|
أحقاً رحل الإنسان الظريف
|
لك الرحمه جدي والي جنات الخلد مع الصديقين والشهداء ------
أحقاً رحل الإنسان الظريف في وداع عمّي الخليفة فتح الرحمن محمد أحمد بلّه مالك الخير بلّه
مشيغان/الولايات المتّحدة [email protected] بسم الله الرحمن الرحيم
عند بدء التواصل بين السّوادنين المنتشرين في بقاع الدّنيا‘ من خلال الإنترنت وعبر سودانايل‘ تابع البعض بشفق رسائل بين كوستاويتين مهيّمتين بمدينة كوستي وأهلها. لم يقتصر هيامهما بتلك المدينة الفريدة بموقعها الجغرافي أو تمثيلها لكل السّودان بسحنه وقبائله وشعوبه‘ على ماقدّمته ومازالت تقدمه كوستى إنما تعدّيتا ذلك إلى الإنسان الماثل وكأنّي بهما تنشدان مع مجنون ليلي حين يقول:-
وما حبّ الدّيار شغفن قلبي
ولكن حبّ من سكن الدّيار
فذكرت إشراقة مصطفى حامد فيما ذكرت جدّتها المغفور لها حليمة وعرّجت تعرف كوستي والعالم أجمع بالخليفة فتح الرحمن‘ قبل أن يجئ يوم شكره‘ وكانّي بها وبحس الكاتب ترى أنّ الزمان قد لا يجود بمثل ذلك الإنسان الظريف‘ خفيف الظّل وصاحب موردة الحطب المجاورة لمدافن كوستي المشهورة بـ (ود أم جبّو)‘ وهو شيخٌ جليل إختار كوستي أو إختارته ‘فرقد بها رقدته الأبدية وتبعه في ذلك من سكنها من المسلمين من عرب وعجم وأختار النصارى الّذين إختاروا موقع المدينة أوّلاً مرقداً آخر. كانت إشراقة مصطفى تعرف في قرارة نفسها‘ وهي الصغيرة التي عاشت كل طفولتها هناك‘ أنّ الخليفة فتح الحمن هو صديق جدّها حامد ووالدها مصطفى ومستودع أسرار جدتها وبنك توفيرها‘ حالها في ذلك حال الأقربين والأبعدين والجار الجنب للخليفة.
اختار الخليفة فتح الرحمن‘ عليه رحمة الله‘ دون غيره من المهاجرين لكوستي من أهله وعشيرته ناحية بكوستي جعلها مقراً لعمله وسكنه وصداقات عمره‘ وهي المنطقة الواقعة شمال غرب كوستي والتي تلتقي فيها الحلة الجديدة بالرديف وحي أزهري‘ الّذي أُنشأ بعيد االاستقلال وبعد أوّل زيارة لأوّل رئيس وزراء ل لسّودان المستقل السّيد إسماعيل الأزهري الّذي سُمي الحي بإسمه وما يزال‘ وحلة الفلاتة‘ التي سكنها المهاجرون من عموم مناطق غرب أفريقيا. والتف حول الخليفة أهل تلك الناحية بكل ما عرف عنهم من طيب خلق وحسن معشر‘ وهو أمر تشتهر به مدينة كوستي وأهلها الطّيبون الأبرار ولا غرو أن خرجت المدينة ليلاّ وراء نعشه وجلست نهاراً تعزي نفسها فيه. فلقد كان الخليفة عليه رحمة الله‘ يبيعهم الحطب والفحم وسقوف المنازل وأركانها وكان بينهم كبائع المسك في حديث الرسول الأعظم محمّد بن عبد الله‘ " إما أن تبتاع منه أو يصيبك ريح طيبٌ‘ فقد كان رحمه الله ‘ يعطهم فيما يعطي‘ سرعة البديهة وحسن الرّد وحلو اللسان. كان يتعامل مع الصغير والكبير بظرفه المعتاد في زمن كان الصغار يستغربون فيه حتى إبتسام الكبار‘ يسألهم عن أحوالهم ويهب بذات اليمين ما لا تعرف اليسار. لم تخلو موردته ذات يوم من زوّار‘ إلا عندما تدلهم الخطوب ويتغيب وعندئذ يعودونه بالمنزل زرافات ووحدانا فيقف عليهم وينسى سبب تغيبه عن العمل مرضاً كان أو غيره. ومن أشهر أصدقاء الخليفة من الأحياء والأموات‘ توتو مصطفى تمدلو كمندرى‘ العامل بالسكة وقسم السيد (منجور) الشايقي الذي ترك ديار الشايقية وضرب الصعيد ومسمس النّوباوي ووردى الدينكاوي الّذين أتّخذوا كوستي موطناً ومستقراً ومقاماً. والثلاثة الآخرون ذكراً كانوا يعملون مع الخليفة ويسكنون في نفس الموردة واستمرّوا معه في العمل حتى توفاهم الله جميعاً فكان أهلهم وعشيرتهم يتقبل العزاء فيهم ويتواصل بذويهم ويسافر إلى حيث يقيمون متى كان ذلك ممكناً وميسوراً. ومن أخلص أصدقائه الحاج معتصم‘ زميله في المهنة ومصطفي حامد‘ الموظف بوقاية النباتات والمولع بالسّياسة والمعارض للخليفة ووالد الكاتبة السلسة العبارة والتي تطوع لبنانها الحروف‘ إشراقة مصطفى. وعندما يجتمع كل هؤلاء وغيرهم يعمر المجلس ويكبر ويصير كالمغنطيس يجذب إليه محبي السّياسة ومشتهي الطرفة والتعليق الساخر البرئ على الأحداث أو على الحوادث أو على مرتادي المجلس أنفسهم وعلى رأسهم الخليفة الذي يقسّم الطّرف وينال طرفاً منها ويتقبله بنفس روح الدعابة والمرح التي يملأ بها المجلس.
