|
|
 باقان..ومعارك دون كيشوت
|
بقلم: عمر باسان*
من منا لم يقرأ رائعة الأديب الاسباني مغيل سرفاتس المعروفة بالعربي بـ( دون كيشوت) التي نشرت على جزئين عامي 1605- 1615 م..وقد طبعت مئات المرات في اسبانيا وغيرها من دول العالم.
والرواية تتحدث عن (دون كيشوت) ذلك الرجل النحيف الذي ناهز الخمسين من عمره ، ولم يتزوج من كثرة قراءته لكتب الفروسية ، ويكاد يفقد عقله وينقطع ما بينه وبين الحياة الواقعية ، ويبلغ به الهوس حداً يجعله يفكر في أن يعيد دور (الفرسان) الجوالين في أوروبا ، وذلك بمحاكمتهم والسير على نهجهم في نصرة الضعفاء والمساكين ، والدفاع عن الأرامل واليتامى ونشر العدل.
وباقان الذي يبحث عن بطولات زائفة يعيد انتاج شخصية دون كيشوت ، الذي افتقد التواصل الحقيقي مع عصره وزمانه..فصار في بحث دائم على مصارعة أشياء لا وجود لها..ويطلب منا دوماً (العودة للوراء) الى ما قبل اتفاقية نيفاشا التي اوقفت الحرب في الجنوب.
ومصارعة باقان لطواحين الهواء في أيامنا هذه تتضح بجلاء في حديثه عن اتجاه الجنوب نحو الانفصال.. فالرجل الذي خفتت أضواؤه منذ مغادرته كرسي الوزارة يبحث عن معركة جديدة..(تجدد) الصراع بين الشمال والجنوب..الذي ما يزال يسيطر عليه ويشل تفكيره عن المضي قدماً نحو ما يوحد البلاد ويقرب بين شطريها.
والرجل لا تعوزه الحجة التي لا يفتقهدها كما يظن ليبرر من وجهة نظره هذا الاتجاه نحو الانفصال ، ليحدثنا عن تمسك المؤتمر الوطني ب(المشروع الحضاري) الذي يستند الى الشريعة الاسلامية رغم توقيع اتفاقية السلام ، ويضعه في مقابل طرح الحركة الشعبية (السودان الجديد) الذي يدعو الى سودان علماني ديمقراطي.
ونظراً لاختلاط الأزمنة ، واضطراب المعايير داخل باقان ، يحاول إرجاع عجلة الزمن للوراء..للأمس القريب. لما قبل نيفاشا 2005حيث الصراعات والحروب ، حيث القضايا المعلقة بين الطرفين ، التي لا تحتاج لحوار ونقاش استمر لأكثر من محصلة الاتفاق الذي تم بين الاستاذ علي عثمان محمد طه والدكتور الراحل جون قرنق.
لكن (باقان) لا يعجبه تراجع الروح العدائية بين الشمال والجنوب ، ويزعجه اكثر تراجع الأصوات التي تنادي بالانفصال داخل الجنوبيين ، ويغضبه أكثر المواقف التي تتخذ داخل الحركة الشعبية في تعاملها اليومي داخل حكومة الوحدة الوطنية بعيداً عن تأثيره..ومن ثم يبحث (باقان) عما يعكر صفو العلاقات بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني في تعاملها اليومي فلا يجد إلا أن يعيد نكأ الجراح ، واسترجاع الماضي الأليم..ولو بزج موضوع (الشريعة الاسلامية) في حديثه ، وأنه لا وحدة بلا مصالحة وطنية عبر تنازل الطرفين الى مشروع وسط بينهما.
وهذا تفكير معوج لا يستقيم ومنطق الأشياء ، فلكل قناعاته وطريقة تفكيره في الحياة ومن بعد خياراته ، ما بين هذا المشروع أو ذاك ، سواء كان هذا المشروع اسلامياً أو مسيحياً أو علمانياً ، أو حتى لا دينياً..والاسلام يؤكد هذا بقوله (لا إكراه في الدين)، ولكن باقان يحاول جاهداً حشر الحاضر المشرق بكل ضخامته ووقعه وأحداثه في لباس الأمس المظلم الكريه الذي تظلله الحروب والصراعات.
ولعلنا نجد فيما كتبه الدكتور الفيلسوف زكي نجيب محمود في كتابه (هذا العصر وثقافته) عن شخصية دون كيشوت ما يفسر معاناة الفصام وغرائبه التي يعيشها باقان ، حيث يقول الدكتور: (عندما صور سيرفانتس هذه الشخصية كان بمثابة من يقدم للناس صورة رجل يجسد عهداً مضى ، فمن أراد أن يعيده كما كان بكل قواعده وأصوله ، كان بذلك أعجوبه تدعوا الى الضحك ، حتى ولو مازج هذا الضحك شئ من العطف على هذا المسكين ، الذي لم يستطع أن يفرق بين الممكن والمحال ، فلقد ملأ رأسه بالصورة المقروءة في الكتب القديمة ثم خرج ليحياها ، فاذا الواقع من حوله قد تغيرت معالمه عما قرأ ، وبدلاً من أن يعدل الصورة المقرءة ليجعلها تساير الواقع ، حاول العكس وهو أن يغير من الواقع ليجعله مسايراً للمقروء في الكتب ، ومن هنا جاءت غفلته).
إن السودان ملئ بامثال دون كيشوت ويحتاج منا لأن نسعى جميعاً لاخراجهم من هذه الحالة (الغرائبية) التي يعيشونها..حتى لا يفسدو حاضر أيامنا بظلام أمسهم.
|
|
 
|
|
|
|
فدوى الشريف
Deng
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست