|
تحليل الشخصية الدينية العربية يكشف عن كيان مهزوم / عن القدس العربي اللندنية
|
تحليل الشخصية الدينية العربية يكشف عن كيان مهزوم: أي مستقبل لسوسيولوجيا الدين في الاجتماع العربي؟ 2004/12/07 د. عزالدين عناية تتميز المؤسسة السياسية العربية في الراهن الحالي بخاصيات عضوضية، وهو ما جعل معظم الحقول ذات الصلة المباشرة بالسياسي تابعة وتوظيفية. ينسحب الأمر علي حقل المعرفة الدينية بعد اصطفافها تحت سقف الكلية الدولتية، وانسياقها داخل النسق العام الذي يوجه السياسة التربوية. وبرغم تلك الهيمنة الباحثة عن التوجيه والتحكم يجلو العقل السياسي متورطا أحيانا في توليد وتفريخ عديد الظواهر، مثل: التعصب الديني، والتفكير الخرافي، والوعي البائس، والاستحمار المعرفي، والمشيخية الخانقة للاجتهاد. فالحفر في بنية الشخصية الدينية العامة يكشف للناظر عن كيان مهزوم مقْعد، جراء شيوع إيديولوجيا بائسة، حاوية للقدري والعجائبي والخرافي. تنشر الاستضعاف والذلة والتشدد واللامعقول بين شرائح متنوعة عالمة وعاملة، علي حد سواء، وهو ما يطرح بإلحاح مراجعة مكونات الإيديولوجيا الدينية غاية إعادة تشكيلها وتصحيح قطاعاتها باتجاه الوعي السليم. فالذات القعيدة ذات حالمة، شريدة، تستعمل الشيء ونقيضه، ولذلك لا يزال الدين مزجا من الأصالة والعطالة، ومن اللين والشدة، ومن التسامح والتصلب لدي العديد. وهو ما يطرح تساؤلا حرجا علي الذات في مستهل الألفية الثالثة، ضمن أي عتاد رؤيوي وإدراكي تدخل المنافسة الحضارية المطروحة ومخزونها الروحي، أكثر الأرصدة فاعلية وأثرا في المزاحمة، يشكو من القدامة والانحصار في دوائر تأويلية ضيقة تنفي ما عداها؟
إطلالة علي واقع مؤسسة
تتميز المؤسسة الدينية في الاجتماع العربي بإعلاء جدران القطيعة مع الحداثة، فلايزال حقلها يشكو قدامة موغلة، تنوء بها بعيدا عن التنبه للتحولات وإدراك متطلبات التجديد. تمتد تلك القدامة من الجهاز المفاهيمي والنظري إلي أدوات التعامل والاستيعاب للاجتماع الديني، وبرغم الخطورة الجلية لذلك يستمر التعامل مع الحدث الديني بكيفية توظيفية سطحية، دون السعي لإعادة هيكلة القطاع في مستوي النظر والعمل، حتي يواكب الوعي تحولات الاجتماع ومتطلباته. فالأنظمة ما زالت تحتضن الدين، وتعين ممثليه، وتتبني رؤاه ومقاصده، ومع ذلك، يبقي التقدير العلمي حق قدره لخطورة اقتصاد الاعتقاد مهملا، مع ما في بعض تلك البلدان من تحفز في قطاعات أخري لبلورة نهضة اجتماعية واقتصادية تقطع مع حالة الدوران الثابت. وقد تولد الارتباك السلطوي في مواقفه من قصور في العقل الأكاديمي، بشقيه اللاهوتي والاجتماعي الحاليين، لم يتيسر فيه بعد تطعيم التعامل، في مستوي النظر والتأويل، برؤي علمية تستوعب التحولات الحديثة وتحدياتها. يتجلي هذا الأمر جليا في أزمة الجامعة الإسلامية واغترابها عن لحظتها التاريخية، إضافة إلي الغياب البارز لعلم الاجتماع الديني، من حيث رصده ومتابعته وتحليله للواقع الإسلامي بإفرازاته. فالأكاديمي في المؤسسات الجامعية، أو في مراكز الأبحاث ذات الصلة بالموضوع، ولحد الآن، لم يوفق في تحقيق التأسيس المنهجي والتطوير المعرفي، بأبعاده المفاهيمية، لمقاربة تلك الوقائع. والمسألة نقدر عائدة لأمرين أساسيين: جراء تشكل مجمل