سلام جميعا 2003 هذه قصة قصير من مجلة حق العدد الرابع فبراير ساحاول ان ارسل موضوع اخر من الباب الادبي للمجلة في هذا البوست تحية
الغيبوبة والاستيقاظ على صوت عائشة د. عبدالله عابدين بشير
فجأة لمحت صديقي يسرع الخطى كعادته ، إنه قادم من منزله الكائن وسط أشجار شمبات الزراعة . هاهو ذا في الطريق التي تقع على جانبها البحري مزارع خضراء ، وحظائر أبقار وعلى جانبها الآخر منازل حي شمبات . لابد أنه يحمل معه محاولاته الشعرية الجديدة ، وقد قضى ليلته في منزل إبن عمه خبير الطب البيطري. ومنزل (البروف) ، كما كنا نسميه بمثابة متحف للأزهار ، والأعشاب التي تلثم الأرض في تواضع جم . منزل (البروف) منتدانا الكائن وسط حشد الأشجار الشامخة التي تحاور فراغاً عريضاً أزرق وهو سماء شمبات . ذاب مشهد صديقي المسرع وتلى مشهد آخر فيه ذات الصديق ينشدنا شعره تحت ظلال أشجار السرو ، على شرف زنابق الأزهار المتوحدة في أنسها ، وقد ضمت الجلسة الشاعر الزبير ، والدشين أستاذ اللغة ، ورهطاً من جيلنا ، والقديسة عائشة . ومضت الجلسة ، لا أذكر ما تلي فيها من شعر ، ولا كيف تفرقنا . أحاول الآن ، على إيقاع المشهدين القضاء على الغطاء الذي يريم على ذاكرتي ، وأحاول رفع الستار عن مسرح أحداث الأمس .. كأننا لم نتفرق ، بل تجمعنا أكثر وأكثر ، ولكن أين وكيف ؟! يتواصل المشهد الأول ضبابياً أكثر ، سيتخطى صديقي مكاني بالمزرعة ظاناً بأنه سيجدني بمنزل أختي، ألم يكن هذا اتفاقنا بالأمس ؟ سأناديه ، فلا بد أنه يظن أنني هناك أقضي الوقت مع فيلم تلفزيوني كتبه عادل كاتب الدراما . وكان الأخير قد أبلغنا بأن الفيلم سيعرض في هذه الساعات التي أقضيها مستلقياً ألتهم رواية جورج أمادو (البحار الأعظم). كم هي سريعة خطوات صديقي ، لا بد أنه مبتهج لأننا سنكمل مشاهدة الفيلم معاً ، ونتحاور على هامشه في عدة أشياء . صديقي يحب رشف الشاي المسائي وسنطلب من أختي أن تخصنا بكوبين دافئين منه . ولا بد أنه سيرشف أكثر من كوب، حتماً سيفعل ، بينما أكتفي بكوب يتيم ، ونحن نعلق على سيناريو فيلم الزمن المعجزة ، باكورة الأفلام التلفزيونية التي سيقدمها عادل تباعاً هذا الموسم . سنثني على الموسيقى التصويرية التي أبدعها السراج الصيدلي .. الذي قلت له يوماً بمنزل عادل : إن العلاقة بين الموسيقى والصيدلة تكمن في الإيقاع ، فكلاهما يعيد ترتيب إيقاع الجسد والعقل . اندهش وقتها وأشرق بابتسامته الطفولية المميزة وقال : هذه علاقة رائعة لم أكتشفها من قبل ! تداعى بي المشهد المستطرد إلى مشهد آخر للسراج ، وهو على خشبة المسرح الأهلي بأمبدة في تلك الليلة يعزف (زمبارته) ويعبر لزوجته عن رغبته في الرحيل . شعرت مجدداً بإيقاع الزمبارة والرحيل الدئم الذي يطل من وجه السراج كلما التقيته ، وخفت عليه هذه المرة رغم أن ما كان يفعله ليلتها هو مجرد قيامه على أكمل وجه بدوره في مسرحية جديدة لعادل كاتب الدراما . استفقت من مشهد السراج وزمبارته ، لتغمر وعي لوحة هناك في البعيد ، فوق جبهة المساء الذي يطارد الأصيل كي يرحل . هناك خلف الغبار الذي أثارته أقدام الناس والدواب والسيارات ، منزل مكون من طابقين وسطح ، فيلا توحي بدفء الشتاء وقراءة ماركيز وأمادو ومعالجة القوافي المستعصية . تنطوي اللوحة كطي السجل للكتب ، وتنجلي عن بهاء مزارع مترامية ، وحظائر ماشية. مرة أخرى مهوماً في سريان الداخل ، دون أن أغادر موقعي الأول . إنه ذلك الأصيل الذي كان يغزو خاطري منذ كنت صغيراً ، أصيل ما ، سيحدث فيه شيء غريب ، شيء بهيج وكوني، وسيشهده الجميع ! احتشدت بعالمي الذي يقع تحت سطح اللغة ، وغبت في صلاة في محيط المساء والوداع . ليس عالم تلك الفيلا المشرئبة وسط الريح والضباب ، ولكن عالم المزارع وحظائر الماشية وأنا أنظر إليها من هنا، من سطح الفيلا !! كيف ، كيف بالله يحدث هذا الانقلاب إن لم أك في حلم أو أهذي ؟! الآن أرى صديقي وهو قادم نحوي مسرعاً ، لا داعي ، إذن ، لمناداته لأنه قادم لموعدنا ! . سأطلب من أختي إعداد الشاي لنا ، وأقوم أنا بتجهيز المكان ! . لا بل سأنادي على صديقي بملء صوتي قبل أن يمضي مسرعاً ! .. ثم إنه سوف لن يجدني هناك .. فكيف لا أناديه ؟! الفيلا تتمطى ، وصديقي يسرع ، والمسافة تذوب ، وغبار الطريق يستحيل ذهباً وهو يشيِّع الشمس الغاربة خلف لوحة الأفق، انقلاب آخر يؤكد الحلم أو الهذيان . تختفي ملامح صديقي ويصير نقطة سوداء صغيرة ، ثم تدلف تلك النقطة يميناً لتختفي ! هذا ما توقعته تماماً .. لماذا ؟ لماذا لم أناديه ؟ تباً لي ! . قطعاً سوف لن يجدني هناك ! . هكذا وجدتني محاولاً المناداة ، بكل ما أًوتيت من قوة صوت ، أحاول دون جدوى لأن صوتي محتبس ، وكأن بحباله داء عضال ، ولساني أخرس كأن قوة غاشمة قد صادرت كل إرث الكلام الذي حبيته ، ولهاتي كأنها نائمة في أغوار بئر !! لا يجدي هذا سوف أجري ملء ما حملتني الريح ، أجري كي أختصر المسافة ، وأنزل منزل أختي قبل أن يعتذر صديقي عن قبول دعوة الشاي منها ، ويترك لي مذكرة . سأركض ، أقصى ما وسعني الركض ! .. ولكن .. أين رجلي ؟! لا أجد لهما أثراً ! وكأني بتلك القوة الغاشمة قد صادرتهما أيضاً!. أستعين بذاكرتي الذابلة وأتساءل أين فقدت لهاتي ؟ ومتى صرت بلا أرجل ؟!. بصيص ضوء يتسرب إلى كوي روحي المجهدة ، وكأنها خيوط ضوء خافتة تتسلل من شمعة أخيرة !. أتلمس بيدي حافة صلبة ، حمداً لله أن يدي موجودتان ، أتشبث بتلك الحافة ، لأنها الشيء الوحيد الذي اهتدت إليه أصابعي . أشعر باختناق شديد ! إدراكي الضبابي لا يسعفني بشيء . من سرق ذاكرتي وأعضائي؟! أغمغم ، قد وجدت بعضاً كن صوتي على قارعة الحافة ، وسط هذيان وعي . وغيوم سماء فكري . صورة ضبابية جداً لانتفاضة الأمس ، وحشدنا بميدان الشهداء في مركز المدينة تطل من ثقب في ستار المسرح . رصاص غادر . مسيل دموع ، وسرب طائرات عمودية يحلق فوق رؤوسنا ، ثم يسدل الستار ، وأغور في صحراء الهذيان مرة أخرى بعيداً عن المشهد !. تنقلت عدة مرات بين ثلاثة مشاهد ضبابية : جلسة الشعر في متحف الأزهار ، مشهد صديقي وهو يسرع ، ومشهد الأمس المهيب ، والأكتاف المتدافعة والحناجر الهاتفة : بالدم بالروح نفديك يا حرية .. ثم أحسست بيد حانية تمر على جبيني ، و أخرى تمسك بيدي اليمنى لتحيل بينها وبين الحافة الباردة للسرير . رفعت جفني المثقلين بالهذيان ، من خلف غمامة الوعي ، لأحط على مساحة من الطيبة المتناهية في وجه الملاك الأسمر عائشة وهي تقول : انجلى كل شيء ، انجلى زمن التقهقر والردى !!. وهناك على يميني لمحت وجوهاً لفتية ثلاث هم أصدقائي : معتصم والزبير والدشين ، وقرأت على لوحة معلقة على الحائط المقابل عبارة : مجمع حوادث مستشفى أمدرمان التعليمي !.
● طبيب وكاتب سوداني مقيم بالمملكة المتحدة
03-12-2003, 02:56 PM
Amjad ibrahim
Amjad ibrahim
تاريخ التسجيل: 12-24-2002
مجموع المشاركات: 2933
سلام جميعا هذا موضوع آخر من الملف الثقافي و الادبي لمجلة حق قلم الستاذ عبد الفتاح عبد السلام ارجو العذر حيث اني لم استطيع نقل الصفحة بنفس الشكل و الاخراج المتبع في المجلة قد استطيع لاحقا ان ارسل راس هذا الموضوع و فيه صورة الاستاذ وردي و جزء من الصفحة اتمنى ان تنال هذه المواضيع اعجابكم تحياتي امجد
"وردي" مستودع الطفولة بقلم : عبد الفتاح عبد السلام "كنتُ ، منذ طفولتي ، أفتحُ في كل مكان حللته ، نوافذ" أدونيس
و من غير "وردي" أعاننا علي فتح تلك النوافذ . نوافذ طفولة العالم الرحب ، بشمسه الحارقة وظلاله الممتدة . أول مرة رأيناه فيها ، رأي العين ، في زمان غير الزمان ومكان قلما صادفناه في ترحالنا المديد . في النصف الأول من الستينات العامرة ، أوان الورود ونسيم الروح . أمام مدرسة ظلت مجهولة لزمن ولكني أستعيدها الآن ، اسمها مدرسة "أستاذ سيّد" ، عندما كانت المدارس مدارس . فجأة رأيناه ، نحيلا مستبشرا متجها من باب المدرسة نحو سيارة صغيرة سوداء . المدرسة تقع في الشارع الواصل من محطة "الشجرات" في شارع القصر جنوب إلى محطة "أبو حمامة" غرباً . هكذا كانت حدود دنيانا ، غير أن خيالنا بوسع الكون . صحنا كلنا بصوت طفل واحد "وردي !… وردي!" ، واخترقت جلبتنا صمت الشوارع والبيوت في تلك الساعة من النهار ، صوتٌ جعل النسوة يخرجن مستطلعات مستنكرات . وظللنا هناك ، جيش من الأطفال ، نتقافز ونملأ عين الشمس حتى بعد أن غادرت عربة "الأستاذ" المكان وأصبحت ذِكري . حديقة الحيوان علي نيل خرطوم أوائل الستينات ، والزمان أول أيام العيد الحديقة غاصة بزوارها من الأطفال المبتهجين . وطفل غر تشده صور معلقة علي شجرة . وأغان عذبة مبثوثة من مكان ما . صور وردي وإبراهيم عوض وعثمان حسين . ولبراءته ظنّ الطفل أنهم يحيون حفلا. ولما لم يكن رآهم من قبل (رأي العين) ، فقد اندفع كالمجنون غير عابئ بالزحام حتى انتهي إلى مكان مسوّر . ولخيبته لم يكن المكان سوي مطعم يقدم سندوتشات الفلافل والسجق . لزمن طويل كنت أعتقد أن مصطلح "العبقرية" يعني الذكاء المفرط والموهبة الخارقة ولا شئ سواهما . غير أن الحياة هي المعلّم الأول . صدف وأنا أهم بكتابة هذا المقال أن عُرضت حلقات مختصرة من مسلسل "أم كلثوم" . فقلت لولا