|
قراءات: وجوه الفرد الغارق في الفرديّة مفكّرين أمام الفردية المعاصرة
|
عن لوموند ديبلوماتيك
Quote: وجوه الفرد الغارق في الفرديّة مفكّرين أمام الفردية المعاصرة
بقلم الكاتبة افلين بياييه لماذا تقرَّرَ، منذ ثلاثين عاماً لا أكثر، عرض عربات أطفالٍ يدير فيها الأولاد ظهورهم إلى أهلهم؟ لماذا تبدو "الشفافيّة" فضيلةً شبه خلاصيّة؟ ولماذا ذاك الذي كان يسمّى بكل وضوحٍ "رئيس الموظفين" مُنح صفة مدير الموارد البشريّة؟ لماذا يلقى تلفزيون الواقع كل هذا النجاح؟ ولماذا تحتلّ الكتب المخصّصة لتألّق الشخصية رأس القائمة في المبيعات؟
قد تبدو هذه الأسئلة، مع غيرها، ممّا شكل نقطة انطلاق لأربع دراسات، متنوعةً إلى درجةٍ مستغربة بعض الشيء. إذ كلّها تعود إلى سؤالٍ أساسي: كيف علينا أن نقيّم التطوّر الجاري لديموقراطياتنا؟ كيف ننظر إليه؟ وكيف نتصرّف إزاءه؟
فعندما ننظر بالتفصيل في ممارساتٍ فردانيّة تزداد... فرديّةً، ابتداءً من تطوّر مواقع الانترنت المخصصّة للّقاءات بين الأصدقاء، إلى شغف المراهقين بالماركات، مروراً بتسخيف الـ"زابينغ" (التنقّل بين أقنية التلفزيون عن طريق التحكّم عن بُعد)، فإنّ ما يخضع للتحليل في الواقع هو العلاقة بين المفهوم المعاصر للـ"أنا"، وأهدافها وحريتها وبين ديموقراطيات الاقتصاد الليبرالي. إذ لا يتمّ هذا دون قلب بعض أنماط التفكير المألوفة ولا حتّى دون مساءلةٍ ما: هذا يعني أن هذه المؤلّفات، التي تقيم الحوار مع روسو أو كانط أو أرندت أو فوكو أو هابرماس، بدون أن تكون بذلك حِكراً على حَمَلَة الإجازات في العلوم الإنسانية فقط، هي منشّطةٌ للتفكير ومربكةٌ في آنٍ معاً.
إن فكر "أوليفييه راي"، عالم الرياضيات والباحث والمعلّم، خصوصاً في مدرسة البوليتكنيك، يتوسّع انطلاقاً من سؤالٍ مركزي: كيف نربّي الأولاد في مجتمعٍ ديموقراطيّ فعلاً ومن أجل هذا المجتمع؟ ففي نظره أنّ النظريات التربوية السائدة تميلُ كي تقدِّم على المعرفة وعلى دراسة الآثار الأدبية "ثقافة الأصالة والتعبير عن الذات والتواصل". فعلى الولد أن "يبني معارفه". وفي ذلك ديموقراطياً، احترامٌ للفرد وإيقاعه وغناه الخاص: وذلك بالسماح له بفرض شخصيّته وتمايزه بمعزلٍ عن الموروثات العزيزة على... "الورثة"، بحسب قول بيار بورديو، وعن سائر الموجبات الشكلانيّة. لكن ما يراه "راي" مطبّقاً بحسب هذه المفاهيم التربوية، والتي يجد ما يؤكّدها في أمثلةٍ عديدةٍ أخرى، وتحت شعار الرغبة في احترام الولد وجعل الفوارق الاجتماعية أقلّ حسماً، هو نوعٌ من الانزلاق نحو توهّم إعداد الفرد "المكوّن ذاتياً"، ممجّداً حرّية موهومة كلّياً.
