الليم متين! ضيف على الرزنامة: محمد المكي ابراهيم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 10:11 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-29-2008, 03:09 AM

امبدويات
<aامبدويات
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 2055

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الليم متين! ضيف على الرزنامة: محمد المكي ابراهيم


    الليم متين!

    ضيف على الرزنامة: محمد المكي ابراهيم



    الثامن من سبتمبر 2008م

    وردتني منذ أيام أنباء مؤسفة عن أخي الجراح اللامع وما تعرض له من ظلم وأذى، فقررت السفر إلى السودان، ولكن ربك لم يرفع القدم إلا اليوم.

    نغادر سان فرانسيسكو إلى لندن في الثالثة ظهراً بالتوقيت المحلي، وهو ما يعادل الحادية عشرة مساء بتوقيت لندن، أي بفارق ثمان ساعات. إلا أننا ظللنا، على مدى عشر ساعات، نطارد ليلا آبقاً لن ندركه أبداً، فقد ظل يتخفى بين السحب والغمامات، ويروغ منا ونحن نعبر القطاعات الزمنية، من التوقيت الباسيفيكي إلى توقيت شرق الولايات المتحدة إلى توقيت غرينتش. وبعد عشر ساعات من المطاردة وصلنا لندن، فلم يكن هنالك ليل في انتظارنا، وإنما نهار عريض. وكان الناس في مطارها بوجوه مغسولة، لامعة، حليقة، أو مخططة ومكحولة، على عكس وجوهنا التي تحمل آثار النوم المسهَّد والإرهاق.

    كنا على متن طائرة أمريكية تغص بالسياح البريطانيين الذين تقاطروا على الولايات المتحدة ليتمتعوا بأسعارها الرخيصة بعد أن صار جنيههم الإسترليني يعادل دولارين أمريكيين. وكعادة الطائرات الأمريكية كنا مكدسين ومحشورين في أضيق مساحة ممكنة. وصفاً بعد صف لم يكن هنالك مكان نضع فيه إقدامنا أو نفرد سيقاننا. وحين يميل الراكب الذي أمامك بكرسيه إلى الوراء يتقلص مجالك الحيوي إلى لا شيء، ويصعب عليك رؤية تلفزيونك المثبت على ظهر مقعده لأنه يصير أقرب إلى عينيك مما ينبغي. وكل ذلك سُنَّة درج عليها الطيران الأمريكي وهو يواجه واحدة من أسوأ أزماته المالية التي جعلته يلجأ إلى تخفيض الصرف على راحة الركاب، مثلما ألجأ طواقم الملاحين إلى القبول بتجميد أجورهم وعدم المطالبة بزيادتها، لأن ذلك سيفلس الشركات، ويفقد الطواقم فرصة العمل. ومنذ أكثر من ثلاثة أعوام كانوا قد قطعوا عن ركابهم الوجبات المجانية والبطاطين، واكتفوا بأكياس متناهية الصغر من الفول السوداني والمعجَّنات الصغيرة والقهوة النافدة. ولكن مكاتب الحجز كانت تؤكد أن ذلك يحدث فقط في السفريات الداخلية، موحية بأن الترف القديم لا زال متاحا في السفريات الدولية.

    كان في استقبالنا طابور صغير من المضيفات والمضيفين يتحدثون اللهجة البريطانية المميزة، ومن عددهم القليل تأكدت أن شركة الطيران لا زالت على تقشفها المعهود. وتأكدَت أسوأ ظنوني حين اختبرت المسافة التي تفصل مقعدي عن المقعد الذي أمامه، وندمت أنني لم ألجأ للانترنت في الوقت المناسب لأحجز مقعداً في الصف الأول، حيث تستطيع أن تفرد ساقيك وتخرج وتدخل دون أن تجعل جيرانك ينهضون ليفسحوا لك سبيل الخروج.

    في بداية الأمر كان رفاق سفرنا يلوذون بالتباعد البريطاني المعهود، لكن الليل الآبق تكفل بفضحهم وكشف دخائلهم، فقد كان بوسعك وأنت تعبر الممرات أن ترى نساء سلبهن النوم وقارهن وجمالهن .. نساء نائمات بأفواه مفتوحة وأضراس محشوة سوداء تبدو مرعبة كمغارة لصوص، أو يكون الجزء العلوي من أجسامهن قافزاً من ملابس السفر الخفيفة، بينما يجبرك الجزء السفلي على غض النظر متحاشيا السيقان العارية، والأفخاذ السمينة القبيحة التي كشف النوم أستارها!