بذرة الاستنارة التي حملها مثقفو مصر لما صمدت أم كلثوم و لما بقيت ذكراها . ولولا مقارعتهم قوي الظلام و طيوره لما ارتقت الفنون والفكر والآداب من عالمها السفلي الذي قبعت فيه طيلة قرون الانحطاط . عبقرية وردي تتجلى في ذلك التشابك المبدع بين احترامه لفنه واعتزازه بثقافته وأصالته وخصوصيته . وفوق ذلك جميعا مسئوليته نحو وطنه ومواطنيه في شموخ قل نظيره . ومواقفه ضد أعداء الحرية ومنطق العصر كثيرة ومعروفة . انتابني قلق حقيقي ولا يزال عندما علمتُ أن الإنقاذيين في بداياتهم عمدوا إلى اقتلاع عدد كبير من أشرطة "الماستر" في الإذاعة السودانية وطبعوا عليها كلامهم السخيف ، استسهالا إزاء استيراد أشرطة جديدة . انتابني القلق لأنه قد تكون من بين هذه الشرائط تسجيلات عزيزة من زمن الطفولة . إذ أنني وحتى اللحظة لا أستطيع سماع بعض أغنياتي الأثيرة ، خصوصا للأستاذ "وردي" ، ما لم تكن بتسجيل استديوهات الإذاعة ، بأوركسترا الإذاعة الكامل من ذلك الزمن الجميل . رحلة الخزّان خزان "جبل أولياء" وما أدراك ما الخزان . الزمان النصف الأول من الستينات ورحلة مدرسية ببصٍ مستأجر من خطوط "الخرطوم ـ السجانة" بلونيه الأصفر البراق والأزرق الداكن . وهناك علي ضفة النيل الأبيض و تحت ظلال الاستراحات المشرفة علي الخزان وقبل انتصاف النهار ومن مكان ما وسط أشجار "اللبخ" انطلق صوت صاف يغني "جيت أعاتبك واشتكي لك واشرح الحب من بدايته" . اسمه "العجب" . لا أدري من أين . ففي ذلك الزمن لم يكن أحد يسأل عن جهة شخص أو هويته . كان يسكن في شارع قريب منا . وكان دكان "الرشيد" ملتقى الجميع . وعند الأصيل كان الأستاذ يشدو من المذياع الموضوع علي رف أنيق في واجهة الدكان أغنية "الوصية" . ويبدو أن يومها كان "البث" الأول لتلك الأغنية من استوديوهات الإذاعة ، أي "الديبيو" حسب مصطلح صناع الأفلام في وصفهم لأول عرض . وقف "العجب" مشدوها بعد أن اشتري سيجارة واحدة من عم "الرشيد" وبعد قليل رأيته يردد كالمأخوذ مع الأستاذ: "الطير في غصونه الساجعة وحنانا/كل الناس تغني ليه نحن الهم طوانا" . "اليوم نرفع راية استقلالنا" ـ الزمان آخر أيام المشير والمكان حافلة تسير بهدوء في إحدى العصريات في طريقها إلى أمدرمان . السائق استغني عن الإذاعة وأدار شريطا خاصا به "يا اخوتي غنوا معي غنوا معي …" فانطلق من بالحافلة وكان معظمهم شبابا في العشرين أو دونها في كورال مهيب مع الأستاذ .
الزمان منتصف الصيف . في النصف الأخير من السبعينات . والمكان الحي التجاري لمدينة برلين . كنا ثلاثة جئناها زوارا لفترة قصيرة . شارع "الكودام شتراسه" وعلي جانبيه محلات أنيقة متعالية . سوداني وحيد في العشرينات من عمره افترش الرصيف اللامع يبيع أساور من الفضة والمشغولات والسكسك موضة الهيبيز الأخيرة في ذلك الزمن . تقدمنا منه مستبشرين . ردّ بلا اكتراث وبشيء من الحرج . فوقفنا غير بعيدين عنه نتأمل الأساور وقليل من المشترين والمشتريات . وبعد أن هدأ المكان وانقطعت المارة سمعنا "صاحبنا" يغني بصوت ملتاع " إنشاء لله تمشي … تمشي يا طير لَيْ تعود/بي حبيبي حامل الحُب و الورود" . ما أدهشنا أنه كان يغني وعيناه إلى السماء . كأن سربا خفيا من البجع كان مهاجرا إلى الجنوب . الأغنية التي فشلتُ في الاحتفاظ بها طازجة و لا تسل . فقد بحثتُ عنها في كل مكان . وفي دكان يبيع الأشرطة في جدة أكّد لي البائع أنها في آخر الشريط . ولكن ظني خاب بعد أن أدرت الشريط . مقطع واحد فقط منها يقول "و ريدك ليّا برعاه وأقاسيه/ولو خلاني ما بقدر بخليه" وباقي الأغنية ممسوح في نهاية الشريط . وفي زيارة لي لأحد أصدقائي المذيعين في إذاعة "أمدرمان" وانقلاب الإنقاذ له من العمر ثلاثة أشهر طلبت منه تلك الأغنية بالاسم بالشروط والمواصفات التي أحرص عليها . وعدني الصديق بأن يرسلها لي في شريط مع أي قادم . وكما وعد ، وصلني الشريط فيما بعد وكانت حسرتي كبيرة . لم تكن الأغنية المطلوبة بين الأغنيات . ولا أدري حتى الآن لمَ تذكرني تلك الأغنية بشارع معيّن ونافذة خضراء اللون في حي "السجانة الجديدة" بالديوم الشرقية ، مهد الطفولة .
سألتُ مرة الأستاذ الشاعر "صديق مدثر" عن أغنية "الحبيب العائد" ، فذكر لي أنه كان متابعا لتلحينها "ساعة بساعة" عندما كان وردي يسكن "بُري" آنذاك ، في عام 1965 . وهو المكان نفسه الذي لحّن فيه أغنية "مرحبا يا شوق" رائعة "جيلي عبد المنعم عباس" في عام 1967 . و "جيلي" هو صاحب أغنية "الهوى الأول" التي فشلتُ في الاحتفاظ بها طازجة بتسجيل أوركسترا الإذاعة الأصلي . وكما كتب الناقد الراحل "عبد الهادي الصديق" في عام 1970 عن "مرحبا يا شوق" أن صوت وردي في تلك الأغنية قادم من أعماق التاريخ ، من أطياف "بعانخي" و "تهراقا" و"شباكا" ، من أهرامات "نبتة" و"الكرو" وشلالات النيل . و "مرحبا يا شوق" هي دفق الستينات المشع . ذلكم هو زمان عبد الهادي الصديق وعلي عبد القيوم والرضية آدم . هاجرت ذواتنا فيما بعد شمالا وشرقا وغربا . استمعنا لسيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز وسعاد محمد وعبد الحليم وغيرهم . وهزّتنا حقيقة موسيقي وألحان "الراي" الجزائرية عند الشاب خالد والشاب مامي ورهطهم . واحتفلنا بألحان "منليك" و "أستر" وبسواحلية كينيا و أنغام الكونغو الراقصة . استمتعنا بإيقاعات "سو شيين" و "أبا" و هموم "التمتيشنز" و "آيزاك هايز" مرورا بـ "مايكل جاكسون" . وأنصتنا بشغف لـ "موتسارت" و "تشايكوفسكي" و "برامز" ، غير أن وردي يظل لحنا ثابتا ونغمة متفردة باقية في القلب . فمن غيره يمنح طفولتنا معني ولسنينا الأثيرة صدي ؟ ومن غيره يثبت لنا في كل مرة أن الفن اعتزاز و أصالة وأن الالتزام وطن وحنين ، ليس حنين الخمول وبلادة المشاعر ، بل الحنين المدرك ، الحنين العاقل .
