حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (1 من 3) د. عمر مصطفى شركيان

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-15-2024, 10:56 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة خالد كودى(Khalid Kodi)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-11-2006, 05:34 PM

Khalid Kodi
<aKhalid Kodi
تاريخ التسجيل: 12-04-2004
مجموع المشاركات: 12477

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (1 من 3) د. عمر مصطفى شركيان

    http://www.sudan-margins.org

    حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (1 من 3)

    د. عمر مصطفى شركيان

    مقدِّمة

    هذه صحف عن محاضرة أعددنا لها، ودعينا إليها النَّاس، فأُلقِيت علينا برداً وسلاماً، وأثبتناها أخيراً، ثم لم نر في سبيل نشرها بأساً. ولعلَّنا رأينا في نشرها شيئاً من الخير، فهي ترد على النُّوبة خاصة والسُّودانيين عامة جدالاً جاداً عن أصل المشكل السياسي، ومصدر الاقتتال الأهلي، ومنشأ البلاء الاجتماعي في السُّودان منذ زمان ليس بقصير. إذ إنَّه يجدر على السُّودانيين أن يتدبَّروا ما تصنع أيديهم، وذلك حين يخلون إلى أنفسهم وحين يخلص بعضهم لبعض نجيَّاً. والواقع من الأمر لو تدبَّر السُّودانيُّون من أهل الحكم أقوالهم، وتخيَّروا أفعالهم، وأحسنوا للناس سياساتهم، لما أمسينا فيما نحن فيه اليوم من خطوب عظيمة وأمور مضطربة وشر مستطير؛ لكنهم لم يحفلوا بالشَّعب، ولم يعرفوا للتعاطف قدراً، ولم يأسوا لآلام المسحوقين منهم، ولم يلتفتوا إليهم، ونظروا إليهم شزراً، وغلظوا على النَّاس وقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وإنَّ من الحجارة لما تتفجَّر منه الأنهار، وإنَّ منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإنَّ منها لما يهبط من خشيَّة الله. إذ اقتضت الحكمة أن يكون مبتغانا من إذاعة هذا الحديث وفاءاً لما قاله الفيلسوف الأمريكي جورج سانتايانا: "إنَّ أولئك الذين لا يتذكَّرون التأريخ لمحكوم عليهم بأن يعيدوا سيرته الأولى بما فيها من أخطاء فادحة ومما بها من مشكلات شائكة." كذلك قال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق – السير ونستون تشرشل: "كلَّما أمعنت النَّظر إلى الوراء، كلَّما استطعت أن ترى بعيداً في المستقبل." هذا ما دفعنا إلى التَّدوين دفعاً مبيناً؛ وما دوَّنا هذا إلا وكان يحدو بنا الأمل أن يقرأه النَّاس، الدَّهماء والزعماء منهم، القادة والساسة والكهان والرهبان منهم. لأنَّ في القراءة – لمن يقرأ ويعتبر – تعلُّم الحكم والفضائل وإجادة الكتابة وإبانة الخطابة، إذ أنَّ الشَّخص السياسي إن كان لا يظفر في الكتاب ولا يبين في الخطاب فإنَّك لتراهن أنه لا يحسن التَّفكير، أو ربما لا يفكر إطلاقاً.

    مهما كان من واقع الحال، ففي مساء الأربعاء 5 أيار (مايو) 1999م استضفنا – نحن أعضاء جمعيَّة مانشستر الثقافيَّة - في إحدى أمسياتنا الفكريَّة في مركز قروسفينر بمدينة مانشستر البريطانيَّة ضيفاً عزيزاً من زعماء الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان. وكان المحتفى به حديث عهد بمانشستر، بالرَّغم من أنَّه لم يكن حديث عهد ببريطانيا، بل سبق أن زارها عدَّة مرات؛ وقد كانت زيارته الأولى إلى مدينة لندن – حاضرة المملكة المتَّحدة – في أيار (مايو) 1993م وهو كان في رفقة رئيس الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان الدِّكتور جون قرنق دي مابيور. وكان رفيق الدِّكتور يومذاك – الذي إن صبر القارئ لحدَّثناه عنه خُبراً – يمتلئ شباباً رهيباً وحيويَّة متدفِّقة إن كان للشباب ما يرهب وللحيويَّة ما يتدفَّق منها؛ لذلك عرفه بعض الحضور في مدينة مانشستر من أول نظرة ولم يألفه البعض الآخر إلاَّ بعد حين، وإن كان الأخير قد قرأ وسمع عنه وشاهد صورته في وسائل الإعلام الصَّديقة والعدائيَّة. وقد احتفينا بضيفنا الكريم، ووقرناه كأحسن ما يكون القرى، وأنزلناه منا مكان منزلنا. وكانت الدَّار قائمة قاعدة في ذلك المساء؛ كيف لا وقد ألمَّ بها ضيف له شأن وِشأو عظيمين في السُّودان. واستهل مقدِّم الجلسة حديثه ملخصاً ذلك بالقول إنَّ بين أيدينا لأحد قادة النضال السياسي والعسكري في السُّودان لينوِّرنا – لو جاز لنا استخدام هذه اللفظة العسكريَّة – تنويراً، بحيث نستطيع أن ندير شكلاً من أشكال النقاش لاتضاح الرؤية لنا في بعض المسائل، وبخاصة أن للمتحدِّث ملامسة مباشرة بالأحداث في السُّودان، وهو - فوق ذلك كله - الحاكم الفعلي لإقليم جنوب كردفان، ويقع تحت مسؤوليته المباشرة مدنيُّون وعسكريُّون في هذه الرقعة من البسيطة التي هي امتداد للسُّودان الجديد الذي به نحلم وإليه نتطلَّع بشئ من الشغف كثير. وبعد التَّقديم واسترسال عبارات الشكر على الضيف الوقور الذي كان جديراً بهذا الثناء ومستحقَّاً لهذا الاحتفاء، ابتدر القائد الضيف يوسف كوَّة مكِّي حديثه بالقول: إنَّه لتغمره الغبطة والمسرَّة بهذه المناسبة المقدَّرة التي فيها يلتقي بطبقة مستنيرة من السُّودانيين في الخارج ليتحادث معهم عمَّا في أنفسهم من هموم الوطن، ويتفاكر معهم عن المشكل السُّوداني، حتَّى يتبدَّد ما في أذهان بعضكم بعضاً عمَّا تسامع لكم عنَّا إمَّا عن سوء قصد أو بغير سوء. إذ تركَّز حديث القائد الضَّيف يوسف على نقاط توضيحيَّة ثلاثة نلخِّصها فيما يلي:

    (1) النُّوبة من جهة والحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان من جهة ثانية؛ ما الذي جمع بينهما؟

    (2) الحركة الشَّعبيَّة ومحادثات السَّلام المختلفة، وبخاصة مع الحكومة الحاليَّة؛ وحديثه هذا كان من تجاربه الشخصيَّة لأنَّه هو كان عضواً مشاركاً في محادثات أبوجا الأولى في 26 نيسان (أبريل) 1993م، والإيقاد الأولى، الثَّانية والثَّالثة، وبعد ذلك في محادثات "الإيقاد" في أديس أبابا العام 1998م، ومحادثات "الإيقاد" التي كانت من المفترض أن تنعقد لكنها لم تنعقد في شباط (فبراير) العام 1999م.

    (3) الحركة الشَّعبيَّة والتَّجمع الوطني الديمقراطي.


    النُّوبة والحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان


    ففي مفتتح الحديث، طرح يوسف سؤالاً ظلَّ يتردَّد في مسامع كثر من النَّاس، ألا وهو لماذا انضمَّ النُّوبة إلى الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان؟ إذ ردَّ يوسف على سؤاله هذا قائلاً: إنَّ أي شخص داخل هذه القاعة ليدرك كلَّ الإدراك أنَّ لنا مشكل سياسي في السُّودان، وكل من يعتقد غير ذلك فإنَّه لمخطئ؛ لأنَّه لا يعقل أن يكون هذا البلد في حالة حرب مع مواطنيه منذ العام 1955م حتَّى العام 1972م، وتتجدَّد الحرب مرة أخرى العام 1983م إلى يومنا هذا؛ إن لم يكن السُّودان ليعاني من أدواء سياسيَّة استعصى على السُّودانيين حلُّها بأنفسهم فبِمَ نسمِّي هذا العبث بأرواح الشُّعوب. إذن، ينبغي أن يكون هناك ثمة خطأ ما (There must be something wrong). لذلك المطلوب منا كسودانيين أن نبحث عن جذور الخطأ وطبيعة المشكل الذي نحن فيه نتصارعون. وإنَّ من أشدَّ ما يملأ قلوبنا إشفاقاً حقيقيَّاً أنَّنا لم نستطع حتى الآن التداول حول المشكلات الرئيسة التي أوقدت جذوة هذه الحروب الأهليَّة، إذ يحاول السُّودانيُّون دائماً معالجة نتائج هذه الحروب دون الرٌّجوع إلى محاولة معرفة الأسباب. إنَّا لنظن إن أصبحنا كالأطباء لاستطعنا النفاذ إلى المشكل السُّوداني، ولاستطعنا استئصاله؛ لأنَّ المريض حين يذهب إلى الطبيب يقوم الثاني بتشخيص الداء وأسباب الداء قبل وصف الدواء للقضاء على المرض الذي منه يعاني المريض وفيه قضى وقته إيلاماً. لكن نحن - معشر السُّودانيين - لم نمض كثيراً في هذا الاتجاه لأسباب كثر منها حزبيَّة، طائفيَّة، صفويَّة، عقدة التَّعالي، ونحن – معشر المهمَّشين - كذلك نلجأ إلى معالجة المشكل السُّوداني عن طريق عقدة الدونيَّة (Inferiority complex)، حيث نجد بعض الأخوة من جنوب السُّودان يتصايحون: "نريد أن ننفصل من الشمال". وينبغي ألا يكون هذا هو الحل الأمثل، لأنَّ هذا هو بلدنا والسُّودان كان لنا قبل أن يأتي هؤلاء الشماليون. إذن، كيف يأتي شخص أو ضيف إلى منزلك وتريد أن تخرج وتترك له الدار، إنَّ العكس لهو الصحيح، أي إذا لم تعجبه الإقامة في الدار فعليه أن يغادر المقر، لا صاحب الدار الذي ينوي المغادرة أو يبغي اقتسام الدار مع الضيف الجائر. وأردف يوسف قائلاً: إذا لم يكن حديثي هذا معجباً للجنوبيين إن وُجِد بعضهم هنا أو الشماليين إن وُجِد بعضهم هنا كذلك، فهذه هي الحقائق ولا يسعنا إلا أن نخاطبها وجهاً لوجه (Head on collision) عسى أن نصل إلى حلول مرضية.

    كان يوسف يذكِّرنا بتأريخ السُّودان المعاصر ومشاعر حاله تتمثَّل قول الشاعر:

    بل نحنُ كنا أهلها فأزَالنا صروف الليالي والجدود العواثر

    حقَّاً، أزالتنا صروف الليالي والجدود العواثر في الماضي، واليوم تزيلنا أمورٌ دُبِّرت ليلاً، وكيدٌ يُكاد لنا كيداً. وقال يوسف وفي نفسه شئ من الحسرة واللَّوعة: كلما درسناه في أول الصِّبا ومقتبل الشَّباب هو تأريخ العرب في السُّودان، وحينما علَّمونا شيئاً عن أنفسنا كان هذا الشئ هو أنَّنا كنا أرقَّاء، ولم يحفلوا بما كان للنُّوبة من ممالك عظيمة وحضارة عريقة قبل دخول العرب إلى السُّودان. والآن هناك سياسة رسميَّة لتذويب ثقافتنا إلى العربوإسلاميَّة إلى درجة أنَّنا لا نكاد نبين من أمر لغاتنا القوميَّة شيئاً برغم وجود ثقافتنا الخاصة.

