|
جورج بوش وشعبه الطيب
|
Quote: سيرج حليمي Serge Halimi
في القرى النائية في فرجينيا الغربية وفوق منازل ليست موسرة بالتأكيد، رفع السكان، من دون أن يكونوا حالمين بخفضٍ جديدٍ للضريبة على القيمة المضافة، لافتات كتب عليها "بوش- تشيني". ويلاحظ أنهم رفعوا أيضاً هذا الشعار "نحن ندعم جنودنا" (“ We support our troops ”). وفي لقاء مع صاحبة مكتبة في شارلستون، أخبرتنا السيدة أن شقيقها سيصوت للجمهوريين "لأسباب دينية". علماً أن شقيقها هذا يعمل مدرساً ولا يستفيد من أي ضمان صحي.
فرجينيا الغربية تتميز بنوع خاص من الفحم. فما بين الطرق والنهر، والجبل وخط السكك الحديد غالباً ما يطالع الرائي المناجم برافعاتها الكبيرة على شكل الصهاريج. وإن يكن التبادل الحر لا يحظى هنا بشعبيته، إلا أن أنصار البيئة غير محبوبين أيضاً. فهم متهمون بإمكان إلغاء بعض الوظائف الصناعية التي لم تقضِ عليها إلى الآن أعمال نقل حفريات المناجم وإغلاقها. من ناحيتها تصب مسألة الأسلحة النارية في مصلحة المرشحين الأكثر رجعية. ففي أول تشرين الثاني/نوفمبر تعطل المدارس لمناسبة يوم العودة إلى صيد الغزلان، حيث يقتل الآلاف منها مع الساعات الأولى لكن "كما تعلم يوجد منها هنا بقدر ما يوجد من الحمام".
التقوى والوطن والفحم والبنادق، هذه العناصر الأربعة هي التي يضعها نصب أعينهما المرشحان الرئيسيان لدخول البيت الأبيض. وقد زارا أساساً فرجينيا الغربية حوالى ست مرات منذ شهر كانون الثاني/يناير الماضي. وهما سيعودان إليها. فهذه الولاية، الأكثر فقراً حتى من المسيسيبي ولويزيانا، لن تختار في 2 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، سوى خمسة من "الناخبين الكبار" (من أصل 53 الذين سيختارون بدورهم سيد البيت الأبيض العتيد. غير أن تأرجح النتائج في فيرجينيا الغربية يجعل من هذه المقاطعة واحدة من عشر مقاطعات الأكثر تنازعاً في البلاد.
وإذ تتمتع "وست فرجينيا" بتاريخ اجتماعي غني، فإنها معقل نقابة عمال المناجم التاريخي. وفيها "ماذر جونز" (الأم جونز)، إحدى الشخصيات البارزة في الحركة العمالية، التي نشطت في مطلع القرن الماضي وعلى مدى عشرين عاماً تقريباً في إدارة بعض "النزاعات البالغة القساوة التي تواجه فيها عبيد الصناعة مع أسيادهم" . [1] . وفي ما بعد أصبحت فرجينيا الغربية حصناً لـ"العهد الجديد" ( New Deal) الذي أنقذ وقتها الكثير من سكانها الأكثر فقراً من أنياب الجوع. وقد اختيرت في العام 1960 نقطة انطلاق لحملة ترشيح جون كينيدي للبيت الأبيض. وبعد عشرين عاماً كانت من بين الولايات النادرة (6 من أصل 50) التي حجبت أصواتها عن رونالد ريغن. إلا أن هذا المعقل الديموقراطي (الحاكم وأربعة من خمسة نواب في البرلمان و70 في المئة من النواب المحليين وناخبان من أصل الثلاثة الكبار) قد اقترف ما لم يكن متوقعاً في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حين صب اختياره على المرشح الجمهوري [2]. ولكان تاريخ البلاد اختلف لو أن فرجينيا الغربية لم تتخلَّ عن عاداتها.
