دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
زُغْبُ الحَوَاصِلْ! كمال الجزولى
|
Last Update 19 August, 2004 09:53:54 AM زُغْبُ الحَوَاصِلْ! كمال الجزولى [email protected] فى حوار صحفىٍّ غير مسبوق مع أسرة د. حسن الترابى تحدث نجله عصام عن الأثر النفسى والاجتماعى لخبرتهم مع اعتقال والدهم قائلاً إنهم عانوا من هذه المسألة كثيراً ، ودفعوا ثمنها منذ صغرهم ، إلا أن قطاعات مختلفة من الناس والجيران ، بمن فيهم حتى الذين يختلفون سياسياً مع والدهم ، قد آزروهم وتعاطفوا معهم ، لدرجة أنهم كانوا يأتون إليهم أحياناً بالطعام من بيوتهم! وقال إنه يتمنى الآن لو أن والده "لم يشتغل بالسياسة أصلاً"!
وفى ذات الحوار وصفت زوجة الترابى السيِّدة وصال المهدى اعتقال رب الأسرة بأنه اعتقال للأسرة كلها ، وخاصة الأطفال ، إذ يكون تأثرهم النفسى أكثر من الكبار ، وروت كيف أن أحد أطفالها تأثر ، ذات اعتقال ، حتى أنه أصيب بحالة من فقدان القدرة على وضع قدمه على الأرض ، متمنية "لو ان الديموقراطيَّة استمرَّت .. ولم تأتِ الانقاذ!" (الأضواء ، 14/8/04).
إجتاحتنى ، فجأة ، وأنا أطالع هذا الحديث ، موجة من الأسى المتكاثف ، حين دَهَمَتنى طيوف القتلى والمُعذبين ووجوه المعتقلين السياسيين والنقابيين الذين لطالما غيَّبتهم سجون الترابى و(بيوت أشباحه) ، فتكدَّسوا بالمئات وراء أسوارها العالية ، وداخل زنازينها الخانقة ، يوم كان هو ، ردَّ الله غربته ، صاحب الدولة والصولة والصولجان ، وكان الحَوْلُ حَوْله ، والطوْلُ طوْله ، والأمر كله طوْعَ بنانه ، قبل أن يباغته حواريوه ، من حيث لم يحتسب ، بجفاء ظهر المجن ، لتنتهى به هذه الشكسبيريَّة السوداء إلى سجن أسود داخل سجن أسود يعيش فيه على الأسودَيْن .. فتأمَّل!
لقد انقضَّ الترابى ، بغتة ، بانقلاب الثلاثين من يونيو عام 1989م ، على خصومه جميعاً ليفصلهم ، بضربة سيف ، ولأزمنة متطاولة ، عن أسر ممتدَّة لا عائل لها سواهم ، وزغب حواصل لا حيلة لهم بدونهم ، ودنيا قد تقوم ولكنها لا تقعد ، يقيناً ، بغيرهم ، مِمَّا يندرج ، على نحو ما ، ضمن هموم علم الاجتماع ، وشواغل علم النفس ، ومباحث علم التربية. ولكن شيئاً من ذلك لم يكن ليندرج ، مثقال ذرة ، للأسف ، ضمن هموم الرجل المركوزة فى "التديُّن بالسياسة!" أو شواغله المحصورة فى "التمكين لحركته باختزال المجتمع كله إلى صورتها!" أو مباحثه المسدَّدة صوب "إخراج العالم بأسره من عبادة الشيطان إلى عبادة الرحمن!" أو كما قال!
كان ذلك قبل أن يفيق الرجل فى سجنه الأخير إلى لغة يفهمها الناس فيتفقون أو يختلفون معه سياسياً على بيِّنة من (كلام الدنيا) ، كقوله ، مثلاً ، عن مظالم دارفور: "إن عدد المدارس في محافظة الكاملين الصغيرة المجاورة للخرطوم أكثر من عدد المدارس في جميع ولايات دارفور الكبرى التى تفوق فرنسا مساحة!" (البيان ، 8/8/04). وهى لغة تجعلنا نخالف الابن الذى تمنى لو ان أباه لم يشتغل بالسياسة قط ، متمنِّين لو اشتغل بها ، ولكن .. فى الأرض ، وليس فى السماء!
وإلى هذا فإن أيَّة بلاغة لتتقاصر عن الاحاطة بما أحسست به ، كأب ، من رعدة تسرى فى أوصالى بإزاء حديث الأم عن الصدمة النفسيَّة التى حدثت لأحد صغارها ذات مرَّة جرَّاء اعتقال الأب ، حتى أعجزته عن وضع قدمه على الأرض! هذا الحديث أثار لدىَّ كوامن خبرة شخصيَّة أليمة سوف تظل محفورة كالوشم فى قلبى ما حييت ، وأنتهز هذه الفرصة لأهديها للسيدة وصال.