    كان لنومنا مظهر دهني ثقيل يطفر من أجسادنا المنهكة ليملأ جو الطائرة، ويرش نفسه على سجادها وحوائطها، ويدخل معنا دورات المياه حيث نعاني الإمساك والتسلخات الناشئة عن الجلوس الطويل، والحرج الذي نعانيه في الداخل من علمنا أن طابوراً من الركاب ينتظرنا بالخارج وهم يتململون من الحصر وقلق الانتظار في طابور غير مأمون العواقب!

    أصابني الاكتئاب بفعل تلك الظروف والأحوال، واستعصى عليَّ النوم. ومن بعده شعرت بضيق في التنفس. وفي لهوجة وتعجل جعلت الجارين الأمريكيين ينهضان ويتركاني أغادر مقعدي المطل على النافذة لأذهب إلى المضيفات في غرفة الخدمة وأشكو لهن من ضيق التنفس.

    ـ "لماذا لا تعود إلى مقعدك وسوف نأتيك بأنبوبة الأكسجين"!

    قلت:

    ـ "لا يمكنني العودة لذلك المكان .. إنه محشور وليس فيه هواء"!

    قالت إحداهن:

    ـ "تعال معي .. سأعطيك مقعدي في أسفل الطائرة"!

    كانت تعني ذلك المقعد في نهاية الطائرة الذي تجلس عليه المضيفة عند الهبوط وعند الإقلاع، وكان ذلك يناسب حالتي تماما. وبعد قليل كانت توافيني بأنبوبة الأوكسجين الحمراء وبكمامة التنفس. عند ذلك بدأت أزمتي تنفرج، ولكن ما ضايقني هو تعرضي لنظرات الركاب المتوجهين إلى الحمام، والمنتظرين أمامه، وهي نظرات حذرة، متخفية، ما تكاد تلتفت نحوها حتى تجدها قد راغت منك متظاهرة بالسرحان في أفق بعيد. وقلت في نفسي: "لم لا؟! ليعلم الغاشي والماشي أنني لم أعد ذلك الولد الذي كان يسافر على ظهور السفن والحافلات لأيام وأيام ليصل إلى الأمكنة الجديدة البعيدة .. نعم، لم لا؟! الحجر يشيخ، والشجر يشيخ، والحديد يصدأ ويتفتت، وأنا المجبول من صبر كردفان وقدرتها على الاحتمال، والمفطور على المسافات، لا بد أن أكف عن احتمال التعب والإرهاق، وأخلد إلى نوع من السكينة، وأدخن أمام الجميع هذا الغليون المليء بالأوكسجين النقي!



    التاسع منه
    أمس بدأنا رحلتنا في النهار. غير أننا، وبعد كل تلك الساعات من الطيران، وصلنا لندن في النهار أيضاً! هكذا ضاع منا ليل لم ننعم فيه لا بالنوم ولا حتى برؤية الظلام!

    على أن حظاً لا يقل سوءاً كان ينتظرنا هذا النهار. فقد تجولنا في مطار لندن، واشترينا، بأسعاره المجنونة، هدايا كان يمكن شراؤها من الولايات المتحدة بأرخص كثيراً من سعرها اللندني! وضعوا الهدايا في كيس شفاف، وحين طلبت منهم ما يستر عورتها اعتذروا بأنه ليس لديهم غيره مما يحجب مشترياتك من أعين الآخرين!

    حملت كيسي الشفاف ووضعته إلى جواري في كرسي من كراسي المطار قبالة لوحة الإعلانات الإلكترونية التي ستعلن عن موعد إقلاعي الجديد على متن الطائرة الإماراتية إلى دبي. ثم جاءت سيدة وجلست إلى جواري يفصلها عني المقعد الذي وضعت عليه الكيس وحقيبة الكتب، وقالت كلمتين في افتتاح محادثة ولدت ميتة، ثم لاذت بالصمت، وتركتني أقلب كتابا بين يدي، ثم رحت في سبات عميق.