03-14-2003, 00:44 AM
Amjad ibrahim
Amjad ibrahim
تاريخ التسجيل: 12-24-2002
مجموع المشاركات: 2933
أصبحنا نلجأ إلى مداد القلم لينسكب بدلاً عن الدموع فقد جف القلب وكاد أن ينضب ، جلست وحدي أسائل نفسي حاولت أن أغالب نزف الحروف ونزف الحنين في قلبي وكبدي ، كان سريان الدم الحار أقوى من طاقة أوردتي ، تحسست أطرافي وكأني مسكون بعذابات لا تعرف النهاية. كان السؤال إلى متى نحترق يومياً شوقاً ووجداً ؟ إلى متى سنجتر الحنين إلى الوطن؟ إلى متى سنجتر ذكرى الذين نحبهم والذين يوقظون في أعماقنا جرحاً غائراً لا يندمل .تسألت وبحرقة إلى متى والبوح كله آهات حُرى . لا يزال السؤال يتشظى ناراً والأقلام تسكب حروفاً تبكي كل ما مر بها طيف الذين أحببناهم فحملناهم وحملونا على الأحداق ألقاً وصبوةً وحميمية . إلى متى ستظل جمرة العشق والهيام تُدمى حرائِقها قلوبنا .. حسِبتُ أن طاقة المشاعر المواراة قد استطعت أن أسكُبها دمعاً وحبراً على الورق ، ولكني كما أعتقد لا زلت غارقاً في لجّة الوهم. كان مصطفى سيد أحمد أحد أولئك الذين نبحر في سفينتهم فيتجول بنا إلى شواطئ الفيروز والجزر المرجانية وحسبته أحد الذين نرى في عيونهم ونسمع من لسانهم ما رأى العقل والقلب والقصيد ، كان مصطفى أحد الذين تُورق بهم أيامنا وجداً وشوقاً. يظل مصطفى سيد أحمد شاخصاً ككل السحاب الماطر بالهنيهات السكرى حينما كان القمر مترعاً بالسنا مفضفضاً بالسحر كقصيدة عشق سكبها قلب قيس بن الملوح . الموت يهزم الحياة أحياناً ولكن هناك من يظل رغم سجن الموت غير محدود الإقامة . رثى أبو تمام صديقه محمد بن حميد الطوسي بقصيدة رائعة ولجمال ما كُتب فيها تمنى أبو دلف العجلي لو أن أبا تمام رثاه بها . منها :- وقد كان فوت الموتِ سهلاً فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعِرُ فأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشر مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة غداة ثوى إلا واشتهت إنها قبر وعندما رد عليه أبو تمام ببديهته المعهودة قائلاً :- أنا المقدم في الموت قبلك ، أجابه أبو دلف يا أبا تمام إنه لا يموت من ترثيه بمثل هذا الشعر . وما كُتب من شعر ونثر في رثا الراحل المقيم مصطفي سيد أحمد ينطبق عليه نفس القول (إنه لا يموت من كُتب فيه كل هذا الرثاء) . الكواكب السماوية تتباين وتتفاوت في طريقة دورانها في فلكها وحجمها وخصائصها ومكوناتها وجاذبيتها ، كذلك حال الكواكب البشرية فهي متباينة الخصائص من حيث حجمها المعنوي وقوة جذبها الخفية وقوة تأثيرها الظاهرة وسرعة إنطلاقتها وشهرتها الذائعة والتي تستطيع من خلالها أن تتوغل وتلج في مخيلتنا لسنين وربما لقرون . هناك منظومة من الأشياء ألفت كياناً ضخماً من معجبي مصطفى سيد أحمد وجعلتهم صفاً واحداً وكان مصطفى لؤلؤةً في هذا العقد الطويل الفريد. لقد أحدث مصطفى تحولاً واضحاً في طريقة وخارطة الغناء السوداني برمته كما أحدث فريق البيتلز البريطاني في أوائل الستينيات ، مع تميز مصطفى بسمةٍ جديدة تميزت في صدق العاطفة ومعرفته الكاملة بطريقة تلحين الكلمات بأجمل الألحان والتي كانت تخرج في قوالب