    ويمضي يوسف قائلاً: إنَّنا كنوبة انخرطنا في الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان نسبة للخطأ المغروس في نظام الحكم (السُّلطة) في السُّودان؛ فهذا البلد تحكمه وتسيطر عليه أقليَّة عربيَّة مسلمة - مستطرداً، وإن كان هناك من يدَّعون أنهم عرب - وبخاصة بعد الاستقلال من الاستعمار البريطاني-المصري العام 1956م. إذ وضعت هذه الأقليَّة الشكل الحالي للسُّودان – أي السُّودان القطر العربي المتحدِّث باللغة العربيَّة، وأي شئ عربي جيِّد وأي شئ غير عربي غير جيِّد. ويبين يوسف: هناك تعدُّديَّة، ونحن نقول: إنَّ السُّودان لبلد متعدد الثقافات والأعراق والدِّيانات، فهناك من يقول إنَّه لعربي فمرحباً بالعربي السُّوداني، وأنَّا نوباوي لذلك كذلك ينبغي أن أكون مصدر ترحيب في السُّودان. فهذه هي هُويَّتي، وقد لا تتماشى مع الثَّقافة العربيَّة، لكنها قطعاً تتماشى معي؛ فهناك دينكا، نوير، شلك، مادي، فور، زغاوة، مساليت، بجة، حلفاويين وهلمجرَّاً، فالسُّودان بلد متعدد القوميات. وإذا حدث أنَّ استطاع يوسف كوة بسط سيطرته على السُّودان بالقوة وأمر كل السُّودانيين أن يصبحوا نوبة ثقافة وعقيدة، أي يتكلموا بلغات النُّوبة، ويشربوا المريسة (الخمر البلدي) مثلما يشرب النُّوبة، فإنَّ أكبر الظن أنَّ الأغيار سوف يظنون بنا الظنون ويأخذوننا بالجنون. فلم، إذن، يفرضوا علينا ثقافتهم وديانتهم عنوة واقتداراً؟ إنّنا نتذكر بعض الروايات الموجودة في الكتب أنَّ أول يوم بعد الاستقلال في السُّودان صرَّح وزير الدَّاخليَّة في ذلك الرَّدَح من الزَّمان الشيخ علي عبد الرَّحمن أنَّ السُّودان بلد عربي، ومن يرى غير ذلك، أو لم يعجبه هذا "التوجُّه الحضاري" – بلغة "الإنقاذ" اليوم - عليه أن يغادر هذا البلد العربي المبين إلى حيث يريد! فهذا غلو ما بعده غلو، وهذا هو سبب مشكلات السُّودان (This is the wrong base)، بالإضافة إلى ذلك مسألة فرض الدِّين الإسلامي على السُّودانيين كافة، إذ ينبغي أن يتم ذلك عن طريق المجادلة بالتي هي أحسن. وإذا راعت النَّاس هذه الظروف يمكن أن يكون السُّودان بلداً عزيزاً جداً. وفي الحق، إنَّا لنا أكبر الظن حتى الآن أنَّ الشَّعب السُّوداني مجتمع فريد قلَّما تجد مثله في العالم، وهذه هي حقيقة. بيد أنَّ المشكل السُّوداني يتلخَّص في الجشع السياسي، أو الطَّمع السُّلطوي (The avarice of power). فإذا نظرنا إلى الشَّعب الأثيوبي – باعتباره أقرب الأقوام إلى الشَّعب السُّوداني - نجد أنَّ للأثيوبيين عيب واحد هو المسألة الدينيَّة، حيث أنَّ المسلم والمسيحي لا يمكن أن يأكلا في قدح واحد، ولا المسلم يحب أن يشتري من المسيحي ولا المسيحي يود كذلك أن يشتري من المسلم. إذ لا نجد مثيلاً لهذا السلوك التَّنافري في السُّودان، فهذه واحدة من الأشياء الحميدة، ولدينا من الأشياء ما هي جميلة مثلها بكثير. فإذا تمسكنا بها، ونظرنا إلى الذي نحن فيه مختلفون، ووضعنا لها العلاج، وبحثنا عن سبل التعاطي معها لاستطعنا خلق أمة سودانيَّة لا مثيل لها.

    فإنَّ الحركة الشَّعبيَّة أول ما نادت – فيما نادت به – هو مسألة الهُويَّة السُّودانيَّة، وجاهرت بأن نكون سودانيين من قبل، ومن بعد ذلك يمكن أن يتحدَّث بملء فيه كل من يبغي أن يقول هو سوداني عربي، سوداني فلاتي، سوداني نوباوي أو غيرهم، وهذا هو الحل الأمثل لمسألة الهُويَّة السُّودانيَّة. صحيح إنَّ هناك من إخوتنا السُّودانيين ممن يزعمون أنَّهم أعراب لأنَّ أجسادهم تغشيهم ألوان فاتحة، بيد أنَّهم حين يخرجون إلى خارج السُّودان يسمعوا العجب ليس في شهر رجب فحسب، بل في جميع شهور السنة، وهم يعلمون هذا ونحن معهم عالمون. إذ يرد عليهم العرب القح: إن كنتم لعرباً فمن نكون نحن! لذلك نرى أنَّنا يمكن أن نكونوا سودانيين أولاً، ثُمَّ بعد ذلك على من أراد أن يبحث عن جذوره في السُّودان النيلي أو البربري أو الحلفاوي وهلمجراً، فله ما شاء في البَّحث إليه من سبيل. فإذا أخذنا في الاعتبار الولايات المتحدة الأمريكيَّة، فكل أمريكي هو مواطن أمريكي؛ والمواطنون الأمريكيُّون من جذور متعدِّدة، فهناك الأمريكيون الأفارقة، الألمان، الإنجليز، الأيرلنديُّون، الإيطاليُّون، الأسيويُّون، اللاتينيُّون وغيرهم، لكنهم يعتزون بأمريكيتهم، وبهذه الطريقة يمكن حل مشكل الهُويَّة السُّودانيَّة. أما حين تقول إنَّ السُّودان لقطر عربي فإنَّك لتأخذ حقوقي غصباً. فهذه المشكلات - التي تخاطب مسألة الهُويَّة، التعدُّديَّة الثقافيَّة والدينيَّة - ليست مقصورة على الجنوبيين فحسب، بل كافة السُّودانيين، لذلك تجدنا – نحن النُّوبة - قد دخلنا الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، لأنَّها أول حركة سياسيَّة خاطبت هذه المشكلات، ووضعت لها معالم، ووجدنا قادة الحركة دعاة التعدُّديَّة وحماة الوحدة الوطنيَّة، وما زلنا في الحركة حتى الآن. وإنَّا لفي الحركة الشَّعبيَّة، إذا بالأغيار يمطروننا وابلاً من الأسئلة: هل تحالفكم مع الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان تحالف وقتي أم مرحلي؟ وكان ردَّنا للسائلين دائماً ليس هذا بتحالف، وليس هذا بوقتي وما هذا بمرحلي؛ وما هنا تدلُّ على النَّفي وإن كانت توحي بأنَّها تشير على التعجُّب. فقد ذكرت الحركة الشَّعبيَّة أكثر من مرة أنَّها جاءت من أجل وحدة السُّودان، لكن على أسس وقيم جديدة (Qualified national unity)؛ وهذا ما يفرِّق بينها وبين حركة تحرير جنوب السُّودان (الأنيانيا) (1955-1972م). وأضاف يوسف في لهجة لم تخلُ من حزم وحسم: إنَّه ليتحدَّى أي شخص يستطيع أن يقول إنَّه وجد شيئاً مكتوباً أو تصريحاً أو قولاً فيه يقول الدِّكتور جون قرنق إنَّه ليناضل من أجل فصل جنوب السُّودان من الشمال، ولكن – بكل أسف وأسى – نحن في أحزابنا، ومن ناحية حزبيَّة، يقول قائل منهم إنَّ فصل جنوب السُّودان من الشمال لهو من الأجندة السريَّة (The hidden agenda) للدِّكتور قرنق؛ هل يمكن أن تستمر الحرب خمسة عشر عاماً – حتى ذلك الحين من الزَّمان – وما زالت هناك أجندة سريَّة للحركة الشَّعبيَّة؟

    إنَّنا نؤمن تماماً أنَّ الحلول التي وضعتها الحركة الشَّعبيَّة في المشكل السُّوداني شاملة وشافية، وبالتَّالي إنَّنا نؤكِّد أنَّ الحركة الشَّعبيَّة في جبال النُّوبة ليست بمختلفة عن الحركة الشَّعبيَّة في جنوب السُّودان، أو النيل الأزرق، وإنَّ عمليَّة "فرِّق تسد" ما زالت موجودة في عقلية أهل الحكم في الخرطوم، وأنا شخصيَّاً لا أشعر بأنَّني بعيد عن الحركة، بل إنَّني أشعر بأنَّني ركن أساس في الحركة، والنُّوبة قد لعبوا دوراً حاسماً حازماً في الحركة، وبخاصة بعد الانشقاق الذي حدث العام 1991م وقاده الدكتور رياك مشار والذين ذهبوا معه. فكان موقف النُّوبة ثابتاً مع الدكتور جون قرنق، لأنَّه منذ البداية إلى النهاية كان ينادي بوحدة السُّودان على أسس وقيم جديدة؛ إذ نعتبر هذا هو الحل الناجع لمشكلات السُّودان العديدة، فهذا هو دورنا وهذا هو موقفنا كنوبة في الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان.
                  

02-23-2006, 08:10 PM

Khalid Kodi
<aKhalid Kodi
تاريخ التسجيل: 12-04-2004
مجموع المشاركات: 12477

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (1 من 3) د. عمر مصطفى شركيان (Re: Khalid Kodi)

    حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (2 من 3)


    د. عمر مصطفى شركيان


    محادثات السَّلام بين الحركة الشَّعبيَّة وحكومة السُّودان

    إنَّ الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في جميع أدبياتها المختلفة ذكرت أكثر من مرة أنَّها رفعت السلاح لتحقيق بعض الأهداف، لكننا نؤمن بأن السلاح ليس هو السبيل الوحيد (Not the only way out)، وبالتَّالي فتحنا أبوب المحادثات السياسيَّة كسبيل آخر لتحقيق هذه الأهداف والوصول إلى الحلول المرضيَّة؛ ولكن – بكل أسف وأسى – يعاتبنا رفاقنا في التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي بالتساؤل: لم تتحادث الحركة الشَّعبيَّة مع الحكومة السُّودانيَّة؟ بيد أنَّنا لم نشرع في المحادثات مع الحكومة السُّودانيَّة منذ اليوم أو الأمس، بل قد بدأت العمليَّة التفاوضيَّة مع أيَّة حكومة قائمة في الخرطوم منذ العام 1985م – بدءاً بكوكادام في أثيوبيا العام 1986م ومع الأحزاب السياسيَّة – على انفراد منهم أو اجتماع بينهم – ونعتبر هذا كله مجالات لتناول مشكلاتنا السُّودانيَّة حتى نستطيع، على الأقل، الوصول إلى الحلول المقبولة؛ لذلك لم تقفل الحركة الأبواب على مصاريعها في طريق المحادثات السياسيَّة. أما فيما يختص بالحكومة الحالية – ومع إيماننا أنَّها حكومة عقائديَّة، ومن الصعب جداً أن تتعامل مع أشياء قد تكون خارج نطاق عقيدتها – إلا أنَّنا، على الإطلاق، لم نصد أبواب التفاوض، لذلك كانت هناك من الجولات التفاوضيَّة ما هي كثيرة، غير أنَّني سوف أبدأ بمحادثات أبوجا الثَّانية التي انعقدت في 26 نيسان (أبريل) 1993م في العاصمة النيجيريَّة الجديدة يومئذٍ، لأنَّها أول محادثات سلام مع هذا النِّظام كان لي الشَّرف في المشاركة فيها. بالطبع والطبيعة، فإنَّ الإعلام السُّوداني كان له دوراً رائساً في إفشال المحادثات؛ وبالمناسبة، علينا أن نعترف كحركة شعبيَّة أنَّنا اندحرنا إعلاميَّاً أمام هذا النظام "الإنقاذي"، لأنَّنا لم نستطع مجاراته، وإنَّه لحكومة إعلام أكثر من أي شئ آخر، وأكثر من أي نظام مضى، فهم ما زالوا يَكذِبون على أنفسهم ويكذِّبون على النَّاس حتَّى يصدِّقون كذبهم على أنفسهم وتكذيبهم على النَّاس.