قدرات العقل، في العلوم الإنسانية والاجتماعية، لدي الباحث والدارس بعيدا عن تراثه وإرثه الديني، الأمر الذي فصله منهجيا وإدراكيا عن حقله المعرفي. أو بالمقابل تواصل التعامل مع الواقع الديني بأدوات كلاسيكية لم يتفطن فيها العقل لما طرأ من تحولات علي النظر وعلي الوقائع المدروسة. الأمر الذي جعل المقاربتين الحداثية والكلاسيكية، في التعامل مع الديني، مغتربتين وعاجزتين، وعيا علميا وفعلا حضاريا. برغم ما كان ينبغي أن تتولاه النخب العالمة علي تنوعها من طليعية وريادة، علي مستوي اجتراح النزعات العقلانية وتبيئة المسارات العلمية. فجراء تقلص ذلك الدور استبد التهميش والتسطيح للمؤسسة الدينية، مما ألغي التقدير الصائب لخطورة فاعليتها في رسم المشروع النهضوي، وفي إفشاله أيضا. وكأن حقبة التحولات التي دشنتها المجتمعات العربية بعد الاستقلالات، وما رافقها من تطلع لرسم سياسات اجتماعية وثقافية محلية، تلتزم بالإرث المحلي ومميزاته الحضارية، لترسيخ التحرر وتشييد العمران، لم يدرك فيها الكيان الديني في نقائه، وهو جوهري في عملية الفعل النهضوي. فخضع الوعي بالدين في العقل المخطِط لمستحكمات رؤي النفي لدوره وآثاره، والتي تعود أصولها لانهزام مستبطن أمام المستعمِر وسطوته الحضارية، المتحلل من المنزع الديني والحاصر إياه في معاقل الكنائس والمصليات، أو في قعر الذات بعيدا عن معترك الحياة وأنشطتها. بلغ عنف الحضارة الغربية وأثرها إلي عمق الذات أيما مبلغ، عبر عن تلك الحالة باركو بطل رواية الأسد والدرة لوولي سونيكا بقوله: أقسم لك انه بعد سنة أو سنتين سيتغير شيء ما في هذه البلدة، فيصبح المهر تقليدا منسيا... وتمر من هنا طريق معبدة تحمل إلينا عادات المدينة. وسنحرق الغابة ونقطع الأشجار، ونقيم من ثمة حديقة للعشاق. وسيحكم العالم علي تقدمنا من خلال النساء اللواتي يفزن في مسابقات ملكات الجمال... فأين دورنا في هذه التيارات الحديثة... علينا أن نجاري الآخرين في هذا العصر أو نعيش منسيين من بقية العالم . تسرب تزعزع الثقة إلي العقل القابض علي مقاليد التوجيه والتسيير والسلطة، فكان التقليد لتنزيل الجهاز النظري والعملي الغربي بتنوعاته، في التشريع والاقتصاد والاجتماع والتخطيط التربوي، مصحوبا بتجميد ومحافظة ثابتين علي ما تعلق بالدين، مؤسسة وفلسفة. الأمر الذي أبقي الاستثمار فيه خاضعا لأنماط الرؤي السالفة، المحافظة علي الخاصيات الكلاسيكية المتوارثة، والمقودة بالتقليدية والألقاب العائلية والمحاباة، لا المسكونة بهاجس التجدد والكفاءة العلمية والمسؤولية. ولذلك تعود الأزمة في جانب منها إلي سيطرة طبقة كهنوتية أرستقراطية، عملت علي توريث الإرث الديني بينها، ومنعت غيرها بلوغه بأساليب ديمقراطية، بصفته أصلا متاعا مشاعا وعاما. لم تتوقف الأزمة عند ذلك الحد، بل خلال الحقبة التي تلت الاستقلالات، خضعت المؤسسة الدينية في جل البلاد العربية لسياسات متشابهة، اشتركت في خاصيات ثلاث: ـ الرقابة المسلطة علي المضمون الديني المشاع بين العامة لتجنب تناقضه مع الخطاب السلطوي. ـ الاحتواء للرموز الدينية والسيطرة علي الهياكل التعبيرية والإنتاجية للفكر الديني، لمنع أي توظيف خارجي أو أي نشاط مستقل لها. ـ إهمال أي مسعي لتطوير فلسفة الدين وتحديثها.
