دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
خطاب الهوية في المسرح السوداني زمرة التجلي والكيقيات ...راشد مصطفي بخيت
|
راشد مصطفي بخيت [email protected] الحوار المتمدن - العدد: 1985 - 2007 / 7 / 23
مفهوم الخطاب: يمكن القول أن مصطلح الخطاب يعتبر ضمن منظومة المصطلحات اللسانية المعاصره والتي بدورها قد ميَّزت حمولته المفاهيمية بجعله يختلف عن مصطلح نص وكلام وكتابة وغيرها من المصطلحات التي تقع تحت دائرة اشتمالها المباشر، فهو يشتمل على أي إنتاج ذهني منطوقاً كان أو مكتوباً، فردياً أو جماعياً. لذلك فإنه بالضروره يتميز بإمتلاكه لمنطق داخلي يخصه وبإرتباطات مؤسسية، بإعتباره لا يقتصر على منتوج الذات الفردية التي يعبر عنها أو يحمل معناها فحسب، بل قد يكون خطاب مؤسسة أو فترة زمنية أو فرع معرفي ما(1)، أو ربما يجسد الخطاب في أحد تجلياته الطريقة اللأواعية في النظر إلى معطيات الحياة وردود أفعالنا تجاهها كما يعبر عن ذلك ميشيل فوكو بقوله: يبدو الخطاب في ظاهره شيء بسيط للغاية، لكن أشكال المنع التي تلحقه تكشف باكراً عن ارتباطه بالرغبة وبالسلطة، وما المستغرب في ذلك ما دام الخطاب، وقد أوضح لنا التحليل النفسي ذلك، ليس فقط ما يظهر أو يخفي الرغبة، لكن هو أيضاً موضوع الرغبة. ومادام الخطاب والتاريخ ما فتئ يعلمنا ذلك ليس هو فقط ما يترجم تلك الصراعات أو أنظمة السيطرة بل هو ما نصارع من أجله وما نصارع به وهو السلطة التي نحأول الاستيلاء عليها(2). وبهذا المعنى، فمن المفترض أن الخطاب غالباً ما قد يكون واقعاً تحت تأثير العديد من المتغيرات التاريخية والمعرفية على حدٍ سواء، ففي فترة ما أوحيث الوقوع في مغبة أي من أنظمة الرضوخ والتسلط قد يسود خطاب آيدلوجي/ سياسي/ ديني/ دفاعي، ليس هو بالضرورة الخطاب الوحيد في تلك الفترة بل ربما تكمن وظيفته الاساسية في الامتداد والسيطرة على أذهان المجموعة البشرية التي يخصها عمداً أو عن غير عمد. إذن فإن الخطاب في معناه الاصطلاحى المعاصر يعني الكلام المنظم عن اشياء بالسكوت عن اشياء وإبراز الأخرى، وبعبارةٍ أخرى الاستدلال على اشياء بأشياء أخرى مع إغفال الكثير من الاشياء(3). ولكل ما تقدم، يقع مصطلح (خطاب) ضمن مصطلحات المنهجية الحديثة في قراءة وتفسير النصوص والتي من أهم فوائدها أنها تعلمنا الانتباه ليس فقط إلى ما ينطق به النص والكيفية التي ينطق بها، بل توجه اهتمامنا أيضاً إلى النظر فيما سكت عنه النص والكيفية التي بها سكت(4)، ليصبح بمقدورنا محاكمة ما تجلى من منطوق ذلك النص ومعرفة ارتباطه بأي من الخطابات السائده في ذلك السياق المنتج بداخله. ومن ثم فهو يساعدنا على معرفة الاغفالات والتجأوزات التي تمت لعدد من الاطروحات الأخرى في ذات السياق ليتضح ما إذا كان لهذا الاغفال أدواراً آيدلوجية أو سياسية أخرى يلعبها.
المسرح والهوية الثقافية: إذا كانت الهوية الثقافية تعني في أحد وجوهها مجموع السمات النفسية والاجتماعية والحضارية المرتبطة بطرق تفكير وحياة جماعة ما من البشر عبر تاريخ طويل، فلا شك في أن هذه الماهية هي القاسم المشترك الأكبر بين الهوية والمسرح. باعتبار أن المسرح عمل ابداعي اجتماعي بكل الصيغ والنبرات والاجتراحات، ذلك لأن الابداع ليس اجتماعياً فقط من حيث دوافعه وشروط إمكانه بل هو اجتماعى في مضمونه وأدواته كذلك وهو، من هذا المنظور، عملية ذات أبعاد اجتماعية تستمد مقوماتها من ثقافة الجماعة وتسهم في نفس الوقت في تغيير الحساسية الفنية والجمالية لدى الافراد(5). وأينما وجد ذلك المجموع البشري، بثقافته تلك، كان للمسرح حضوره المتواقت مع ذلك الحدث. فالمسرح هو العمل وهو التسلية، إلا أن أكثر ما يميزه هو أنه تمثيل مع آخرين من اجل آخرين، إنه ذلك التعايش المشترك والعمل المشترك، ولأنه كذلك، وأكثر، إستمد سلطته وأصبح الأداة الأثيره للذين ينشدون المتعة والحرية والشعور بذواتهم والتعبير عن هوياتهم. فهو يستخدم الآن، وفي كثير من بلدان العالم، من قِبَل المهمشين عرقياً أو طبقياً(6) لكفاءته وفعاليته في التصدى للقضايا ذات الصلة المباشرة بالصراعات القائمة على نزاع الهويات والتمييز العرقي. ذلك لأن المسرح جوهره الصراع وأن الانسان فيه هو إنسانٌ متعددٌ وذاتٌ مختلفة، يستمد هذا التعدد من تنوع الافكار التي يتعامل معها ويطرحها، وبالتالي من تعدد الثقافات التي تنتج هذه الافكار. فبناء الشخصيات المسرحية في العمل الدرامي