كان الكل يناديه بالخليفة‘ والخليفة بكل مدلولاتها تعني موقفاً سياسياً ذا بعد ديني يجعل صاحبه يدور في محيط ضيق خاص إلا عندما يلتصق اللّقب بالخليفة فتح الرحمن. فهو للكل والخليفة وظيفة تقلدها طوعاً وتطهيراً لنفسه وجعل منها نبراسا وهادياً لحياته‘ فهو يقيم الموالد ولا تفارقه الأذكار أنّى حلّ ولكنه لا يحاول أن يفرضها حتى على أقرب الأقربين. فقد كان يشهد ليالي الحزب الاتحادي الدّيمقراطي السياسية ويتبرع فيها ويتطوع لإنجاح مرشحيه ولا يضيره أنّ أبنه الدكتور حمودة في ذات الوقت كان مرشحاً وفي نفس الدائرة عن حزب آخر. فالأبوة عنده شئ والإنتماء السياسي شئ أخر. هذا كان ديدنه مع زبائنه وأصدقائه ومعارفه والذين عرفوا عنه ذلك فزادوا له حباً ومنه إقتراباً. كانت علاقته بالحركة الوطنية الإتحادية تمتد إلى أيام شبابه الأوّل وإقامته بأمدرمان التي تركها لكوستي. أكتملت سعادته برعاية الختمية للحركة الاتحادية وامتزاج الحركتين‘ فأجتمع له الحسنيان. وفي أوقات الشد العصيبة بين الحركتين كان يري دائماً ضوءً في آخر النفق فلا يشتط في العداء الذي شاب علاقات البعض إنما كان يري في الإختلاف وقفات للتفكر وأخذ للعبر. ومع ختميته الصارخة إلا أنّ علاقته بالعلماء والمتصوفة كانت مضرب المثل. كان حفياً بشيخه إبراهيم الخواض بطيبة الخواض وبالشيخ الإدريسي بأمدرمان وبالشيخ المعمر بكوستي. كان يتصل بكل هؤلاء ويضرب لهم جناح الذّل من الرحمة ويسأل لهم الرحمة والمغفرة من الله‘ ويحفظ لهم حق كل ما تعلم منهم إبان إقامته بطيبة الخواض مسقط رأسه والتي درس فيها الخلوة في مسيد الخواض وأمدرمان مرتع شبابه الغر وكوستي مقر إقامته التي هاجر إليها وأحبها وبادلته حباً بحب‘ دون أن يقلل ذلك من ارتباطه بالطريقة الختميّة وقياداتها وتحالفاتها السّياسيّة.
والخليفة من ناحية أخرى كان هو الأخ الأكبر لأشقائه‘إثر رحيل الخليفة الخير ‘والأب والعم والخال والجّد وراعي شئون الأسرة الكبيرة المتسعة يومياً‘ يكرم صغارها ويوقّر كبارها ويبادل الجميع حباً بحب‘ يقف على موتاهم ويزوّج شبابهم ويسمّي أبنائهم ويختن أنجالهم ويحتفي بنجاحهم وينحر الذبائح عند قدومهم ويهتم بأمر تعليمهم‘ يدفع ويواسي ولا يمرّ عليه يومٌ إلا وهو مشغول بأمر يهم أحدهم سواء أكان بقربه أو على البعد منه أو يعيش في المنافي وكان للقبيلة غطاءً ونعم الغطاء.