كلية الشريعة والحداثة
تبدو خلاصة العناصر السالفة بارزة في واقع الجامعات الإسلامية التي باتت تشكو من تقليدية مهيمنة في البرامج الدراسية وفي إنتاجاتها المعرفية. إذ يقع المنتمي إليها بالتدريس أو الدراسة ـ إلا من رحم ربك ـ داخل مثلث قاهر، يتشكل من الغيبية واللاواقعية والمجافاة للروح العلمية، وهو ما أفرز غالبا خريجا دراسيا مشلول القدرات في مواجهة الواقع المتغير الطافح بشتي التحديات. إذ يدفع التاريخ الحديث باتجاه الذات الإسلامية إفرازات شتي، تناطح كيانها وقيمها، كان مفترضا أن تتولي فيها مؤسساتها العلمية المهمة والدور، الإرشادي والعلمي، ولكن لا صياغة في ذلك لتكيف واع معها يراعي للأمة خصوصياتها الروحية وفلسفتها الدينية، إلا التراجع لحصون اللامعقول والتخلي عن المسؤوليات الحضارية، لما في تلك المؤسسات من عجز لصد الموجات العاتية التي تتجاوز إمكانياتها وقدراتها. ولذلك لا تجد في جل الفكر الإسلامي المنتج داخلها سوي نوع من الاعتداد والانسحار والنخوة، المؤمنة علي مستوي الخطاب البياني، لاستبطان الإسلامي لحلول إشكاليات الحياة المطردة والمتساوقة، ولم تعضدها أفعال وإنجازات. وما زال هذا المنطق المثالي المتجاوز للاجتماع والمنفلت من عقال الواقعية، يسيطر علي عقول عدة فيها، لم تع تغيرات التاريخ وآثار تحولاته علي الذات، ولم يدرك بعد وعي فلسفة النص القرآني بصفتها تمثل آخر مطافات بحث العقل عن الحل الأمثل لإشكاليات العمران البشري. بصفة الدعوة والدعاية للإسلام اليوم، لا ينبغي أن تترجم في نواميس منفصلة عن الارتباط بالاجتماعي، وإنما بصفتها واقعة وتجربة داخل التاريخ المتحرك، حتي يتم الخروج بالنص المقدس من محل سحر الكلام المبين إلي واقعية الحل المتين، أي من منزلة سحر الخطاب المعجز إلي واقعية الفعل المنجز. فكان تراجع المؤسسة العلمية عن دورها مؤذنا بسقوط الوعي رهن الأسطرة واللهوتة بعيدا عن قضايا الاجتماع، الأمر الذي حول الرسالة الدينية إلي خطاب غيبي تغييبي لاغ لأي بعد التزامي حق بالإنسان وهمومه، فتحولت النوافل والسنن إلي فرائض وواجبات، وصارت الطقسنة للدين تقليدا شاملا وجامعا، جار ضمن مغالطة الوعي لذاته. الأمر الذي جعل تشكيلات جديدة تغتنم ذلك المناخ، غالبا ما قدِمت من قطاعات قصية، من مواقع التكنولوجيا مشككة في أهلية أرباب التيولوجيا، فانتشرت فوضي الفتوي ومالك قعيد في المدينة. يرصد جيل كيبيل هذا التحول في مؤلفه يوم