لحنية متناسقة ، كما أن طريقة أدائه عاضدتها أيضاً طريقة جديدة اتبعها في كل ما تغنى به . وقد استشف شعرائه خصوصيته وحساسيته النفسية الموغلة في الشفافية العاطفية. ونتيجة لما عاناه في أريق عمره وعنفوان شبابه من أهوال المرض تبنى مصطفى في حناياه الفسيحة أعمدة الحب السامقة وأركان الود الراسخة. وأي إستباق جميل وموفق للأحداث بكل ما تحمله الكلمة من معنى . وعندما بدأ مصطفى مشواره الفني بأغنياته ، غدّار دموعك، السمحة قالوا مرحلة وحتى الشجن الأليم كانت تلك الأغنيات العاطفية الجميلة مؤشراً لمرحلة وردية وجدانية مختلفة وزاهية تفاعل معها معجبوه رغم قلة عددهم آنذاك إلا أنهم كانوا يجدون في أغنياته تلك وأغنياته اللاحقة متنفساً وترجمة حقيقية لما كان يعتمل في نفوسهم من مشاعر عاطفية فياضة لكنها كانت مكبوتة ودفينة لحدِّ ما . وقد وجدت أغنيات مصطفى الأولى قبولاً وصادفت هوى في نفوس العشاق والحالمين بالحب وجاءت لتنفث ذوباً من السحر المستساغ المباح وحنواً وحناناً في نفوس جمهوره الوفي. تلت تلك المرحلة أغنيات أخرى ومن يصغي جيداً إلى أغنية مريم الأخرى سيجد فيها كل ما هو جديد في قالب لحني متميز يواكب المسار الجديد الذي خطاه مصطفى وكان أن انفجر ذلك البركان الفني الخالد المتجدد في كلماته وألحانه وأدائه موائماً ومنذراً ببزوغ عهد جديد واستطاع مصطفى أن يفعل فعلته في أركان الغناء السوداني وتجاوز كل العقبات التي وضعت أمامه وعن عمد من البعض كشيوخ لجنة النصوص القابعين بدوغمائيتهم التي تجاوزها الزمن. إستحدث مصطفى جلسات الإستماع وبها دخل إلى قلوب آلاف المعجبين ، فأغنياته لم تكن عملاً فنياً للإستماع فقط بل كانت باباً مشرعاً للتحرك والإكتشاف عبر النداءات التحريضية الجريئة . وكان طبيعياً أن يلامس أفئدة الملايين بعد ملامسته لكل الأوتار الحساسة وذلك بعد أن وجد فيه السواد الأعظم ضالتهم للتطلع نحو الإنسانية ومن خلال نظرته الفنية والسياسية الثاقبة التقط القفاز وصب فيه كل خبرته وظل يغني ويخطط للمستقبل بوعي كامل وكان في أقصي درجات التفاؤل بالنصر القادم وبالصباح الجديد حتى آخر لحظات حياته وكان يلفظ الفرح من أحشائه وهو ينزف من الألم. كانت جلسات إستماعه منتديات للجميع لتبادل الرأي في كل ما يتغنى به فهو لم يتعامل مع معجبيه كمجرد مستمعين ومتلقين لكل ما يغنيه بل كان يدعوهم ويحرضهم للخوض معهم في علاقات جدلية في نصوصها. وما لا خلاف عليه هو أنه لا معنى للفن إذا لم يستخدم كأداة في تفعيل ونقد الواقع المرير من كل الزوايا. تبتل مصطفى سيد أحمد في عشق الوطن ورغم آلامه وأمراضه إلا أن الداء العضال الذي عاناه وتمكن منه كان هو الحنين والشوق وعشق الوطن ، فداعب قلوبنا التي كادت أن تصدأ. وفي أوج ظلام الليالي كان هدير صوته وألحانه وكلماته يشق ذلك الظلام ، كان ينادي ويناجي كل الفرسان الذين تناثروا في كافة بقاع المعمورة ، كان ينتظر شمس الشروق وخريف العودة وكان إحساسه العميق بالحياة وظواهرها وأنماطها دافعه للمزيد من الإبداع . عرف كيف ومتى يعزف على أوتار الذاكرة والفكر في قالب ثوري ، وكانت ثوريته المفرطة هي التي قادته للبحث والتمحيص في كل ألوان الشعر وبحوره ، وبذلك تمكن من إكتشاف أساليب وأشكال ومضامين جديدة والتحم صوته مع أصوات الملايين وكان غناؤه دوحة لعشاق الحرية والحياة وكان حجر الزاوية الذي انطلق منه الشباب بكافة ألوان طيفهم السياسي والاجتماعي. شفافية مصطفى الحادة قادته إلى أن شيئاً ما سيحدث وكان ذلك بشهادة رفيق دربه الأستاذ عبدالله محمد عبدالله وفي ليلة 29 يونيو 1989م طلب مصطفى من مجموعة من عازفيه أن يذهبوا لتسجيل بعض الأغاني وقام بغناء رائعة محجوب شريف (عشرة مقاطع للحياة) وغنى لمحمد الحسن سالم حميد (قاسم أمين) وغنى الكثير وطلب أن يُحفظ ذلك للأجيال القادمة وبعدها بسويعات أطل طائر الشؤم ونعق البوم قبل شروق شمس 30 يونيو 1989. تكثفت سحابات الحزن أمامنا وكأن أعيننا رغم أنها مفتوحة تماماً يبدو أنها أُصيبت بنوع من الخدر وربما نتوهم أن الظلاميين أعداء الفرح تمكنوا حتى من إصابة أعيننا من الرؤية وهي تسبح في ماء الذكريات لتجتر شيئاً من الماضي. ويبدو أن الوهم قد تحول إلى حقيقة فبغياب مصطفى انطفى ذلك الكوكب المشع ونزل ذلك برداً وسلاماً على الظلاميين أصحاب (التوجه الحضاري) أعداء الوطن ، إلا أن فرحتهم بغياب مصطفى لن تطول لأن الكنوز التي خلفها الراحل المقيم ستظل باقية أينما وجدت وستبث فينا الأمل أينما كنا لما فيها من قيم فنية وإنسانية حقه. مصطفى .. مصطفى .. مصطفى أحقاً فقدناك ؟ وهل تفتقدنا ؟ كم المسافة بيننا لماذا حضرت في هذه الزيارة القصيرة لتذهب إلى الزيارة الطويلة ؟ لقد أسمعتهم صوتك .. صوتنا (بدون جواز سفر) رحلت أنت لتسكن فينا نناديك .. نناجيك .. تنادينا (تعالوا أيها الجوعى تعالوا أيها الفقراء). وضاحة يا فجر المشارق .. شفع العرب الفتارى البفنوا الشايلاه إيدهم ويجروا ساكين القطارى .. وسني على النضال إيدي وسوكي بالهتاف فمي. وفي الليالي القمراء وكعادة أطفالنا الصغار يلتهون ويتسامرون ويفتشون عن (شليل وين راح شليل ما راح). مصطفى سيد أحمد ولجَ في أغوار الفن السوداني واقتفى أثر خليل فرح الذي سبق أوانه وكان مصطفى الامتداد الطبيعي للخليل ومتوجاً خليلاً للفرح الجديد ، إنخرط مصطفى في رسم أدق تفاصيل تلك المدرسة ليخرجها في أبهى حللها لتقضي على كل ما هو بالٍ ورثْ ، وكان أبرز معالم ذلك رمزيته البسيطة وألحانه النابعة من نبض الشارع السوداني والتي طرزها بعبقريته الفذة والتزامه الوطني الصارم إضافة للمسة حزن بدأت خافتة سرعان ما وضحت وارتفع صوتها وكان مردود ذلك الحزن نتيجة ما عاناه هو وربما من تعاون معه من الشعراء. كان مصطفى يسابق الزمن ويضع ريشته على لوحاته الفنية كمزيد من التحدي للزمن الجائر ومشرعاً باباً جديداً متحدياً الأجيال المقبلة بما خلفه من أعمال قل أن يجود الزمان بمثلها. كان مصطفى بسمةً جميلةً في فم الدنيا وكان ثورة في عالم الغناء والفن وكان كخلية نحل لا يهدأ وهو ينقب عن الجمال أينما كان. هناك يرقد مصطفى في رحم الأرض التي أنجبته وبادلها حباً بحب وعشقاً بعشق ووفاءً بوفاء وهي تحتضنه وتغمره بفيض حنانها ، لقد بدأ مصطفى المشوار فهل سنكمله ؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة