|
Re: حوار مع الطيّب صالح (Re: Adil Osman)
|
وهذا حوار ثانى مع الطيّب صالح
الروائي السوداني الطيب الصالح:
(موسم الهجرة) تحد للشمال بمعناه التسلطي
(عرس الزين) تصوير لطبيعة المجتمع السوداني المسالم
لا أعتبر نفسي كاتبا ... وهذا ليس من قبيل التواضع
الفن مرتبط بالكون ... وقد شغلنا انفسنا أكثر مما يجب بموضوع العالمية
حاوره في دمشق وحيد تاجا: الطيب الصالح من الاسماء المعروفة في عالم الرواية العربية , رغم ندرة اعماله , وقد اثارت اعماله القصصية نقاشات واسعة .
صدرت له ثلاث روايات هي : عرس الزين , موسم الهجرة الى الشمال , ضو البيت , ومجموعة قصصية بعنوان (دومة ود حامد) .
فاز الاسبوع الماضي بجائزة الروائي المغربي محمد زفزاف للرواية العربية .
وذلك لمساهمته بامتياز في المسيرة الثقافية الإنسانية ومساهمة كتاباته الروائية في خدمة قيم التعددية والتفاهم وتثبيت قيم الحرية والعدالة الإنسانية
ويذكر ان جائزة محمد زفزاف هي من الجوائز السردية القليلة في العالم العربي التي تحتفي بالفضاء الروائي العربي.
في دمشق اتيحت لي الفرصة للالتقاء به وان أجري معه الحوار التالي :
* من الواضح ان للبيئة التي نشأت فيها اثرا كبيرا على اعمالك الادبية .وهذا جلي في روايتك عرس الزين ورواية موسم الهجرة الى الشمال .
فهل يمكن اعطاؤنا لمحة عن البدايات وعن المكونات الثقافية للطيب الصالح ؟
**بدأت بكتابة القصة القصيرة منذ الخمسينيات , ولااخفي انني وحتى اواسط الستينيات كنت اكتب للمتعة , ومن ثم تورطت !!
واقولها صراحة , انني حتى الان , وهذه حقيقة وليست من قبيل التواضع , انني لااعتبر نفسي كاتبا , أي انني لست الكاتب الذي يعتبر الكتابة مسألة حياة او موت بالنسبة له , وحي الكتابة او علاقتي بالكتابة اذا جاءت فليكن .. واذا لم تأت فهذا امر ليس جلل علي .
* وماذا عن البيئة التي عشت فيها ؟
** نشأت في منطقة الشمال الاوسط من السودان , وهي المنطقة التي تمتاز اكثر من غيرها بالجانب العربي - الاسلامي في السودان , وهي التي اعطت للسودان طبيعة تكوينه الحالي , وقد كانت المنطقة التي نعيش فيها دائما , خصبة حضاريا , لاننا متوازنون تماما مع مصر في تاريخها , وهذا هو الامر الذي يميز علاقتنا بمصر عن غيرها , نحن تجمعنا باشقائنا في الوطن العربي كله صلات عميقة , لكن مع مصر هنالك ماهو اكثر , وتاريخ مصر مثل طبقات جيولوجية تمتد عندنا باستمرار , اذا كانت مصر فرعونية , نحن حضارتنا فرعونية , اذا كانوا مسيحيين فنحن مسيحيون , اذا كانوا مسلمين فنحن مسلمون , اذن فالمنطقة التي نشأت فيها بالسودان هي المنطقة العربية , المتاخمة لمصر حتى جنوب الخرطوم , والتي تمتاز بانها في وادي النيل , ولكنها ايضا على اطراف البادية .
نشأت في تلك البيئة , اهلي مزارعون , وبعضهم اهل علم , وفيهم علماء دين , درست في المدارس التي اقيمت اثناء الاستعمار البريطاني , وتابعت دراستي في جامعة الخرطوم حيث حاولت دراسة العلوم , وفي جامعة لندن درست العلوم السياسية , ولا ادري ماذا يعني هذا : دراستي للعلوم لم تجعل مني عالما , ولادراستي للعلوم السياسية جعلت مني سياسيا .
