|
الولايات المتحدة السودانية
|
أنا متفائل بما فيه الكفاية ، لكنّ تفاؤلي كثيرا ما يخذلني .. على المستوى الشخصي أعمل من أجل وحدة بلادي ، وهي أمنية غالية انتظرت سنيّ عمري لأراها تتحقق .. وطيلة خمسة وثلاثين عاما وعيت السياسة ، وتشبعت بروح الوطنية ، وتفاعلت مع تفاصيل حياة الشعب السوداني ، وكان أملي كبير في أن الشعب السوداني سينتصر على شرور بعض أبنائه وعقوقهم ، ويعيد للوطن عافيته ، وينتشلنا من هذا الواقع الأليم ... خمسة وعشرين عاما قضيتها في الغربة ، وقد ظللت أحلم منذ عشرين عاما بترك الغربة والعودة إلى أحضان الوطن . ومرت بالوطن سنوات عجاف ، حرب وفقر وقهر ... وكلها بسبب العقوق والشر الكامن في نفوس البعض ... السلام الذي أطل علينا فتح نافذة للأمل ،،، لكنّ الأمل القادم من هذه النافذة يتناقص ويتراجع بسبب غليان دارفور ، والشرق ، والتصريحات القادمة من التجمّع تارة ومن الحكومة تارة أخرى .. وهناك الحركة الشعبية ، وبعض ما يطفو على سطح نضالها مما يمكن أن يدفع من هم مثلي إلى التشاؤم أو الشك أو الإحباط ... حالة التوقيع واللاتوقيع ، والتفاوض واللاتفاوض ، وحالة الشد والجذب التي تعتري حكومتنا والقوى السياسية المعارضة لها ستوصلنا إلى اتفاقيات هشة إن لم تكن عديمة الجدوى ... فالجسد الوطني يتعرض لمزيد من التمزق بسبب الاستقطاب والاستقطاب المضاد .. ونحن نتفرج على مسرحية يتم فيها تبادل الأدوار بين الحكومة ومعارضيها ... يرفع هذا صوته فيخفض صوت الآخر ، ويعلو سقف هذا لينخفض سقف ذاك ، وتكتب الحكومة ومعارضيها كل يوم معادلات معقدة ، يقولون لنا - نحن الشعب - أنّ حلّ هذه المعادلات هو المدخل لمعالجة مشكلات الوطن ،، لكنّا نعلم أن كلّ معادلاتهم هي معادلات مستحيلة الحل ،،، وكلّ هذا ناتج عن تمسّك كل طرف بأنه هو المؤهل والمفوّض للقيادة .... وحتى حين يرتضون التقاسم ، يقتسمون كلّ شئ وينسون الشعب ، وكأن الوطن لهم وحدهم ، أو كأنهم قادة بلا قواعد ... الحال هذه لن تحل أي من معضلات الوطن ، بل تؤكد لنا أننا مقبلون على مزيد من التعقيد ومزيد من الشد والجذب ، ومزيد من العقوق ، ومزيد من الشرور ... ووحدة الوطن الضعيفة أصلا لن تصمد أمام كل هذه المهددات ... والحال هذه تدفعنا إلى أن ننزل بسقف أمنياتنا الوطنية لنرفع أكفّ الضراعة إلى المولى القدير أن يحدث التحول والانقسام بصورة سلمية وبدون إراقة دماء ،،، وذلك بعد إنقضاء فترة الست سنوات المحددة لتقرير المصير بالنسبة للجنوب ،،، ونسأله تعالى أن لا يوصل سقف مطالب الأطراف الأخرى إلى منطقة تقرير المصير هذه ، حتى لا تتسع مظلة الانقسامات ... هذا ما يدفعني إليه تفاؤلي هذه الأيام ، وهو تنازلي مكرها عن وطن واحد إلى القبول بوطنين ، والقبول بهذا التنازل ناتج عن تخوفي من انقسامنا إلى عدة أوطان ،، وحالة وطنين ، خير من حالة الأوطان المتعددة .. لكني على المدى البعيد يتملكني تفاؤل لاحد له ، أن الأجيال القادمة ستكون أفضل من أجيالنا الحالية ، وأنّ هذه الأجيال ستكون أقل عقوقا وأقل شرّا ، وربما تضع مسألة وحدة الوطن على رأس أولوياتها ، عملا لا قولا ، كما هو حاصل الآن ،،، وأنّ هذه الأجيال ستعيد وحدة الوطن إلى أفضل حالاتها ، عبر ماغنا كارتا سودانية خالصة ، تتمخض عن ( الولايات المتحدة السودانية ) وستبني وطنا شامخا فيه مساواة وعدل وديمقراطية وتنمية ... لكنّ أجيالنا الحالية لن تستمع برؤية هذا الوطن الموحد ... بل ستصطلي بنيران الفرقة ،،، ونيران الشتات ...
|
|
|
|
|
|