وبالطبع يدور النقاش حول تحديد مفهوم الحرّية. فهل أن الحرّية هي حرّية أن يكون الفرد هو ذاته تلقائياً؟ ولكي يكون الإنسان ما هو عليه ألا يجب أوّلاً تعلّم ما هو هذا الفرد العزيز جداً في أيامنا؟ ويؤكّد راي، في تتبّعه خيطٍ مستقيمٍ لتيارٍ فكريّ بأكمله يصل إلى أعمال رجل القانون "بيار لوجاندر [1]"، أن الفرد لا يمكن أن يحقّق استقلاليةً فعليّةً بدون الاعتراف بأنّه مرتبط: مرتبطٌ بالآخرين، مرتبطٌ بمجتمعٍ يسمح له بممارسة هذه الاستقلالية، مرتبطٌ بتاريخٍ، مرتبطٌ بأوهامه الخاصة. والاعتقاد بالـ"مرجعية الذاتيّة"، بحسب ما تستدعي النظريات التربوية الحالية، وبشكل أوسع نظام القيم القائم، يعني التنكّر لعلم السلالة العائلية وللمعرفة وللمؤسسات. ونفي هذه العلاقة يعني نفي حدود الفرد الخاصة، تلك الحدود التي تحدّد وحدها الحقل الذي يُعدّ فيه الشخص المعنيّ.
وبعبارةٍ أخرى، لا يمكن للحرية أن تقوم إلاّ على أساس التخلّي؛ وهي لا تبدأ بالتجلي إلاّ عندما تُدرَك الحدود وتُستوعَب؛ فالحريّة الفردية، أساس الديموقراطية وشرط ديمومتها، تفرض أن يعرف الفرد أنّه فانٍ ابن فانٍ، وأنه واحدٌ بين آخرين، ويرفض قانون الأقوى، ويخضع للقوانين التي تسمح بالعيش المشترك. هذا هو إذن السبب الذي يحمله على عدم الانجرار وراء غرائزه الخاصة، وذلك لكي يستطيع، كبشريٍّ بين سائر البشر، أن يساهم في التاريخ المشترك ويكتب تاريخه الخاص. وهذا هو السبب الذي يجعله يفهم أن الآخر ليس شيئاً، بل هو "أنا" مثله، والتي لها يدين الإنسان بإنسانيته التي تجعله جديراً بان يكون له حقوق، بحسب تعبير ريمي براغ [2] الرائع.
والحال أن الاستناد إلى العقلانية بدلاً من بديهية الشهوة وأسوار الأنا ليس أمراً تلقائياً وليس سهلاً ولا شفّافاً. فإذا ما كان كلّ واحدٍ يتمتّع بهذه الطاقة؛ إلاّ أن المطلوب هو تغذية هذه الطاقة. فكل شخص يولد حرّاً... حرٌّ نعم، إنما ليعمل على تحرّره أمام معوّقات الغرائز والبديهيات. أما مفهوم الشخص الواحد العامل "منفرداً"، والكفيل بألاّ يستمدّ إلا من أعماقه هو وحيداً أسس منطقه، والمعتبَر أنّه لا يستأذن إلا ذاته؛ هذا المفهوم ينزع إلى تحديد كلّ فردٍ على أنه "دولةٌ مصغّرة" حيث يفرض كلّ واحدٍ قانونه. أما معنى المحظورات والموجبات والضوابط فقد ينتهي إلى الزوال على أساس أن كل ذلك ليس سوى "محصّلةٍ بسيطةٍ للتجاذبات بين المتطلّبات الفردية من جهة، وفرائض المجتمع من جهة أخرى "، أو العنف بالمعنى الأسوأ.
الحكمة، سمحت باستقلالية الفرد فقط عندما تحوّلت مؤسسات فعدم الاعتراف بأن "ما من أحدٍ هو صانع نفسه في الأساس" وعدم التخلّي عن الحلم الطفولي والخطير بالقوّة المطلقة، والاعتقاد بأنّ الانسياق للرغبات الشخصية يساعد في إنجاز الحقيقة، يعني تناسي أنّه إذا كان يمكن حقاً تحقيق الذات فذلك لأنّ المجتمع وبناه وضوابطه وقانونه كلّها تسمح بذلك، وليس لأن هذا حقٌّ "طبيعيّ" يقف المجتمع عائقاً في وجهه؛ ويعني أيضاً تناسي أنّ الحكمة التي، بإصدارها قوانين، قد تحوّلت مؤسسات وجعلت استقلالية الفرد ممكنة، وتناسي أن الإنسان يتلقّى أولاً القوانين والمحظورات والضوابط قبل أن يمتلكها، وأنّه هكذا تستمرّ المؤسسة الاجتماعية القائمة على الحكمة كضرورة لممارسة الحرية الحميمة والجماعية.