* يلاحظ تملكك للغة العربية وتطويعك اياها بشكل لافت . والسؤال كيف توفقت الى هذا المزج الجميل بين اللهجة العامية واللغة الفصحى في رواياتك ؟
** احب ان اشير هنا الى انه يوجد في السودان اكبر مجمع للبدو الرحل العرب في الوطن العربي كله , عندنا قبائل في غرب السودان في مناطق نسميها كردفان تجمعات كبيرة للبدو , والمنطقة التي نشأت فيها تكون الحدود الشرقية لديار الكبابيش وهؤلاء من عرب جهينة , ونحن نزعم بانه لاسباب كثيرة ( لان الصحراء في الشمال وفي الغرب حالت بيننا وبين المؤثرات ) احتفظنا باللغة التي جاءتنا , او باللغة التي اتينا بها , نحن خليط من العرب والسلالات النوبية في الشمال , وفينا دماء زنجية , ودماء حامية اخرى , لكن الطابع العربي يغلب على هذه المنطقة , وكنا نذهب الى الخلاوي ( الكتاتيب )
حيث يبدأ الطفل عندنا في سن الرابعة والخامسة تعليمه ويحفظ القرآن الكريم , وماتزال عندنا عناية خاصة باللغة العربية , وفي المرحلة الثانوية درسنا على اساتذة كبار في اللغة العربية , وكانوا يعتنون عناية حسنة باللغة , ورغم ان السودان كان يحكمها الانكليز في تلك الايام فانهم لم يتدخلوا في لغتنا ولم يحاولوا ان يفسدوا علينا ثقافتنا , كما حدث في مناطق اخرى اذ حاول المستعمر ان يغير من وجدان الناس .
ثم ان عندنا التراث الشعبي الكبير وهذا يتكون اولا من الشعر الذي نسميه الدوبيت والذي تسمونه انتم الزجل , فهنالك شعراء كبار في هذا النوع من الشعر مثل الشاعر الحردلو الذ ي عاش في نهاية القرن التاسع عشر , وكلامه يكاد يكون فصيحا لانه من منطقة بدو في الشرق الاوسط , في ارض تسمى البطانة وينتمي الى قبيلة سودانية تسمى الشكرية والى يومنا هذا هؤلاء فيهم شعراء كبار , واذا قرأت للحردلو تظن انك تقرأ الشعر الجاهلي , ففيه فصاحة , وفيه كلمات تكاد تندثر في الاستعمال العامي , موجودة في هذا الشعر الشعبي .
عندنا تراث اخر ساهم مساهمة كبيرة , ليس فقط في حفظ الدين الاسلامي , بل في حفظ التراث الادبي ايضا عندنا , وهو تراث المديح , منطقتنا امتازت بمجموعة من الناس تخصصوا في مدح الرسول ( صلى الله عيله وسلم ) وكانوا ينتقلون من مكان الى اخر وينشدون قصائد المديح على انغام الطبل . وقد برز من هؤلاء شعراء كبار مثل حاج الماحي , وهو من منطقتنا ايضا , وهؤلاء امتازوا بفصاحة لغوية كبيرة , وانوه الى انهم ليسوا من الطرق الصوفية بل هم شعراء انقطعوا لمدح الرسول الكريم ( عليه الصلاة والسلام) , وقد تشربنا كل هذا ونحن اطفال اضف الى هذا التأثير الكبير للهوى الخاص عندي للغة العربية .
* كيف ترى العلاقة بين الشكل والمضمون في العمل الروائي ؟
** هذه المسألة تحمل اكثر من وجهة نظر , وفي الفن عموما , هناك سبل متعددة لمحاولة الوصول الى الهدف .
لكن الرواية - في قناعتي - انشئت اصلا لتناقش قضايا لاتتسع لها الوسائل الاخرى , مثل المقالة والقصيدة , وهي بطبيعتها تحدث التأثير على مساحة عريضة لانها بالطريقة هذه تتيح للكاتب , عن طريق الوصف ورسم الشخصيات وخلق علاقات متشابكة , ان يحدث الأثر المطلوب .