    على أي، ففي أبوجا لم يستطع وفدا الحكومة السُّودانيَّة والحركة الشَّعبيَّة(1) إحراز أي تقدُّم يُذكر في بادئ الأمر. فالمحادثات كانت أشبه ﺒ"حوار الطرشان"، أي ما يُعرف في السُّودان بعبارة "هلال ومريخ"، وتبادل الوفدان من اللُّغة ما هو أشدَّ كثافة وصفاقة، وذلك لمدى ثلاثة أيام حسوماً دون الوصول إلى نتائج، والأغرب في الأمر حين يتم رفع الجلسات يخرج أعضاء الوفدين وتبدأ المصافحة والمعانقة، حتَّى اندهش النيجيريُّون، وقال قائلهم: ما لهؤلاء القوم يتشاجرون فيما بينهم في قاعات الجلسات، وعند خروجهم تعمهم الفرحة والبهجة! وقال يوسف: ألم أقل لكم إنَّ المجتمع السُّوداني لفريد. وأخيراً توصَّلنا إلى قناعة راسخة بأنَّه إذا استمر الأمر هكذا فسوف لم نحرز أي تقدُّم في أي شئ. وهنا جاءت فكرة تكوين مجلس الكبار (The Council of Elders) من وفدي الحركة الشَّعبيَّة والحكومة السُّودانيَّة، ومثَّل الحركة في هذا المجلس القائد يوسف كوَّة مكِّي، القائد سيلفا كيير ميارديت، والقائد دينج ألور؛ ومن جانب الحكومة كان العميد (معاش) محمد الأمين خليفة والدكتور علي الحاج محمد، حتَّى يتسنَّى مناقشة الأجندة بهدوء وسكينة دون اللجوء إلى مهاترات ومشاجرات لا تغني ولا تسمن من جوع. وبعد اجتماعات ماراثونيَّة، وصل مجلس الكبار إلى نتائج ملموسة. وفي الحق، إن أرادت هذه الحكومة "الإنقاذيَّة" أن تصل إلى حل لمشكل الحرب الأهليَّة في السُّودان لقبلت بما توصَّلنا إليه من نتائج في أبوجا الثانيَّة. أولاً، اتفقنا أنَّنا كحركة شعبيَّة لا يمكن أن نفرض الدستور العلماني عليهم، وبالمثل على الحكومة السُّودانيَّة أن لا تفرض الشريعة الإسلاميَّة علينا؛ لذلك قسَّمنا السُّودان إلى منطقتين: مناطق حرب (الجنوب والنيل الأزرق وجنوب كردفان) أو الولايات الجنوبيَّة، ومناطق سلام (تحت سيطرة الحكومة) - أي شمال خط عرض 13 درجة شمالاً. وهنا أتذكر حديث الدكتور جون قرنق لوفد الحركة الشَّعبيَّة قبيل السَّفر إلى أبوجا، إذ قال – وبالحرف الواحد – يجب ألا تتمسَّكوا بالألفاظ، أي كما تقول الفرنجة (Let us not stick to words)، فالمهم في نهاية الأمر أن تصل النَّاس إلى نتائج، وهذا هو الهدف الرئيس، وهكذا توصَّلنا إلى أشياء كثيرة مع رجلي النظام - الدكتور على الحاج محمد والعميد (معاش) محمد الأمين خليفة - كان فحواها أن يكون هناك دولتان كونفيدراليتان، حكومتان، وجيشان؛ ثمَّ نشترك في الحكومة المركزيَّة أو المجلس القومي بجانب حكومتنا، ومن ثَمَّ على الحكومتين تشكيل الحكومة الكونفيدراليَّة وتكون الرئاسة دوريَّة. وفي هذه الأثناء، أي في المرحلة الانتقاليَّة، تتوقَّف الحرب ويستمر الحوار بين الجانبين، وتكون الغلبة لمن يقنع الآخر والاتفاق على شئ، أو هكذا يكون العيش.

    وفي خضم المحادثات تسلَّم وفدا الحركة الشَّعبيَّة والحكومة السُّودانيَّة مذكِّرة نيجيريَّة لإحلال السَّلام في السُّودان. إذن، بم أتت به المذكِّرة النيجيريَّة؟ تركَّزت المذكِّرة النيجيريَّة على إجراءات الفترة الانتقاليَّة ﻟ"تهيئة جو ملائم لبناء الثِّقة يمنح سلطات خاصة لأقاليم البلاد وإتاحة فترة من الوقت تتوقَّف خلالها الأعمال العدائيَّة ويعم الأمن والاستقرار. وهي أيضاً فترة تبذل فيها جهود واعية لإعادة البناء، وإعادة توطين المتضرِّرين في المناطق المتضرِّرة". وفي نهاية الفترة الانتقاليَّة سيكون السُّودانيُّون قد اقتربوا من حل المشاكل، وإقامة دولة موحَّدة وآمنة تنال فيها كل الأقاليم حقها في الانتماء، وبعد ذلك سيختار السُّودانيُّون دستوراً يتَّفقون عليه ليحكم العلاقة بين الأطراف (والمركز) في المستقبل. وتأتي هذه الإجراءات الانتقاليَّة في إطار السُّودان الموحَّد الذي يتبع نظاماً فيديراليَّاً في الحكم حسب المبادئ الآتية:

    (1) يجب أن تكون للسُّودان بنية سياسيَّة تحافظ على وحدته، وتعترف بتعدُّده وتنوُّعه.

    (2) يضمن السُّودان حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدِّينيَّة للجميع، ورغم ذلك فإنَّ تطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة في الفترة الانتقاليَّة سيعلَّق في الجنوب فيما يخص غير المسلمين، وإنَّه ليشمل غير المسلمين في الشمال.

    (3) يضمن لمواطني السُّودان ما يأتي: حريَّة المشاركة في النشاط السياسي والاقتصادي في البلاد، والمساواة أمام القانون.

    (4) يجب أن تكون هناك قسمة حقيقيَّة للسُّلطة بين المركز والأقاليم.

    (5) تعتبر اللُّغتان العربيَّة والإنجليزيَّة اللُّغتان الرَّسميتان في البلاد إبَّان الفترة الانتقاليَّة.

    (6) تقبل الأطراف مبدأ ميثاق فيديرالي وتطبِّقه في توزيع الوظائف العامة والخدمات العامة في البلاد.

    (7) إعداد آليَّة لإقامة قضاء مستقل.

    ( إعلان عفو عام بنص قانون لتشجيع إعادة توطين السكان في المناطق المتضرِّرة من النُّزوح.
                  

02-23-2006, 08:14 PM

Khalid Kodi
<aKhalid Kodi
تاريخ التسجيل: 12-04-2004
مجموع المشاركات: 12477

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (1 من 3) د. عمر مصطفى شركيان (Re: Khalid Kodi)



    وفي البند الخاص بإدارة الجنوب في الفترة الانتقاليَّة وعلاقته بالشمال ورد فيه ما يأتي:

    • على حكومة السُّودان أن تقر قانوناً عبر القنوات الاشتراعيَّة الصحيحة لتشكيل حكومة إقليميَّة تتمتَّع بالحكم الذاتي في الجنوب؛ ويجب أن يُبنَى هذا القانون على المبدأين التَّاليين:

    (1) لامركزيَّة الجِّهاز الإداري للجنوب.

    (2) مشاركة المواطنين في ممارسة السُّلطة السياسيَّة.

    • وفقاً لهذا القانون يشمل جنوب السُّودان المناطق التي تتفق عليها الأطراف المتفاوضة، وسيحكمه نظام حكم ذاتي في إطار سودان موحَّد. وستكون للجنوب أجهزته التشريعيَّة، والحكوميَّة، والقضائيَّة الخاصة. كما ستكون له موازنة مستقلَّة. وتلتزم هذه الأجهزة بأداء دور محدَّد في مجال اختصاصها، وكل القضايا المتعلِّقة بإدارة المناطق المتضرِّرة من الحرب إبَّان الفترة الانتقاليَّة.

    وأشارت المذكِّرة أنَّ الإجراءات الفيديراليَّة التي يجب أن ينص عليها في الدَّستور ستحدِّد الحكومة المركزيَّة الفيديراليَّة واجبات محدَّدة تمارس بموجبها صلاحيات مطلقة، ولكن هذه الواجبات ستكون محل تفاوض بين الأطراف "وتقترح أن تكون القضايا التَّالية التي تحفظ وحدة البلاد من اختصاص الحكومة الفيديراليَّة، وهي: الجنسيَّة، إقامة الأجانب، العملة، الجمارك، التجارة الخارجيَّة عدا تجارة الحدود وبضائع معيَّنة يتصرَّف فيها الإقليم بموافقة المركز، الضرائب على الصَّادرات، العلاقات الخارجيَّة والتَّمثيل الخارجي، الإعلام الخارجي، الهجرة من السُّودان وإليه، اعتماد الاتِّفاقات، خطوط الطيران، السكك الحديديَّة، الملاحة الجويَّة والبحريَّة، الجوازات والتأشيرة، البريد والبرق والهاتف، ديون السُّودان، الأمن، الإرصاد الجويَّة، المواصفات والمقاييس والمكاييل، التَّوقيت، التَّنقيب البحري، الإحصاء، ولجنة الانتخابات". ولاحظت المذكِّرة أنَّ على الحكومة المركزيَّة والجهاز الاشتراعي المركزي ألا يصدرا أي قوانين ذات طبيعة ثقافيَّة أو دينيَّة محضة بغرض فرضها على غير المسلمين.

    ونصَّ الاقتراح على أنَّ حكومة الجنوب "يجب أن تملك صلاحيَّة التَّشريع في المسائل المتداخلة بين المركز والجنوب، وتشمل: التَّعليم، وجمع الضرائب، والتَّنمية الاقتصاديَّة، والتجارة مع الدول المجاورة، والنشاط التَّبشيري والإنساني، والمصارف، وإعادة التَّوطين، وإنَّها تملك صلاحيَّة إقامة نظام قضائي حتَّى على مستوى المحكمة العليا، وإدارة الحكم في المحافظات، وإصدار القوانين الخاصة بالنِّظام العام داخل الجنوب في كل القضايا عدا المخصَّصة للحكومة الفيديراليَّة. وتناولت المذكَّرة إقامة إدارة مؤقَّتة في جنوب البلاد حسبما جاء في النِّقاط الآتية:

    (1) تُشكَّل في جنوب البلاد إبَّان الفترة الانتقاليَّة حكومة مؤقَّتة للجنوب.

    (2) على الحكومة الفيديراليَّة توفير التَّمويل اللازم لبدء الحكومة المؤقَّتة عملها على أن تعد الأخيرة موازنتها الخاصة.

    (3) أن تكون للحكومة المؤقَّتة في الجنوب أجهزة تشريعيَّة وتنفيذيَّة وقضائيَّة.