ينبغي، بالضرورة، أن يكون هو الحامل المتعادل بنائياً لمجموع مختلف من الثقافات المُعَبَّر عنها بوساطة هذه الشخوص، وبالتالي إبراز التصورات العامة واتجاهات التفكير واللاشعور الثقافي بكل حمولته المستقاة من الإرث الحضاري والعادات والتقاليد والمؤثرات الثقافية الاخرى التي تشكل مضمون الهوية الفردية. وبما أن الابداع عموماً والمسرح على وجه الخصوص هو عمل جماعي، فهو إذاً ينهض على التعبير عن إرادة الفرد باعتباره جزءاً من المجتمع وضمن إطاره. فالكاتب والفنان والمفكر يكتب أو يمثل أو يفكر عبر تجربة المجتمع، ولذلك فلكل ابداع طابعه الهَوِيَّوِي المحلي، حتى وإن اتَّخذ بعداً عالمياً. وهكذا يمكن أن يُفهَم أفلاطون وابن رشد والمتنبي وشكسبير وروسو ولوك وماركس ورسل(7). ذلك لأن الكتابة الابداعية تعنى في أحد وجوهها أن يفكر الإنسان بواسطة الثقافة التي ينتمي اليها، ما يعني التفكير من خلال منظومة من القيم تتشكل احداثياتها الاساسية في الانتماء لهوية محددة مرتبطة بذلك الإنسان وتلك الثقافة. وبهذا الشكل يمكن القول إجمالاً بأن التعبير المسرحى يرجع في نهاية الأمر إلى تعبير عن انتماء وهوية معينه تتضح ملامحها بسهولة على الانشطة الإبداعية كافةً. فالموضوع هو ممارسة يومية لكل انسان ولكل مجتمع، ولا تستقيم الحياة الاجتماعية إلا في إطار الهوية، فهي الاسم السياسي للشخصية التاريخية أو الشخصية الثقافية أو الكيان الحضارى لمجموعة من البشر في مكان معين، كما وأنها تمثل الحقائق الحضارية التي ابتدعتها المجموعة التي تنتمي إليها من لغة ودين وقيم جمالية وأخلاقية وأنماط علاقاتٍ اجتماعية(8) واقتصادية وتاريخية. وقد أثبتت بعض التجارب المسرحية العالمية أن المسرح، كجنس ابداعي يمكن أن يساعد في التعرف على الهويات الإجتماعية المختلفة، والكشف عن أعمق بنياتها الدفينة في العقل البشرى. ووفقا لذلك بدأ الرجال والنساء الملونون في استخدام فن الأداء للبحث عن هويتهم ولاستكشاف اهتماماتهم الإجتماعية والثقافية والعرقية الخاصة والتعبير عنها. وشعرت النساء الملونات في مجموعة (المرأة العنكبوت) أن ادعاء المجموعة للتنوع لم يكن سوى تكرار للديناميكية الإجتماعية المعروفة التي هى في نهاية الأمر قناع لسيطرة البيض(9)، كما حاولت بعض المجموعات السودانية، كمجموعة (كواتو)، التواصل مع هويتها الثقافية من خلال الاستفادة من المسرح، فخلقت بذلك شكلاً متميزاً يمكن تسميته بـ (مسرح الهوية الثقافية) أو (مسرح البحث عن الذات).
خطاب الهوية في المسرح السوداني: على الرغم من أن إشكالية الهوية الثقافية للمجتمع السوداني قد طرحت في خضم الدراسات المسرحية، منذ وقت مبكر، وسابق لكل الفنون السودانية الأخرى، إلا أن صيغة السؤال الذي طرحت به شابَهُ الكثير من الالتباس والتعثر حتى تباعد عن الصيغة التساؤلية التي كان ينبغي أن يُطرَح بها، وهي صيغة المحاولة على الإجابة عن السؤال حول ماهيَّة هوية المجتمع السوداني ككل، بعيداً عن طرح السؤال في صيغة البحث عن هُوية خاصَّة للمسرح السوداني نَفسه. فلقد تجاوز سؤال الهوية المطروح بهذا الشكل، في خضم الدراسات المسرحية، طَرْح السؤال الكلي والمحوري الذي يُفتَرض أن يجيب على اسئلة الهوية بالنسبة للمجتمع السوداني ككل، كما تعاملت مع ذلك الفنون السودانية الأخرى كالشعر مثلاً. لذلك رأينا أن سؤال البحث عن هوية لمسرح سودانى يجب أن يتحوَّل، بالضرورة، إلى سؤال عن هوية المجتمع السوداني عبر المسرح، ومن ثم يتم رصد الكيفية التي تعامل بها الخطاب المسرحي مع هذه الاشكالية عبر تاريخه الطويل في التأليف والتنظير بغرض تقويم هذه الكيفية والمساهمة بشكل جدِّي في طرح واحدة من أكبر مشكلات المجتمع السوداني، وهي المتعلقة بمُشكِل الهوية والصراع العنصري، والتي تحوَّلت في تاريخنا الحديث إلى محرك أساسي للصراع بعد أن كانت في سابق عهدها تجلِّياً له. فكيف لشعب لا يعرف هويته، أو هوياته المختلفة، أن يبحث عن هوية لمسرحه الخاص؟! وعلى هذه الخلفية نعيد طرح السؤال بصيغة مختلفة تبحث عن تجليات خطاب الأزمة الأم، وهى أزمة الهوية الثقافية للمجتمع السوداني عبر خطاب المسرح في مستوياته المختلفة من كتاباتٍ وتآليفَ وعروضٍ وآراءِ بعضِ الرواد المنظرين له. فلقد طرح أحد رواد الحركة المسرحية السودانية السؤال، منذ وقت مبكر، بذات الصيغة التي نقترحها الآن، وهو الفكى عبد الرحمن، وذلك عند ما عبَّر عن هذه الاشكالية قائلاً: نحن أفارقة جغرافيِّاً ونتحدث بالعربية، فهل نتبع المسرح العربى أم نتبع التجربة المسرحية في أفريقيا، أم نمزج بين التجربتين؟