"كيف يمكن لشخص ما، استعبده شخص آخر أن يصوت للجمهوريين، أي أن يصوت ضد مصالحه"؟ هكذا يتساءل مستغرباً توماس فرانك، وهو صاحب كتاب مفاجئ حقق أرقاماً قياسية في المبيعات (best-seller) وقد برع فيه تحديداً في تفصيل الدوافع التي أدت الى حدوث هذا "الخلل" . [3]. وإن يكن من باب الجنون أو لا، فإن حزب السيد بوش بات اليوم يسيطر على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وعلى غالبية مناصب الحكام، وذلك بدعم من قوة ناخبة شعبية. وفي الوقت الذي يطلب السيناتور كيري نصائحاً من السيد كلينتون، فمن المستحسن بالنسبة إليه ألا ينسى أن هذا المزيج من الليبرالية الاقتصادية ومن التقدمية الاجتماعية الزائفة لدى الرئيس السابق، هو الذي كلف حزبه أن يتحول أقلية في الولايات المتحدة.
وفي طبيعة الحال، إن القيام بالحملة الانتخابية في الأبالاش يجب ان يذكّره بذلك. ففي الواقع أن ما من منطقة تبدو أكثر منها بعداً عن مزاج الأحياء البرجوازية البوهيمية في نيويورك وبوسطن وسان فرانسيسكو أو عن عقائد صالات التحرير والصالونات الثقافية. ذاك أن الحزبين الرئيسيين هنا يتنافسان في مجال التقوى ومبدأ الحماية، ويعلنان تعلقهما بقضايا الصيد والفحم والسياسة الصناعية و"فضائل" الزمن الماضي. فحضور لقاء للرئيس بوش في فرجينيا الغربية سرعان ما يساعد في الإضاءة على شيء من لغز شعبيته التي لا يبدو أنها تأثرت بالخيبة من حرب العراق ولا بالفشل على الجبهة الاقتصادية والاجتماعية. فإن لم يكن الرجل يتمتع بما تميز به ريغن أو السيد كلينتون من موهبة المناورة، لكنه يعرف كيف يصيب هدفه وذلك على الأرجح لأن عدم اكتراثه للثقافة واقتناعه بسلوك مسلك الرجل العادي يتقاطعان مع تطلعات محازبيه الأقل ثروةً ومع تلهفه للسلطة. ففي أواخر شهر آب/أغسطس استقبله في ويلنغ عشرة آلاف شخص محشورين في صالة سيطر فيها الاحتداد، وبعد عشرة أيام كان يُستقبل في هانتنغتون. وفي كل مكان يعقد له لقاء في هذه المنطقة يسود الجو نفسه والكلام نفسه.
في ويلنغ كانت بعض اللوحات في الصف الأول تعلن: "عمال الحديد من أجل بوش" و "دبليو مثل الحرف الأول من وست فرجيني (W, like West Virginia) ". وببعض الكلمات الحارة يضيف أحد العمال، ويدعى ريك، أن "الرجل الذي أنقذ الفولاذ هو رجل فولاذي، هو رئيسنا جورج دبليو بوش." أما الخطاب الذي أعقب ذلك فطويل ومفصل وهو نفسه تقريباً: التربية والحماية الاجتماعية والفحم والإرهاب والعراق والفولاذ، من دون نسيان أي شيء. وهناك جملة، تكررت مئة مرة، تثير موجة حماسة أضخم من غيرها: "لن أتخلى أبداً عن الاهتمام بضمان أمننا في بلدان أخرى". الأمن العسكري وأمن الطاقة أيضاً. ففي ولاية فقيرة حيث الصناعات التقليدية مهمة ومهددة، يعمد الرئيس إلى دغدغة المشاعر. ليس في "المجتمع الدولي" صحافة جيدة وخصوصاً عندما تكتب عن منظمة التجارة العالمية التي تزعم أنها ستحظر على الولايات المتحدة حماية صناعة الحديد في الأبالاش. هنا، كما أيضاً في ولايات أخرى يسعى إلى كسب تأييدها مديرو الحملات الانتخابية، لأنها قابلة للانقلاب من معسكر إلى آخر (أوهايو وبنسلفانيا وميتشيغن)، تلعب ليبرالية الزعماء الديموقراطيين التجارية ضدهم.