الشيء الثاني في قناعتي هو اننا في الوطن العربي لايجوز لنا ان نلجأ الى ترف الألاعيب الشكلية لان مايسمى باللارواية عند الفرنسيين هو جزء من تقليدهم الفكري والثقافي , فالفرنسيون يحبون اللعب بالافكار , وهم لذلك تستهويهم صناعة وخلق الموضات و التقاليع فتشيع بينهم لسنتين او خمس او عشر سنوات ثم يتركونها . لكن الامر يختلف عندنا , فلدينا قضايا مهمة , وقضايانا في واقع الامر هي التي انشئت الرواية من اجلها , كما كان الحال عند الانكليز في القرن التاسع عشر .. ثم ان الشكل في نهاية الامر يفرض المضمون .. فاذا كان مايريد الكاتب قوله جديدا او طريفا لدرجة ان الشكل القديم لايتسع له .. ينبع بشكل طبيعي شكل جديد .. بالتأكيد انا لست كاتب يجلس ويقول سأخلق شكلا جديدا , لان هذا ادعاء كبير .. وعلى الكاتب ان يكون امينا بعيدا عن الألاعيب .
* يلاحظ وجود تيار عنيف في علاقة الشمال بالجنوب في روايتك موسم الهجرة فإلى أي شيء تعزي ذلك ؟
** رواية موسم الهجرة كلها تحد لمفهوم الشمال بمعناه السائد حاليا في موازين القوى , وموازين السياسة , واقول هنا , وبكل تواضع , ان هذه الرواية ساهمت بتحديد العلاقة بيننا كعرب ومسلمين وبين هذا العالم الشمالي , لان الفكرة السائدة من قبل انها علاقة رومانسية , وهذا شيء مفهوم , لان اساتذتنا الاجلاء الذين ذهبوا الى الغرب في ذلك الوقت وقعوا تحت تأثير هذه الحضارة الغربية , وانا لاانكر ان الغرب جذاب , ونحن جميعا , بدرجات متفاوتة , واقعون تحت تأثير هذه الحضارة , الا ان الرواية جاءت لتتحدى هذا الاحساس بالدهشة , وهذه الرابطة التي اقول دائما بانها غير سوية , صحيح اننا نتعامل مع الغربيين , ويمكن ان نحبهم , وان نتزوج منهم , ولكن في النهاية نحن شيء وهم شيء اخر من هنا جاءت حدة الصراع والعنف الذي تكلمت عنه في سؤالك .
* والى ماذا تعزي غياب العنف من روايتك عرس الزين ؟
** عرس الزين هي الرواية التي تمثل روح المجتمع السوداني الذي عشت فيه بدون مبالغة , فهذا هو السودان الذي عرفته في طفولتي وصباي . مجتمع يحل مشاكله سلميا , فيه هذا التكافل , وفيه طاقة الحب , او المحبة , هي الغالبة , واعتقد انها تمثل السودان الشمالي , أي السودان العربي المسلم , وانا حين اقول السودان الشمالي اضم اليه منطقتي الشرق والغرب .
وشمال السودان يختص ببعض السمات :
اولا : الاسلام دخل عندنا سلما ولم يدخل حربا , وقد ترسب هذا في قاع اللاوعي عندنا انه لم تحدث حروب وصدامات .
ثانيا : ان الاسلام عندنا يمتاز بالجانب الروحي - الصوفي , فنشأ عندنا احساس بالتسامح وبقبول كثير من التناقضات في اطار واسع .وقد قدمت هذا في روايتي
عرس الزين واعدت هذا الكلام في رواية ضو البيت فهذه هي ملامح تركيبة المجتمع عندنا , فيه كثير من المتناقضات يحتويها اطار واسع , والنظرة متسامحة وليست متساهلة .