(10). وهو بهذه الطريقة يكون قد تلمس أوجه الكيفية الصائبة التي ينبغي أن يُطرح بها السؤال داخل فضاء الدراسات المسرحية في ارتباطها بالانسان، والذي هو في نهاية الأمر ارتباط مباشر بالمجتمع وبإشكالاته وقضاياه. وبذات القدر هنالك العديد من الآراء والتوجُّهات الأخرى التي عملت على تجاوز هذا الطرح وحاولت لَي عنق الحقائق في كثير من الأحيان مما سيجيء الحديث عنه في أوانه، خصوصاً تلك الآراء التي تناولت موضوع الهوية في مسرحية (المك نمر) للكاتب السوداني إبراهيم العبادى. وقد لاحظنا أيضاً أن هنالك بعض الآراء الاخرى التي اقتربت من هذه الصيغة التساؤلية إلا أنها اتخذت مساراً آخرَ في وقت لاحق، مثل آراء الدكتور عثمان جمال الدين التي طرحها عام 1987م عبر صحيفة (السياسة) السودانية، قائلاً، آنذاك، بأن الوقت قد حان لنتحدث بشدة تشوبها الحدة والصراحة، فالعرض المسرحي لا يمكن تقديمه بشكل سري. ماهى علاقة المسرح بالدولة والدولة بالمسرح؟ وهل هذا المكان هو مسرح قومى حقاً أم تسمية فقط؟ وهل نشاهد عليه مسرحاً قومياً أم خرطومياً؟ إنها أسئلة تحتاج إلى أجوبةٍ حاسمةٍ وجريئة(11). وقد استنتجنا من هذا الحديث، وبهذه اللهجة الغضوب، أن سؤال قومية المسرح السوداني الذى تم طرحه لا بد أن يكون قد طُرِح على خلفية بعض التحيزات أو الهيمنة الثقافية التي عَبَّرت عنها نصوص أوعروض المسرح السوداني في تلك الفتره. كذلك أشار الكاتب (يحيى فضل الله)، بذات الكيفية، إلى الطريقة التي ينبغى أن يكون عليها سؤال الهوية مطروحاً على المسرحيين السودانيين، حيث أشار في إحدى كتاباته إلى أن هناك معضلة أساسية واجهت كل الحركات المسرحية، وهي أنها تمت في وسط السودان فقط، وعلى الرغم من تنوعه، وأنها كُتبت بلغة الوسط (خطوبة سهير على سبيل المثال). لكن .. السودان متنوع بين عرب وزنوج وغيرهم. وطالما أن هناك انساناً بكل تكتلاته، فهذا معناه أن هناك موضوعاً فنياً معيناً، وبالتالي موضوعاً مسرحياً، لكن نحن حتى الآن، كمسرحيين، لم نستفد من هذا التمازج بين ما هو عربي وما هو أفريقي كثيراً في حركة المسرح إلا في بعض الاشياء المبسطة(12). ثم يستطرد مواصلاً تساؤله عن غياب الخط الأفريقي في المسرح السوداني وعن بعض المواقع التي يمكن تلمُّسَهُ فيها. أما عن الدعوة الشهيرة التي قدمها الكاتب المسرحى يوسف عايدابي (مسرح لعموم أهل السودان) فنرى أنها، رغماً عما تشير إليه من دلالات قومية تتفق وطرح سؤال الهوية، إلا أنها لم تبحث في ذات المسار الذى نفترضه، بل اهتمت بالبحث عن هوية لمسرح سوداني يمكن خلقها وايجادها بالاستفاده عن معطيات الموروث الشعبي. وهذا ما عبَّر عنه صاحب الاطروحة، في حوارٍ أجريناه معه، عندما قال إن دعوتنا لمسرح عموم أهل السودان تنهض على الاستفادة من تقنيات الأداء الموجودة ضمن الموروث الثقافي في عملية تطوير معملية لبعض الموروثات. وهنا يجب التحدث عن التداخل بين الثقافات التي بينها قواسم مشتركة، فيجب أن نعلم أن هناك تداخلا وهناك خصوصيات، فلو طلب منى أن اقدم (نبتة حبيبتى) بأجوائها الطقوسية، وذلك القمر والنجم، فيجب ان أسال نفسى عدة اسئلة؛ مثلاً ماهو التمثيل المناسب لهذه الطقوسية ولماذا يجب أن يكون سودانياً ومتناسباً مع الأداء؟ هذا الأمر هو الذي كان همنا. فمثلا كنا نقدم رقصة (الصقرية) عند البني عامر لأن هذه الاشياء يمكن أن يكون لها قوالب توصلك الى الجمهور(13). وهذه الفرضية تنهض على ذات الأرضية صاحبة الصيغة التساؤلية الاشكالية التي أشرنا إليها من قبل والتي تتجاوز حيثيات الصراع الهويَّوي في السودان وتهتم بالبحث عن هوية لمسرح سودانى الشكل. وحتى نستطيع أن نجلي وجهة نظرنا بوضوح في هذا الصدد علينا ان نفكر معا في هذا التساؤل الذى يقفز على أرضية الكل المركب بحثا عن جزء منفصل ليس هو الثابت في طرفي هذه المعادلة وإنما على العكس من ذلك هو المتغير المرن والمستجيب لمقتضيات الصراع في كل مكان. في زمن أصبح فيه الحديث عن هوية سودانية واحدة ضرباً من الشعوذة البحثية واتجه النظر المدقق إلى اكتشاف هويات سودانية تقوم على التنوع والإختلاف في كل مركبات موضوعة الهوية نفسها من لغة ودين وتراث مشترك وأنماط انتاج وخلافه، هل يجوز بعد كل ذلك أن نبحث عن صيغة هويَّويه واحدة لمسرح سودانى؟!
خطاب الهوية في مسرحية (المك نمر): رغماً عن أن المسرحية التي يعود تاريخ كتابتها الى العام 1927 هى من أول المسرحيات التي تناولت موضوع الهوية الثقافية والصراعات العرقية في السودان، وبصيغة واضحة المعالم والتخوم وقعت بوضوح وجلاء شديدين في فخ التحيز للمجموعة العربية في السودان، إلا أن أغلب الدراسات التي تناولتها تغافلت عن هذا التحيز الهام في مسار تكون الوعي بهذ الأزمة ذات الطابع الإستبعادي القائم على ضرورة نفي الآخر وعدم الإعتراف له ولو، على الأقل، بانتسابه إلى رقعة جغرافية تآكلت من جهاتها الثلاث، عدا الشمال، نتيجة لهذا الوعي ذي المضمون الإستبعادى نفسه. ولم تشر، ولو على سبيل المغازلة، إلى ذلك الآخر المنفي ذاته في حدود خارطته نفسها. فقد عبَّر كاتب هذه المسرحية (إبراهيم العبادى)، وعلى لسان أحد شخوصه، وهو (النصيح)، عن كل ذلك الوعي الاشكالي القائم على اعتبار السودان موطنا للقبائل الشمالية فحسب وهذا عندما قال: ـ "يا روس القبائل انتو تحيوا تعيشو/ وجناح العرب بيكم يهبهب ريشو/ ما تحاسبونا بى اعمال سفيهنا وطيشو/ الريس عليهو يضارى عورة ديشو/ انحنا عرب اصال في جزورنا عالية انسابنا/ هدَّانا الخلاف بسيوفنا نفنى رقابنا/ يا روس العرب بالدرقة لمو عقابنا/ نبقى أولاد رجل الغير يعملوا حسابنا" ـ "جعلي ودنقلاوي وشايقي شن فايداني/ غير خلقت خلاف خلت اخوي عاداني/ خلو نبانا يسري مع البعيد والداني/ يكفي النيل ابونا والجنس سوداني"( 14) وبذلك، ورغم أن ظاهر المسرحية يخبر عن دعوة واضحة للتخلي عن التعصُّب العرقي في السودان، إلا أن المؤلف تجاوز عامداً العديد من المجموعات الثقافية السودانية الأخرى غير الشمالية، والتي من المفترض أن يُبنَى الحديث عن التسامح الثقافي على أساسها، لا بتجاوزها مطلقاً، مثل كل المجموعات الافريقية في جنوب السودان والأنقسنا وجبال النوبة والبجة والفور، والتي هى رأس رمح مُشْكِل الهوية الثقافية للسودان، مثل ما تعلمنا ذلك ضمن مباحث مشكلة الهوية السودانية، بالاضافة إلى كون السياق التاريخى الذي تشكل بداخله وعي الكاتب وخُطَّت فيه هذه السطور، لم يكن بمعزل عن حيثيات ذلك الصراع الهويَّوي. فالثابت تاريخياً أن هذا الصراع حول هوية السودان قد برز إلى سطح المجتمع قبل تلك الفترة بسنوات عديدة، متجلياً عبر عدد من الأشكال المختلفة، مثل الصراع الذي نشب بين علي عبد اللطيف وسليمان كشة بعد أن جمع سليمان كشة، في خريف 1923م، وكجزء من أنشطة جمعية الاتحاد السوداني، القصائد التي تُليَت في ليلة مولد النبى (ص) ونشرها في كتاب بمقدمة بدأها بـ (الشعب العربي الكريم)، واحتجَّ علي عبد اللطيف على ذلك، وكان رأيه ألاَّ يكون ثمة فرق بين العرب والجنوبيين(15). وقد سبق هذا الصراع بفترة تزيد على ثلاث سنوات أيضاً شاهد تاريخي آخر على هذا الصراع، هو تلك الوثيقة الشهيرة والموقعة بـ (ناصح مخلص أمين)، والتي وزِّعت في شتاء 1920، والتي ركَّزت على مسألة استبعاد البريطانيين للقسم السامى والحر أكثر من تركيزها على استبعاد الوضيع والعبد، وأن البريطانيين مدانون طالما أهانو الناس ذوي الشأن ـ يقصد العرب ـ ورفعوا الطبقات الدنيا والوضيعة ـ يقصد الجنوبيون ـ بل وتتميز هذه الوثيقة بتحاملها الشديد على الجنوب غير العربي وغير المسلم(16). إذن، وبالقياس على هذه الشواهد التاريخية السابقة والكثير من الشواهد الأخرى التي لا يسع المجال لذكرها جميعاً، مثل تلك الثورات الثلاث التي نشبت في جنوب السودان (ثورة الشُّلك والدِّينكا والنُّوير)، لا يبقى لدينا مجال لتبرير ذلك التوجه في كتابة العبادى بحجة السياق التاريخي ونسبية الوعي بهذه المشكلة في تلك الفترات.
تجليات النزعة السنارية ضمن خطاب الهوية في المسرح السوداني :- نرمي من استخدامنا لمفردة (النزعة) هنا التفريق بينها وبين مفردات أخرى كثيرة تفيد نفس المعنى في مجالات ومباحث أخرى ذات دلالات إيجابية في كثير من الأحيان، بحيث يأتي النزوع هنا مترادفاً مع الاحالة المتعمدة إلى مرجعية واحدة ليست بأي شكل المرجعية الوحيدة بشأن الموضوع المُتَوَجَّه إليه نَزعَوِيَّاً. ونقصد بموضوع (النزعة السنارية)، على وجه الدقة، تلك النصـوص المسرحية العديدة التي اتخـذت من سـنار (السلطنة الزرقاء) مُلهِمَاً ومصدراً أساسياً لموضوع كتابتها الابداعية، كتفرع للاتجاه الآفروعروبي في مجالات فنية أخرى. والنزعة السنارية، كما هو معروف عنها، نزعة تميل الى اختزال مجمل التاريخ السوداني، والذي يعود إلى مراحل ما قبل التاريخ، بدءً بانسان سنجة ومروراً بكافة الممالك والحضارات السودانية القديمة في نقطة تاريخية واحدة معزولة عن هذه السيرورة المتصلة هى سنار المملكة، التي شهدت أول التقاء مؤثر للثقافة العربية الاسلامية بالثقافة الافريقية في السودان، وأصبحت بذلك هي الجِزر المفهومى المؤسس لانطلاق هذه النزعة في مختلف الحقول الابداعية. وقد برز هذا الجزر، أول ما برز، في مجال الشعر، محاولاً تدعيم دعوة (حمزة الملك طمبل) الشهيره إلى قومية الشعر السوداني وتطويرها، من خلال عكس مفردات التداخل الثقافي بين تلك المجموعات، ومتخذاً من سنار رمزاً لهذا التداخل والتعايش السلمي، ومعبِّراً عن هوية الشعب السوداني الهجين. ثم امتد هذا الاتجاه ليشمل الكتابة الابداعية في مجال التأليف للمسرح بذات التوجه، بدءاً بمسرحية الطاهر شبيكة (سنِّار المحروسة) والتي كتبت في العام 1966م، مروراً (بحصان البياحة) ليوسف عيدابي، و(ريش النعام) لخالد المبارك، انتهاء بتجربة (بين سنار وعيزاب) التي أعدَّها عثمان جمال الدين وأخرجها للمسرح علي مهدي نوري في العام 2006م. ورغماً عن ذلك الاختلاف الواضح بين هذه النصوص، من حيث انتقائها للمادة التراثية موضوع المعالجة، وكيفية المعالجة نفسها، إلا أن القاسم المشترك الأكبر بين جميع هذه النصوص هو اتخاذها لمملكة سنار مرجعية تاريخية ومفهومية تبحث من خلالها عن هوية سودانية تمثل المُعَبِّر عن الوجدان الجماعي السوداني. فمسرحية (سنار المحروسة) مثلاً تبدأ بلقاء ملك الفونج بشيخ العبدللاب، وبعد السؤال عن الحال يدور الحوار التالى: الملك: العوين الشيخ: مستورات ومكجورات ومحجوزات الملك: العلماء والأولياء والصالحين ، كيف حالن ؟ الشيخ: حالن زين البعلم منهم بعلم والبمسك الطريق بمسكه والحيران جميع جالسين ومتأدبين لي حضرتن وطابقين الورك في جلستن. الملك: والدين والشريعة .. الخ. ويستمر الحوار إلى أن يصل: الشيخ: بالحيل ياملك الملوك يحكو لينا اهلنا القدام الله يرحمن قالو نحن ناس قبيل جينا من الجزيرة العربية بلد الشريف السمحة وفي زمان زمن عمارة دنقس اللمه الصعيد والسافل جماع جميع السافل. الملك (مكملاً): وحاربو الفنج النصارى في سوبا وخربوها خراب يضرب به المثل(17) من خلال هذا الحوار يسهل استخلاص بعض الدلالات التي تؤكد انتماء المسرحية لهذه النزعة، فهي، أولاً، مستوحاة من (كتاب الطبقات) الشهير لود ضيف الله، والذي يعتبر الوثيقة الأم في تاريخ المملكة نفسها، لدرجة تطابق نصوص بعض حواراتها مع النصوص التاريخية الموجودة في الكتاب. ثم إن الرجوع لاستلهام التراث ليس مبرءاً من التوجه الآيدلوجي بأي شكل، وإنما هو استرجاع لنقطة هامة في مسار ومنحنى التاريخ الثقافي للمجتمع السوداني لا شك في انه ملغوم بعدد من المحازير التي وقعت فيها هذه المدارس المنضوية تحت لواء النزعة السنارية. فسنار المملكة الزرقاء يتم الرجوع إليها باستمرار للبحث عن صيغ تماثلية تجسد التصور العام الذى يجب أن تكون عليه الهوية السودانية وبذلك يتم تصويرها كرمز للتعايش السلمي والسماحة المنشوده والمعاملة الكريمة التي سادت حياة العرب والأفارقة حينها. وهذ القول أو تلك الاستعادة لا تخلوان من كثير من التجاوزات التاريخية والاجتماعية كما أوضح ذلك الدكتور عبد الله بولا. فأقل ما يمكن أن يقال في هذا الخصوص أن سنار كانت، في جملة ماكانته من حسن وقبيح، سوقاً لتجارة الرقيق، وفيها نصيب لا يمكن انكاره إلى جانب التجارات الأخرى. فإلى جانب الوثيقة التي أوردها أبو سليم وسبولدنق التي تتناول علاقات الرق بالمجتمع السناري، فإن كتاب الطبقات نفسه احتوى على أنباء الرقيق منثورة بين ثنايا تراجمه لأعلام ذلك العهد في أكثر من ثلاثين موضوعاً بين ص 59-361، كما لاحظ ذلك محمد ابراهيم نقد في كتابه (علاقات الرق في المجتمع السوداني). وأخشى أن يحتج علينا أحد بحجة المعاملة السمحة التي يُفترض أن الرقيق كانوا يلقونها في مجتمع سنار الصوفي القائم على مبدأ كرامة الانسان الحق في الاسلام. ويكفي لبطلان هذه الحجة ما أورده ود ضيف الله في ترجمة الشيخ حمد النَّحلان، شائب الصوفية كما كان يُسمى كناية على جلال مكانته بين القوم، وقد كان نموذجا في المودة والورع. فقد جاء في تلك الترجمة أنه كان يابساً من اللحم والدم، وسموه الناس (النَّحلان) فخرج من الدنيا وقال فتحت باب الله وقفلت باب المخلوقين، فكان لا يقبل الهدية ولا جاه له ولا شفاعة ولا يكتب الحجب كعادة الأولياء وليس له حرفة أو زراعة، ومع كل ذلك فقد رد على أحد مقاديم الملك بادي الأحمر حين هدده بالقتل قائلاً: تقتلنى ياعبد كازقيل يا آكل الضُّبابة، وقد شرحها البروفسور يوسف فضل – أي كازقيل – بأنها موضع في كردفان يقطنه العبيد الذين لا سادة لهم وهم أحط درجة في نظر رصفائهم المنتمين إلى سادتهم(18). لم تختلف كافة النماذج الأخرى من السَّير قدماً في ذات الاتجاه، فمسرحية حصان البياحة على سبيل المثال تتكئ على كتاب الطبقات مباشرة، حتى كتب عنها الدكتور عثمان جمال الدين قائلاً: "لقد استدعى يوسف عايدابي من بطن كتاب الطبقات الشيخ حسن ودحسونة والشيخ فرح ود تكتوك واسماعيل صاحب الربابة والشيخ ادريس ود الارباب وسلمان الطوالي الزغراد وعبد الله إبن صابون والمسلَّمي، مطوعاً هذه الشخصيات الدينية في نسيج ذي دلالات ايحائية تكشف عموماً عن أن هذا التراث دائب الحضور في وجدان الانسان السوداني لأنه جزء من ذاكرته(19)، كما قال أيضا عن مسرحية (ريش النعام) لخالد المبارك أنها أتت كإشارة ضمنية إلى المكونات الاثنية في السودان وتمازجها وتسامحها على مدى القرون(20) ذاهباً في ذات الاتجاه الزاعم بسماحة وتعايش المجتمع السنارى القديم. بقي أن نشير، بالاضافة إلى كل ما تقدم، إلى بعض الفرضيات الفكرية عنصرية المنشأ، والتي تتمدد في مخيال هذا الاتجاه، وتؤسِّس له، حيث تقف دعوة الآفروعروبية بيولجياً على ما روَّجه المؤرخون والإثنوغرافيون خلال هذا القرن من أن سكان شمال السودان هجين عربي أفريقي. وقد صدرت هذه النظرية في سياق نقد هؤلاء لمزاعم النسَّابة السودانيين من أهل الشمال في إلحاق أهلهم بنسب عربي صريح. فساءهم اسقاط النسَّابة لاختلاط الدماء العربية الأفريقية في من عدُّوهم عرباً أقحاحاً. فهارولد ماكمايل مثلاً يصف الخليط من النوبة والبقاره والعرب، ممن أقاموا على النيل من القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر، كهجين آفروعروبي، وقد تبعه في ذلك جمهره من العلماء أمثال ج.ترمنقهام ويوسف فضل وسيد حامد حريز ووليم آدمز وحيدر ابراهيم وغيرهم كثير. ونقول استطراداً بأن دعوة الهجنه في أصولها العرقية عند ماكمايل، وتجلياتها الثقافية عند ترمنغهام، تنطوي على فرضية انحطاط، وهو انحطاط نجم في نظر دعاتها عن امتزاج العرب المسلمين بالنوبة الأفريقيين. فقد جاء عند ماكمايل ما يوحي بأن الدم العربى أرفع من الدم الأفريقي. وجاء عند ترمنقهام أن الهجين العربي الافريقي قد سرَّب من العقائد إلى الاسلام ما أدخله في الوثنية. ومن الواضح أن المكوِّن الأفريقى في هذا الهجين هو أكثر مَن تأذى مِن نظرية الانحطاط هذه، فقد ردَّ ترمنغهام عصبية البقارة التي ناصروا بها المهدية إلى غلبة الدم الافريقى فيهم(21)، وهذا يشير بوضوح إلى أن الخلفيات الفكرية التي تأسست عليها افتراضات هذه النزعة هي خلفيات لا تَخرُج من دائرة (المركزية العرقية)، ولا تتفق مطلقاً مع أسس الموضوعية والمنهجية العلمية غير المتحيزه.