    حين صحوت كانت لوحة الإعلان تقول إنه بقيت أربعون دقيقة على الإقلاع، فوضعت كتابي في الحقيبة التي أحملها على كتفي، وأسرعت نحو بوابة الإقلاع. وبعد مشوار طويل على الممشى المتحرك تذكرت كيس الهدايا، ووجدت نفسي مضطراً للعودة إلى مكاني القديم في صالة العبور لأبحث عنه، ولكنني لم أقف له على أثر! ولم أكن واثقاً متى فقدته: هل كان ذلك أثناء النوم الذي غصت في لجته؟! أم خلال الدقائق القليلة التي قضيتها على الممشى المتحرك؟! يعوضني عنه الله!

    بمجرد دخولي طائرة الإمارات شعرت أن الله يعوضني عن كل التعب الذي عانيت، والليلة التي ضاعت مني بين سان فرانسيسكو ولندن، وكيس الهدايا الشفاف الذي ضاع مني في المطار! أول ما أعطاني ذلك الإحساس هو المساحة التي تفصل مقعدي عن المقعد الذي أمامي، فقد كانت كافية لكي أفرد ساقي وأحركهما في أكثر من اتجاه. وكان الكرسي نفسه وثيراً، وكانت هنالك بطانية خفيفة يقترب لونها من لون المقعد نفسه بانسجام محبب ينم عن حسن الذوق. قلت لنفسي: "سآكل وأنام. سأنام نوماً طبيعياً لا أستعين عليه بالحبوب المهدئة التي كنت أحملها في جيبي. وإذا لزم الأمر سأطلب منهم أسطوانة الأوكسجين"!

    لكن الأمر لم يلزم، فقد تناولت عشاء خفيفاً لا يكبس البطن، ولا يحول دون التنفس. وجعلت المقعد يميل إلى الوراء إلى أقصى ما يستطيع، محاولاً أن أنام ملء جفوني لا يوقظني سوى حفيف أثواب المضيفات وهن يتسارعن إلى خدمة الركاب. فبعد سبع ساعات سنكون في مطار دبي، وسيأخذوننا إلى فندق، ومن ساعة الوصول إلى ساعة الإقلاع نحو الخرطوم سيكون هنالك متسع من الوقت للراحة والاتصال بالأهل وترتيب بعض الشئون.

    غير أن شيئاً من ذلك لم يحدث، فقد استعصى النوم، وظل يلوح في خواطري المبلبلة ما جرى لذلك الصبي الذي كان مناط إعجابي ومحبتي على عهد الصبا وأوائل الشباب، ولا زال يحتل في قلبي أرفع المقامات.

    كان ولداً هادئاً قليل الكلام، لكنه حين يتكلم يقول أشياء رائعة، وأشياء مضحكة، وأشياء مليئة بالحكمة والجلال. كان عقله عبقرياً، وله يدان ذكيتان تقتحمان كل ما يبدو مستحيلاً، وبهما كان يرسم المناظر والأشخاص، ويعزف الكمان، ويصلح السيارات، وأجهزة الراديو، والساعات القديمة، ولم يكن هنالك من يقوم بتلقينه تلك الأشياء سوى عقله الوافر الذي يهديه إلى اكتشاف الطرق السرية التي تعمل بها تلك الأشياء، فيتمكن من إصلاحها وإعادتها إلى الحياة.

    في نهايات الصبا جلس لامتحان الشهادة السودانية (الثانوية العليا)، وأحرز درجة تؤهله لدخول كلية نظرية، لكن هواه كان في دراسة الطب، والجراحة على وجه خاص.

    هكذا، وبعد سنة في دراسة الآداب، هجر الجامعة، وأعطى نفسه أجازة لمدة عام استعد خلاله لأداء الامتحان من جديد. ونجح، هذه المرة، بامتياز، وأفلح في دخول كلية العلوم بانتظار المسابقة التي تأخذ قمة الهرم إلى كلية الطب، وتأخذ ما دونها إلى كليات البيطرة والزراعة.