وبالطبع إن السيد بوش "لم ينقذ صناعة الفولاذ" فهو أيضاً من أنصار التبادل الحر وفق سياسة حزبه. لكنه على الأقل تظاهر بأنه يهتم للأمر . [4]. ثم كما تبين من حرب العراق فان السياسة الأحادية الجانب لا تخيفه، فهو لا يذكر أبداً موضوع العولمة كيلا تثبت نظرية عجزه. بل إن أميركا، بحسب تصريحاته، هي التي يجب أن تحدد معظم قوانين النظام العالمي الجديد (استراتيجياً وتجارياً). فالأمور مع السيد بوش بسيطة والمواقف محسومة، وبالعكس، فمع السيد كيري كل شيء معقد ولا أحد يستطيع التكهن بما سيفعله كما في العراق مثلاً، فذلك يبقى رهن الأيام والاستفتاءات. لكن هناك أمراً آخر. فإذا كان هذا الرئيس شريفاً ثرياً، فإنه يتشاوف بمواهبه بتفاخر أقل من منافسه الواسع الثروة (عائلة كبيرة على الساحل الشرقي، دروس خاصة في سويسرا، متأهل من مليارديرة، يمتلك خمس دور للسكن وطائرة خاصة للتنقل بينها، وسيارة ثلج لفصل الشتاء وقارب شراعي للصيف، وحتى دراجته ثمنها 8000 دولار...).
ومع السيد بوش فإن المال لا صوت له. فهو الفخور ببلاده حتى درجة العجرفة، يبدو بالعكس متواضعاً أمام أهله: "شكراً لعمال المعادن الذي يدعمونني. شكراً للجميع. إنه لأمر رائع أن أكون معكم مجدداً. شكراً لضيافتكم. تعلمون أنها ليست المرة الأولى التي أزوركم فيها (تصفيق). لقد تمتعت في كل مرة أقمت فيها بينكم (تصفيق). ذاك لأن الناس هنا عقلانيون نشطاء في أعمالهم وشرفاء. وهم مثلي يحبون أميركا (تصفيق). لقد جئت أطلب إليكم أن تصوتوا لي، وأريدكم أن تعلموا أنني مستعد للذهاب إلى الناس لأقول لهم، أنا أحتاج أصواتكم، فهي مهمة." ويهتف الجمهور مشدداً على كل عبارة: "أربع سنوات أخرى!".
وبعد أربعة أيام، في هنتنغتون، يعود السيد بوش إلى التواضع الموضوع الذي أمّن له جزئياً الفوز في فرجينيا الشمالية قبل أربع سنوات: "أنا هنا لأنني أحب صيد الطيور والأسماك (تصفيق). أنا أعلم أن بعضكم يحب الصيد (تصفيق). وأنا الذي لا تتوافر لي أبداً فرصة الصيد بقدر ما أرغب، أعمل على صيد الأصوات". فمجموعة الضغط النافذة من أصحاب الأسلحة النارية، المكروهة من المثقفين والفنانين، تدعم الجمهوريين الذين يمنحونها في المقابل كل ما تريده. والحال أن هذه الحركة جماهيرية ناشطة متحمسة وشعبية. ويتابع السيد بوش: "أنتم تعلمون. منذ أيام ظهرت إحدى ميزاتنا اللافتة عندما قال خصمي أنه يمكن اكتشاف قلب أميركا وروحها في هوليوود (تصيح الحشود استخفافاً). أما أنا فأعتقد أن قلب أميركا وروحها نجدهما هنا، في هنتنغتون وفي فرجينيا الغربية (تصفيق)".
بالتأكيد أن هذا الرئيس استمر في إثراء الأثرياء حتى بشكل مفضوح أكثر من أسلافه. نعم لكنه يرتكب بعض الأخطاء في تركيب الجمل أو في المفردات، وهو بسيط يخصص وقتاً من فرصته لكي ينتعل الجزمة ويقتلع النباتات اليابسة من مزرعة خيله. وهذا النوع من الأمور له أهميته شئنا ذلك أم أبينا. ففي مؤتمر الحزب الجمهوري ورد في الفيلم المخصص لتقديم المرشح الجمهوري إلى البيت الأبيض، والذي تمحور بأكمله حول 11 أيلول/سبتمبر، المقطع التالي على لسان المقدِّم: "هناك وجوه لجورج بوش يعرفها كل منا، مثلاً ابتعاده عن التصنع. وهل تريدون دليل على ذلك؟” ويمر مشهد له وهو في أحد المستشفيات العسكرية يدعو جندياً أميركياً قطعت ساقه في العراق للمجيء برجله الاصطناعية لممارسة رياضة المشي في البيت الأبيض.
أما "القيم العائلية" فلا تنسى أبداً. إنما هنا أيضاً غالباً ما يتم تناول الموضوع من زاوية شخصية ليتم تقديمه في الوقت نفسه بشيء من الكياسة من دون إظهار خطره. فالاحتفاء بـ"لورا" يفتح المجال للتذكير بأنه كانت هناك "مونيكا" من قبل: "زيل [زيل ميلر، سيناتور ديموقراطي تحول لدعم الرئيس الحالي] قال لي في الطائرة أنه من المؤسف أنني لم أحضر مع لورا. وهو على حق (ضحك). تعلمون أنني عندما اقترحت على لورا أن تتزوجني قالت لي: "موافقة شرط ألا تطلب مني أبداً أن ألقي خطابات سياسية". لقد كانت عاملة مكتبة في إحدى المدارس الرسمية ولم تحب السياسة أبداً. قبلت بالأمر، وأنا أحبها كثيراً (تصفيق). ربما يكون أحد أفضل الدوافع لتنتخبوني مجدداً هو أنه ستكون لكم لورا سيدة أولى لأربع سنوات إضافية". ويختم اللقاء بلحن من موسيقى الكاونتري يستعيد قصة الحبيبين الأبدية: "أنا لا استخدم الكلمات المعقدة كثيراً، لكن الكل يفهم ما أريد قوله. ربما يكون طبعي خشناً قليلاً، لكن أعتقد أنني الشخص الذي تريدونه بالتحديد"...
أحد الحزبيين الجمهوريين، وهو ناخب ديموقراطي سابق، بدا عندما التقيناه في شارلستون (عاصمة فرجينيا الغربية)، متأثراً جداً بعد حضوره في مكان آخر اجتماعاً مماثلاً: "إن بوش عندما ترى صوراً له وهو في مزرعة خيله في تكساس، يرتدي الجينز وقبعة رعاة البقر، يبدو أصيلاً. كنت في بيكلي عندما زارها قبل أسبوعين. كان هناك 4000 شخص يعبدون هذا الرجل. كان يجب أن تكونوا هناك لكي تفهموا الأمر، إذ لا يمكن اصطناع هذا النوع من العفوية ولا يمكن التظاهر بذلك. ولذلك هم يحبونه. هم يتعلقون به ويعتقدون أنه يفهمهم، وهذا ما أعتقده أنا أيضاً".
وبيكلي تقع في حوض مناجم حيث يمكن الإحساس بالتلوث. فمايكل هارينغتون خرج بفكرة كتابه "الوجه الآخر لأميركا" بعد أن قام في أواخر خمسينات القرن الماضي بتحقيقاته في منطقة محرومة من هذا النوع، وبعد اكتشافه في المناطق الريفية بعيداً عن الدروب المطروقة "الفقر بكل تجلياته كما لم يشهده العالم من قبل". في تلك الحقبة كان الكل يفضل الاحتفال بـ"مجتمع الرخاء"، كمقدمة لنهاية السياسة. وقد ترك الكتاب وقعاً كبيراً إلى درجة أنه ساهم في نهضة البرامج الفيديرالية لمكافحة البؤس. لكن ما الذي يتبقى من كل ذلك عندما يقرر الحاكم الديموقراطي لولاية فرجينيا الغربية خفض المساعدات الاجتماعية بنسبة 25 في المئة، وقد خفضت في الأول من آب/أغسطس الماضي من 453 إلى 340 دولاراً شهرياً للعائلة المؤلفة من ثلاثة أفراد. أما علاوة الزواج (100 دولار) فقد ألغيت بكل بساطة. وفي الوقت نفسه كان المجلس المحلي ذو الغالبية الديموقراطية يوافق على منح مساعدة بقيمة 000 750 دولار، مستفيداً من امتلاء صناديق الولاية، لدعم دورة رياضية في الغولف.