تجارب مختلفة ضمـن خطاب الهوية في المسرح السوداني: من الملاحظ أن هناك العديد من التجارب المسرحية السودانية التي دخلت معترك مباحث الهوية السودانية، لكنها لم تشكل تياراً أو مدرسة في مستقبل أيامها، غير أنها تتوحَّد بنسيجٍ رفيع من الرؤى والاحداثيات الفكرية ساهمت من خلالها في توضيح أو استنتاج أو مناقشة مآلات الخروج من هذا النفق المظلم. ومن أبرز هذه النماذج مسرحيَّتا عبد الله علي ابراهيم (الجرح والغرنوق) و(السكة حديد قربت المسافات .. وكثيراً). فكتابات هذا الكاتب المسرحية لا تختلف كثيراً عن كتاباته الفكرية والثقافية الأخرى، إذ كثيراً ما تلاحظ أنها تعبر عن فكرة واحدة، أو تطرح مشروعاً فكرياً واحداً، هو مشروع عبد الله ورؤاه السياسية، فكثيراً ما عبرت هذه المسرحيات عن رؤى الكاتب في التاريخ والثقافة والعرق والطبقة(22)، بحيث لا تختلف الارضية المفاهيمية أو المرجعية المعرفية نفسها للكاتب بقدر ما اختلفت أشكال التعبير عنها، وهذه ملاحظة جديرة بالتوقف عندها، ولو قليلاً، لمحاولة استكناه وجه الشبه بينها وبين الأساليب التي راجت على مستوى خارطة التفكير العالمية والعربية والمحلية. فمثلاً عبَّر سارتر، وهو الفيلسوف والأديب والمسرحي، عن مجمل أفكاره في مسرحياتٍ له مثل (الذباب) أو (الآخرون هم الجحيم) أو غيرها، كما فعل نيتشة أيضاً، وكذلك (ريجيه دوبريه) عبر الرواية، وبرتولد برشت عبر الشعر والمسرح، والفيلسوف الألماني ليسنغ عَبْر المسرح، تماماً مثلما فعل الشيء نفسه محمود أمين العالم في كتاباته النقدية، وعبد الله العروي في رواياته. وفي السودان اشترك في هذه الصفة ايضا العديد من المثقفين، منهم عبد الله على ابراهيم نفسه في القصة القصيرة والمسرح، وكمال الجزولى في الشعر، وبولا وحسن موسى والكثير غيرهم، أفَلَيسَت هذه الملاحظة جديرة بالتوقف ولو قليلا؟! عموماً يمكننا الاجابة على هذا التساؤل في مبحث آخر، حيث لا يسع المجال لهذا هنا، إلا أن ما دعانا للاستطراد في هذه الناحية، هو ملاحظة ارتباط العقلية الابداعية بالنظر الفاحص في المستوى الفكري والمعرفي. لقد تضمنت مسرحيات عبد الله على ابراهيم العديد من المحاور الجريئة التي وظَّفَها لخدمة قضية الهوية والصراع العرقي وكيفيات تجليها الاجتماعي، فنقرأ مثلاً من مسرحية (الجرح والغرنوق) هذا الحوار الذي يعبر عن أوجه الصراع العرقى في السودان من زاويته الثقافية البحتة: "سالم: يا ملائكة الرحمن مضى زمنٌ طويلٌ منذ أن بعثت لنا الحكومة بورقة الحرية التي أعتقت بمقتضاها كل الرقيق، استخففنا بالورقة فقلنا إن الرقيق خلقٌ رماهم الله فما لهم من رافع وهم لا يعرفون غير مواسم الكدح والأرض، لكن سرعان ما خطفوا أرجلهم من بلدنا سراً وجهراً. هاجروا ولم يعودوا. ذات يوم وبََّختُ صافي النية في أمرٍ ما، تعرفونه عبداً دؤوباً لكن فيه سفهاً وغفلة وخفة قلب، فقال لي: ليس لك وجهٌ توبخني به أنا حر، كان يقرأ من تلك الورقة اللعينة، أصدقكم القول خفت، فقلت له يا صافي النيه كنت حراً من قبل ورقة الحكومة، نحن إخوة في النشأة والتربية والدين، إذا كنت تخدمني فليس أكثر مما يفعله الأخ لأخيه، وإذا غلطت عليك فذاك عتاب الكبير للصغير. فقال لي: إذا كنت تسميني أخاً فذاك شأنك، إن الذي خدم بيتكم خدمتي يعرف أن له اسماً آخر"(23). كذلك يعرِض ردُّ الفعل الاجتماعي لهذا الحدث في حوار السُّوس، أحد شخوص المسرحية، عندما يصيح قائلاً لأقرانه: "دعوتكم يومها لجهاد الحكومة الكافرة التي تؤلب العبد الآبق على سيده"(24). أما مسرحية (السكة حديد) فلا تختلف كثيراً عن سابقتها من حيث مستويات تناولها لمشلكة التمييز العرقي، لكنها تتسع أكثر في