    (4) سيكون الحفاظ على الأمن إلى حد كبير من اختصاص الحكومة المؤقَّتة.

    (5) على الحكومة المؤقَّتة للجنوب تشكيل القوات المسؤولة عن حفظ النِّظام في الجنوب.

    وأوضحت المذكِّرة أنَّ الحكومة المؤقَّتة ستُشكَّل من رئيس تنفيذي وعدد من الوزراء، وأضافت أنَّه سيُترَك ل"الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان" أمر اختيار الرئيس التَّنفيذي للجنوب" بالتَّشاور مع قيادة الجَّيش الشَّعبي والقوى السياسيَّة الأخرى في الجنوب. واقترحت الورقة النيجيريَّة – فيما اقترحت – قيام "جهاز تشريعي في الجنوب إبَّان الفترة الانتقاليَّة يسمَّى المجلس الاستشاري وتُكوَّن عضويَّته من الحركة الشَّعبيَّة والجنوبيين الآخرين داخل البلاد وخارجها، على أن يكون بعض الأعضاء منتخباً، والبعض الآخر معيَّناً، وأن يحدِّد القانون عددهم". وعن وضع القوات العسكريَّة خلال الفترة الانتقاليَّة أوضحت الورقة النيجيريَّة إنَّ إدارة الجَّيش الحكومي وقوات الجَّيش الشَّعبي ستكون منفصلة، وأن تتولى لجنة وقف إطلاق النَّار الإشراف على سبل استيعاب تلك القوات في الجَّيش النِّظامي، وتحديد حجم قوات الجَّيش الشَّعبي والجَّيش الحكومي التي ستبقى في الجنوب وعدد الجنوبيين الذين سيستوعبون في الجَّيش الحكومي عموماً إثر الفترة الانتقاليَّة.

    (2)

    وعوداً إلى الترتيبات الفيديراليَّة قد يتساءل سائل لم اقترحت الحركة الشَّعبيَّة هذا الاقتراح؟

    فيجيب يوسف: حين اقترحنا هذا كان لنا من القناعة كثر بأنَّه إن وُجِدت حكومة ذات دستور علماني وهي قادرة على تقديم تنمية متوازية لأقاليمها المختلفة، فستكون مثالاً يحُتذي. وقد ضرب لنا الدكتور قرنق مثلاً بالبيرة إذ قال سوف لا تمنع شريعتنا البيرة، وسوف يأتي إلينا أهل الشمال ليحتسوا كؤوساً من البيرة مرة ومرتين وثلاث مرات، وحينما تكثر الزيارات سوف يفكِّرون ويقدِّرون ويقول قائلهم لقد لقينا من أسفارنا هذه نُصُباً، فلِمَ لا نقلب حكومتنا في الشمال ونقوم بصناعة بيرتنا محليَّاً، ونقي أنفسنا وأهلينا عناء السَّفر وغوائل الدَّهر ومشقَّة الطَّريق؟ وكذلك إن وُجِدت تنمية متوازية في مناطق الحركة الشَّعبيَّة فسوف تعطي مثالاً جيِّداً لبعض مناطق الحكومة التي ترزح تحت نيران التخلُّف والتَّهميش، وسوف يأخذوا الحكمة من أيات حكمنا الرشيد. كان هذا هو هدفنا في النَّتيجة التي توصَّلنا إليها في أبوجا الثَّانيَّة لا أقلَّ ولا أكثر. وهذا ما تمَّ الاتفاق عليه مع وفد الحكومة السُّودانيَّة، ونُبِّئنا بأنَّهم سوف يرسلوا نتائج الاتفاق إلى الخرطوم. فقلنا لهم سوف ننتظر، إنَّا معكم من المنتظرين، ومضى يوم ويومين دون أن نسمع منهم خبراً. وإنَّا لفي انتظار رد الخرطوم، وإذا الدكتور جون قرنق يصل إلى أبوجا قادماً من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. وفي صباح اليوم التَّالي لوصوله ذهب وفد الحركة الشَّعبيَّة ليلتقي به وليرفع له تقريراً عن سير المحادثات مع نظام الخرطوم؛ وما أن وقف الدِّكتور على هذا التَّقرير حتَّى بارك هذه النتائج. وفور وصولنا إلى مقر المحادثات سمعنا إعلام الحكومة السُّودانيَّة يقول إنَّ الدكتور قرنق قد حضر إلى أبوجا وأمر أعضاء وفد الحركة الشَّعبيَّة بفض المفاوضات ومغادرة أبوجا؛ هذا كذب بواح، ومن هنا انتهى كل ما توصَّلنا إليه من نتائج وهدم النظام "الإنقاذي" هذا الصرح بيده.

    كل ما في الأمر أنَّ سلوك أهل النظام "الإنقاذي" هذا كان ناتجاً عن تفسيرهم السياسي لنتائج الاتفاق السياسي، فإنَّ أكبر الظَّن أنَّهم رأوا أنَّ الحركة الشَّعبيَّة قد وافقت على هذا الاتفاق من منطلق الوهن، لذلك حسب النظام "الخرطومي" بأنَّ الحركة طالما أمست ضعيفة فقد آن الأوان لهزيمتها عسكريَّاً، وآية ذلك أنَّه في شهر حزيران (يونيو) 1993م قامت قوات الحكومة بمهاجمة مواقع الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان على طريق جوبا-نمولي في موسم الخريف ولأول مرة في تأريخ الحرب الأهليَّة منذ العام 1983م؛ فقد صوَّر لهم وزيَّن لهم إعلامهم أنَّ الحركة الشَّعبيَّة قد انتهت أو أوشكت أن تنتهي، وما هي إلا فلولاً من قطاع الطُّرق على الشريط الحدودي بين السُّودان ويوغندا. ومن أكاذيب أهل النظام تصوير المعارك التي كانت تدور رحاها بين جيش الحكومة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان.

    فكنا نرى فخر جند الحكومة وتمدُّحهم واستعلاءهم على الجَّيش الشَّعبي، فنبتسم في أنفسنا ساخرين منهم عاطفين عليهم. ففي مرات عدة لم يصنعوا شيئاً إلا أنَّهم لاذوا بشِعاف الجبال (أي رؤوسها) يتسابقون مع وحوش الأدغال، ويفرُّون إلى حيث أتوا يطلبون الأمان ويرجون من الله سلاماً، ويخلوا بين المعارك وأهداف القتال. وهم على ذلك يفاخرون ويكاثرون، وهم على ذلك يستكبرون ويهلِّلون، ويستعلون ويتظاهرون. وكذلك الإنسان يغره بنفسه الغرور، فيضيف إليها ما لم تفعل، ويحمل عليها ما لم تأت من الأمر؛ أولئك الذين يريدون أن يكيدوا فلا يحسنون الكيد، وأن يكذِّبوا فلا يحسنون تخيُّر الأكاذيب.
    أيَّاً كان أمر الادِّعاء، فقد ذهبت الحكومة السُّودانيَّة تبحث عن الحل السلمي، وفي هذه المرة طرقت أبواب منظَّمة "الإيقاد"، وهي منظَّمة إقليميَّة تشمل كلاً من: السُّودان، يوغندا، كينيا، الصومال، أثيوبيا، أريتريا، وجيبوتي، وذلك لإيجاد مبادرة سلميَّة لحل المشكل السُّوداني في الإطار الإقليمي؛ هذه هي فكرة "الإيقاد"، وقد كان ما كان. ويضيف يوسف: أولاً، نحن نعتقد أنَّ "إعلان المبادئ" (Declaration of Principles)، الذي جاءت به منظَّمة "الإيقاد"، هو أفضل مبادرة سياسيَّة حتَّى الآن لأنَّها تخاطب عمق المشكل السُّوداني (The core of the Sudanese problem)، أي لكي تكون هناك وحدة وطنيَّة صادقة في السُّودان ينبغي فصل الدِّين عن الدَّولة، والاعتراف بالقوميات والثَّقافات والدِّيانات السُّودانيَّة المتعدِّدة، بحيث أنَّه إن تمَّت معالجة هذه الأشياء سوف لا يكون هناك مشكل سياسي في السُّودان، إذ أنَّ من الأهداف التي إليها تدعو الحركة الشَّعبيَّة، وما فتأت تنادي بها، هي الوحدة الوطنيَّة، المساواة والعدالة، وتكافؤ الفرص؛ لأنَّنا ما زلنا نعتقد أنَّنا في وطننا مواطنين من الدرجة الثَّانية، نعم يمكن أن تكون نائب ثاني – لا نائب أول – وإذا مات النَّائب الأول يأتوا بأحد من الخلف وتتم ترقيته إلى هذا المنصب.
                  

02-23-2006, 08:17 PM

Khalid Kodi
<aKhalid Kodi
تاريخ التسجيل: 12-04-2004
مجموع المشاركات: 12477

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (1 من 3) د. عمر مصطفى شركيان (Re: Khalid Kodi)


    علي أيَّة حال، فهذا هو وطني بالجغرافيا والتأريخ، وهذه الجِّبال معالم جغرافيَّة وتأريخيَّة ثابتة – وإنَّما هي حقيقة واقعة خلقها الله الذي يخلق الحقائق كلَّها - وليس لي وطناً عنه أبغي بديلاً، حتَّى ربنا العليم يعلم ذلك؛ فلِمَ، إذن، أقبل بنفسي أن أعيش فيه مضطَّهداً بهذه الكيفيَّة، وفيه ألاقي ما ألاقي، وعنده أعاني ما أعاني. كل ما نطالب به في إطار هذا البلد الواحد هو وجوب احترام الإنسان لرأي الغير، ومعتقدات الغير، وعادات وتقاليد الغير، إلى غير ذلك، كما أنَّ الحوار البناء يساهم في التقدُّم، وإنَّ في تحجيبه لنتائج مأسويَّة، وهذا ما شهدنا وشاهدنا. مهما يكن من شئ، فقد أعطت مبادرة "الإيقاد" السُّودانيين خيار الوحدة الوطنيَّة إذا توفَّرت بعض الشروط، وفي حال تمسَّك الحكومة ﺒ"ثوابتها"، يلجأ السُّودانيُّون إلى الخيار الثَّاني ألا وهو "حق تقرير المصير". وهنا انبرى عدد من السُّودانيين وأخذوا يتساءلون كيف انقلب الدِّكتور قرنق من الدَّعوة إلى وحدة السُّودان إلى المطالبة ﺒ"حق تقرير المصير"؟ إنَّ هذه هي من الأجندة السريَّة التي كان يخفيها قرنق في بداية الأمر، هكذا بدأ القوم يتكلَّمون. وهنا أحب أن أردِّد ما قاله الدِّكتور قرنق – والحديث ليوسف كوَّة – وهو أنَّ "حق تقرير المصير" هذا يمكن أن يقود إلى سبيلين: الوحدة أو الانفصال، لأنَّ الوحدة مثل الزواج بين الرَّجل والمرأة، فإذا لم تتوفَّر شروط الزَّواج وهي الحب المتبادل لا يمكن أن يسود هذا الزواج، لأنَّه ليس هناك قِران بالقوة. وهذه هي الفرصة الأخيرة، والغريب المدهش في الأمر أنَّ الذين قالوا للنَّاس من أبناء الجنوب إنَّهم مع انفصال الجنوب احتضنتهم الحكومة، وحملتهم على الأكتاف، ولطَّفتهم تلطيفاً، ومنحتهم المراكز والمناصب. فهناك من النَّاس من هم من ضعاف النُّفوس؛ النُّفوس التي ترغب في كثير، لكنها تقنع بالقليل الذي رُدَّ إليها، بل بأقلَّ من هذا القليل.