إذاً عندما يهاجم راي بغبطة حماسية وبفورة جائشة، طواطم الحداثة المفترضة، واحتقار الميراث، ورفض الواجبات، وحريّة التأكيد على الشخصية الخاصة وادعاء التمايز ككيان، فذلك لكي يبدِّد ما يبدو له فخاً مغرياً ومرعباً يهدّد القيم الديموقراطية بدلاً من أن ينجزها، في حين أن هذه المفاهيـم تدّعي كل ذلك.
وليس من السهل المغامرة في هذا المجال، فعدم الإيمان بأن كل ما يسمّى تقدّما هو دائماً تقدّمي سرعان ما يمكن أن يتحوّل نوعاً من الفكر الرجعي. والحال أن هذا التحليل يرمي إلى التذكير بفكر عصر الأنوار، ويسعى إلى تبيان الانحراف في هذا الفكر. فبالتأكيد أن هذه الدراسة، في مرحها وطرافتها، باستشهادها بإيفان إيليتش كما بفيليب كي. ديك، وبرينه جيرار أو بأرنولد شواترزنغر (بطل فيلم "تيرميناتور")، هذه الدراسة المشوّشة والقاسية والحماسية، لا تسعى إلى الاحتفاء بالماضي في وجه الحداثة، بل إنّها تعمل على تبيان كيف أن عملية التحديث الثقافية تسير في موازاة الحداثة الاقتصادية، وهذا ما يثير القلق.
فمن عربة الأطفال المجدّدة حيث يفترض بالولد أن يتعرّف على العالم بكلّ حرية، بمعزلٍ عن أنظار أهله التي تسمح بإعطاء معنىً لما يراه، إلى انزلاق العلم في اتجاه التقنية الموضوعة في خدمة السوق، ومن استبدال الإبداع بدراسة الإرث الأدبي، إلى الحيّز الذي احتلّه الاستنساخ في الصحافة والخيال، هناك ما يولّد نظرةً إلى عالمٍ يبدو أنّه نسي أن الحرية تُبنَى بالحكمة. فهذا العالم متصالحٌ تماماً مع مفهومٍ اقتصاديّ ليبرالي انتشر تحديداً بتغطيةٍ من مُثُل التحرير ذاتها ومن احترام الفرد المغلوط تماماً - "وكما أنّه بحسب المبادئ الليبرالية، هناك يدٌ خفيّة يُفترَض أنها تؤمّن الازدهار العام، لكي تجعل البشر يتخلّون عن إدعائهم حق التدخل في الاقتصاد، ولا يهتمّون إلا بمصلحتهم الشخصية، كما أن التنظيم الذاتيّ يقود الأفراد إلى التألّق والسعادة". وعندها، في مجتمعٍ سائرٍ إلى "إلغاءٍ معمَّم للمؤسسات"، بحسب ما قاله داني-روبير دوفور [3]، يصبح الفرد وحيداً، مجبراً على خلق ذاته بذاته، وبشغف: متحرّراً من الواجبات ومتحرّراً من المنطق، حرّاً إلى أقصى الدرجات في الإنصات إلى استدعاءات لاوعيَه، واستدعاءات السوق، ولا يحبّ أي شيءٍ بقدر ما يحبّ إرضاء غرائزه البالغة القِدَم.
سيقرأ أيّ ميلٍ نحو الإضراب كفوضى حميميّة يجب تفكيكها كما أن دانيال بونيو، أستاذ الشرف في الجامعات، ورئيس تحرير مجلة "كايي دو ميديولوجي" (دفاتر علم التوسّط) ثم مجلة "ميديوم" (الوسيط) اللتين أسسّهما ريجيس دوبريه، يتابع المساءلة ذاتها، إنّما في حقل الفنون ووسائل الإعلام. وهو في ما خصّ هذه الأهمية المعطاة للتعبير عن الذات، وهذا التطلّع إلى عالمٍ لا معوّقات فيه، مصدر المتعة، يجمع تجليّاتها تحت كلمةٍ معبّرةٍ هي "العَرْضِية" (من فعل العرض والإظهار). والإثبات الذي يقدّمه حول ذلك هو كلاسيكيٌّ إنما منبّه؛ لأنه يقترح نظرةً إجمالية. فمن الصحافة التي تقترح قراءةً مثيرةً يحلّ فيها "التخيّل الشخصي" مكان "الروايات الكبرى" السابقة، مزيّنةً بفتنة الحداثة ذاتها، مثل البوح الحقيقي وواقعية السرد والتقارب بين البطل والقارئ، من "الكليب" إلى "السبوت" مروراً بالـ"بثّ المباشر" والنشاط المشترك التي تسمح باعتبار ما يُعرَض على "أنّه حقيقي" وتسمح سواءً بالتصديق أم بالمشاركة، وكل ما على طريقتها توفّره أيضاً "التجهيزات" و"القدرات"، التي غالباً ما تخضع لـ"لمؤثرات الحقيقية" وإشراك المشاهد "بفعّالية"، أي باختصار من تلفزيون الواقع إلى العاب الفيديو، وذلك من ضمن أمثلةٍ أخرى (وكم هي كثيرة!)، على غرار ما كان يعلنه فيما مضى شعار راديو "أر.تي.إل. RTL": "المهمّ هو التأثّر". فما يسعى وراءه هنا هو "التأثير" والمباشر، المرتبط دونما اعتراضٍ بالحقيقيّ، وبالتالي بالصادق، وربما هذا هو الأهم.