كتب هارينغتون: "إن الجمال الطبيعي والأساطير تخفي وراءها الفقر. فالمسافر يجتاز الأبالاش في الفصول الجميلة. يشاهد الجبال والأنهار والشجر الكثيف الأوراق، إنما ليس الفقراء". [5] . وفي الواقع أنه يجب الانحراف عن الطرق الكبرى وسلوك الدروب الأضيق (لكن في أفضل الحالات إن نفوذ أحد عضوي مجلس الشيوخ في واشنطن يصنع العجائب) لكي يرى كيف تنتشر الكنائس المعمدانية ذات المظهر البسيط إضافة إلى المنازل النقالة. أما السكان (مع عددهم البالغ 000 810 1 نسمة، تبدو الولاية أقل عدداً بالسكان مما كانت عليه قبل عشرين عاماً) فإنهم يتجمعون وسط الوادي الوعر. وفي قرية مولنز (800 1 نسمة) يبدو نصف المنازل والحوانيت مهجوراً منذ زمن طويل. ولا يزال صدى زيارة السيد بوش لبيكلي "الأولى لرئيس للولايات المتحدة" يتردد. وقد اعترف لنا بعضهم أن "الناس هنا كانوا متحمسين جداً. فبوش يدعم صناعة الفحم. هو يؤيد استخراج الفحم في فرجينيا الغربية وتحظير استيراده".
خصصت الصحيفة المحلية "صفحتها الأولى" لخبر عودة الجندي آدم ت. جونستون، المشهور أكثر بلقب "لاتي"، في مأذونية. وعلى ذلك علق المقال: "عندما انضم إلى الحرس الوطني في سنته الدراسية الأخيرة، لم يكن آدم يحلم أبداً بأنه سوف يذهب يوماً مع القوات المنتشرة [في العراق] للدفاع عن الحرية. "اعتقدت أن ذلك سيتطلب مني بضعة أسابيع لأحصل في المقابل على المال الكافي للذهاب إلى الجامعة" . [6]. وقد تكلفه منحته الدراسية أكثر مما يتوقع. وليس بعيداً من هناك، في "جاستيس" (500 نسمة)، وعلى باب مطعم صغير، "غوينز كاونتري كيتشن"، يقدم أطعمة مقوية وكعك الفاكهة بدولار للقطعة، رفع على لوحة شعار "نحن ندعم جنودنا" بالقرب من اللوحة المشيرة إلى مكتب الكاهن.
وبحسب ما تقول الخادمة إن التصويت للديموقراطيين الذين لا يزالون يحظون بالغالبية في المنطقة يعتبر سخافة موروثة عن الأهل: "بمجرد أن يتشبث الناس بذلك يعني أنه لا يهمهم إن كان الرئيس جيداً. لكنني أرى أنه قام بعمل جيد. وأحد الأسباب الرئيسية في محبتي لبوش أنه لا يؤيد الإجهاض. أضف إلى ذلك أن غور يؤيد الاهتمام بالبيئة وهو ما قد يسيء إلى ولاية كورتينا. كما أنه كان ضد استغلال الغابات. وفي كل الأحوال في لوغن [اسم البلدة] إذا كنت ضد مناجم الفحم انتهى الأمر بالنسبة إليك." وهذه المرأة الشابة لم تسمع أبداً بفيلم "مايتوان"، المستوحى من إضراب فتاك انطبع به تاريخ الولاية في العام 1920. ومع ذلك فإن هذه المعارك ربما هي التي احتفظ بها الناس "في رؤوسهم" لكي لا يصوتوا لمرشحي أرباب العمل. ومايتوان لا تبعد أكثر من عشرين كيلومتراً تقريباً عن جاستس. فشعبية الجمهوريين المزيفة وعودتهم الدائمة إلى مسائل الهوية الحضارية (الدين والصيد والتقاليد) تستفيد من إمحاء الذاكرة الاجتماعية. فالسيد كيني بردو، أمين صندوق نقابة " AFL-CIO " المحلي يتحدث أمامنا عن تقليد صراع الطبقات الشديد في فرجينيا الغربية. فنتيجة هذا الصراع، يتقاضى عمال المناجم البالغ عددهم اليوم 000 12، والنقابيون بغالبيتهم، أجوراً أعلى بكثير من أجور الموظفين في "وال مارت" - الذين يسمون اليوم "شركاء" (!)- وهذه الشركة أصبحت المستخدِم الأول في الولاية. فبالنسبة للنقابة قد آتى النضال ثماره، وقد كان ضرورياً، خاصة أنهم اضطروا إلى مواجهة الحرس الوطني وقطاع الطرق التابعين لأرباب عمل الذين غالباً ما كانوا يهتمون بحماية حياة البغال بدلاً من حياة البشر (242 3 قتيلاً في المناجم في العام 1907 فقط، مع معدل حوادث عمل أعلى بأربع مرات مما كان عليه في فرنسا في الحقبة نفسها).