    وقد قال الشَّاعر في شأن أولئك النَّاس:

    والنَّفس راغبةٌ إذا رغَّبتها وإذا تُرْدّ إلى قليل تقنع

    أليس هذه هي الحكومة التي "تجاهد" من أجل وحدة السُّودان! نعم إنَّا لنؤمن بأنَّها تحارب من أجل وحدة السُّودان، لكن أيَّة وحدة وأي سودان! نجزم ولا تثريب على جزمنا إنَّهم "ليجاهدون" من أجل وحدة على طريقتهم التي ترتضيهم ويرضونها. تلكم الوحدة التي تسمح باستخدام فئة ضد أخرى، وتحطيم هذا وترك ذاك – أي سياسة "فرِّق تسد"، إذ لا يمكنهم إحضار المخلصين من أبناء الوطن الشرفاء.

    هكذا نجد أنَّ "الإيقاد" قد قدَّمت مبادرة صادقة لحل المشكل السُّوداني واصطدمت المبادرة مع هذه الحكومة العقائديَّة، التي تبغي حل المشكل السُّوداني بطريقتها. لذلك رفضت الحكومة السُّودانيَّة وثيقة "إعلان المبادئ"، التي جاءت بها مجموعة "الإيقاد"، وطفقت الحكومة تتَّهم جماعة "الإيقاد" بأنَّها تساعد الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، بالرَّغم من أنَّها هي التي سعت سعياً حثيثاً إلى "الإيقاد" متوسِّلة إليها لإيجاد مخرج صدق للمشكل السُّوداني. ثمَّ جاءت القنبلة التي ألقاها الدكتور غازي صلاح الدِّين العتباني في إحدى جلسات "الإيقاد" حين أخبر وفودها أنَّ للخرطوم رسالة تبشيريَّة بالإسلام ليست في الجنوب فحسب، بل في أفريقيا كلها، فوجم أهل "الإيقاد" المسيحيُّون وكظموا الغيظ أجمعون أبتعون، وكانوا واجدين على أحدوثة الدكتور العتباني أشدَّ الموجدة، ولها مبغضين أشدَّ البغض، وعليها حانقين في أكثر ما يكون الحنق. فلم يطق أهل "الإيقاد" لهذا الأمر احتمالاً، ولم يستطيعوا عليه صبراً، وتفرَّق أهل "الإيقاد" من جلستهم هذه، وإنَّ في قلب كل واحد منهم لأثراً قويَّاً باقياً لهذا الحديث الجلل والتصريح المدوي، الذي يفتقر من قيم الكياسة والدبلوماسيَّة قليل.

    هذا يوضِّح أنَّ الحكومة السُّودانيَّة لم تكن في عجلة من أمرها لحل المشكل السُّوداني، ومضى كل فريق إلى سبيله وتقطَّعت بهم السبل. فبعد ثلاث سنوات عادت الحكومة وقالت إنَّها قبلت بمبادرة "الإيقاد" بما فيها "حق تقرير المصير"، وجاء هذا القبول بعد أن وافق التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي على هذا الحق لأهل الجنوب في مؤتمر القضايا المصيريَّة في أسمرا – حاضرة أريتريا – في حزيران (يونيو) 1995م. إذ كانت الحكومة تتوعَّد وتنذر الشماليين في التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي بأنَّها قادرة على أخذ مقرَّرات أسمرا وتطبيقها مع الحركة الشَّعبيَّة، ويومئذٍ سوف نرى أي منقلبٍ تنقلبون. هذا ما فعلته الحكومة السُّودانيَّة لاحقاً؛ فقد أصرَّت الحكومة أن يكون "حق تقرير المصير" لجنوب السُّودان فقط دون جنوب كردفان أو النيل الأزرق أو أبيي، فكان الهدف من كل هذا هو شق الحركة الشَّعبيَّة، والدكتور قرنق يعلم – وما زال الحديث ليوسف – أنَّه لو وافق على ذلك سوف تكون هناك مشكلات عديدة وحرب داخليَّة بين مكونات الحركة الشَّعبيَّة مع بعضها بعضاً، حتَّى تضعف وتنتهي، وفي نهاية الأمر لم يبق هناك وجود لأهل الجنوب أو النُّوبة أو الفونج أو غيرهم، وإذا كان هناك "حق تقرير المصير" ينبغي أن يكون لكل العناصر التي تقاتل مع أهل الجنوب وهم النُّوبة والفونج وأبيي. ومن ثَمَّ قام الوشاة بنشر إشاعات مفادها أن أهل الجنوب قد مُنِحوا "حق تقرير المصير" دون النُّوبة – وآفة الأخبار رواتها – وهنا ظهرت طائفة من أبناء الجنوب الذين ظنَّوا أنَّهم جنوبيين أكثر من الدِّكتور جون قرنق ومشوا بين النَّاس قولاً وإشاعة بأنَّه لولا هؤلاء النُّوبة لكنا قد نلنا استقلال الجنوب، وهذا ما أخذت تروِّجه الحكومة السُّودانيَّة لأولئك الفئة من الجنوبيين تارة، وتنتقل الحكومة إلى بعض أبناء النُّوبة تارة أخرى وتوسوس في صدورهم بأنَّهم حاربوا مع أهل الجنوب، ونال أهل الجنوب "حق تقرير المصير"، وأنتم خرجتم صفر اليدين. وهنا يقول يوسف: أنا جنوبي أكثر من بعض الجنوبيين، وبخاصة الذين هم في لندن والخرطوم مقيمين، لأنَّ ليست هناك بلدة في جنوب السُّودان تم تحريرها إلا وفيها سالت دماء النُّوبة، وكذلك هناك جنوبيين ماتوا في جبال النُّوبة ولهم في هذه الجبال حق معلوم أكثر من أي نوباوي في لندن أو الخرطوم. إذ نحن في الحركة الشَّعبيَّة ندرك الأشياء جيِّداً، وبخاصة السياسة الاستعماريَّة "فرِّق تسد".

    ثم يمضي يوسف قائلاً: إنَّه لم يحضر محادثات "الإيقاد" في نيروبي، لأنَّه هو كان في جبال النُّوبة، وكذلك لم يحضر القائد مالك عقار لأنَّه كان هو الآخر في النيل الأزرق؛ لذلك حينما جاءت محادثات "الإيقاد" في أديس أبابا – حاضرة أثيوبيا – العام 1998م كنا من ضمن وفد الحركة الشَّعبيَّة، لأنَّ وفد الحكومة السُّودانيَّة في المحادثات السَّابقة ردَّد مراراً على وفد الحركة الشَّعبيَّة بأن لا يتحدَّث باسم النُّوبة وأهل جنوب النِّيل الأزرق. وحين حضرنا إلى أديس أبابا وجدنا شركاء "الإيقاد" يقولون إنَّ الحكومة السُّودانيَّة مستعدة لمنح أهل الجنوب "حق تقرير المصير". فقلنا لهم: وما بال النُّوبة وأهالي جنوب النِّيل الأزرق! فكان ردَّهم سوف ننظر في أمرهم لاحقاً، فقلنا: كيف يعقل ذلك؟ وما هي المعايير – مع علمنا التَّام بأنَّ الحرب الأهليَّة هي الحرب في جميع مناطق النزاع المسلَّح في السُّودان – التي بها يتم تفصيل "حق تقرير المصير" لأهل جنوب السُّودان دون غيرهم؟ فلم نجد منهم إلينا إجابة شافية. وعندما بدأت الجلسة أخبر القائدان يوسف كوَّة ومالك عقار شركاء "الإيقاد" بأنَّهم هنا يمثِّلون وفد الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، فإذا كانت هذه الجلسات تخص ما يسمَّى ﺒ"مشكلة جنوب السُّودان" فعليكم أن تخطرونا بذلك حتَّى ننسحب من المحادثات، فكان ردَّ شركاء "الإيقاد" بالنَّفي. وفي الحق، حينما استلمنا – نحن في الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان – إعلان المبادئ لمجموعة دول "الإيقاد" العام 1994م كانت لدينا تحفظات حول تعبير "حق تقرير المصير للجنوب"، وسجَّلنا هذا التحفظ ومضينا في قبول الإعلان، وكان هذا واحداً من الأخطاء الفادحة التي ما زلنا نجد الصُّعوبة في الخروج منها، فقد ارتدَّ إلينا خاسئاً حسيراً. فقد تعلَّمنا كثيراً وسوف لا تفوت علينا فرصة مثيلة في المستقبل. ولمَّا دخل وفد الحكومة كان أول بند في الأجندة هو فصل الدِّين عن الدَّولة؛ إذ قال قائلهم لا نقاش في هذا البند، ثمَّ انتقلنا إلى البند الثَّاني وهو "حق تقرير المصير للجنوب"؛ وجاء الحديث عن تعريف الجنوب، وقلنا لهم: نحن في الحركة الشَّعبيَّة نعتبر الجنوب لفظة جغرافيَّة؛ وعلى سبيل المثال إذا أخذنا هذه الحجرة يمكن تقسيمها إلى جنوب وشمال، وبالمثل الجنوب يمكن أن يصبح شمالاً والشمال يمسي جنوباً.

    وكان جدالنا هو إنَّ المهم في الأمر هو أنَّه هناك مشكل سياسي في السُّودان ونود حلَّه؛ وإذا أردت أن تمنح شيئاً لأحد دون الأغيار نريد أن نعلم المعايير التي بها تتم هذه المنحة، وإلاَّ سوف لا يكون هناك حلاَّ.

    صحيح في القاموس السياسي السُّوداني أنَّ الجنوب هو المديريات الثلاثة القديمة (أعالي النيل، بحر الغزال، والإستوائيَّة) بعد استقلال السُّودان العام 1956م، بيد أنَّ النُّوبة وأهل الأنقسنا وأبيي قد حاربوا سويَّاً مع أهل الجنوب لمدة 15 عاماً – حتَّى ذلك الرَّدح من الزَّمان، فإلى أين هم ذاهبون؟ ففي هذه الأثناء ذكر القائد مالك عقار للوسطاء أنَّه إذا كان الأمر كذلك فعلى وفد الحكومة السُّودانيَّة أن يعلن على الملاً أنَّ حكومة السُّودان سوف تسحب جميع قواتها من هذه المديريات الجنوبيَّة الثلاثة، وبذلك تنتهي الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان، مع العلم بأنَّ هذه الحرب ستظل مستمرَّة في جبال النُّوبة والنيل الأزرق، وسوف يوفِّر لنا هذا الأمر مشقَّة الإمداد العسكري، أي سيكون قريباً بدلاً من شق الوديان إلى شُقدُوم، ولن نمعن في السَّفر حتى يسعى إلينا الملال، ويأخذ فينا الكلال. وهنا التفت شركاء "الإيقاد" إلى وفد الحكومة ولهم قائلين: ما خطبكم في هذا الأمر؟ فرد أعضاء الوفد بأنَّ ليس لهم من التفويض في هذا الأمر شئ. وهنا نذكر – وما زال الحديث ليوسف – أنَّ القائد سيلفا كيير قال: إنَّه كرئيس لهيئة أركان الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان لسوف يعمل جاهداً لتوفير الإمداد الحربي للجَّيش الشَّعبي في جبال النُّوبة وجنوب النِّيل الأزرق لمواصلة النِّضال في هذه المناطق.

    على أيَّة حال، فقد خرجت الحكومة السُّودانيَّة قائلة للنَّاس إنَّ الحركة الشَّعبيَّة وافقت على حدود جنوب السُّودان للعام 1956م. وبالمناسبة، لقد تم تحديد حدود جنوب السُّودان رسميَّاً في اتفاقيَّة أديس أبابا العام 1972م، وليس العام 1956م كما بدأ التَّرويج لها. ففي خارطة الدوائر الجغرافيَّة لجنوب السُّودان (Parliamentary constituencies for Southern Sudan) في الانتخابات البرلمانيَّة في السُّودان العام 1957م، وجدنا جبال النُّوبة والنِّيل الأزرق يقعان ضمن مناطق الجنوب، وبهذه الخارطة انتظرنا وفد الحكومة في المحادثات القادمة، إلا أنَّ الجماعة إيَّاها غابوا ولم يحضروا. مهما يكن من شأن، فلم يوقِّع وفدا الحكومة السُّودانيَّة والحركة الشَّعبيَّة على بيان مشترك؛ إذ كل ما تمَّ الاتفاق عليه بين الطَّرفين هو ضرورة تسهيل عملية سريان المساعدات الإنسانيَّة والمواد الإغاثيَّة للمتضرِّرين من النِّزاع المسلَّح، ورُفِعت المفاوضات إلى شباط (فبراير) العام 1999م.
                  

02-28-2006, 07:28 PM

Khalid Kodi
<aKhalid Kodi
تاريخ التسجيل: 12-04-2004
مجموع المشاركات: 12477

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (1 من 3) د. عمر مصطفى شركيان (Re: Khalid Kodi)

    حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (3 من 3)

    د. عمر مصطفى شركيان


    التَّجمُّع الوطني الدِّيمقراطي

    حينما ظهر السيِّد الصَّادق المهدي في دولة أريتريا استقبله التَّجمُّع الوطني الدِّيمقراطي أيما استقبال،(3) وبرغم هذا كله كان هناك من آيات الاستفهام كثر؟ لِمَ خرج السيِّد الصَّادق المهدي الآن من السُّودان؟ وكيف استطاع أن يخرج ويفلت من عيون النِّظام؟ وبعدئذٍ أذَّن الإمام الصَّادق في الأنصار بالهجرة، وأخفق فيما سعى من الإيذان أيما إخفاق. كان الصَّادق يمني نفسه أن يحشد لنفسه وحزبه جنوداً من الإنس لا قبل للتَّجمُّع له به بعد، وخاب مسعاه؛ وبعد ذلك بدأ ينظر نظرة نقديَّة لكل شئ ويشن هجوماً عنيفاً على التَّجمُّع الوطني الدِّيمقراطي باعتبار أنَّ الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان هي القوَّة الوحيدة الضَّاربة فيه، فكانت كراهيته للتَّجمُّع إذن كراهيَّة الغيرة والحسد لا كراهيَّة موضوعيَّة؛ كذلك كانت هناك صراعات حزبيَّة بينه وبين الحزب الاتِّحادي الدِّيمقراطي.

    هكذا لم يكن الصَّادق مسروراً بدوام الحال والمآل في التَّجمُّع الوطني الدِّيمقراطي، وقد عرفنا أنَّ الصَّادق المهدي قد يرجع إلى الخرطوم في أي وقت، وكان ما كان متوقَّعاً. زعم الصَّادق إنَّ عودته إلى الخرطوم لهي ضروريَّة لإيقاف اتفاق الحكومة السُّودانيَّة مع الحركة الشَّعبيَّة، أو وقف تبني الحركة لمبادرة السيِّد أبيل ألير، وذكر يوسف أنَّ لا الحكومة ولا الحركة قد اتَّفقت مع أبيل ألير، وإنَّ الحرب سوف تتوقَّف إذا منحت الحكومة مطلب الكونفيدراليَّة للحركة الشَّعبيَّة.

    إذن، لِمَ يريد الصَّادق أن يوقف اتفاقاً قد يفضي إلى سلام ويحول دون الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد؟ إنَّ السَّلام الذي لا يكون فيه الصَّادق شريكاً لا يعتبر سلاماً في نظره، بل استسلام من جانب وإملاء شروط من الجانب الآخر، وتنفيذ أهداف القوى الدَّوليَّة من جانب ثالث؛ أو ما بات الصَّادق يملأ به السماوات والأرض عجيجاً من عبارات "تدويل المشكل السُّوداني".

    وبعد انتهاء حديث القائد الضيف يوسف، بدأ الحاضرون في إبداء التَّعليقات وإطراح بعض التساؤلات؛ فقد جاء التَّعليق الأول عن تأريخ السُّودان بصورته الحاليَّة، ورؤية أبناء النُّوبة في سلوك قادة السُّودان القديم، ومستقبل السُّودان الجديد بما فيه من الاعتراف بالتعدُّديَّة، والعلاقة السياسيَّة بين النُّوبة وأهل الجنوب وجنوب النِّيل الأزرق، ودور التجمع الوطني الدِّيمقراطي كبوتقة واحدة تستطيع أن تجمع النَّاس على برنامج حد أدني لمعارضة النظام يومذاك. ثُمَّ تطرَّق المعلق على أخطاء الدِّيمقراطيَّة السَّابقة، وختم الرفيق حديثه بالتساؤل ألا وهو: هل تتفق معي أنَّ التأريخ يعيد نفسه؟ فردَّ يوسف أن أهدافهم في الحركة الشَّعبيَّة أن يكون السُّودان موحَّداً، سودان متَّحد في هيئة لامركزيَّة. وحينما يأتي السيِّد الصَّادق المهدي ويقول "حق تقرير المصير للجنوب فقط" غير جبال النُّوبة ومناطق الأنقسنا، فكان ردَّنا له ولغيره: إنَّنا لنمارس "حقَّنا في تقرير المصير" الآن في جبال النُّوبة؛ إذ لدينا برلماننا ولغاتنا المختلفة واللُّغة العربيَّة والإنجليزيَّة، وإنَّنا لنناضل من أجل تحرير المضطهدين من الاضطهاد والمضطَّهِدين من أفكار الاضطهاد، ولنا أكبر الظَّن أنَّ الإنسان بمقدوره أن يتغيَّر سواء بالاحتراب أم بالحوار، وما حوارنا مع أعدائنا بالأمس إلا قناعة منا بهذا المبدأ، حيث إنَّنا لم نيأس؟ ولم نبتئس منهم بعد. فقد ساهم تحالف الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان مع أحزاب التَّجمع الوطني الدِّيمقراطي في النِّضال السياسي والعسكري سويَّاً ضد النِّظام "الإنقاذي". وكانت الحركة الشَّعبيَّة ترى في فلسفتها دائماً أنَّها إن فشلت في احتواء المعارضة الشماليَّة وإضافتها إلى رصيدها النِّضالي فسوف تفلح حكومة "الإنقاذ" في ذلك وتجرُّها إلى جانبها، وتمسي الحركة من الأخسرين سبيلاً. فقد ظهر ثمار هذا التَّحاف حين حرَّرت قوات الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان مدينتي الكرمك وقيسان في جنوب النِّيل الأزرق العام 1997م، وعندما هبَّ النظام "الخرطومي" لتأليب العالم العربي والإسلامي ضد قوات التَّجمع الوطني الدِّيمقراطي بقيادة الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، أفلح الحزب الاتحادي الدِّيمقراطي في تسكين وتسكيت أصوات العرب والمسلمين، قائلين لهم إننا شركاء في هذه العمليات؛ وقال قائلهم: أفلم نكن عرباً مسلمين! إذ كان الموقف مختلفاً تماماً العام 1987م، حين دخل الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان هاتين المدينتين، وعندئذٍ طار السيِّد محمد عثمان الميرغني – راعي الحزب الاتحادي الدِّيمقراطي والشريك في حكومة السيِّد الصَّادق المهدي الائتلافية – إلى الرئيس العراقي صدام حسين، وجاء بالمقاتلات العراقيَّة تقذف المدينتين قذفاً مروِّعاً وتستعيدها لحكومة الصَّادق المهدي.

    ثم انتقل يوسف ليحدِّثنا عن بعض تجاربه في الحركة الشَّعبيَّة والجِّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان. فقال: إنَّ له من التجارب الشخصيَّة في الحركة الشَّعبيَّة منذ العام 1984م كثير، لكن إنَّ أكثر مرحلة درس فيها أهل الجنوب دراسة مستفيضة هي تلك الفترة التي كان فيها رئيساً للجنة التحضير لمؤتمر الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان الأول العام 1994م، وذكر يوسف أنَّ اللَّخبطة (المشكل) تأتي دائماً مما يسمون بالوزراء السَّابقين (Ex-ministers)، وكذلك حملة إجازة الدكتوارة (PhD-holders)، هذا هو المشكل في الجنوب والشمال وجبال النُّوبة وأي مكان آخر في السُّودان، لأنَّ أغلبيتهم ينظرون إلى أنفسهم ويبحثون عن الفائدة الشخصيَّة التي يجنيها في الاتجاه الذي يختاره. وقد جاء مأخذ يوسف على السُّودانيين العلماء على سبيل التَّعميم، ولكنه قطعاً كان به قاصداً وجه التَّخصيص، وهنا نشير إلى الدكتور لام أكول والدكتور رياك مشار والدكتور حسن عبد الله التُّرابي. فمثلاً تجد من يدَّعي أنَّه يريد فصل الجنوب عن الشمال – الدكتور رياك مشار مثالاً – وإذا به يذهب ويرتمي بنفسه في أحضان الحكومة في الخرطوم.

    ويقول يوسف في لهجة غلبت عليها الأناة والحلم: إنَّه – بأمانة - وجد أنَّ السَّلاطين في الجنوب – أي أهل الريف (Grassroots) - هم أفضل النَّاس دراية بأحوال النَّاس؛ بالرَّغم من أنَّهم لم ينالوا من التَّعليم شيئاً، لكن منحتهم التَّجارب الحياتيَّة حكمة عالية، فحين يقف أحدهم ويتحدَّث بلغة قبيلته (His mother-tongue language)، وعندما تتم ترجمة حديثه تجد الحكمة ولا شئ غير الحكمة؛ وكذلك القطاعات النسويَّة، فدعني أحّدِثكم عن تجربة (Let me tell you about an experience). وإنَّا لفى مقر عملي كرئيس للجنة التحضير لمؤتمر الحركة، إذا يقدم قادم قائلاً إنَّ اتِّحاد نساء بحر الغزال لتبغين مقابلتك، عجبي! فتحادثت مع نفسي في نفسي، وقلت تُرى ماذا يريدن قوله؟ فسمحت لهم بالمقابلة، وتم تحديد الميعاد ليوم معلوم. وجاءت نسوة بحر الغزال وجلسن صفاً واحداً، وقلن: إنهن لا يستطعن من الحديث باللُّغة العربيَّة شيئاً، ولا يتحدَّثن الإنجليزيَّة كذلك؛ فقلنا لهن: لا مانع عندنا من سماع حديثهن، ونحن هنا لنسمع قول الجميع وبأيَّة لغة طالما كان هناك ترجمان ليخبرنا ما خطبهم. وعندما شرعن في الحديث وتحدَّثن وسمعنا وفهمنا قولهن بكيت بكاءاً حاراً، وسالت دموعي من عينيَّ سيلاً مدراراً؛ لأنَّنا شعرنا – في بادئ الأمر ونهاية المطاف – أنَّ الكلام نابع من الأعماق، وكان حديثاً مؤسفاً ومؤلماً جداً سواءاً من الناحيَّة الوطنيَّة أم السياسيَّة، وكان حديثهن كل الحديث عبارة عن تساؤلات. فقلن: إنكم قلتم إنَّ هناك لمشكل في السُّودان، وخرجتم للنضال ونحن سرنا من خلفكم نشدُّ من أزركم، والآن بدأتم تتراجعون والعيال (الأبناء) كلهم أقفلوا راجعين أبتعين! لِمَ وفيم؟ إذ لم تخطرونا عن الجديد الذي طرأ عليكم! وعمَّ تتشاجرون وتتناحرون فيما بينكم؟ هل تحقَّقت جميع أهداف النِّضال؟ وهل الشئ الذي من أجله بدأتم النِّضال قد تحصَّلتم عليه، وبعدئذٍ بدأ الشجار بينكم؟ وكانت أسئلة صعبة جداً ولا يمكنكم التصوُّر أن الشَّخص الأمي، "الذي لا يعرف الواو الضكر"، قد يطرح مثل هذه الأسئلة. ومضت نسوة بحر الغزال مضيفة: أنَّهن هن اللائي يشقين كثيراً من أهوال هذه الحرب الضروس، وليس الرِّجال؛ لأنَّ الميت إما زوجك وقد ترك لك الأبناء وأنت أيم (أرملة)، أو أخوك وقد ترك لك أسرته، أو ولدك وقد تركك ثكلى، أو أبوك وقد تركك يتيمة فقيدة أب، فتكون أنت المسؤولة عن جميع هذه الأعباء. وشرعت النسوة يقلن: إنَّهن لم يتعبن من الحرب، فما الذي يتعبكم أيُّها الرِّجال؟ وإذ قالت إحداهن: لي من الأولاد أربعة، لكنني مستعدة أن أدفع بواحد منهم إليكم لبيعه وتقبضوا ثمنه سلاحاً لتحرير الجنوب! فانظروا حدود الوطنيَّة! إذ أنَّ الحيوانات – الطيور على سبيل المثال – تذود وتستميت دفاعاً عن أفراخها ضد من يفجعها ويروِّعها، فكيف بهذه المرأة التي تودُّ التَّبرع بابنها للبيع في مزاد علني في سبيل تحرير الجنوب!
                  

02-28-2006, 07:32 PM

Khalid Kodi
<aKhalid Kodi
تاريخ التسجيل: 12-04-2004
مجموع المشاركات: 12477

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (1 من 3) د. عمر مصطفى شركيان (Re: Khalid Kodi)




    على أيَّة حال، كلَّما يبغيه الإنسان العادي في الجنوب هو العيش في أمان، بحيث تجد أبقاره الماء والكلأ بما فيهما الكفاية، ويستطيع هو أن يأكل ويشرب في يسر، ويذهب إلى الأسواق لقضاء حوائجه في يسر أيضاً، وليس له من التطلعات كثير؛ فالتطلُّعات عند الأفنديَّة (الصَّفوة)؛ فكل ما أود قوله (So what I need to say is that the majority of grassroots want to live in peace and prosperity) هو أن غالبيَّة أهل الرِّيف يريدون العيش في أمن وأمان، وليس لهم من الفهم كبير في ألفاظ مثل اللامركزيَّة، الفيديراليَّة، الكونفيديراليَّة، الانفصال، والوحدة الوطنيَّة وهلمجرَّاً؛ وإنَّما هم قوم يعيشون على فطرتهم، ويرسلون نفوسهم على سجاياها. إذ أنَّ المشكل السُّوداني يقبع في القيادة، فإذا وجدنا قيادة راشدة تقودنا إلى الوحدة الوطنيَّة الصَّادقة، فسوف نمضي معها، أو اللامركزيَّة وغيرها فسوف نسعى معها، وبشرط أن نجد الأمن والأمان في أنفسنا وأعراضنا وممتلكاتنا، ثمَّ بعد ذلك تأتي بعض الأشياء التي تفرز الآثار الجانبيَّة، وهي القبليَّة؛ فالقيادة الواعية يمكنها أن تعالج هذا المشكل. فمنذ العام 1972م قامت الحكومات المختلفة المتعاقبة في الخرطوم على تغذية الروح القبليَّة، وتأجيج النعرات العنصريَّة، وهنا أشير إلى المبادئ الخمسة التي أشار إليها السيِّد الصَّادق المهدي في كيفيَّة تعريب وأسلمة الجنوب، فما زلنا نجني رواسبها وإفرازاتها حتَّى الآن.

    أمَّا فيما يختص ﺒ"حق تقرير المصير"، فردَّ يوسف على السائل: أنَّه ليس هناك مشكل سياسي عند القاعدة، بل يكمن المشكل في القيادة فيما نسميَّه النِّزاع حول السُّلطة (Power struggle) سواء علينا في الجنوب أم في الشمال. ثمَّ أدلف يوسف يحدِّثنا عن التَّهميش الاجتماعي والاقتصادي حول مدينة أم درمان، وحال الذين يعيشون في الضواحي وطرف المدائن، وكيف يمسَّهم الضر وهم في عقر دار السُّلطة. أما فيما يختص بحقوق المرأة في الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، فأكَّد يوسف أنَّ للمرأة حق معلوم مثلما للرَّجل، وهي نفس الثَّقافة السَّائدة في مجتمعاتنا في جبال النُّوبة، ونحن كنا مجتمعاً أخواليَّاً (متعلِّق بناحية الأم أو مبني عليها أو مرجع النَّسب من خلالها) – أي كما تقول الفرنجة (Matrilineal society)، وذلك قبل دخول العرب إلى السُّودان؛ فالخال هو الذي يزوِّج لك وأنت ترثه بعد مماته، لذلك للمرأة مكانتها في الحركة الشَّعبيَّة. وكما أخبرتكم عن موقف المرأة في الجنوب فيما مضى من سالف الذكر، فتعالوا نريكم من آيات دورها في الجبال كذلك. ففي العام 1992م – أي بعد انشقاق الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول عن الحركة الشَّعبيَّة – حاول بعض أبناء النُّوبة أن يحذوا حذوهم. فبعد أن اعتقلناهم وأبعدناهم عن المنطقة، رأينا أن نعقد مؤتمراً تشاوريَّاً في جبال النُّوبة لاستيضاح النَّاس حول آرائهم في استمرار الحرب أو إيقافها، لأنَّه لا جدوى من مواصلة النِّضال إذا وقف النَّاس ضد ذلك. وجاءت الوفود من جميع مناطق جبال النُّوبة يسعون (حوالي 300 ممثِّلاً)؛ وفي مفتتح المؤتمر شرحت للحاضرين ما نلنا بعد النِّضال، إذ أصبحنا فخورين أن نكون نوبة، فلم يُوجَد مثل هذا الاعتزاز والفخر من قبل، وبعد أن رفعنا السِّلاح أصبحنا مثل أهل الجنوب العام 1955م – أي أمسى لدينا من الاعتراف شئ، وصاروا يمنحوننا بعض الوزارات مثل وزارة الثروة الحيوانيَّة، وكذلك "وزارة الحلَّة والملاح" (في إشارة إلى وزارة السياحة والفنادق)، وتناقشنا ما وسعنا النِّقاش، وتجادلنا ما وسعنا الجدال، وذلك لمدة أربعة أيَّام حسوماً. وكان النِّقاش حرَّاً دون أيَّة قيود أو حدود، فكان هناك بعض الأصوات التي نادت بالاستسلام؛ إذ أنَّ صوت المرأة كان العنصر الذي رجَّح كفة الميزان لصالح النِّضال. فقد ذكر الرِّجال أنَّهم أصبحوا عُراة بسبب الحرب، وانتشرت الأوبئة بسبب الحرب؛ فردَّت النساء: متى تعلِّمنا اللِّباس نحن النوبَّة إلا حديثاً! فما الجديد في ذلك إن كنا عُراة؟ أمَّا عن المرض، فقلن: إنَّ في سريرك قد يدركك الموت؛ إذ طالما لدينا أهدافنا فعلينا مواصلة النِّضال لتحقيقها ونيل مراميها أو الموت دونها؛ وأضفن: إذا تعبتم وتقاعستم عن النِّضال أيُّها الرِّجال، فنحن على استعداد تام لأخذ السِّلاح ومواصلة النِّضال، وهنا ضرب الرّجال صدورهم وعادوا إلى رشدهم، وصوتت الغالبيَّة العظمى لمواصلة النِّضال، وهكذا قررنا مواصلة النِّضال بأغلبيَّة ساحقة. وكذلك من آيات حق المرأة في جبال النُّوبة هي أن أغلبيَّة تعداد التلامذة والطلبة في المدارس من البنات.

    ثمَّ جاء السؤال عن أهمية الانتفاضة المحمية، وركَّز يوسف في الحديث أنَّ على التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي أن يشارك في النِّضال المسلَّح مثلما تفعل الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، وأن يساهم في النِّضال الإعلامي، وبخاصة أنَّنا في الحركة الشَّعبيَّة فقدنا الإذاعة وخسرنا 50% من جهودنا الإعلاميَّة لأنَّها كانت تعطينا مصداقيَّة، وحاولنا بيع أخشاب منطقة شرق الاستوائية بعد تحريرها لنقبضوا ثمنها إذاعة، لكن الجهة التي عزمت على الشراء وهي جنوب-شرق آسيا كسدت اقتصاديَّاً، والحركة تعاني من مشكلات المال والإعلام. أمَّا أخواننا في الشمال فهم لا يريدون الانخراط في الحركة الشَّعبيَّة لأسباب تأريخيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة، وكذلك العقليَّة الشماليَّة، التي ترغب دائماً أن تتصدَّر الأشياء وتعارض كل ما جاء بها أهل الجنوب أو الغرب. ومهما قلنا لهم إنِّنا في الحركة لدعاة الوحدة الوطنيَّة نجدهم يقولون: بل إنَّ لكم من الأجندة السريَّة كثير؛ لذلك جاءت فكرة لواء السُّودان الجديد، وهو ملئ بالمجنَّدين. إذ أنَّ الشماليين الموجودين في لواء السُّودان الجديد أكثر من الشماليين المنضويين تحت لواء الأحزاب السياسيَّة الشماليَّة في جبهات القتال، حتَّى قوات التَّحالف السُّودانيَّة فأغلبهم جنوبيين ونوبة.
                  

02-28-2006, 07:35 PM

Khalid Kodi
<aKhalid Kodi
تاريخ التسجيل: 12-04-2004
مجموع المشاركات: 12477

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (1 من 3) د. عمر مصطفى شركيان (Re: Khalid Kodi)

    خلاصة

    وفي مختتم النَّدوة يمكننا تلخيص أهمَّ ما جاء في محاضرة القائد الضَّيف يوسف في عدة نقاط، وهي: أزمة الحكم في السُّودان، مشكل الهُويَّة السُّودانيَّة، مسألة الدِّين والسياسة، التنمية غير المتوازية، تهميش الأقاليم في الخدمات الاجتماعيَّة والصحيَّة والتَّعليميَّة، التَّذويب الثَّقافي القسري في ثقافة أحاديَّة (عربيَّة-إسلاميَّة)، عدم الاعتراف بالقوميات الوطنيَّة الأخرى، فقدان تكافؤ الفرص، وغياب الدِّيمقراطيَّة والتعددُّيَّة الحزبيَّة. ولكي تسود الدِّيمقراطيَّة الحقيقيَّة ينبغي الاعتراف بالتعدُّديَّة الثَّقافيَّة والدِّينيَّة والإثنيَّة، والارتقاء بالقطاعات الفقيرة وتحسين ملامح المجتمع السُّوداني حتَّى لا يشعر أولئك المساكين وهؤلاء الكادحون بأنَّهم غرباء في وطنهم، ولكي نبدِّل خوفهم أمناً. وليس إلى الإصلاح الاجتماعي من سبيل إلاَّ إذا وُجِدت الأداة السياسيَّة الصَّالحة التي تستطيع أن تنهض بعبئه وتنقذه من مشكلاته؛ فهل ترى أنَّ السُّودان قد ملك أداة سياسيَّة صالحة تمكنها من محاولة هذا الإصلاح؟ هذا سؤال يستطيع أن يجيب عليه أي سوداني. كما ينبغي التَّركيز على تقييد السلوك البربري عند أهل الحكم، وتشجيع الخصال القويمة والقيم الإنسانيَّة. إذ أنَّ الاستمرار في المفاصلة بين فئات الشَّعب السُّوداني قد تساعد في تباعد انعدام الثِّقة بين الشمال السياسي والجنوب الجغرافي، والمركز المسيطر والغرب المغلوب على أمره، والشَّرق المهمَّش والشمال القصي المهجور الذي تعبث به كثبان الرِّمال وعواصف الصحراء. كذلك، ينبغي الاتفاق حول مفهوم جامع ومقبول للمواطنة؛ تلك هي التي تسع جميع القوميات السُّودانيَّة المختلفة، بحيث تفرض مزيداً من المسؤوليات القوميَّة، وتنمِّي مزيداً من القيم الحضاريةَّ والإنسانيَّة، وتسمح بحماية الثقافات والإثنيات والدِّيانات الأخرى. وما ينبغي للدِّين أن يكره النَّاس عليه إكراهاً، وأن تفرضه القوة القاهرة على النفوس فرضاً، وإنَّما هو ينبوع رحمة وحنان يجب أن تصبو النفوس إليه عن رضاً، وتهوي إليه القلوب عن محبة وشوق. وما أظن أنَّا مُنحنا الدِّين وسيلة إلى الطغيان والجبروت، وطريقاً إلى إساءة المعاملة. كذلك يفكر قليل من النَّاس، وإنَّهم لكذلك يعملون! ولكنهم، فيما نعتقد، يخدعون أنفسهم ويضلِّلون عقولهم، ويخفون ما يملأ قلوبهم من الضعف وحب النَّفس الأمارة بالسوء والعجز عن احتمال تبعات العقل. ولولا أنَّ هؤلاء النَّاس قد اتَّخذوا الدِّين وسيلة من وسائل السيادة وأداة من أدوات الحكم وبسط السُّلطان، يكذِبون به على أنفسهم ويكذِّبون به على النَّاس... لولا هذا كله لما أُريقت الدِّماء ولا انتثرت الأشلاء، ولا أُزهقت النفوس، ولا قتل النَّاس بعضهم بعضاً في السُّودان على هذا النحو وبهذا المنوال فيما سُمِّي ب"الجهاد في سبيل الله"! ففي هذه الحروب الدنيويَّة، التي مبعثها السِّياسة ولا شئ غير السِّياسة، لا دخل ولا تدجيل للدِّيانة فيها. أفلم تروا كيف أسدى الرئيس الفرنسي الرَّاحل فرنسوا ميتران نصيحة ثمينة لرئيسة وزراء بريطانيا مارجريت تاتشر في نزاعها مع الأرجنتين حول جزر الفوكلاند العام 1982م! إذ نصح ميتران السيِّدة تاتشر أن لا تتوسَّل وتتبتَّل إلى الآلهة في صغائر الأمور حينما تقدم على مثل هذا النوع من المغامرة، وها هو ذا يقولها بلغة إنجليزيَّة بحيث تفهمها تاتشر جيِّداً (When you do this kind of job, you don’t invoke the gods every time there is a small hitch).

    اتَّصف حديث مساء الأربعاء مع القائد الضَّيف يوسف كوَّة مكِّي بالكلام الصَّريح الخالي من التَّلميح، فلم يؤثر الغموض على الوضوح، ولا الرَّمز والإلغاز والإشارة على تسمية الأشياء بأسمائها، ولم تشوبه المراوغة والمداورة، ولم يكن بالطَّويل الممل ولا القليل المخل. وإنَّه لفي حديثه، إذا العرق ينساب على وجهه انسياباً ليس بقليل، وكان يقول – بصوته الممتلئ الهادئ الرَّزين - ضاحكاً غير آبه: أفلا تنظرون إلى العرق الذي يسيل على جانبي وجهي مدراراً! لا تظنوا إنَّه لناتج عن البرد، بل إنَّه لمرض ذاك هو الذي يأكل أحشائي. كان يوسف يظهر عليه جهد، وتبدو عليه أية ملال وكلال، وبعد هذا كله – أو قل وبرغم هذا كله – كان هادئاً مطمئنَّاً. وكان يوسف لهذا المرض متحمِّلاً بصبر وجلد وأناة؛ إنَّه والله لرجل من النُّوبة، ليس للجزع على نفسه سلطان، ولا للضعف إلى قلبه سبيل! حقَّاً، كان فتى من فتيان النُّوبة، فيه عنفهم، وفيه شدَّتهم عند البأس حين يتجلَّى البأس، وفيه عنادهم، وفيه اعتدادهم بأنفسهم دون الكبرياء والخيلاء (Proud, but not arrogant)، وفيه إيثارهم لهذه الخصال التي يؤثرها أصحاب المروءة والرجولة الكاملة، أولئك الذين يأنفون الضَّيم، ويأبون الخسف، ويكرهون أن يؤخذوا بما لا يحبُّون. فعندما انخرط يوسف في صفوف الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، كان يدرك – الإدراك كله – أنَّ الذي هو عليه مقبل تملؤه الأخطار، ولكنه لا يكره الأخطار ولا يهابها، وإنَّما احتقرها احتقاراً وازدراها ازدراءاً؛ أليس أقصاها وأقساها، وأشدَّها ثقلاً، وأمرَّها مذاقاً، هو الموت! فإذا كان لا يحفل بالموت في شئ، فإنَّه خليق ألا يحفل بما هو أيسر منه شأناً وأهون منه أمراً. فإنَّ الرَّجل الكريم هو الذي يلقي جليل الأمر معترفاً به غير منكر له ولا جاحد لأخطاره. لذلك رأى النُّوبة من يوسف هذا شيئاً ما هم بالذين يختارون عليه أحداً أبداً. لم يفتر يوسف من النِّضال مهما بلغه من دواعي الفتور كثير، ومثله كمثل الدكتور جون قرنق حين سُئِل ذات مرة: ألم يصيبك الإعياء من الحرب؟ فردَّ على سؤال السائل: كلا، بل سئمت من الظلم والضَّيم، وكذلك قالت روزا باركس – الأفروأمريكيَّة التي رفضت أن تخلي مقعدها الأمامي في إحدى النَّاقلات العامة لرجل وإنَّه لأبيض، حسب قوانين التمييز العنصري في مونتيقوميري بولاية ألاباما الأمريكيَّة وقتئذٍ في الفاتح من كانون الأول (ديسمبر) 1955م – إذ قالت إنَّها سئمت من الاضطهاد، لذلك تحدَّت البيضان من الرِّجال، ورفضت أن تخلي سبيل مقعدها لهؤلاء القوم الثقال. ثمَّ كان يوسف يعتبر بما كان لآبائهم من مجد مؤثل، ويقدِّر ما أصابهم من محن مظلمة وفتن مدلهَّمة، وذلك إباءاً للضَّيم وبغضاً لسوء القالة، وعرفوا كيف يثبتون لها ويصبرون عليها، ويخرجون منها كراماً عظاماً.

    هذا هو يوسف وإنَّه لهو ذاك، وهذه هي حال النُّوبة، وقد امتحنوا في أديانهم وثقافتهم بأعظم الشر وأشنع النكر، فصبروا على المحنة، وثبتوا للخطب، واصطلوا النار التي بها حرَّقهم الأغيار تحريقاُ مؤلماً. وقد عرف النَّاس في تأريخهم كله أن لن يُخدَمَ رأي ولا دين بمثل اضطهاد أصحابه وفتنتهم والإغراء بهم؛ دونكم قصَّة أصحاب الأخدود!

    رحم الله يوسف وطيَّب الله ثراه! فهو لم يعش ليرى بشائر السَّلام، ولم تدعه المنيَّة ليدرك جليَّة الأمر،(4) فإنَّ لكل شئ إبَّانه، وإن كان عصيَّاً على المرء تقبُّله؛ والرَّجل الحازم العازم الحكيم خليق أن يرضى بالقضاء المكتوب، والقدر المحتوم، يحتمل الخير غير زاهد فيه، ويحتمل الشَّر غير ساخط عليه. وحين عاد كاتب هذه السُّطور من مؤتمر كاودا الأول العام 2002م سألني أحد الرِّفاق الصحاب وهو يحاورني: تُرى ما الذي فقده المؤتمرون في مؤتمرهم التَّشاوري ذاك؟ فقلتُ له: لست أدري يا صاحبي؛ فأردف محدثي مجيباً: لقد افتقد هذا الجمع الكريم القائد يوسف كوَّة مكِّي، وافتقده الجمع الكريم كذلك في مؤتمر كاودا الثاني في نيسان (أبريل) 2005م. رحم الله يوسف! فما ينبغي أن يثير ذكره إلا ذكرىً ووفاءاً، وما ينبغي أن يثير ذكره إلا المودَّة والرَّحمة والنُّصح للنُّوبة خاصة والسُّودانيين عامة. اللَّهم إنَّه قد حمى شرف النُّوبة في هذه الحياة الدُّنيا، وفي تلك الأيام التي كانت تُرخص فيها الحياة والنُّفوس والدِّماء والأموال والأهل، ويغلو فيها الشَّرف والفخر والعزَّة والكَّرامة؛ اللَّهم فاحم جسده الطَّاهر وروحة العطرة في آخر هذه الدُّنيا. وما يدريك لعلَّه لو اُستشِير لأشار علينا بعد موته هذا بالتَّضحية في سبيل الأوطان!


    هوامش وإحالات

    (1) كان وفد الحركة الشَّعبيَّة في محادثات أبوجا الثَّانية يتألف من القائد سيلفا كيير ميارديت – رئيس الوفد، القائد يوسف كوَّة مكِّي – نائب رئيس الوفد، القائد دينج ألور، القائد أليجا ملوك، الدِّكتور جستن ياك، والقائد فيليب لامدونق.

    (2) صحيفة "الحياة"، الثلاثاء، 4/5/1993م، العدد 11039.

    (3) تشكَّلت قيادة التَّجمُّع الوطني الدِّيمقراطي بعد مؤتمر عقدوه في أسمرا – حاضرة أريتريا – من (1) السيِّد محمد عثمان الميرغني – رئيس التجمع الوطني الدِّيمقراطي وهيئة القيادة، (2) الفريق أول فتحي أحمد علي – نائب الرئيس، (3) مبارك الفاضل المهدي – الأمين العام ومسؤول مكتب الاتصال بالدَّاخل والمشرف على مكتب الشؤون العسكريَّة، (4) فاروق أبو عيسى - النائب الأول للأمين العام والنَّاطق الرَّسمي والمشرف على مكتب التَّنظيم والإدارة، (5) محمد عثمان أحمد عبد الله – نائب الأمين العام ومسؤول مكتب الإعلام والمشرف على مكتب الماليَّة، (6) الدكتور منصور خالد - نائب الأمين العام ومسؤول العلاقات الخارجيَّة والمشرف على مكتب الشؤون الإنسانيَّة والإغاثة واللاجئين، (7) بونا ملوال – نائب الأمين العام، ( التِّجاني الطيِّب – مسؤول مكتب التَّنظيم والإدارة، (9) الفريق عبد الرحمن سعيد – مسؤول مكتب الشؤون العسكريَّة، (10) أبدون أقاو – مسؤول مكتب الشؤون الإنسانيَّة والإغاثة واللاجئين، (11) المهندس هاشم محمد أحمد – مسؤول مكتب الماليَّة.

    (4) توفَّى القائد يوسف كوَّة مكِّي في يوم السَّبت الموافق 31 آذار (مارس) 2001م في مدينة نوريتش البريطانيَّة إثر داء السرطان، وتمَّت مواراة جثمانه في كاودا بجبال النُّوبة بعد رحلة طويلة شاقة طاف جثمانه عدة مناطق بجنوب السُّودان.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de