ويرى "بونيو" أن هذه "العَرْضِية" تؤسس "لطغيان الحقيقيّ والمعيوش"؛ وهو ما لا بدّ من التوافق معه بدون أي أسفٍ بالضرورة. فلماذا يتمكّن المتمسّكون بالثقافة القديمة، مثل الرواية "المتباطئة" أو الأعمال الأدبية الصعبة، من الوصول وحدهم الحقيقة السامية؟ أليس هذا هو الصراع القديم بين النخبويّة والشعبويّة، أو هو وجهه الآخر المثقل بالمسؤولية، أي صراع أدب الجهد مقابل التفتيش عن المتعة؟
والجواب هو كلاّ! فكما عند راي، إنّما عبر "أخلاقية العرض"، هناك النظرة في الموضوع الديموقراطي، ودراسة تحريف ما في مفهوم الفردانية: ما وضعت مواصفاته عبر مسيرةٍ طويلةٍ من "تفكيك المشاهد الفنّية والإعلامية"، واختُصِرَ إلى "فقّاعةٍ نرجسيّة"، والذي، عبر التمتّع "بالتسميم العاطفي" الناتج عن نفحات "الواقع" هذه، قد ينتهي إلى الغرق في نسيان "الموضوع المشترك" وفي مجرّد الأحلام والكوابيس، الحميميّة.
وفي الواقع ما الذي يحدث عندما لا يتبقّى للأفراد من فضولٍ إلاّ لما يلامس عالمهم الخاص، وهذا ما يمكن أن يحدث مع الانترنت (حتّى وإن لم يقتصر الأمر عليها)؟ وعندما يُفضَّلُ ما يؤثّر مباشرةً على الأعصاب، والإغراق في الاحتفال، والتواصل في إحساسٍ مشترك، و"الحضور الكليّ"، على الرؤية من بعيد، عبر الرموز، بشكلٍ متميّز، باختصار عندما يُفضَّلُ "المعيوش" على الإيحاء؟ عندها "تتمّ الإطاحة بالتصوّر الفكريّ وبمواصفاته النقدية"، ويَختَصِرُ "الصراع الجسديّ" طريق المنطق، ويؤدّي إلى الانصياع دون نقاش، ويَمْحِي بروز "الحياة" "التصوّر الفكريّ"، وهو ما يجعل أيّ رؤيةٍ مستقبلية سطحيّةً، إن لم يلغِها. هذا ما توحي به تماماً العبارة الشبابيّة "إننا نتفجّر!on s’éclate". وهكذا بيتلاشى الحسّ-الدلالي لصالح الحسّ-الانفعالي الذي يأخذ شرعيّته من نفسه. هذا ما سيولّد "مجتمعاً مقتصراً على الأحاسيس"، لا عالم آخر مشترك فيه إلا المشترك النرجسي، ولا أيّ معيارٍ آخر للأثر الفنّي الفاعل سوى قوة التأثير الفوري؛ وهذا على كلٍّ ما أدركته بسرعة دعاية الأنظمة التوتاليتارية الخبيرة بالعروض الجماعية المشتركة.
بالطبع إنّ الأمر لم يصل بنا إلى هذه الحالة - رغم أن هذا ما توحي إليه خطّة السيد سيلفيو برلوسكوني للوصول إلى السلطة، والمقدَّمة هنا على أنها خطابٌ صحيحٌ مغلوط -، ولا يقوم بونيو بقراءة مانوية (الصراع بين الخير والشرّ) لتحوّلاتنا المعاصرة. لكن أن تكون العاطفة والانصهار في شكلها البديهي، وفي تجلّيها، كافيتين كضمانة للحقيقة، فهذا أمرٌ مقلق للديموقراطية بشكلٍ جوهري.
ذاك أن المنطق يُقصى عندها، وبالتالي المشاركة في الدلالات. فالإيمان بشفافية الأنا وهي من طينة المتخيَّل، والاعتقاد بصفاء العاطفة، يعني قبول الميول الفطرية، و"انفلات" الغرائز واتّخاذها كل حجمها. لكن المكبوت الذي يُصوَّر على أنّه حقيقيّ هو ما يغذّي "البربرية"، فتمّحي الحدود بين الغريزة والخارج، ويزول الفارق في الوضع بين مختلف حاجات الفرد، تلك الخاصة به وحسب، وتلك التي تكون ملكٌ للجميع.
وليس دون بعض الرطانة أحياناً، يقدّس بونيو السرّ الحميم، وأدب المشهد، مثل الانقطاع المستحسن الذي كان متوفّراً سابقاً، ما بين الواقع والوهم، في المسرح وفي السينما؛ وبكل شجاعةٍ يعاكس التيّار: مقابل طليعةٍ ما، ومقابل غنائية "غي دوبور"، وخصوصاً مقابل بعض قيم "نزعة المساواة الديموقراطية"، التي تساهم، إذا ما أردنا طرح الموضوع الديموقراطي، في تقويض ما هو ضرورةٌ مطلقة، أي الإبقاء على الفرق بين القوى الفظّة للـ"هذا"، التي يمكن التلاعب بها ببراعة.
ودانيال بونيو، على غرار أوليفييه راي، هو "مزعجٌ" محبّب، وهاتان الدراستان تشدّدان على خطورة الخلط ما بين توخّي الجماهيرية وتوخّي الديموقراطية؛ والثمن هو تحريفٌ خطيرٌ في مفاهيم الحرية والمساواة. لكن إذا كانت براعة هاتين الدراستين الذكيّتين ممتعة، إلا أنّه يحوم فوق القارئ ظلّ إرهاقٍ عميق؛ إذ لا يُعرَفُ كيف يجب النظر في هذا التحوّل نحو نرجسيةٍ مدمّرةٍ، سواء لدى الشخص أم في المشروع الجماعي. فهل أن الإنسان هو ذو طبيعةٍ سيّئةٍ للغاية، تميل فوراً إلى تفضيل ما يرضي نزواته، ومؤهّلةٌ تلقائياً للرضوخ أمام غرائزه الأنانية؟ وهل أن أزمة "القيم" هذه، أزمة الاستبطانية، أزمة العقد الاجتماعي، هي التوجّه الفعلي لتاريخ الديموقراطيات الغنيّة؟ وهل هناك تلاقٍ حتميّ ما بين تطوّر الديموقراطيات والقيم التي يبشّر بها النظام الليبرالي الاقتصادي؟ إنها أسئلةٌ مركزية. وما سيقدّم الوسائل اللازمة للشروع في الإجابة عنها هو عمل "إيفا إيللوز" و"ميكي ماك غي".
تدرّس " إيللوز"، أستاذة علم الاجتماع في جامعة القدس العبرية، نشوء "إنسان العاطفة". ولا حاجة للتعليق على هذه العبارة، فمن الجليّ جداً أن حداثتنا مرتبطة بـ"ثقافة العاطفة المستجدّة"، من "الجانب الأنثوي" عند البشر إلى "شعبويّة" رجال السياسة، مروراً بهاجس الدوافع النبيلة، الخ. والحال أن الأحاسيس، في نظر إيللوز، هي بالطبع ظواهرٌ سيكولوجية، إنّما أيضاً "وربما أكثر حتّى، حقائقٌ اجتماعية وحضارية". وهكذا فإن الفرضيّة التي تعالجها بطريقةٍ آسرةٍ تقيم علاقةً وثيقةً بين تطوّر الرأسمالية وبين تغيّر الأهمية المعطاة للعواطف وللتعبير عنها والتي شيئاً فشيئاً أصبحت خلاصة الهوية الشخصية. وهذا ما يفاجئ، وما يزيل الغشاوات عن الأبصار.
وما تدرّسه إيللوز بشكلٍ أساسيّ هي الحداثة بحسب الولايات المتحدة؛ إنّما من الواضح أن عرضها ينطبقُ أيضاً على مجمل الدول المتطوّرة. وهي تلفِتُ الاهتمام أولاً كيفَ، إثر دخول التحليل النفسي، (ويستحق هذا الاهتمام أن يتوضَّح أساساً) تمّ تصميم "الأنا العادية" على أنّها "كيانٌ غامض"، على كل فردٍ أن يدركه ويعبّر عنه.
ففي عشرينات القرن الماضي، جاء دخول "متخيّل التحليل النفسي" إلى عالم العمل، فالمدير الجيّد يجب أن يكون محلّلٌ نفسيٌّ جيّد؛ وسوف تُعتَبَر النزاعات موضوعاً يبحثه علم النفس؛ وسوف تُعطَى الأهمية "للإنصات"؛ وسوف تكون الأخلاقية التواصلية جوهر الشركة بالذات. ولم يعُد الصراع الاجتماعي سوى نوعٍ من سوء التفاهم. وفي هذا السياق سوف ينظر إلى الكفاءات والقدرات المهنية على أنّها من نتاج الأنا العميقة. والفشل، أو الميل إلى الإضراب، سوف يُعتَبَر نوعاً من الاضطراب الحميميّ الذي يجب حلّه. وهذا المفهوم، الذي يساعد في زيادة الإنتاجية يمتدّ خارج الشركة بفضل مأسسة علم النفس. وهكذا تحوّلت العلاقات الحميمة أغراضاً خاضعة للقياس "يمكن إقامة المقارنة بينها، وتخضع للتحليل بعبارات الكلفة والربح"، فيما تتضخّم النزعة الذاتية والشعوريّة طالما لعواطفنا قيمة، وبمجرّد أنّه يمكن التعبير عنها.
إذاً باتت الصحة وتحقيق الذات أمراً واحداً ووحيداً. فلكلّ "أناه"، وتمايزه وعواطفه التي أصبحت رأسمالاً جديداً. ويجب الاعتراف بكل معاناةٍ لا على أنها خطأٌ أخلاقي، بل على أنها مركّبٌ للفردانية، مع دائماً محاربة العطل: وهذا ما يؤكّده تصنيف الأمراض في "كتيّب تشخيص وإحصاء الاضطرابات الذهنية" الصادر في العام 1954، والذي وسّع كثيراً كلاًّ من حالات الاضطراب التي تعوّض عنها شركات التأمين، وسوق شركات تصنيع الأدوية. لكن هذا الكتيّب الذي وبشكلٍ أجوف الحالة "الطبيعية" على أنّها الاستعداد "للانفتاح". وهكذا يُعاد ضخّ الأنا المُعانية في السوق، على أنّها نتاجٌ متهاوٍ يجب إصلاحه، وعلى أنها ورقة قوّة خصوصيّة يجب الاستفادة منها، وبدون أن يحدّدُ أبداً بشكلٍ واضحٍ كيف يكون "تحقيق الذات" الناجز.
هكذا تتّخذ الرأسمالية وجهاً إنسانياً، وتنمحي الحدود بين العام والخاص، وتنتصر إيديولوجية الخيار الليبرالية التي يتمّ التعبير عنها بكل تناقضاتها ومآسيها على مواقع التلاقي على الانترنت... وهكذا أصبح ما كان يبدو وعداً بالتحرّر وبالسعادة ضغطاً مستبطناً خفياً "طبيعياً"، إذ أُلغيَ "بناؤه". فبدفعٍ من هذه المعايير الجديدة للمساواة والحرية والشفافية والعقلانية، اكتسبت الفردانية الحديثة حياةً عاطفيّةً "خاضعةً لمنطق العلاقات والمبادلات الاقتصادية". وتزاوج الاقتصاد الخاص مع اقتصاد السوق باسم قيم الديموقراطية المعدّلة والمفسّرة والمعتمَدة من جانب نظامٍ اقتصاديٍّ بعينه عازمٌ على تصوير نفسه على أنّه هو المرادف للديموقراطية.
إذاً يبدو أن هذه "الحالات المرضية للفردانية" تنتج فعلاً عن التلاقي بين مُثُل الديموقراطية وأهداف رأسماليةٍ جديدة. لكن كيف لنا، إلاّ إذا كنّا نأمل في حدوث ثورة، أن نتصوّر مستقبلاً لا يزاوَج فيه بين المواطن والمستهلك، بين "الحقّ لـ..." والحقّ في..."؟ إنّ ميكي ماك غي، عالمة الاجتماع الأميركية الشمالية، وبعد أن درست ظروف ظهور تقنيات التفتّح الذاتي في الولايات المتحدة ودلالات تزايد الطلب بشكلٍ مكثّفٍ عليها، تذكّر هي بدورها أن "البنى الاجتماعية والكيانات الفردية تتضافر في عملية التكوين، إذ هي مترابطةٌ فيما بينها لدرجة أن أيّ تغييرات في الأولى تؤدّي إلى تغييرات في الثانية، والعكس يصحّ أيضاً".
مدانٌ لأنّه لم يَعزِمَ أن "يُصبِح ... كل ما يمكن أن يكونه" لكن إذا بات كل فردٍ مجبراً من الآن وصاعداً أن "يعمل على نفسه" وأن يعتبر نفسه "رأسمالاً بشرياً"، وذلك بحدّةٍ أكثر كلّما تزايد عدم الأمان الاجتماعي، أي إذا بلغ الارتهان أشدّه وحمّل الفرد نفسه مسؤولية عدم الاكتفاء الاجتماعي، على أنّه مذنب في كونه لم يتحلّى بالعزم الكافي "ليصبح كل ما يمكنه أن يكونه". إلا أن الكاتبة تسلّم على الأقل بأن هذا السعي الحثيث إلى تحقيق الذات قد "يشكّل عامل استقطابٍ لتغييرٍ اجتماعي". وهو ما يبدو لها شكلاً "ما قبل سياسيّ" للاحتجاج، يمكنه أن يدفع في اتجاه "المشاركة السياسية".
وهذا ما يفترضُ في آنٍ معاً الاعتراف "بأن رغبة الفرد في صنع حياته لم تعد تمتّ إلى النرجسيّة، أو إلى حميّة تحرّرية بديلة، بل إنّها حوِّلَت بالأحرى أكثر فأكثر ضرورةً، كشكلٍ جديدٍ من "العمل غير المادي"، مثل النشاطات الذهنية والاجتماعية والعاطفية"، المطلوبة من أجل المشاركة في سوق العمل"، وكذلك الاستناد إلى هذا التطلّع لكي يطال المطالبة بعالمٍ حيث "التنمية الحرّة لكل فردٍ تُفهم على أنّها شرطٌ للتنمية الحرّة للكلّ". وهذا ما يعني بالتأكيد أنّه لكي يُعاد التأكيد على القيم المؤسِّسة للحسّ المشترك، يجب إسقاط أوهام الحرية، لكن بالاستناد إلى ما يحمل في ذاته، بطريقةٍ متناقضةٍ إنما متماسكة، التطلّع إلى حياةٍ أفضل، في ظلّ خلافات الحداثة وشِراكها.
* كاتبة، من مؤلّفاتها , le zappeur des mondes, La Quinzaine litteraire, Paris, 2005 و L’Almanach des contraries,Gallimard, coll. « L’Arpenteur », Paris, 2002
[1] Pierre Legendre, La Fabrique de l’homme occidental, Mille et une nuits, Paris, 2000.
[2] Remi Prague, La Loi de Dieu,Gallimard, Paris, 2005
[3] Dany-Robert Dufour, “ De la réduction des têtes au changement des corps ”, Le Monde diplomatique, juin 2005.
الكتب
Olivier Rey, Une folle solitude. Le fantasme de l’homme auto-construit. Le Seuil, Paris, 2006, 33Opages, 22,5O euros.
Daniel Bougnoux :La crise de la représentation. La Découverte, Paris, 2006, I84pages, I6 euros.
Eva Illouz, Les sentiments du capitalisme, traduit de l’anglais par Jean-Pierre Ricard, Le Seuil, Paris, 2006, 2O2 pages, I5 euros.
Micki McGee, Self-Help. Inc.Makeover Culture in American Life, Oxford University Press, 2005, 287 pages, 29,96 dollars. |
|
|
|
|
|
|