فتح دائرة التشخيص الإجتماعي لتتناول وجهاً آخر من أوجه صراع الهوية في السودان، وهو الصراع المرتبط بنقاء العرق، أو النَّسب العائد إلى أصول عربية، والطعن في حرية ما عداه من أنساب. ونلحظ ذلك من خلال الحوار الذى يدور بين عبد الهادى ونور الدائم وعبد الموجود: عبد الهادى (وهو محجوز): أسكت يا عَبِد. عبد الدائم: والله كضَّبت في بكانك ده. عبد الموجود: والله ما كضب والله ما كضب وحاة النهار ده من جدي اب ريده وما قول قائل، قال لي أولاد سالم في ابكـُر في البديرية عبيد ثم عبيد، فقلت له ياجدى هم قايلين سُرَّة أبَّكـُر، قال لي من خشمو لي أضاني يا ولدي ما تسمع ساكت ابكـُر ضربت بيُّوضه وكردفان مع فزارة، وجهينة قال لي ما بحكم عنج وهمج وأورتية عبيد بطلموس، تظلمهم قَدُر ما تظلمهم، ما تطلع منهم خصلة أحرار واحدة(25). وهذا الطعن في الأنساب القبلية عادة متوارثة على مستوى طرق تفكير العقل العربي، والعقل الشمالي السوداني بالضرورة، وهو ينهض على افتراض سيادة جنس أو عرق على عرق آخر، هو، بحكم موقعه الطبيعي، لا يمكن أن يكون إلا عبداً لسادةٍ آخرين. وقد غزَّى هذا الافتراض بدوره العديد من الصراعات العرقية في المجتمع السوداني، وهو يتضح أكثر في بناء المسرحية عندما تخاطب (تام زينو) قبر (الرب يجود) وللإسمين دلالاتهما التاريخية في الثقافة السودانية قائلة: ـ "الرب يجود سلام عليك انا تام زينو، أجي أجي أجي، يعني الموت بغبِّيك فيني يا خادم (تضحك) أسمعي النَّحدِّثك: خليك من لماضة الدنيا يا خادم واقعدي بأدب، كان قدامك الموت أو الغلب، واخترتي الموت على الغُلب، صدق سيدي كان بقول لي العبيد ربنا ما بذم ليهم أجل اللوح المحفوظ، العبد ينقدَّ من سواد نيتو ويموت، وسويتيها يا خادم"(26). يعكس عبد الله بهذا الحوار، السيطرة الشديدة لبعض المفاهيم العرقية على الذهن السوداني الذي تنشَّأ على هذا التصوُّرات المريضة، بفعل تأثير المكوِّن الثقافي الاسلامي العربي في السودان. وهنالك أيضاً بعض التجارب الأخرى، كتجارب مجموعة (كواتو) المسرحية التي يمكن تصنيفها ضمن دائرة مسرح الهوية، لمحاولتها تجسيد الثقافات الخاصة بالمكونات الإثنية التي تعبر عنها، والمختلفة عن ثقافة المركز، ونعني حكاياتها وأساطيرها، التي تُقدِّم، بالضرورة، تصوراً مختلفاً للانسان والحياة، كما في مسرحيات (كواتو) و(قلق قلواك) و(قمر أطلع)(27). ومن المعروف أن أهم مشاريع هذه الجماعة، كما أشار إلى ذلك المخرج السمَّاني لوال، هو العودة إلى الذات، لا بغرض الانكفاء عليها، وإنما لإعادة تماسكها لتسهم في بناء الذات السودانية. وهناك أيضاً تجربة جماعة (الجَّو الرَّطِب)، والتي قدمت عرضاً مسرحياً بحمولة آيدلوجية عروبية ثقيلة، فقد كانت الفكرة الكلية فكرة لا تتسق وحيثيات صراع الهوية في السودان، فهي تدعو إلى الوحدة العربية وقضاياها، رغم أن هذه (العروبة) ودعوتها المستمرة كانت هى السبب المباشر وراء تفاقم صراع الهوية واشتعال العديد من الصراعات والحروب الأهلية في السودان(28). كما قدمت جماعة (مسرح السودان الواحد) عرضاً تحت عنوان (صور للتعايش والسلام) تناول قضايا الحروب الأهلية في السودان، خصوصاً في نموذجها الأطول عمراً وهو حرب الجنوب، وكذلك تناول إشكالات التمييز والاضطهاد العرقي والثقافي الذي يعانيه إنسان الجنوب ضمن دائرة الشمال الثقافي، ولهذا تطرق العرض إلى موضوع وحدة السودان أو انفصاله(29)، ثم اختتم بأن هذه المشكلة ربما تؤدي إلى خياراتٍ مؤلمة، تنبَّأ العرض بأن يكون الإنفصال في مقدمتها.
* عضو اتحاد الكتاب السودانيين، باحث وناقد في مجالات الدراما والمسرح، نشر عدداً من المقالات والدراسات.
الهوامش: (1) ميشيل فوكو؛ نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ص 90 (2) المصدر نفسه، ص 10 (3) محمد عابد الجابري؛ تكوين العقل العربي، ط 8، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، يونيو2002 ص 13 (4) المصدر نفسه، ص 61 (5) محمد سبيلا؛ "الابداع والهوية القومية"، مجلة الوحدة، ع/58/59، 5، يوليو 1989، ص 7 (6) السر السيد؛ "المسرح والهوية: تجارب سودانية"، م/كتابات سودانية، ع/11، مارس 2003، ص 58 (7) ناجي علوش؛ مداخلة في "ورشة الابداع والهوية"، م/الوحدة (مصدر سابق)، ص 23 (8) محي الدين صابر؛ مداخلة في "ورشة الابداع والهوية" (مصدر سابق)، ص 27 (9) مارفن كارلسون؛ فن الأداء: مقدمة نقدية، ترجمة د. منى سلام، مركز الشارقة للابداع الفكرى، ص 286 (10) الفكي عبد الرحمن؛ مداخلة في "ندوة دمشق المسرحية: المسرح والثورة العربية"، م/المعرفة، ع/104، اكتوبر 1970، ص 156/157 (11) عثمان جمال الدين؛ "مناقشات مسرحية"، صحيفة السياسة (الملحق الثقافي)، 8/5/1978 (12) يحيى فضل الله؛ "الابداعية في المسرح السوداني"، م/ثقافات سودانية، المركز السوداني للثقافة والاعلام، ع/3، 1996 ص 20 (13) راشد مصطفي بخيت؛ "حوار مع المسرحى يوسف عايدابي"، صحيفة الصحافة (الملف الثقافي)، 21 ابريل 2006 (14) ابراهيم العبادى؛ (المك نمر)، نص مسرحي، ص 88/89. (15) يوشيكو كوريتا؛ "مفهوم الوطنية عند حركة جمعية اللواء الابيض"، ترجمة مجدى النعيم، م/كتابات سودانية، ع/5، أغسطس 1994م، ص 15 (16) المصدر نفسه، ص 14 (17) عثمان جمال الدين؛ الفلكلور في المسرح السوداني، مؤسسة أروقة للثقافة والعلوم، الخرطوم، ص10 (18) عبد الله بولا؛ "شجرة نسب الغول في مشكل الهوية الثقافية وحقوق الانسان في السودان" ـ ورقة ليست منشورة، ص 9 (19) عثمان جمال الدين؛ الفلكلور .. (مصدر سابق)، ص126 (20) المصدر نفسه، ص/131 (21) عبد الله على ابراهيم؛ "الآفروعروبية أو تحالف الهاربين"، م/المستقبل العربي، ع/119، يناير 1989، ص 111 (22) السر السيد؛ "مسرح عبد الله على ابراهيم"، صحيفة الايام، 24/12/2005 (23) عبد الله على ابراهيم؛ الجرح والغرنوق – السكة حديد (مسرحيتان)، منشورات معهد الموسيقى والمسرح 1981، ص 21 (24) المصدر نفسه ص 22 (25) المصدر نفسه ص 36 (26) المصدر نفسه ص 44 (27) السر السيد؛ "المسرح والهوية تجارب سودانية"، م/كتابات سودانية، ع/11، مارس 2003، ص 61 (28) راشد مصطفي بخيت؛ "محأولة للتمسرح عبر بروباقاندا فوبيا الاستعراب"، صحيفة الصحافة (الملف الثقافي)، 15/2/2005 (29) راشد مصطفي بخيت؛ "صور للتعايش والسلام: فكرة دأوية عبر أداء صامت"، صحيفة البقعة، نشرة مصاحبة لمهرجان أيام البقعة المسرحية، ع/3، 29/3/2005
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: خطاب الهوية في المسرح السوداني زمرة التجلي والكيقيات ...راشد مصطفي بخيت (Re: esam gabralla)
|
Quote: يبدو الخطاب في ظاهره شيء بسيط للغاية، لكن أشكال المنع التي تلحقه تكشف باكراً عن ارتباطه بالرغبة وبالسلطة، وما المستغرب في ذلك ما دام الخطاب، وقد أوضح لنا التحليل النفسي ذلك، ليس فقط ما يظهر أو يخفي الرغبة، لكن هو أيضاً موضوع الرغبة. ومادام الخطاب والتاريخ ما فتئ يعلمنا ذلك ليس هو فقط ما يترجم تلك الصراعات أو أنظمة السيطرة بل هو ما نصارع من أجله وما نصارع به وهو السلطة التي نحأول الاستيلاء عليها وبهذا المعنى، فمن المفترض أن الخطاب غالباً ما قد يكون واقعاً تحت تأثير العديد من المتغيرات التاريخية والمعرفية على حدٍ سواء، ففي فترة ما أوحيث الوقوع في مغبة أي من أنظمة الرضوخ والتسلط قد يسود خطاب آيدلوجي/ سياسي/ ديني/ دفاعي، ليس هو بالضرورة الخطاب الوحيد في تلك الفترة بل ربما تكمن وظيفته الاساسية في الامتداد والسيطرة على أذهان المجموعة البشرية التي يخصها عمداً أو عن غير عمد. إذن فإن الخطاب في معناه الاصطلاحى المعاصر يعني الكلام المنظم عن اشياء بالسكوت عن اشياء وإبراز الأخرى، وبعبارةٍ أخرى الاستدلال على اشياء بأشياء أخرى مع إغفال الكثير من الاشياء
|
Quote: لذلك رأينا أن سؤال البحث عن هوية لمسرح سودانى يجب أن يتحوَّل، بالضرورة، إلى سؤال عن هوية المجتمع السوداني عبر المسرح، ومن ثم يتم رصد الكيفية التي تعامل بها الخطاب المسرحي مع هذه الاشكالية عبر تاريخه الطويل في التأليف والتنظير بغرض تقويم هذه الكيفية والمساهمة بشكل جدِّي في طرح واحدة من أكبر مشكلات المجتمع السوداني، وهي المتعلقة بمُشكِل الهوية والصراع العنصري، والتي تحوَّلت في تاريخنا الحديث إلى محرك أساسي للصراع بعد أن كانت في سابق عهدها تجلِّياً له. فكيف لشعب لا يعرف هويته، أو هوياته المختلفة، أن يبحث عن هوية لمسرحه الخاص؟!
|
سلام عصام هذا إسهام هام يشير لفيل المتاهة لا الظل
| |
|
|
|
|
|
|
Re: خطاب الهوية في المسرح السوداني زمرة التجلي والكيقيات ...راشد مصطفي بخيت (Re: esam gabralla)
|
فى البدء لابد من القول انها دراسة ملهمة تقف على شروخاتنا الاجتماعية وهذه محمدة للكاتب لكنى اقف عند نقطة ان المسرح لم يكن الا متوجها بخطابه الى العرب وهذه حقيقة فالمسرحيات الاولى التى اشار اليها الكاتب (المك نمر )لم تنفصل عن السياق التاريخى حيث سادت النزعة العروبية وبتشجيع من الشعر سيد الموقف فى عشرينات وثلاثينات القرن العشرين حتى نسق الكتابة كان شعريا (0المك نمر ، خراب سوبا)وغيرها من المسرحيات مستفيدا من زخم احمد شوقى وباكثير فى تلك المرحلة لذلك محاكمة (نص مسرحى خارج سياقه التاريخى تبقى مشكلة ) لان السياق العام للحياة الادبية كان شعريا والشعر (ديوان العرب ) الى ذلك نضييف ان مسرح الستينات والسبعينيات كان زاخرا بالافريقية مستمدا ذلك من تجارب (الغابة والصحراء) جيث تقف 0(سولارا لمحمد الفيتورى ، ورث الشلك لخالد المبارك ، وماساة يرول للخاتم عبد الله يونس ) كشواهد لاتنسى ولى عودة
| |
|
|
|
|
|
|
|