الله.. الحركات الأصولية المعاصرة في الديانات الثلاث ، المنشور في دار قرطبة سنة 1992 بقبرص، ص:36 وما بعدها، بقوله: ونادرا ما انبعث المناضلون الإسلاميون في العالم السني من صفوف العلماء، بل علي العكس، فالمناضل النموذجي هو طالب في كلية حديثة علمانية دنيوية مع ميل إلي فروع العلوم التطبيقية، مهندسون فلاحيون، خبراء، أطباء، مهندسون، أنهوا دراستهم فبات بوسعهم تلاوة النصوص المقدسة وتأويلها، دون الاهتمام بتفسيرات العلماء المتعالمة وباعتدالهم وترويهم الاجتماعي . لذلك تشكلت بفعل صناعة ثقافية شائعة رؤية شاملة داخل العقل الجمعي، تكونت جراء هواجس مشتركة وتطلعات متماثلة. المتمعن فيها يلحظ غياب الوعي التاريخي كحس وهم شائعين بين المدرِس والمتقبِل، هذا الوعي القلق، المتمثل والمتبلور في الأسئلة المحرجة الثلاثة: أين تذهب حضارتنا؟ وأي دور للمسلم في عالم اليوم؟ وهل بالإمكان استعادة المبادرة للنظرية الإسلامية في التاريخ الحديث؟ حضر بغياب طرحه، ولعل السبب الجوهري وراء ذلك مكمنه في أن جل مواد التدريس الشرعية والفقهية والأصولية والعقدية، تقدم وتعرض في غياب الوعي بالإطار الاجتماعي الناشئة فيه، ممل جعل الناظر مكررا لا مفكرا، وأنتج خريجين علي استبطان للمادة الكلاسيكية يصحبهم عجز من حيث القدرة علي تفكيكها أو مراجعتها، وعلي إلمام دقيق بإشكاليات القرون الخوالي وجهل عميق بمتطلبات الاجتماع الحاضر. واستمد الارتياح والركون للسائد المعرفي شيوعه وحضوره من وعي قطيعي مستحكم، منع المراجعة وإعادة النظر. فالمتابع لقائمات البحوث والأطاريح في مجمل كليات الشريعة، يلحظ تضخما لافتا للاهتمام بالطقوس والاختلافات الفقهية والكلامية اللاتاريخية، وإهمالا مؤسفا لإشكاليات الإنسان الحالية، الاجتماعية والمعيشية، حتي أن أهم الأبحاث والمؤلفات التي تتعلق بحضارة الإسلام صارت تدون داخل مراكز البحوث الغربية ومن طرف عقول مشكلة في فضاءات غير إسلامية، نذكر كمثل علي ذلك المؤلف الشهير موسوعة الإسلام . وإذا تشخيص الذات الدينية واستطبابها يهجر النجف والقرويين والزيتونة والأزهر، ليعلن إقامته في أقسام الإسلاميات في السربون وأكسفورد وكمبردج وأورينتالي نابولي. بخلاصة فقد صارت الحكمة في الجامعات الإسلامية تتراجع وتتواري دون أسف من أحد، وبات اللامعقول إحدي التقبلات المنسابة داخل مناخ دراسي نفسي مشجع لذلك، يجعل ذهن المتلقي ـ الطالب ـ منجذبا بكيفية لاإرادية.
