو الشيء الحقيقي . صحيح أن بودريار ينظر إلى هذه العملية الجديدة على أنها نهاية للأيديولوجيا ، إلا أنها نهاية لنوع معين من الأيديولوجيا، تلك التي تحل العلامة محل الواقع ، و ظهور لنوع جديد و هو المتمثل في إخراج الواقع ذاته من لعبة العلامات و الرموز .
الهوامش
1) Douglas Kellner : Jean Baudrillard , From Marxism to Postmodernism & Beyond, Polity Press, London, 1991, P. 12 . 2) Jean Baudrillard : The Consumer Society , Sage Publications , London 1998 , p. 69 . 3) Ibid. : P. 171 . 4) Ibid. : P. 35 . 5) Ibid. : P. 34 . 6) Douglas Kellner : op.cit. P. 13 7) Baudrillard : op.cit. P. 69 8) Ibid. : P. 65 9) Kellner : op.cit. P. 14-15 10) Karl Marx : " Wage Labour & Capital " in Marx & Engels : Selected Works , Foreign Languages Publishing House, Moscow 1955, Vol.1. P. 90-91. 11) Baudrillard : op.cit. P. 47 12) Mike Gane : Baudrillard, Critical & Fatal Theory , Routledge, London, 1991. P. 112 13) Baudrillard : op.cit. P. 50 14) Ibid. : P. 66 15) Ibid. : P. 94 16) Karl Marx :" The Eighteenth Brumaire Of Louis Bonaparte" in Marx & Engels : Selected Works, Vol. 1 , P. 258-259. 17) George Lukacs: History & Class Consciousness , Merlin Press, London , 1971,P. 170. 18) Baudrillard : op.cit. P. 93 . 19) Ibid. : P. 50-51 20) Ibid. : P. 69 21) Ibid. : P. 65 22) Mike Gane : op.cit. P. 135 23) Ibid. : p. 138 24) Ibid. 25) Kellner : op.cit. P. 85-86 26) David Hawkes : Ideology, Routledge, London, 1996. P. 97-98 27) كارل ماركس : رأس المال ، دار اليقظة العربية ، دمشق، 1956، الكتاب الأول (1) ص. 106
|
|
|
|
|
|