    في ذلك العام الحاسم تزاملنا في حجرة في إحدى داخليات الجامعة. وكانت تلك من أجمل أيام حياتي، فقد كنا نضحك باستمرار، ونتعلم السباحة، ونتفرج على لوحات إبراهيم الصلحي، ونتناقش حولها، وفي مرات متباعدة كنت أجد الجرأة لأقرأ عليه قصيدة كتبتها، أو أقص عليه، بطريقة روائية، وقائع القضايا البريطانية التي كنا ندرسها في كلية القانون. أذكر من تلك القضايا التي أثارت اهتمامه قضية سيدة بريطانية كلبة جداً، وجشعة جداً! لكنها، في ذات مرة من المراري، تغلبت على جشعها وبخلها واشترت لنفسها زجاجة مرطبات راحت تكركعها بجشع وعوارة. وحين أتت عليها انزلق إلى فمها جسم غريب أخرجته من فمها، فوجدت أنه حلزون. ولكونها جشعة وبتاعت مشاكل فقد أعادته إلى الزجاجة، وذهبت إلى محاميها ليرفع لها دعوى ضد الشركة التي أنتجت وعبأت الزجاجة. وكانت الزجاجة من النوع الملون السميك غير الشفاف. ولذلك قرر القاضي أنه لم يكن خطأها أن تشرب المشروب كله، وتعرض نفسها لكل ذلك القرف، وأن الشركة المصنعة هي التي كان ينبغي أن تتخذ الحذر الواجب في التأكد من نظافة الزجاجة قبل أن تعرضها للبيع. وهكذا ظفرت تلك الجشعة بتعويض كبير!

    طبعاً لم تكن مجلة الأحكام البريطانية تعرض القضية بتلك النعوت والأوصاف، لكنني كنت أخترعها لكيلا يضجر صديقي من القصة، وبنفس الوقت لتركيزها في ذاكرتي، فكنا، بمثل ذلك، نمرح مرحاً طيباً ومفيداً ونحن على أبواب الامتحانات!



    العاشر منه

    دخلنا الخرطوم من زاوية جديدة بدا لي أنني لم أجربها من قبل على كثرة ما جربت من مداخل الوصول.

    ذات مرة جئت السودان من إثيوبيا. كان الوقت نهاراً، والموسم خريفاً، وكان معي عدد كبير من زملائي الأفارقة الفرانكوفونيين قدموا معي من نيروبي حيث حضرنا سمناراً في القانون الدولي. وكانت دهشتهم كبيرة وهم يشاهدون تحتهم الخضرة الزاهية للجزيرة المروية. وعلى الطريقة الأفريقية راحوا يتصايحون:

    ـ "هئ .. سيه فيردان" (إنه مخضر)!

    ـ "سيه فير" (إنه أخضر)!

    ـ "ليس صحراء كما يقولون"!

    وكان مخلصكم يكاد ينفجر فخرا وجذلا.

    أما الآن فلم يكن معي شاهد غير الله. وكنت أرقب مسايل الماء وهي تتعرج بين شعاب الوديان والخضرة النحيلة التي تنمو على ضفاف تلك المسايل، مؤكدة أن موسم الخريف مرَّ بتلك الربوع، وغالب الصخر والجفاف، ليترك عليها ميسمه الميمون.

    غفوة أخرى ثم صحوت على أضواء الخرطوم.

    أضواء ملونة ولكنها تبدو متباعدة، وليست مثل تلك الأضواء التي تطالعك وأنت تعبر جبال الألب عابرا سويسرا إلى النمسا أو ألمانيا. وسبب ذلك هو وقوع مطار الخرطوم في قلب المدينة، مما يجعل الطائرات تقترب منها على مستوى منخفض من التحليق لا تندغم معه الأضواء في بعضها البعض، ولا تبدو مثل شعلة واحدة من النور، أو عقداً مبعثراً من الماس!

    لقد وصلنا وانتهى السفر الطويل. ومن الآن فصاعدا لن أسافر أكثر من خمس ساعات إلا مضطراً. ولن أسافر وحيداً مهما كانت الدواعي والأسباب. وفيما بعد التقيت صديقاً عزيزاً فقد أحد أبناء عمومته بسبب سفرة طويلة إلى شرق أوروبا، فظل طوال الوقت يكرر على مسمعي:

    ـ "محمد .. خذ أسبرينة كل كذا ساعة في الطائرة .. بعد كل ساعة طيران إنهض لتتمشى في ممرات الطائرة .. تحرك ولا تركن للخمول أثناء السفر .. قم ببعض التمارين الرياضية .. ألا تلاحظ أن الأوربيين والآسيويين يفعلون ذلك؟! حاذر من الجلوس الطويل المستمر .. تحرك وجدد نشاطك"!

    وصلت الخرطوم وليس لي من شاغل سوى ما حدث للصبي الذي تخرج طبيباً، ثم تخصص في الجراحة، فأصبح واحداً من ألمع جراحي بلادنا، بل وأستاذاً للجراحة في كليات الطب.

    لكن شيئاً من كل ذلك لم يمنع الأيدي الآثمة من الامتداد إليه بالأذى. ليس الأذى العادي أو الطفيف، وإنما أبشع أنواع الأذى الجسيم!



    الحادي عشر منه

    الدنيا حر.

    الشوارع مكدسة بالحديد.

    وفي شارع الجمهورية، في قيظ الثالثة ظهراً، اصطفت الدواب الحديدية، وكل واحدة منها تغلي من الداخل، بينما ركابها مستسلمون لليأس والضجر!

    ثم ينفتح نور أخضر في مكان بعيد، فنأخذ بالحركة ثم نتوقف من جديد، ويهجم علينا جيش من الأولاد الصغار يحملون في أيديهم كل ما لا يخطر على البال .. أطقم سكاكين وسواطير، ومرايا مذهبة، وبنادق ومسدسات أطفال. وانفرد أحدهم بتحفة التحف .. لعبة أطفال على هيئة دب أبيض الوبر بحجم ضخم من شأنه أن يكتم أنفاس الطفل الذي يحاول أن يلعب به ويجعله يختنق تحت وزنه الثقيل!

    والدنيا رمضان.

    وبعد وصولي بيومين كان وزني قد نقص بسبب الشمس والصيام. ومع ذلك لم يمنعني الإرهاق، ولا الجريمة المرتكبة بحق أخي الجراح اللامع، من تذكر الجريمة الأخرى التي تمت في مثل هذا اليوم على أيدي إرهابيين نسبوا أنفسهم إلى الإسلام بالزور والبهتان!

    حدثت جريمة الحادي عشر من سبتمبر أمام أعين الإعلام الأمريكي الذي نقلها لجمهوره وكلاهما يعاني من الذهول. وفي غمرة الاعتزاز بالإثم راح أنصار الإرهاب يبحثون عن تفسيرات جديدة لبعض آيات القران الكريم، كي يحولوها إلى نبوءة بانهيار البرجين. لكنهم تراجعوا حين لوحت الولايات المتحدة بالعصا الغليظة، ولجأوا إلى الإنكار:

    ـ "كلا .. لم نقم بذلك العمل البربري .. لقد قامت به الولايات المتحدة نفسها وتحاول الآن إلصاقه بالمسلمين"!

    وانتهز الفرصة بعض المرتزقة. منهم صحفي فرنسي وضع كتاباً كاملاً يمعن، عبر صفحاته، في نظرية المؤامرة، ويشرح تفاصيل الخطط الأمريكية لتدمير البرجين وتحميل جريرتهما للمتطرفين المسلمين!

    وينسى المتكذبون مشهداً بليغ الدلالة تم نشره لكل العالم هو مشهد ذلك الشيخ السعودي المقعد الذي فقد ساقيه في حرب أفغانستان، والذي ذهب لمقابلة بن لادن في مخبأه، وقد خبأ بين ثيابه آلة تصوير وضعتها له المخابرات الأمريكية، وبثت صورها ليشاهدها العالم. دار الشيخ ولفَّ حول الموضوع، قبل أن يقول لبن لادن إنه رأى كل تفاصيل العملية في المنام! وظل يستدرجه حتى انفتح، وراح يقص عليه الأحلام المماثلة التي رآها متعاطفون آخرون لدرجة أنه خشي على العملية من الانكشاف بسبب تلك الأحلام!

    وكان ذلك أول اعتراف ضمني من بن لادن بأنه وجماعته هم مدبرو الحادث الذي غير تاريخ العالم!

    بعد ذلك اليوم تغير كل شيء.

    قبله كان أبناؤنا في الغرب، وفي أمريكا نفسها، يدعون الناس للإسلام، ويحققون في ذلك نجاحات كبرى. أما الآن فلم يعد هنالك أحد يرغب في سماع أي شيء عن الإسلام، ناهيك عن اعتناقه!

    أما على المستوى السياسي فقد تحولت الولايات المتحدة من الحكم النزيه الذي كنا نرجوه لحل قضية الشرق الأوسط إلى الانحياز الكامل إلى صف إسرائيل. وأصبح رجال الشرطة والجوازات يتفحصون جوازاتنا ويهزون رءوسهم عجبا!

    في الأسبوع الأول للحادث سارت المظاهرات في العالم العربي ابتهاجا بسقوط البرجين، بينما خرجت مظاهرات الغضب والاحتجاج في إسرائيل، فكيف، بربكم، يستوي رد الفعل الأمريكي على الجانبين؟! كيف ينحاز الأمريكيون أو السياسة الأمريكية إلى الجانب الذي يبادرها بالعداوة والشماتة، ويفرح لما يلحقها من الأذى، بينما الجانب الإسرائيلي يتعاطف معها ويبكي عليها.؟! ولا زال الأمريكيون يتذكرون كلمة صحيفة (لوموند) الفرنسية عشية الحادي عشر من سبتمبر: "كلنا اليوم أمريكيون .. كلنا منكوبون، لا أمريكا وحدها"!



    الثاني عشر منه

    موجود في الخرطوم وغير موجود!

    دائرة تحركاتي محدودة، ورئاستي عند د. حسن ابشر في شارع البرلمان، ولا وقت لي كي أمتع نفسي بمقابلة أصدقائي الصحفيين وغير الصحفيين، وكل من التقي به أناشده أن يحفظ سري ولا يحدث به أحداً!

    كان غرضي أن أتفرغ، بعض التفرغ، لقضيتي .. قضية أخي العبقري الجراح التي تتجمع خيوطها، لكن دون أن ينزاح غموضها!

    والحقيقة أن وقائعها ممعنة في البساطة، فقد دخل عدة أشخاص إلى منزله، وحين تأكدوا من خلو الدار إلا منه، اعتدوا عليه عدواناً قاسياً، وتركوه غارقاً في بركة من دمائه، ثم نهبوا داره وهربوا!

    وقائع يسيرة الفهم، وقد حدثت لكثيرين غيره، إلا أن غموض القضية ينشأ عمَّا تلاها من تطورات. فقد تم إلقاء القبض على واحد من الأشخاص الثلاثة المتهمين بتدبير الجريمة، ولكن أقواله لم تتح لنا معرفتها حتى الآن! وكان هنالك مبلغ مالي كبير لم نسمع عنه شيئاً، ولم يقف له أحد على خبر أو أثر!

    قابلت مسئولين هنا وهناك، وسمعت منهم وعوداً وكلاماً طيباً، لكنني لم أظفر منهم على شيء محدد، فبدأت تنتابني الشكوك، والهواجس، والإحساس بأن كل العذاب الذي تحملته، والسرعة التي تحركت بها من أمريكا إلى السودان، لم تثمر شيئاً!

    كان أحد الأصدقاء الناصحين يقول لي:

    ـ "إذا أردت أن تحقق شيئا في السودان فابدأ إما من الصفر أو من القمة"!

    طلبت منه أن يوضِّح كلامه، فقال:

    ـ "الصفر هو الموظف الصغير الذي يباشر العملية".

    ـ "والقمة"؟!

    ـ "فوق .. إما المدير أو الوزير أو عمر البشير! ألا تعرف عمر البشير أو أحداً يأخذك إليه"؟!



    الثاني والعشرين منه

    لعنت قراري بالوصول متخفياً إلى الخرطوم. وتمنيت لو أنني أشهرت زيارتي، واستعنت بأصدقائي في كشف الغموض الذي يكتنف قضية أخي الجراح!

    كان صاحب الرزنامة أخي كمال الجزولي أول من تكفل بإشهار وصولي إلى الخرطوم. فقد دعا اليوم كافة أحبابي من رجالات ونساءات السياسة والأدب والصحافة لتناول الإفطار الرمضاني في داره العامرة ترحيبا بي ووقوفا على أخباري. وكالعادة كان إفطاراً ناجحاً لبى دعوته الجميع، فقضينا وقتا طيبا متمتعين برؤية الوجوه الحبيبة لكبار الموهوبين في البلاد.

    وكان نجلا كمال ـ المهندسة أروى والطبيب أبي ـ يتسللان بين صفوف المدعوين يقومان بالخدمة والمعاونة، ولا يقل عنهما نشاطاً في ذلك عمهما الموهوب، بل كشكول المواهب، عبد المنعم الجزولي الذي كان قد سبقني إلى الوصول، هو الآخر، من الولايات المتحدة. وبصورة من الصور ذكرني ذلك بتقاليد الضيافة في منزل الأكاديمي الإسلامي بروفيسور خورشيد احمد في باكستان، حيث كان يقوم على خدمتنا وغسل أيدينا أكاديميون شباب تخرجوا لتوهم من جامعات هارفارد وييل ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا. وكان من رأيه أن أدب الضيافة الإسلامي يضع الصغير في خدمة الكبير دون استثناءات.

    واستطراداً، فإن ذلك الكريم وزمرته كانوا قد رفضوا السلطان يبذله لهم الرئيس الأسبق ضياء الحق الذي كان قد أعلن الشريعة، قبل أن يلقى حتفه في حادث طائرة هوت به من حالق، واستعصموا قائلين: البرنامج الإسلامي برنامجنا نحن، ولن نأتمن أحداً غيرنا على تنفيذه. وهكذا رفضت (جماعة إسلامي) مشاركة ضياء الحق في الحكم!



    .. واليوم

    سلام على الإسلام وأيامه.

    سلام على تلك القباب حيث يرقد الصالحون.

    وعلى تلك الوجوه النيرة التي يشع منها نور الولاية والصلاح.

    أما اليوم فإنني أتلفت متصفحاً وجوه القوم، فلا أرى أبا بكر ولا عمر، بل أرى ابن العاص يكشف سوأته أمام الفيلقين، والمغيرة بن شعبة يدفع عن نفسه الاتهام، والثقفي يرتجز أمام المصلين: "قد لفها الليل بعصلبي/ أروع خراج من الدوي/ ليس بمهاجر ولا اعرابي"! وحين يرى بعين خياله الدماء بين العمائم واللحى يرتجف أمامه الرجال، ويتفرقون صائحين: "أنج سعد فقد هلك سعيد"!

    كل منا راح يحلم بطريقته: هذا بعدالة ربانية أو اشتراكية، وذاك بديمقراطية تستمع إلى الجميع، وفي النهاية آبوا كلهم خائبين، وأحلامهم أباديد، وفي كل الأفئدة يأس من عدالة يقوم عليها بشر فانون لا نهاية لطمعهم، وجشعهم، ونكوصهم عن صراط الحق!

    إن صدري مليء بالمرارة، وليأسي طعم علقمي، وفي ساعة حيرتي وخذلاني أتعلق بأستاره الكريمة مستغفرا مرددا مع شاعر الشعب: "يوم حيرتي وكشف غطاي/ غير الكريم ما عندي راي/ الليم متين يا مولاي"!

    نعم، الليم متين أيها الأحباب، وأيتها القباب، وأيتها الأحلام التائهة في السراب .. متى؟! متى اللقيا تحت سماء أرحب، لها أذن تسمع، وقلب يخشع، ونعمة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، تشمل كل عيال السودان وبنوته، وتعود عليكم جميعاً بالخير والبركات .. متى؟!

    ومن بعد ومن قبل .. لا حول ولا قوة إلا بالله!


                  

10-29-2008, 03:20 AM

سارة علي
<aسارة علي
تاريخ التسجيل: 07-08-2008
مجموع المشاركات: 4413

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الليم متين! ضيف على الرزنامة: محمد المكي ابراهيم (Re: امبدويات)

    العم محمد المكي ابراهيم..
    ودالمكي...

    من الطف الشخصيات التي التقيت بها...
                  

10-29-2008, 04:44 AM

محمد حيدر المشرف
<aمحمد حيدر المشرف
تاريخ التسجيل: 06-20-2007
مجموع المشاركات: 20359

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الليم متين! ضيف على الرزنامة: محمد المكي ابراهيم (Re: امبدويات)



    السهل الممتع وممتنع

    ..
    يختبئ البستان
    فى الورده ..

    والصدفه .. عند منعطف الطريق

    ..
    ادام الله عليك استاذنا محمد المكى ابراهيم
    متعة الصحة والعافيه
    وشكرا امبدويات

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de