وأما في ذلك الجزء من شمال غرب مدينة كوستي فقد فقده الكثيرون الذين كانوا يجدون عنده الماء البارد والظل الظليل عندما يشتد الغيظ ويجدون عنده الدفء والدسم عندما يشتد البرد، وما يفك الضائقة عندما تدلهم الأمور والكلمة الحلوة الظريفة عندما تدنو الخطوب. فقد كان الخليفة‘ عليه رحمة الله‘ كالنّسمة الباردة‘ خفيف الظل‘ ودوداً كريماً لا يعرف اليأس والقنوط إليه طريقاً. كان عليه رحمة الله يسهّل الصّعب ولا يذكره على لسانه فهو دائماً بخير ولا تتم سعادته إلا بسعادة الآخرين. كان كثير السؤال عمّن التقى بهم وعاشرهم أثناء زيارته الأخيرة مستشفياً بالولايات المتحدة الأمريكيّة. يكثر السّلام والسّؤال عن ود الأسد وأحفاده ود.خالد محمد أحمد وبناته وعثمان الفكي وكيف يتقدم في دروسه. والثلاثة يمثلون ثلاثة أجيال ولكنهم جميعاً من خاصته وفي نفسه مكانة خاصة لكل منهم وقد بادلوه حبـّاً بحبّ وتواصلوا معه حتى آخر أيام حياته والناس مع من تحب ّوتأنس.
لم تكن الحياة عنده بيتاً جميلاً منمقاً خالياً من النّاس ولا رُكوبة متفردة وقد كانت كلها في متناول يده ولكنه‘ يرحمه الله‘ إستبدلها بما هو أبقى. فقد كان مقصد القريب والغريب والمحتاج والعشمان (وتقابة الفريق توقد صباح وعشية). وظل باب بيته بحمد الله مفتوحاٌ طوال حياته لطلاب العلم‘ يحتضن المحتاج منهم ويمنح الحبّ ودفء الحياة العائلية لمن ساقته الأقدار للدراسة بمدينة كوستي من أريافها أو من المدن الّتي لا تتوفر فيها المدارس. ومازال هؤلاء وأسرهم يبادلونه حباً بحب ويذكرونه في كل وقت ويتلقون فيه العزاء فلا غرو أن يعزّي النّاس سيد محمد صالح مقروناً بأبناء الخليفة بابكر وحمودة وعبد الباقي وإبراهيم‘ فقد كان لهم جميعاً الأب الحنون والصديق الوفي. كان ديدنه وفلسفته في الحياة حِكَمُ زهير بن أبي سلمى ومنها:-
ومن يك ذا فضلٍ ويبخل بفضله عن قومه يُستغن عنه وُيذمَم
ولذلك ألتف حوله الجميع ولم يُستغنى عنه حتى ودّع الفانية لدار البقاء والكل من حوله كما كان يريد ويتمنى دائماً‘ عندما يسأل الله حسن الخاتمة. ألا رحم الله عمي وأبي وصديقي وأخي الأكبر وأحبّ النّاس إلى نفسي والذي ماعرفته إلا مبتسماً مهتماً بإشاعة السّلام على من يعرف ومن لا يعرف. ولقد ترك فينا الخليفة فتح الرحمن‘ سماحة النفس والتواضع وحب الناس والتّرفع عن الصغائر وإعانة المحتاج والمسكين وفي سبيل الله‘ دونما من أو أذى‘ وهو فيمن قال عنهم المولى عزّ وجلّ‘" والّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثمّ لا يتبعون ما أنفقوا منّاً ولا أذى‘ لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" صدق الله العظيم.
فوداعاً وإلى جنات الخلد لتلحق‘ وأنت ترحل عنّا هانئ النفس‘ مطمئن الفؤاد لتلتقي برفيقة دربك الحاجة آمنة بنت عمر ود الحسين‘ التي حفظت وعدها وعشرتها‘ وليجعل الله البركة في أولادك وأحفادك وسلام عليك مع الصديقين والشّهداء ومن إصطفاهم ربّهم وأنزلهم مقاماً محمودا ونسأل الله أن يجعل الجنّة مثواك ومقر إقامتك وإلى أن نلقاك في رحاب أب رحيم.
وأرجو أن أنتهز هذه السانحة لأشكر نيابة عن آل بله وأبناء الخليفة فتح الرحمن وأصهاره وأصدقائه ومعارفه‘ كل من عزى فيه بإتباع النعش أو حضور ليالي المأتم وأولئك الذين فتحوا صفحات الإنترنيت وصاروا يعزون بعضهم بعضاً. وأخص بالشّكر أبناء منطقة كوستي البررة المنتشرين في كل أنحاء العالم سائلاً الله لهم الصّحة ودوام العافية.
(عدل بواسطة Elkhawad on 03-29-2005, 05:14 AM)
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: أحقاً رحل الإنسان الظريف (Re: Elkhawad)
|
نسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة ويسكنه مع الصديقين والشهداء والصالحين ويجعل ملائكة الرحمن تحتفي به كما أحتفى هو في الدنيا بالفقراء والمساكين والمحتاجين وأبن السبيل ونسأل الله أن يرفعه في عليين ونسأل الله أن يكون سيرته وشيمه النبيلة الطيبة خير سلوى وخير عزاء لكم ولأهله أخي الخواض فهذا والله رجل نادر الوجود في هذا الزمان العجيب الذي تبدل فيه والود وتبدلت النفوس
| |
|
|
|
|
|
|
|