دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
فاصل حنق معلن .. او هِزال المشِيمة
|
مازن مصطفي
.......................... “إلى الأوغاد: الرطل، تمساح، غزال، جاروميل، بورخيس و كافكا” ..........................
هكذا أجدني سادراً في التحولات. الإنمساحات كما أدللها عامداً إلى إلغاء فروقاتها بنفس من أنا المتهور. الفروقات الدقيقة التى ربما يبصرها آخر ذو جذوة لائقة بي، ليكشف عن تورمي المرضي، و عن غلالة كان يجب بلوغها. أما ما راكمته من الشذرات، فغير كاف إلا لإحتباس طفيف حول تعددات مخاطية تتراكم، تتلاعق، تتعالق و تمتز من بعضها. وحول هاجس مركزي يتتبعني -بكل الذين تمثلتهم- حول جدوى هذه الكتابة. هاجس مضطرد. مرضي. خانق، مستلب، يفح بزوايا الذات منطلقاً من مركزها الطامح لإستدارة عمياء بلا خلوصات تذكر. هاجس القيمة. الهاجس الذي يصيب “كافكا” مثلما يصيب كاتب بهزالة “ديل بيرون” ( الذي لم أفطن لكيفية إستقرار الآمر لديه بمستوى الهاجس المفعم بالأمل) مما يسلبه (الهاجس) من أي قيمة دالة، ليترك متفحصه في حيرة من الدرجة الثانية، أي حيرة قيمة الحيرة حول القيمة. و لدي مظان بأن مجالاً مكتظاً بتلاحقات مزيفة حول النصوص، و غياب للمعيار الدقيق (رغم ركاكة كلمة معيار و تلاحق سقوطاتها) أي إنعدام “الختم” كما بعبارة لعبدالرحيم في سياق آخر، يلاحق الشاك -الذي كان علي بلوغه بحكم التراكم- بهذا الهاجس. و إن كنت مرضياً بإتجاه علاقتي بالعالم، أي متذبذب و غير مستقر و سيء الظنون أمام علاماته الرجراجة. شاهد على إنهيارات عظيمة لصروح تيقنت لقرون، كصروح الأديان المسموة، و الآيدلوجيات المتمطلقة، و العلم المتدقق. و بالمقابل، حاضر لعالم الفلسفات المتحركة بإصطداماتها لإلغاء المتفق عليه فكرياً. إذ كما نعلم عن التراكم، حتى بديهيات إقليديس لم تعد معمدة كبديهيات، و إفلاطون عقب قرون مركزيته أضحى أشبه بحادثة خيالية فكهة، مفجعة لدى المتربصين بتغلغلاتها. و الصدفة: تلك التي قهرتها الأفكار إلا بمحاولات خجولة ل “هيوم” و الأسقف “بيركلي” و قلائل-نسبياً- من الشكاك، و بعدما قضى عليها فلاسفة عظام ك”ماركس” و “انجلز” بإختزالها لمجرد جزازات على الدرب “تشق الضرورة طريقها عبرها”، تعود لتتصدر عالماً باع إستقراره الناعس للشيطان، في صفقة موفقة، و إن كانت تحملني قساوة معالجة الفراغات الواسعة في الداخل، و الإمتلاءات العقيمة لفيض الدلالات. أما “نيتشة”-مثلاً،كالمعتاد- فقد تبنى مشروع توسيع السديم القلق، مربكاً العالم بالأصنام و ملقياً الثابت في طاحونة شرسة الهضم، ناهشة للنكوص. و كون المنخرطين في المتاهات الأكثر طبعاً لعصرنا، المتواتر على تسميتها علماً بغرض التمييز عن الأدب (إجحافاً لكليهما) يستندون في خاناتهم الأقل ضراوة، خانة نادل التقنية التصنعه مجتمعات عدوة لما عدا البرهة، إلى يقين عارم الكسل بالدقيق و الموضوعي و الرياضي، هو كون بديهي لإحتمال دائم التوالد في لحظات البشري، و هو إحتمال النكوصات و الشلل عن قنص اللحظة، بوضع اليد على الأكثر فاعلية -ظاهرياً- في إقتناء التوازن. و هكذا كنت سعيداً بذلك، و فخوراً بما هو مؤكد كدائرية الأرض و حاصل جمع رقمين و ألاعيب الرياضيات الأخرى الباعثة على اليقين الدافق، الحار، المتغاضي عن الآخر كإستمناء. و كان فتجنشتاين قد برهن قبلها بسنين و دنين أن الرياضيات إنما ترتكز على الاعيب كألاعيب اللغة، قاضياً على وهم موضوعيتها، مسقطاً؟ إياها في حوش الآداب حيث همبريب التمتع باللعب المحتقر منذ إفلاطون الذي لا أستطيع التجاوز عن عشق خياله. فتجنشتاين؟ و أنا المربوط في حبل بافلوف و نيوتن و عجلة الجاذبية=9.8 و لا باب للفلاسفة في سوق الماشي المطبق على خيال الممكن المفتوح على الخصوبة المخصية و اللعنات المعيبة. لا باب للهراءات التي تضاعف الدجاج كما النكتة السائرة، و تلك التي تعلم الولاد ال............................و هكذا ما كان فتجنشتاين متاحاً لولا عشق و سنوات و أصدقاء ملاعين . و لذا ظل الفتى أحمقاً في ثقته البيضاء و ويلاته الأكثر عمقاً: إستكشاف الطنين المتواتر لإحتياج العضو، المباهج الدخانية المستورة لاحقاً/عبثاً باللبان و التحاشي. ضراوة النزاع على تأخيرة أو إثنتان...بتكرار لانهائي. الأب العامد إلى قسرك لإختيارات التوافق الينسبها له، المتحرك في قهر حماقاتك الطربانة الناشئة. الأب اليعمل على إعادة ولادتك في سياقه الشخصي، كعضو مكمل لجسده الشخصي، لا كمستقل لوجه الحياة. و لن يكن مجاز “ذراعه اليمين” المرجو منك أن تكونه إلا إشارة على نفي إستقلالك بقدر معنى المساعدة المتضمن مباشرة. و هناك ما لاحظه “كافكا” من تناقض التلويح بيسر الحال بفضل “النضال الأبوي” و شرطه بالشظف القديم ثم مطالبتك بتحصيله، و هو ما نجحت في إمتحانه بفضل يأس الوالدين المبكر، و إن كان يشوبه أحياناً شبهة من رجاء يتحاشي صفة السلطة، الواسمة للعلاقة ككل، كما يحرج “كافكا”عالم اللحظة مفصلاً. و تثنية على “كافكا”، كما يجدر بي أن أفعل بصورة دائبة لسنوات، أضيف أن خلاصي من العالم، لو إفترضنا أن هذا ممكن بغير الإنتحار، تعطل لسنوات قاتمة بفضل الثقة البليدة بالعلم، ذات الطابع الأبوي و المتقمص لكل تقني كوسيلة لما هو مادي و إجتماعي. من هوس الأفندية بكل ما هو “محترم”. و هكذا، كنت لأكون مسخاً أكثر مما أنا كائن، أو هكذا تقنعني اللحظة. و هي لحظة، في حالاتها الأشرق، مازالت مذهولة بمسلات التنوير التي عملت بها المعاول، بل بجورنيكا العقد الإجتماعي، هراء البروباقندا البيكاسوية. عاجزة عن رسم حدود علاقاتها، مشغولة بأوهام هوية و تبادل سباب. ومصادفات تعتني بأخواتها الصغيرات. ثم تتعقبك هوام تنشد فساء كرات الشك، فتخلق تراويح القول السائر و إكليشيهات الحكمة، و مردود نيء للخبرات، و مواعظ نصوص القرن السابع بتحويراتها. و للأخيرة سلطة تعففها (المرفق بحزمة دعائية من يقين) عن مجرد إخضاعها للتسائل، و لو من باب تأكيدها. لكن، وأوقفني لأردد أن سلفية كتلك باتت في حكم المعروف شناعتها، إلا لمن لن أستطع التغاضي عن قرف يعبر كلما واجهت طمسه للافتات الإعلان بطول طريق البيت، اخفاء لأجساد إناث لن يستطع حذفها، لحسن الحظ، من ملايين المعابر الراقدة هبطرش. طيب، بإستماحة الإيقاع عذراً، و بما أننا في معرض الذم، فلِِِم أتغاضى عن الأدهى لعنة و المسكوت عنهم تواطئاً أو توطئة للتزلف؟. وأعني أنصاف المتعلمين أولئك، الذين أتصور رجلاً أقل تسامحاً، كنيتشة مثلاً، قمين بركلهم في مؤخراتهم. أولئك المقتنصين سراً في حوارات الصداقة الشفاهية النيئة، مما أسخط الفتى ردحاً عظيماً، وأخرس. النزاعون لعداء الثقافة. اليقينيون العظماء الذين تِثني عليهم لإيقاظهم مدى شكك. الذائدين الطين بلة تغاضيه عن الإنتباه. المولعين بالتصنيف الركيك، النزعة الأمنية، البداهات المتضامة كجبل مخاط، المؤامرات، التناقض في صوره التعجز عن إحترامها. هواة الشعونة (أطرف من شوعنة، أليس كذلك؟) اللذين يعمل أحدهم هدماً في جسده الشخصى، لينتهي مليئاً بفخره الخاوي، مؤمناً بسهره على مصالح طبقة عاملة لا يفقه عنها التكتح. أولئك السلفيين المحشوين بعبارتين عن دار التقدم و دار رادوغا، عمدوا إلى إحالة مفردة مثقف إلى سبة قصوى يتم تلحينها، في الحالات الأشد جرمشة، بإضافة مفردة “عضوي”، التي تحيلني إلى صورة جيفة تتحلل، أي إلى صورة متشعون يتوارب.ولم أنت مهتاج هكذا على الدلاقين؟يكفي أنهم مسخوا علينا مصطفى سيد أحمد. وإكمالاً لفاصل الحنق الإعلاني أفصل: والأسباب التي تسقط المتشعونين (هذا النعت يطربني ثقله المعنوي) في طين عداء الثقافة إستطرادها يتخم، و لإيجازها أزعم أن لليقين وسائده اليشق مغادرتها، و اللازمة تماماً لضرب من سوقية بالتعاطي مع العالم إفترضها تجريدي ما ضرورية للإنهماك في عالم السوقة، المضطهدين بهذه الصفة في لا شعور العاملين عليها و المدللين شعورياً بالطبقة العامة. ثم جرى لتوكيدها كثقافة حقيقية (عملية، منتجة، ملتزمة و منتمية بمقابل نعت الإنبتات المريب الممنوح للمثقف) منح الآخر(المثقف؟) نعت مثقفاتي، الذي يحمل دلالات إدعاء برحة ليمدد المتشعون قدميه، و يعلن ذاته كحامل وحيد لحقيقة يتيمة هنا، كما بأي مجال، و كعادة تراث القرن التاسع عشر الواثق بإرتياح عصي على شرطي. و لم لا، و لاصوت يعلو فوق صوت المعركة؟. و صوت المعركة هنا لايتجاوز هتاف طويل متماثل و مباشر(لايفهم محققو التغيير المجاز غير السائد) حول أن إيد العامل هي العاد تعرق ما المكنات الأمريكية. و الفتى لا ينجو، وتمتد وسائد هزيلة و أخرى تالفة تماماً، ليجد الجسد تبريره عبر الإختيار العشوائي (بمحاولات تقنين شاحبة) من متعدد أجنة الإجابات، وإن كانت تكفي لتهدئة جنوح نادل التقنية (و المتسلف و المتشعون كحالات مترهلة)، إلا أن نجاحها تربكه النماذج القلقة بدافع النقص/الحيرة و تلك التي مستها لوهلةٍ وحشيةٍ فنون مظلمة، وملكت، على غفلة السيستم، تنويعات ورمية لاتليق بهشاشة المرايا الآنفة.ثم تلك التي أنا، العاجزة عن الإمساك ببداية للحفرة، و التي تنتابها شكوك في حفرية الحفرة ذاتها. تمتد سابحة في غائط الآخرين ممسكة بمحض جدوى الحركة. تتمنى، في برهاتها الأكثر يأساً، التحرر من حاسة الشم. و في برهاتها الأكثر جذباً، حين تشعر بغتة بذلك التحقق المريب للعالم في جسد كبالوعة، تتمنى عبوراً مستحيلاً، لشاطيء وصل عنيف و مباشر و أقصى. حاد.ثاقب.أحمق.ممراح بوحشية.دموي.عابر.أخرق.عضلي.تتمنى شحذاً جديداً، بذات ضراوة المتشعون و يقين السلفي، بحيوية الإرادة المميزة لكل ما هو متطرف، بجدواها. في البرهات الأشد حظوة، الكأنما تعمل داخلي بالواسطة، تقابلك الإقتراحات الأكثر قوة، الأكثر براعة و تضاداً، تلك التي أحنقت هوسرل على الفلسفة، والتي توصلك لحافة العدم اللزجة، الحافة التي تغازلها رندا في وصفها له كاملاً، و التي يبخسها “ديل بيرون” بتسرعه الأحمق في “إنتعاظ البراءة”، في الأكثر حضوراً تباغتك اللذة من المستبعد، الزائل، المتحرج على حواف المفردة. من المألوف لدرجة الإختفاء. من المحتقن لصدقه بالإشارة. من “كافكا”، “بورخيس”، “سليم”، “كونديرا”، “باموق” و “أوستر”. و الذين هناك، مجهولين تماماً لهزال المشيمة، تفترضهم أقدر على السالب، أشد وطأة، متوحدين تماماً في عالم أهطل، يحاولون البقاء أحياء لليلة أخرى، أمواتاً لسانحة أرحم.
نقلا عن سودانفوراول
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: فاصل حنق معلن .. او هِزال المشِيمة (Re: esam gabralla)
|
ترك مازن لحنقه ان يندلق.. يبدو انه في لحظة ما وصل حنقه الحلقوم فباح به.. قاده حنقه العاتى لصف و رص اسئلة الاوائل والاخر ... كن فيكن ... هل خلقنا من طين ام ان الطبقة تحدد الوعى ام ان السكون هو الموت؟
الرؤية يا مازن ... vision ... عندما تتسع الرؤية تضيق العبارة... عندما تتسع الايديولوجيا تضيق الرؤية ... عندما تضيق الرؤية يتمدد الثابت والدائم والواحد و الهتافي و الحتمى و البليد و الابدى... عندما تغيب الرؤية يسود الموت/السكون سلام يا صاحب
| |
|
|
|
|
|
|
Re: فاصل حنق معلن .. او هِزال المشِيمة (Re: esam gabralla)
|
مازن يواصل فاصل الحنق العالى ....
Quote: العمى الأخرق. مناوشة الأبد بالأيسر المهتز: ربما. المتعالي، يجثم على رئة الفتى بماصات الأوكسجين. المتعالي ميدوزا، والفتي دؤوب على مطالعة مراياها السكونية، فخوراً بنزعة توخي الكمال لدى كبار المعتوهين وأرباب معاشات الفكر. المتعالي ثم نيتشة: ثم نيتشة: وما حسبت، بفرح هدوم العيد، أن “ماركس” أغلقه على الإرتكاس، يخبرك “نيتشة” وبرقص صاخب لاعن للمثال الزهدي، عن وطأته التي تعتصر كيس صفنك: أن الذي مات مازال ينتظر خناجراً أخرى تكحته بصخب المعدن. ألم ننتهي بعد؟ يتسائل الفتي في سرحان الحافلة، مجرجراً زهواً تشظى بورق منسوخ، ذو حواف مسودة لرداءة تصوير مجمع الأوقاف، بينما نيتشة يمزق الإرتكاسي أمام ناظريه، وهو مذهول ك “كائنات طيفية رقيقة وموشكة على البكاء”. “نيتشة” يفتت، يعلن، يندب، يثور، يعيد لغاتاً شاسعة لحظيرة أصوات بلا دلالة، أي بلا بهائمها العشيبة وخشبها المرصوف، ويبني أخرى كالكهرباء وقد وفدت حديثاً. وأنت تركض، تلملم بقاياك المنثورة في تقاليدك الفكرية، في تعارفاتك، مصالحاتك الكسولة مع صورة الفكر، النمط الوثير، راحة الحقيقة الموشاة بذهب اليقين. بلا إتجاه تحاول رصف المقابلات بمقابلاتها، العلامات بعلاماتها، النسق بمقابله، وأنى؟. حين تتبعثر الأنساق، عندما تركل قمامة الكليات، العقورة ككلاب المنازل، لاتجد سوى الشظايا تتغذي بلحمك وتغذيه. سوى ذلك اللون الرمادي بقابلية الحرباء، سوى الظنون. ألم يفطم وعرق بها نبي كمحمد، نصاً ك “رطانة الشظايا”؟. الإنتقالات، مصطحبة بالتبعثر، خيط يفصلها عن التوهان، بصيص يحجبها عن العدم. الإنتقالات تربطك ببرزخ اللاهناك وقد فرطت في الهنا. أليس من حكمة الكائن السمجة عشق ثباته، توفيراً لطاقة التكيفات العظيمة للإنتقال؟. هي عادة “العادة” المدمجة بقرص الضعفاء الصلب، وهي لعنة القادرين (و المعدين للقدرة) على الثبات (بكلسه السام) من أقران المتشسلفين، وهي ليست إعتباطية بقدر ما تخص مخاوف الكائن العاتقة، ومتوارث الخبرة في تركمها الغائر. إذن فكيف عبور الفتى؟. بوسعه أن يقول بأن لفداحة الإنتقالات مصلها المتكون بأنسجة الجسد الشخصي وبأنسجة الإنتقال. تبدو الأولى في كومة الطاقة المختزنة في ما يسبق الإنتقال (بالطبع، ليس بحماقة فكرة التأهب له) والأخرى بقوة دفع الإنتقالات نفسها، إذ تشحذ دفعاً ذاتياً لما بعد مراحل الإرتباك. الموضوعِيِِِِن في الإنتقال بلاطاقة الجسد، كمرافيد التنظيمات السياسية، مثلاً، من أولئك المانحين أنفسهم كلية لنشاط يقطع عنهم بغير رغبة، يجدون أنفسهم أمام خيار التبديل السريع (المدهش حقاً) للموقف السياسي والمنظومة، أو، الإنخراط في زمرة الثقافي (المهيئة؟). الدالفين من باب تغيير المنظومة، بما يحدثه الإنتقال القصدي، وغير الناتج لصيرورة فكرية في الغالب، يتورطون أول ما يتورطون في مأزق (السياسة للسياسة) غير القابل للإعلان بخلاف شقيقه (الفن للفن)، والمختلف عنه بنقطة فارقة بقطع، إذ لا يتاح وجود لسياسة لا تحيل (و بصورة صارخة) إلى نفعيتها الآنية بمباشرة إنعدامها يعيب، بينما الثقافي حقل يتحدد بمدى إعلانه لتجرده عما هو “غائي”، في صورته المباشرة والآنية بالطبع ( وماتزال صورة الفنان الرجيم، المتمتع بخسارات توشوش كَمرَته، وبسوء الفهم الآني لفنه، تداعب الفنان من الجانبين، المدعي المرفوض للتفاهة، والآخر المقصى لسوء فهم العصر الخسير). من هنا، لا يتوفر لفنان “الفن للفن” نفس القدر من عدم الإتساق مع الممارسة مثل سياسي “السياسة للسياسة”، بل ولا يواجه بذات تعثر الحصول على إتفاق إجتماعي يمنحه ماركة أخلاقية ما. إذن، هو خيار نجده يعرض السياسي لخسارات لا يطيقها إلا بإمتلاك قدر لازم من العبث والبشرة الجافة؛ لذا يتم تجنبه باللجوء للخيار الآخر: رفض المجال السياسي (اللافظ سلفاً) لمصلحة الثقافي (اللافظ لاحقاً) والدخول في مساحة تورط في إستمراء الخفة والآنية في مالايحتمل. وهو إختلاف في النَفَس إقتضته طبيعة الممارسة في كلا الحقلين، مورط لأفراد الحقلين في حال إنتقالهما. على عكس أطروحة العديدين من الجانبين، المنادية بجلل السياسة وجدارتها بالفنان دون سواه، والأخرى المنادية بتفعيل الفن لخدمة قضايا الآني. في كلا الحالين تعمل الإنتقالات علي تشويه الكائن إلا لمن إنتقل لركضه الفعلي. آه، الركض. والركض ما يميز الإنتقالات كلها، وأعايشه أكثر كركض ساساق، بين المركوض منه والمركوض اليه، بنكوصات هزيلة وشبحات أقدام. وهنا تعمل الصعبة فعلاً، درة الفلسفة المجيدة: الصيرورة. الصيرورة ركض العناصر في داخلك، فساد الممكنات في بعضها ورصفها المتبدل التراتبية، توليد الممكنات الجديدة من جثث ال “أبداً لن تعود” المهترئة. وأبداً، على عكس تبديها حين رصدها، لا تنتظم في حركة واحدة من إتجاه لآخر. وما الذي يتوظف؟ كل الذي هنا: كل اللحم، وهذا مفزع، فيميل الفتى ككل الفتية لتفضيل مكونات ليعمدها أساسية، وغالباً بعد وعيه بإختراق صيرورة ما للتجربة. أما خلال: فالرعب. التوازن المختل والتأرجح بين حسابات إعتباطية للخفة والثقل. الصيرورة عمل الخميرة. وبها تتحقق للفتي تسرية النقص، والنجاة المؤقتة من الضجر. وإن وهبتك لخازوق الوعي بها: القلق. و هي هنيهات من تذكر تعبر ساعات الركض تخبرنا عن الركض السالف، ملتذة بتأكيد، نادمة حيناً، و مشوشة في حال يباغتك الحالي بلاسلف ملموس، و إذ تبحث، تجد مراودات لصيرورات أخرى تقاطعت، و أخرى أخمدتها سوانح ما، و.... الآن نحن هنا! في قلب الرواية. دخلنا إليها من أجمع أبوابها؛ يتمدى من “سيرفانتيس” إلى “فوكنر”، “كويتزي” ، “كالفينو”، “سليم”، “باموق” و “أوستر”. ناظرين إليهم بعين مقالنا: و ماذا كانوا؟ سوى راصدي صيرورات عظام، لأمكنة، شخصيات، عوالم داخلية، و مفردات. و من أقدر على منحنا ذلك الفعل الموارب بمهارة في طيات اليومي مخلفاً تقلبات الصيرورة المرتمية بعد (و أحياناً، لدى المتلاعبين الكبار بالأزمنة، قبل) صفحتين أو ثلاثة. كيف تمنحه؟. بحدث، زخات وصف، إشارة فقط، تلميح موارب، نقوش طفيفة على الصخر ى”يصير” بعدها التمثال الذي دهشنا لجهلنا وجوده بالداخل، و منذ البداية. هنا، تسجل الرواية فارقها على تكثيف الشعر، بخاصة المعايشات المفصلة التي تمنحها الثرثرة، بسحب اليومي (و في الذهن السبة التي رمى بها البيان السيريالي الرواية: جنس لن يشفى أبداً من التفاهة) و التافه إلى حراك ثرثار يفتض المغلق من شرط الكائن. وهل أزعم؟ حين أقول بأن النافي الدائم- بتباديله و توافيقه ورصده للحركة- للمتعالي كان جنساً صغير السن، مبتدئاً في التعقب، مثل الرواية؟. على عكس تضاربات الفلسفة، بدت الرواية و كأنها على إحتفاء دائم بالصيرورة، قاطع و أقوى من تلاوين صناعها: صاخب لدى الرواية البيكارسيكية و بناتها روايات التشرد، مرن بإستخدام تعدد الأصوات، مندغم لدى تيار الوعي، محتال (ولذا مصاب في قيمته) بتكنيكات الرواية البوليسية، نافي للسببية لدى الفنتازية، و التعداد يطول ببعثرة التصنيفات الهشة وغير الدقيقة، ليبلغ رصداً لكل عمل على حدة، ومن الأعمال ما يصنع تصنيفاً وحده. هناك تصنيف راق الفتى لمدة “أنا” كاملة، و هو تصنيف رواية “التحولات”. و منذ “التحولات” ست الإسم، مروراً بإنمساخات أكثر عمقاً و حيلة كما لدى “كافكا”، و تلك التمتاز بالخفة لدى “ماركيز”، نلاحظ الصيرورة الباهرة. لدى كافكا نرقبها وهي تعمل: غريغور سامسا يقابل حنان الأخت و الأم (هنا مايزال غريغور سامسا إنساناً و لو مسخ لحشرة)، ثم التجاهل (الخادمة لم تخبر بأي شيء عن الكائن الملقي ب”المخزن!”)، ثم تم إنمساخه (يتم عزله تماماً عن صورة الإبن، و يبدأ كرهه بالنصوع لدى الأخت “الصديقة”) و في كل هذه المراحل، القابلة على الدوام لإستنباط مراحل وسيطة، تجد الصيرورة دعمها عبر: البداية الصادمة و التعاقدية الطابع، النثر الأقرب للغة مؤرخ صارمة متحاشية للطابع “الأدبي” تحديداً.الوصف الدقيق و الواقعي لدرجة تدغم اللاواقعي الوحيد - ضربة البداية التي أحالت الموظف البائس لحشرة ضخمة- في فيضان الواقعية اللاحق.أما لدى ماركيز (المنبهر بالإمكان الذي أتاحه له كافكا، و المتوثب لذاكرة جداته الكاريبيات) فنجد أن الصيرورة هنا تتخذ لباسها الأسطوري: نبوءة عن جنس المحارم المفضي لحفيد له ذيل خنزير\ أورسولا تعيش لأكثر من مائة عام \ ريميديوس الجميلة (و مترفة الغباء) تطير بتأثير ملائات الفراش. هنا، نجبر على التخلي عن الإقتناع بالواقعية الصارمة لنستبدلها بواقعية مؤسطرة تشكل منطق الرواية، منذ الجغرافيا المعزولة (المدينة كثيراً لفوكنر) بزوارها من الغجر المحملين بالعجائب، الجد المبتلى بالخيمياء، الأسماء المتكررة، الغياب و الظهور للشخصيات. عبوراً بأبناء و أحفاد و شهوداً على تعاظم سلالة تمنحنا إحساساً عظيماً بالزمن. ثم مسافدة محارم تسلمنا لرواية هي تاريخ خطه (سلفاً) غجري رحال، تكمل دائرة الرواية و تضاعف إحساسنا بالأسطوري الرابط. بمناسبة ماركيز، ما المتبدي في نص مقارره(على نسج مواطنه) البيروني ماريو بارغاس يوسا الموسوم ب”شيطنات الطفلة الخبيثة”، من أمر صيرورتنا المترصدة، ليأخذ مكانه في تعابرنا هنا؟ ماريو، المتبع لجرأة تقاليد بورخسية، يعمل على التكنيك بأشده، حريصاً في تجارب سابقة على إستحلاب السينمائي، توظيف التشكيلي، الشعري، النقدي بنتاجات متفرقة. ليفتحنا بنص شيطناته على تتبع صيرورتين تمتاز إحداهما بإنفصالها، لتوظيف زاوية النظر، و الإنقطاعات، عن السببية بصورة مدهشة، حيث يعري إنفصالنا عن ملابسات الشخصيات، عدا إشارات غامضة و غير موثوقة من الراوي، عن معايشة أي سببية تريحنا، و يفتحنا لمواجهة مرصودتنا بصحبة حزمة إستنتاجات بائسة و بأي حال غير مؤكدة، تماماً كما يقدم لنا الكتاب : الحياة. و هنا إمتياز تحققه الرواية على نسيبتها “ الحب في زمن الكوليرا” لماركيز. هذه النقطة - الصيرورة الثانية المجزأة بإحكام- تميز النص أيضاً عن نص يؤاخيه لإدوارد خراط، موسوم ب”بنات إسكندرية” حيث تتشظى شخصية واحدة -الطفلة الشيطانة لدى يوسا- لتصبح مجموع محبوبات (بنات إسكندرية) تتم مقابلتهن بنفس التباعد، مما يفقد خراط هذا الإمتياز، و معه إمتياز لذة مضاعفة، و واقي لتجنب إملال نفاذ دوافع القراءة. نقطة أخرى يخسرها خراط بإمتياز و يربحها ماركيز بحيلة و يوسا بجدارة، وهي إستخدام “الجسور”. و الجسور هي مجموعة الإستطرادات التي تعمل على خلق مساحة حبرية ملائمة لتكريس الإحساس بالزمن، و كفاصل ممهد لأحداث منثورة متباعدة على الزمني، و - وهي مهمة نافلة- لدعم المعايشة. برواية “خراط” تتراكب الأحداث (المتباعدة زمنياً) دون إمتلاءات غير ما يمنحه الحدث الرئيس، مما ينتج رواية صغيرة الحجم تلخص فترة زمنية واسعة، بضعف روابط تبدو معه كمجموعة قصص قصيرة متراصة، و إن كتبت بلغة تجعلني أفرفر طرباً. ماركيز الآخر بدا لي موظفاً للجسور بحيلة ماكرة و محققة للإقناع، و إن كانت غير كافية للتخلص من الإملال و الإحساس بإقحامها البارز هنا أو هناك ، و ذلك حين يقوم بتجبير قوام الرواية بواسطة مجموع مغامرات “فلورينتوا أريزا” الجنسية، الباهرة حيناً، والعامرة بحيل أيروسية، و تنوعات إغواء تمتد من الأرملة مستبيحة عذريته إلى فتاة المدرسة التي تبناها جنسياً، مروراً بفتيات فندق العابرين و الشاعرة المخذولة في جائزة مهرجان الزهور، زوجة القبطان و الأخريات. و هي جسر بارع لملء فترة زمنية تمتد عبر حياة الدكتور “جوفينال أوربينو” منذ زواجه (في المنتصف قصة خيانة زوجية مع خلاسية إبنة قس) إلى لحظة سقوطه الكوميدية من الشجرة أثناء محاولة إمساك الببغاء، و موته. أما لدى يوسا-الأبرع في هذا الشأن، كما أشرنا- فقد إستنفذ جسوره، و كان بوسعه بناء جسور إضافية إن أراد- فقد توطد في رصد العظيم من دنيوية الصيرورة، عبر ملاحقة الحياة المكتظة للطفل الطيب، و المتوازية مع تاريخ البيرو، و تاريخ المجال الثقافي بكل من فرنسا و إنجلترا، و بتاريخ مهني لمترجم يتدرج من الترجمات التحريرية للفورية لقدر ترجمة الأعمال الأدبية إلى كتابته لرواية تخصه. قبل كل شيء، أقول، هنا قصص حب عظيمة تدور، و بعد كل شىء أيضاً. هكذا، يشتعل الفتى بلذة مراقبة الحركة الثرثارة لصيرورة مفلترة، تحمل ضروراتها الملحة داخل سياقها المنتقى، و تختلف عن العالم و تؤكده في ذات التلاوين، و تبدو غامضة الجمال كلما توغلنا لفك أسر جمالها المقيد بطلسم الصنعة. الرواية، الرواية، و قبل كل شىء الرواية، اياها يعني الفتي كلما نطق، و لو كان الحديث يدور عن الدكوة -مثلاً- فالفتى يعني الرواية. الرواية عضوية. الرواية جسد، و حسية أكثر من جسد الفتى الشخصي. لن أمل تكرار نطقها وللذتي الشخصية لاغير، للذة في ذاتها، لهيولي اللذة: الرواية الرواية الرواية الرواية. و القاريء دوماً شخصية بالنص. فالنص كسول، ياللخيبة كم هو كذلك، و لذا يحتاج دائماً إلى مانح المعنى ذاك: القارىء. و القاريء فوق ذلك ليس موضوعياً بحال، و ليس منصفاً، بل و لا حتى ذلك القارىء النموذجي بذهن المؤلف. لا، مطلقاً (هل قلت مطلقاً؟)، و قناص الصيرورات العظيم، فوكنر مثلاً و أبداً، يجيد الإستفادة من هذا التوغل للقارىء ، و دعوته لإستباقاته الشخصية في النص: إنظر لعمل شراك محكمة كما ب“وردة لإيملي”، حيث توظيف كسل النص بنشاط لتضليل القاريء، و مهما كان الأخير حذراً، أعني مهما كان حسه النقدي عالياً، فهو سيسقط في الشباك الفوكنرية. حسناً، يسقط بالضبط لحسه النقدي العالي، ففوكنر ينثر لك كل الإشارات الذكية التي تسيرك بالطريق الخاطىء، أما اللاإشارات، و أعني تلك التي توضع بالرواية كلاإشارات، كجسور حافية، و التي يعتاد الحس السليم تجاهلها بوصفها تِمامة عدد، فهي التي تقودك للقراءة الصحيحة. فوكنر يوجه صفعة للحس السليم (يستحقها تماماً)، لعادات القراءة، للذكاء المحمل بفرضيات بذيئة من خارج النص، و يضحك: يبدو لي فوكنر ضاحكاً على قراء “وردة لإميلي” تماماً كما نضحك على كاريكاتير الحمار المربوطة أمامه الجزرة: ماذا يقول لنا إله المتاهة فوكنر؟:- “يالكم من محملين بعادات قراءة رزيلة، يالدناوتكم” هكذا يجب على النص أن يحرجنا. في آخر فقرات وردة لإيملى يكمل فوكنر واجبات القصة، وكأنه يخبرك بتلذذ سادي : إخرج لتغسل قدميك من رائحة الجوارب، ثم عاود الدخول إلى النص. و الرواية، و الرواية، و الرواية مزرعة الشكوكية الأم: ألا تخبرنا أكاذيباً صيغت بحيث تقنعنا كحقائق؟ ألا نعيشها كما العالم الخارجى؟ الرواية مثلما تعلمنا أن الكذبات التي بداخلها، حقائق معيشة لا جدال حولها، تغرس الإحتمال المخيف و غير القابل لدحضه: العالم الخارجي كذبة تخييلية ضخمة، مسبوكة بذات الذهن الذي يحاول نقدها، لذا: لن يتمكن من ذلك. حسناً، ما يبدو لي كإعتراف آخر: الرواية صديقة لكل نظرية مؤامرة و بذات الوهلة : الرواية أشرس أعداء الأيدلوجيا. كل الأيدلوجيين ،المتشسلفين و سواهم، يخنقهم تذوق الرواية (هل قلت كل؟). الرواية، حتى كاد الفتي يعلنها ديناً، لولا إنقضاء زمان هذه الصرعات، يسمى أتباعه بالرواويين مثلاً، و يحجون كل عام لمكان: براغ، موسكو، دبلن، باريس (بالرجوع إلى القرن التاسع عشر، عند توفر الوسيلة)، و القائمة تطول. ألا تلعب هي الأخرى دور الأفيون، بإستعارة ماركس الأشهر، عند لجوء الفتى إليها بأعقاب كوارثه الشخصية؟. |
| |
|
|
|
|
|
|
|