ويقول السيد بردو متأسفاً: "لنا تاريخ اجتماعي رائع. ونحن نحاول أن نجعله مادة تعليم في المدارس. لكن ذلك صعب جداً". وقد أصدرت النقابات كتيباً تحت عنوان "تاريخ الطبقة العاملة"، وهو مشوق وتربوي في آنٍ واحد (رسائل عمال المناجم، قصاصات قديمة من الجرائد، مواضيع للفروض المدرسية). والهدف منه صريح، إذ يشير الراوي الوهمي، شخصية صحافي مكلف معالجة النشاطات الاجتماعية، إلى أنه :"خلال سنوات تعلمي الاثنتي عشرة في مدرسة فرجينيا الغربية، لم أسمع أبداً كلاماً عن حروب المناجم الكبرى". لكن الكتيب لم يُعتمد، فالمدرسة تفضل كتب الترويج للماركات على تلك التي تتحدث عن النضالات العمالية وعن التاريخ الشعبي.
المسألة الاجتماعية وقضية البيئة مترابطتان. ذاك أن عمال المناجم غالباً ما يتبنون مصالح أرباب عملهم الذين أطلقوا جمعية للدفاع عن صناعة الفحم، "فريندز اوف كول" (جمعية أصدقاء الفحم)، والتي ترعى تحت راية نجم محلي في كرة القدم النشاطات المدنية والمباريات الرياضية في آنٍ واحد، كما يزدرون أنصار البيئة المتطلعين إلى الدفاع عنهم في قضايا حوادث العمل وتلوث الأنهار ومياه الشفة. إن تفجير قمم الجبال ورمي الأنقاض والأرسينيك في الوديان والأنهار يمكن أن ينظر إليها على أنها الوسيلة الأخيرة لإنقاذ فرص العمل. وسياسة إدارة بوش قد سهلت هذا النوع من الاستثمار، "تعديل قمم الجبال" (“ mountaintop removal ”)، وبشكل أعم وافقت على كل ما يطلبه أرباب العمل ومن بينها التساهل في الشروط الصحية (لا تزال مادة السيليكوز تقتل المئات من عمال المناجم سنوياً في البلاد). غير أن الجمهوريين يملكون جواباً جاهزاً يعرضه علينا بكل اقتناع السيد كريس وارنر، الرئيس التنفيذي للحزب في فرجينيا الغربية: "إن جنوب الولاية يعبر منطقة معرضة كثيراً للحوادث. ولا يمكن تطويرها بدون التصدي لقمم الجبال لاستخراج الفحم الموجود فيها. وهناك أساساً دعاوى دائمة وضرائب ترهقنا. لكن المطلوب تماماً هو أن يعمل الناس أو أنه لن يبقى أحد في المنطقة! إن وجود الشركات مهدد. فمثلاً إذا غادرت غداً شركة "ماسي انرجي" فرجينيا الغربية فلن يبقى هناك أي أمل. وهؤلاء الناسهم جيران طيبون. ليس لأنهم يحترمون القواعد الفيديرالية وحسب، بل لأنهم ينشِئون أيضاً ملاعباً رياضية للأولاد وينظمون الاحتفالات. وبدونهم تصبح الحياة أكثر صعوبةً".
ويمكن تبين صعوبة مهمة أنصار البيئة في ولاية يصرح ناخبوها الشعبيون بتأييدهم الجمهوريين تحديداً "بسبب" البيئة. فوسائل الإعلام لا تساعدهم إذ أنها تقدم كل دعوى يرفعها المدافعون عن الطبيعة ضد أصحاب المناجم على أنها آلة جديدة لتصنيع البطالة. وتعترف لنا السيدة آنا سايل، التي تعمل لدى المنظمة البيئية "سييرا كلوب" بأنه "كان هناك حكم سيصدر في حزيران/يونيو عام 2004. وهو كان سيمثل بالنسبة لنا انتصاراً كبيراً. كنا سعداء بأن نتحدث عنه لصحافيي التلفزيون المحلي عندما يتصلوا بنا، وأن نعبر لهم عن مدى ارتياحنا. لكنهم عنونوا موضوعهم: "قرار المحكمة سوف يتسبب بإلغاء مئات من الوظائف: إنها فرحة أنصار البيئة" "...
لكن هل تحقق قضية البيئة تقدماً فعلياً في فرجينيا الغربية عندما يفلت من على لسان السيدة آنا سايل، المثقفة جداً والمتخرجة حديثاً من جامعة كاليفورنيا في بركلي أن: "وظائف عمال المناجم لا تشكل سوى 2 (اثنين) في المئة من مجموع اليد العاملة. ويفترض هنا إذن مقارنة عدد الوظائف التي ستفقد في حال إغلاق المناجم مع عدد الأنهار التي ستتم خسارتها في حال استأنفت أعمالها." وتدعو منظمة سييرا كلوب للتصويت للسيد جون كيري. مع أن المرشح الديموقراطي يحترس من إظهار التزامه بأنواع " التطرف البيئي" الذي شكل موضوع لوم منذ أربع سنوات للسيد آل غور. ويقدم السيناتور الديموقراطي البالغ النفوذ عن الولاية، روبرت بيرد، نصائحه، وهو الذي صوّت ضد المصادقة على بروتوكول كيوتو: "لقد ذهب السيد غور وإدارة كلينتون بعيداً في مسألة البيئة هذه، وبنوع خاص في ما خص قضية الفحم. ولقد حضر جون كيري مراراً إلى فرجينيا الغربية. وإذا أتى مرة أخرى سوف يلطخ ببعض الفحم أنفه وشعره ثم يسير".
في مؤتمر الحزب الديموقراطي في بوسطن، المنعقد في تموز/يوليو عام 2004، ترأس السيد نيك كايسي وفد فرجينيا الغربية. وهو إضافة إلى كونه يسارياً، مقرباً من النقابات ومطلعاً جيداً على تاريخ ولايته الاجتماعي، قلما يتأثر بالأنماط الثقافية، متحفظاً عن نظام العولمة، فإنه عارض الحرب في العراق، مثله مثل معظم مندوبي بوسطن. في البداية لم يكن جون كيري مرشحه المفضل، لكن كجندي شجاع توقع له الفوز في فرجينيا الغربية بنسبة 60 إلى 40 من الأصوات. لكن السيد كايسي الذي يمقت صلافة الرئيس الحالي، يقر له بكفاءته السياسية. فبعكس مايكل مور أو عدد من التقدميين الأميركيين، فهو يتحاشى أن يجعل من السيد بوش ذاك الغبي الذي تتلاعب به حاشيته أو ذلك المبشر الملهم الذي يأمل في حدوث نهاية العالم لتسريع قيام مملكة الله على الأرض. "إن بوش يبدو مرتاحاً جداً مع الناس. وهو يعرف كيف يوصل رسالته. وتصرفه مثل "الكاو بوي" هو للأسف شيء محبوب جداً في أميركا. إنها لغة "ضربني أحدهم، فأرد الضربة بضربة مماثلة". إن الرجل يفتقر إلى الحكمة لكنه يعرف كيف يتخذ قراراته، الغبية أحياناً. فهو سياسي يجب أن يخشى جانبه".
فمنذ 11 أيلول/سبتمبر وهول الاعتداءات التي يتم التذكير بها على الدوام (ويساهم إعلان حالة الطوارئ الدائمة في ذلك)، تنوي غالبية الأميركيين "رد الضربة بضربة مماثلة". وهم يتوقعون من رئيسهم أن يعرف كيف "يتخذ القرارات". ففي ميدان الزعامة هذا، التناقض لا يخدم سيناتور ماساتشوستس. فسياسة بوش العراقية في طريق مسدود، وهذا ما يقر به بعض الجمهوريين [7]، غير أن تصويره لها هو إلى حد ما ثابت ومتماسك. أما مسألة الأكاذيب في هذه الحرب، التي بدت حساسة في البداية، فقد أعيدت صياغتها ببراعة في الفكرة التالية: عندما تتمكن حفنة من الرجال المسلحين بالسكاكين من تدمير برجين في مانهاتن وجناح في البنتاغون، فإن ديكتاتورأً واحداً معادياً لأميركا يشكل بحد ذاته سلاح دمار شاملاً.
إذن يوضح السيد بوش الأمر في هنتنغتون لجمهور مقتنع سلفاً، خصوصاً وأنه قد تمت تنقيته لهذا الغرض: "لم يرد صدام حسين احترام قرارات الأمم المتحدة. وكان علي أن أختار: هل أثق بكلام رجل مجنون وأنسى دروس الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، أم كان عليّ أن أتصرف للدفاع عن أميركا؟ وإزاء خيار من هذا النوع سيكون دائماً قراري هو الدفاع عن أميركا (تصفيق وهتافات: يو.أس.آي.! يو.أس. آي.!). ولأننا تصرفنا، لأننا دافعنا عن أنفسنا، ولأن الواجب الأسمى لكل دولة هو الدفاع عن أمن شعبها، هناك خمسون مليون شخص إضافي ينعمون بالحرية في أفغانستان والعراق".
ويمكن للأوروبيين والمثقفين والفنانين أن يقدموا الحجج في عز هذيانهم حول المبالغة في الخطر وحول التعذيب في سجن أبو غريب، وأعمال النهب، لكن يبقى رصيدهم صفراً في أوساط الشعب الطيب المحافظ. ويبرع الجمهوريون في تصوير أنفسهم على أنهم محاصرون ومضطهدون من جانب "نخبة تقدمية" ينضوي فيها في آنٍ واحد محامون يحبون المرافعات وجامعيون تعميهم العجرفة ووسائل إعلام ساقطة الأخلاقية وممثلون وعاظ. وليست هذه الاتهامات دون أساس. فالانعزال الاجتماعي لدى معظم المثقفين و"الخبراء"، وفردانيتهم ونرجسيتهم، واحتقارهم للتقاليد الشعبية وكرههم لهؤلاء "الفلاحين" المنتشرين بعيداً عن السواحل والذين يستمرون في دعم بوش، واضح حتى للعميان. هذا ما يثير شعوراً بالحقد تعرف محطة "فوكس نيوز"،مع الجمهوريين، كيف تنسج عليه.
ذاك أن شعبية اليمين الأميركي، كما تشير إليه حالة الأبالاش بشكل كافٍ، لا تنهل كما في الزمن الماضي من نبع العنصرية، وإن بشكل مغطى (أصلاً تأسست فرجينيا الغربية أثناء الحرب الانفصالية ضد الدفاع عن نظام العبودية)، أو من كره الأجنبي، أو من بغض الآخر، وإنما من حالة حقد على الازدراء البادي جداً من الطبقات العليا. هذا الحقد،يستهدف بشكل أساسي النخبة الثقافية، ولكن يستبعد نخبة المال. وقد بلغت الأمور هذا الحد، لأن إدعاء أصحاب المعرفة المتعالي أصبح لا يطاق، أكثر بكثير من بطر أصحاب الثروات الوقح.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] اقرأ: Mary Harris Jones. Autobiography of Mother Jones, Dover Publications, Mineola (NY), 2004.
[2] حصل السيد جورج بوش على 51.92 من الأصوات مقابل 45.59 في المئة منها للسيد آل غور و1.65 في المئة للسيد رالف نادر.
[3] اقرأ : Thomas Frank, What’s the Matter with Kansas ?, Lire aussi son article “ Cette Amérique qui votera républicain ”, Manière de Voir, n° 77, “ Les Etats-Unis en campagnes ”, octobre-novembre 2004.
[4] في العام 2003 وضع الرئيس بوش رسوماً جمركية مخصصة لخفض حجم استيراد الفولاذ. ثم ألغاها بعد بضعة أشهر إثرقرار صدر عن منظمة التحارة العالمية
[5] راجع: Michael Harrington, The Other America/Poverty in the United States, Simon & Schuster, New York, 1962, p. 3.
[6] المرجع: “ Lattie Home from Iraq for R&R ”, The Mullens Advocate, Mullens, 4 août 2004
[7] بيل أوريلي، المقدم "التقليدي المتشدد" لأكثر البرامج شعبية على محطة فوكس نيوز سلم في 9 آب/أغسطس الماضي بأن: "حرب العراق شكلت إخفاقاً كبيراً وهو ما يعرفه الجميع". |
|
|
|
|
|
|