فقد حدث أن عدت ذات مرَّة إلى البيت ، بعد أن أطلق سراحى من اعتقال إدارىٍّ تطاول لسنتين فى أحد سجون الترابى ، ليتحلق طفلاى حولى يتقافزان فرحاً ، وقد كبُرا شيئاً ، ويحجلان كقبُّرتين ضاجَّتين بشقشقة آية فى العذوبة ، وكانا قد حُرما طوال السنتين من زيارتى .. لأسباب أمنيَّة!
فجأة ، وفى غمرة تنافسهما على الاستئثار باهتمامى ، زلَّ لسان أكبرهما (أبَىْ) وهو يتسلقنى ويتشبث بعنقى مستخدماً كفيه الصغيرتين وصيحاته العالية لتحويل وجهى من شقيقته (أروى) إلى جهته وهو ينادينى بتلقائيَّة ووداعة: "عمو .. عمو"! ثم سرعان ما انتبه ، فران صمت زئبقىٌّ بيننا لبرهة قصيرة ، أفلت بعدها ضحكة مرتبكة وهو يضع سبابته بين أسنانه ويلثغ بخجل طفولى: "أعمل شنو ياخ .. الناس كلهم بقوا عمو"!
لحظتها أحسست بالصقيع يرسب فى أعماقى ، فهرعت إلى ركن قصىٍّ أخلو فيه إلى دمع هتون ، وغصَّة حنظليَّة ، وقلب يئزُّ كخليَّة نحل!
لا أفاضل بين أبوَّة وأبوَّة ، ولا أستفظع غبناً على غبن ، ولكن ، إن كان ثمة أىُّ معنى (للسلام) ، فعلاً لا قولاً ، أو لاستشراف أىِّ أفق معقول للحوار المرتقب بين الحكومة والمعارضة ، أو للحل الوطنى الديموقراطى لقضيَّة دارفور بما يستبعِد الأجندة الأجنبيَّة ، فلا بُدَّ من إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ، بمن فيهم الترابى نفسه ، ثم التواثق على نهج وطنىٍّ وآليَّة فعَّالة (للاعتراف) التفصيلىِّ المستقيم (بحقيقة) ما وقع من جرائم وتجاوزات خلال السنوات الخمس عشرة الماضية ، بما فيها سنوات سطوة الترابى نفسه ، كشرط لا غنى عنه (للمصالحة) على النموذج (الجنوبافريقىِّ) البديع ، والقائم على فكرة أخلاقيَّة بسيطة: أطلب من الجلاد أن يعترف قبل أن ترجو من الضحيَّة أن يعفو! و(العفو) فى الاسلام قيمة أخلاقيَّة تكتسى سُموَّها ورفعتها عندما تقترن (بالمقدرة) ، وغنىٌّ عن القول أن (مقدرة) الضحيَّة تبدأ فقط فى اللحظة التى يفرغ فيها الجلاد من (اعترافه)!
خطة كهذى كفيلة ليس فقط بأن تغسل من الأنفس المكدودة نزعة الانتقام السالبة ، بل وأن تقشع من فضائنا السياسىِّ كلَّ صنوف العنف مستقبلاً ، وبخاصة عنف الدولة المادىِّ والمعنوى ، بما فى ذلك مؤسَّسة (الاعتقال الادارى) و(القوانين الاستثنائيَّة) التى أثبتت التجربة العمليَّة على أقل تقدير أنها عاجزة ، فى غالب استخداماتها ، عن كسر الإرادة النضاليَّة لدى من يؤمنون بقضاياهم ويتمسكون بمبادئهم ، فهى محض طاحونة تجعجع ليل نهار دون أن تمنح السلطة (طحينها) المأمول! وأنها إلى ذلك ، ولهذا السبب بالذات ، غير جديرة إلا بمراكمة آخر ما نحتاجه: المزيد من الإحن والضغائن فى مداخل أيَّة (تسوية) تاريخيَّة مرغوب فيها! اللهم قد بلغت ، اللهم فاشهد!
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: زُغْبُ الحَوَاصِلْ! كمال الجزولى (Re: Adil Osman)
|
شكرآ الجندرية واحمد أمين على قراءة هذه المقالة الرائعة والتعليق عليها. ولقد نقلتها هنا دون أى تعليق لانها فعلا من القلب الى القلب. والله لقد اغرورقت عيناى بالدموع حين قرأتها. ففيها صدق، وألم يشتبك فيه الخاص مع العام فى جدل بديع.
شكرآ للاستاذ كمال الجزولى على هذه الرؤية الباذخة لامور الدنيا، من سياسة وابوة، وحرمان منها، إلى قياسات معاصرة لا تحتاج الى لبيب لفك مغاليقها..
انظروا ما صرحت به السيدة وصال المهدى، قرينة الترابى! لقد تمنت لو أنّ الديمقراطية استمرت، ولم تأتى الانقاذ!
هكذا ببساطة!
| |
|
|
|
|
|
|
|