والان اقول : ان عرس الزين هي البيئة التي ربما تكون قد تخلخلت وارجو ان لاتكون قد ضاعت ! واعتقد ان تاريخ السودان الحديث يساند ماذهبت اليه , فقد دخلت مؤثرات عديدة على هذه البيئة وادخلت طاقة من العنف , وادت الى حدوث خلخلة في جسم المجتمع الذي كان متكافلا, وظهر هذا جليا في رواية موسم الهجرة الى الشمال التي اتت بعد عرس الزين , وقد نشرتها عام 1966 , واذكر ان بعض الناس قالوا لي يومها بان هذا العنف الشديد لايمكن ان يحدث في قرية سودانية , واجبت بانني اشعر بان هذا العنف موجود تحت السطح , ولسوء الحظ فان الاحداث التي اتت فيما بعد اكدت ظني , وبصراحة فان الكاتب يشعر احيانا بحزن شديد عندما تصدق تنبؤاته .
وانا متفق معك بانه لايوجد عنف او حدة في عرس الزين لان المجتمع عندها كان هكذا , واعتقد جازما ان المثل الاعلى للمجتمع في ذاكرة السودانيين اليوم هو مجتمع السودان الموجود في عرس الزين .
* يرى البعض انك ظلمت المرأة في رواياتك . مارأيك , و كيف تبرر موقفك هذا ؟
** المرأة في رواياتي هي الطرف , ان صح التعبير , الذي يقع عليه العنف , ولهذا اقول انه ليس بمحض الصدفة في الحروب القديمة عندما كان يدخل جيش منتصر لمدينة ما , تستباح له هذه المدينة , واول مايستباح هم النساء , ولذلك قلت : ان المراة , مفهوم المرأة او الانوثة هي التي يقع عليها العنف في الحضارة . واود هنا ان اقول : انني في رواية موسم الهجرة الى الشمال قدمت النساء الاوربيات كأنهن نساء ساقطات , فان هذا لم يكن قصدي ابدا .. لقد وقع عليهن العنف كما وقع على غيرهن , ولكن المشكلة تعقدت هنا لان العنف له مبرر خلقي , فبطل الرواية نفسه مظلوم , وهذه الحالة دائمة الحدوث في التاريخ .. المظلوم يوقع الظلم على الاخرين, وقد جعلت الفتاة حسنة , في الرواية نفسها , وهي بنت البيئة السودانية , جعلتها ايضا ضحية لهذا العنف .
اما في عرس الزين وفي رواياتي الاخرى , فانت تجد المرأة العاملة التي تتمتع بشخصية مستقلة وتقرر مصيرها بنفسها .
* سؤال اخير . مامدى علاقة محلية عمل ادبي ما بانتشاره عالميا , وبكلمة اخرى هل تتفق معي في ان التعبير عن المحلية هو شرط اساس للانتقال الى العالمية ؟
** انا دائما اقول عن العالمية التي نقلها اخوتنا عن الفرنسية او الانكليزية .. ان الفن مرتبط بالكون , واظن اننا شغلنا انفسنا اكثر مما يجب بموضوع العالم , لاننا لم نتخلص تماما من ربقة الصلة غير السوية بيننا وبين العالم الغربي على وجه التحديد , لان العالمي هنا معناه ان يكون معترفا به في اوروبا - ولان الفرنسيين والانكليز والايطاليين حكمونا , فهذا هو العالمي عندنا - ونادرا ماننظر الى الصيني او الهندي او الفارسي على انه عالمي .
وهذا ماناقشته في روايتي موسم الهجرة .. انه الانبهار بالغرب , ونوع من الرفض له , نحن لم نحدد علاقة طبيعية مع الغرب بعد , وبصراحة اقول انني حينما اقرأ في الوطن العربي اشعر انني عالمي . وبطبيعة الحال يسعد الانسان ان يقرأه سويديون والمان وغيرهم , ولكن يجب الا ننشغل بهذا لدرجة ان الكاتب يجلس ويقول : سأكتب عملا عالميا كما يقال حول اختراع الشكل الفني .
| |
|
|
|
|