تجديد المنهج
لقد أفرزت الأزمة العلمية أزمة منهجية في الدراسة تمثلت في افتقاد الثقافة لجهاز معرفي ومفاهيمي تكون له مقدرة الوعي بالمقدس والإحاطة به من جوانبه المتنوعة. ولعل أولي أساسات تشكيل الجهاز المعرفي، متمثلة في إنماء مسارات التناول العلمي وصقلها. فنظرا لعمق تمكن الرؤية العقدية في الدين، المتميزة بثنائية الحلال والحرام، القولية والعملية، تشكلت تفرعات نظرية لاهوتية بالأساس. كان مستلزما مع تطورات مقاربات الظاهرة الدينية الخروج من هذه الثنائية والنظر في الواقعة الدينية بأوجه مغايرة، تسائل التشكل وتتمعن في الاشتغال وتبحث في الوظيفة. ولذلك يأتي المنهج العلمي المستولَد تحررا من مقاربة الفقيه العمودية، المحكومة بجدل الإنسان مع الله عز وجل، والساعية لرسم الصراط المستقيم وتشكيل الإنسان القويم، ضمن كافة الأبعاد الإيمانية والفعلية، إلي تنشيط رؤية معرفية مستجدة مع الواقعة الدينية تحتكم أساسا للجدل الأفقي، في علاقة الإنسان مع واقعه عبر رصد تجليات المنظومة الدينية، في السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفني وما شابهها. فلئن يحدد الفقيه للطقس سبل صدقه وكيفيات أدائه، فإن عالم الدين يرسم له آثار وقعه، فشعيرة الصلاة مثلا يتابعها الفقيه من خلال ضبط كافة شروط وجوبها وصحتها وآدائها، في حين يتناول عالم الدين منشأها وأثرها نفسيا وسوسيولوجيا علي حياة الممارس، دون تدخل في حقل الفقيه من حيث تحديد الصدق أو الصحة، من خلال مقاربة تنؤو عن الاندماج في الواقعة المدروسة، بالمعية أو الضدية. تبدو الفروقات بين المنهجين اللاهوتي والعلمي كما ألمحنا شاسعة. ولكن جراء اعتياد العقل، الإيماني منه والعَلماني لدينا، التعامل مع الظاهرة الدينية داخل المقاربة اللاهوتية ونقيضها، دون غيرهما، سري ضرب من التعقل التيولوجي المحتكم للرؤي المثالية والمفتقد للواقعية المعيشية. ولئن حاول التعقل التيولوجي الالتزام بالاجتماعي، كما تم ذلك في باب الزكاة، وانشغاله باليومي الإنساني، فإن تلك الأنسنة للاهوتي لم تفرز خطا متطورا باتجاه العلمَوَة، إذ بقيت الرؤية لاهوتية خالصة، ولم تتطور إلي إخراج الفعلة من الفرض الديني إلي التقنين الاجتماعي. نقدر أن اجتراح الخط الرؤيوي المستجد، أي النظر في الدين وللدين من خارج المحددات اللاهوتية، هو فعل منخرط ضمن تغير بنيوي ورؤيوي للعقل مع تحولات الزمن الحديث. يقول جون بول ولام في كتابه علم اجتماع الأديان المنشور في باريس في بيف ، سنة 1995: استلزم تيسر تحليل الظواهر الدينية كوقائع اجتماعية عَلْمَوة للمعرفة بالمجتمع، فقد كان ترادف تطور التحليل العلمي للأديان مع حصول ترق اجتماعي شامل، رافقه تراجع وظيفي للدين. كما تزامن انبلاج العلوم الدينية مع سياقات علمنة، لم تخل من العنف، سمحت بمأسسة أطر الوعي المعرفية المستقلة بشأن الدين . فتغير الأساسات النظرية للذهن الحديث هي التي أوْحت بالتوجه العلمي لمراقبة الظواهر الدينية. وفي الفضاء العربسلامي الحالي تبدو الإنتلجنسيا الدينية التقليدية، الكلاسيكية التعامل مع الوقائع الدينية والخاضعة للمنطق اللاهوتي، أبعد الفئات عن اكتشاف المناهج الجديدة والتقدير لقيمتها المعرفية والنفعية، برغم هيمنتها علي كافة أصناف المضاربة والاحتكار في هذه السوق. فهناك استبعاد للمناهج العلمية ومحاصرة لها، سواء في التدريس أو الحضور داخل المؤسسات الجامعية الدينية، لما يمثله الخط المستحدث من ترجيح للتصارع المصلحي لفائدة قوي مستجدة، والذي يوشك أن يهدد نسق المواقع القديمة. إذ الملاحظ أنه مع التراكم المعرفي لدي الإنسان إلا ويحدث رقي ذهني، يعقبه ضبط علمي ببلوغ الحد الأقصي من التطور، ثم تبقي حركة التقدم تفرعية توالدية. والإنتاج الحضاري العربي لم يشذ عن هذه القاعدة العامة التي تحكم الإبداع البشري فيما يتصل بالمسألة الدينية، التي تعنينا هنا بالأساس، ولكن الملاحظ أن صيرورة العلْموَة انحبست داخل الحقل اللاهوتي الإيماني أساسا. فحتي مع نشأة حركات الاعتراض الارتدادية والدهرية والنحلية، بحسب التنوعات المختلفة، فقد كان انطلاقها من نفس المعطيات اللاهوتية المقلوبة، مما جعل علوم اللاهوت الإسلامي أوسع العلوم وأكثرها تفرعا. والسؤال المطروح هنا، وهو لماذا لم تتحول علوم الشريعة الإسلامية إلي علم خارجي بالدين برغم الثراء والتنوع وتوفر النضج المعرفي؟ إذ تبدو البلاد العربية أكثر الفضاءات استهلاكا للمادة الدينية، ولكن البين أنه كلما كان التماهي الحضاري والكينوني للذات الجماعية مع عالم الرموز الدينية أعمق إلا ويكون الفصل أصعب، والذي من شأنه أن يؤدي ببعض الأمم إلي الكلف الروحي والشغف العرفاني/النرفاني، المانع لرؤية الذات مستقلة، وهو ما جري في ساحة التاريخ مع الأمتين العربية والهندية بشكل جلي، فهما أكثر الأمم التي انشغلت بالديني من داخل وقل نظـــــرها إليه من خارج. وقد كان للمثاقفة الحديثة مع الغـــــرب الأثر في وخز الذات وتنبيهها لما لدي الغــــير من رؤي ومناهج مغايرة للمحلي، وذلك لانبناء الشخصية المقابلة علي نمط مغاير للأنا، من حيــــث العلاقــــة بالمقدس، قائمة علي المجافاة لا المماهاة، أي الانفصال لا الاتصال، وهو ما جعل العَلمانية في الغرب مدعومة حتي من الأحزاب المسماة بالدينية، وممتعضة بين العرب حتي من الأحزاب اللادينية، لما يستند له الأمر من تمازج بين الديني والدنيوي في الشخصية العربية، يصعب فيها تحديد أين ينتهي الديني وأين يبدأ الدنيوي. وحتي مع ما شهدته الساحة خلال الحقبة الأخيرة من أصوات منادية بالعَلمنة في التعامل مع الدين، علي نمط الممارسة الغربية، ما اقتدرت علي دفع الوعي إلي مستوي المقاربة العلمية بالذات الدينية، غاية السيطرة علي مقدراتها وتوجيهها التوجيه الصائب. إذ نجد نداءات العَلمانية تنخرط في صراعات تحديثية وهمية، وتتورط في عقدية مقلوبة لابسة لبوس الحداثة والتقدمية والتطور، دون تقدير لخاصيات الشخصية المعالجة، وعبر آليات وعي بالدين منحصرة داخل الطرحين الإسلاموي والعلماني فحسب. فالواقع يكشف عن خضوع العقل المورَث لهيمنة بنيوية لاهوتية متينة متشابكة الأبعاد تمنعه من تحقيق الوعي بذاته. أشدها ترسخ نمط إدراك وتفهم وتنظيم في قطيعة كلية مع الممارسة الاختبارية. إذ ما كان تشكل الإدراك الإسلامي زمن التأسيس، مع تبلور المدارس الفقهية والأصولية الكلامية، خارج صيرورة وخاصيات العصر التفكرية والتاريخية والتراثية للعالم السامي، المحملة برؤي سحرية وغيبية للكون، تستمد مقوماتها من وعي إحيائي وطوطمي وطبيعاني. والتي يأتي تأبيدها حتي الزمن الحديث أمرا مستحيلا، لما كشفت عنه من عجز عن مواكبة الإنسان المتدين واستيعاب تبدلاته. لقد تبين أن هذا المجبول علي الدين قد تجاوز أطر ضبطه التقليدية، وهو ما جعل الجهاز القيمي والنظري القديم بكافة أحكامه مستلزما لمراجعة جذرية، ليس علي ضوء التعريفات والمقاييس الكلاسيكية، المستمدة من المذهبية الكلامية والفقهية، بل علي ضوء علم الدين ، المقاربة المستأنسة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، التي من شأنها أن تثري وتطور الوعي الكلاسيكي المتابع للمقدس، الذي شكل وصاغ الفاكِرة الدينية الفردية منها والجماعية. إذ الوعي المنهجي بالدين هو علم بالاستهلاك، إضافة إلي كونه شكل من أشكال الإحاطة بالظواهري الذي يحكم الإنسان المتدين في جدله مع عالم الدين، الرمزي والحسي والروحي. لقد تجلي افتقار المنهج اللاهوتي للقدرة علي محاورة الحداثة أو التعايش معها من خلال ادعائه أحقية تمثيله وإلمامه بالواقع الديني، وهو دون ذلك الادعاء. ولذلك أصبح التحليل والتحريم منعزلين عن أطرهما الواقعية والموضوعية، ليعودا نوبة لاهوتية في زمن لا لاهوتي. فالعلمية العربية في التعامل مع الدين هي مساءلة للخصوصية المحلية من حيث الاستهلاك، داخل شبكة وعي محتكمة للقاموس الدلالي المحلي وعالم الرموز القومي. وليست تبن لأطروحات خارجية وتنزيلها في غير مجالها، أو تقليدا لأدوات السوسيولوجيا الغربية الحديثة في مقاربة الظواهر الدينية وإسقاطها علي الواقع الإسلامي، كما جري في عديد المناسبات مع الاستجلاب والاستيراد لإنتاجات الغير، والعجز عن إبداع آليات محلية قادرة علي وعي المعيش والإحاطة بإفرازاته. حتي نتجنب الاكتساح العفوي لعديد المفاهيم لرؤانا، والتي لم تترك لنا فرصة البحث عن مرادف أو ترجمة دقيقة في اللسان اللغوي أو المراد الدلالي لها. نضرب مثلا علي ذلك بمصطلح الأصولية الشائع، فقد ولد هذا النقل غير الخاضع للانضباط العلمي فوضي في مستويات الدلالة بين الباث والمتلقي، خلف ضبابية دلالة، من حيث التعبير عن ظواهر الاجتماع الديني، لما يحمله المصطلح المورَد من تناقض معرفي مع السائد. وأخطر آثار غياب التأسيس العلمي في استهلاك المفاهيم محملة بشحنات مغلوطة وانقلابية علي الذات، تسخَر فيها رموز الأنا ومفاهيمها طوعا وكرها، حسب مراد الآخر وصناعته الدلالية الثقيلة. فتتحول مصطلحات مثل الأصولي و الأصولية من حقل الدلالة المعرفية إلي حقل الدلالة الدعائية المغرضة، مهاجــرة من أصول الفقه إلي حقل الدعاية، وتتلهف فيها الذات المهزومة علي ما يصاغ خارجا.
الفتنة بين الدين والسياسة
في خضم مسيرة تقاطع الدين مع السياسة في تاريخنا الحديث، تدشنت لحظة وعي ديني حرجة لم تعرف الانقضاء، انطلقت منذ أن كان الاستعمار جاثما وتواصلت بعد رحيله، سميت بنعوت مختلفة، منها الإسلام السياسي. فالاستفاقة المريرة للأنظمة السياسية الناشئة علي ما يفصلها عن الغرب، ولدت تشككا، أو بالأحري يقينا بالعجز عن صنع قوة حضارية تكتفي فيها بالتعويل علي إمكانيات الذات. فكان انقسام الوطن إلي وطنيين، تغايرا في الاهتداء واشتركا في الأزمة: الأول رأي أن التواصل مع المستعمر علي جميع الأصعدة، هو السبيل لتحقيق النهضة الوطنية، وهو ما دفع لتشكيل ثان للهوية المحلية بعيدا عن أصولها الحضارية، وكانت الفلسفة الدينية أولي القوائم التي تعرضت للزعزعة، حيث اتخذت الأنظمة الحديثة، النموذج الغربي الرأسمالي بالأساس في التعامل مع الدين، وتم تحويله إلي هيكل كنسي، مع تفريغه من مقاصده، وما استلزمه من كنسنة للمسجد وأنجلة للقرآن. ولكن هذا لم يمنع السلطات من الشعور بالحاجة في فترات معينة إلي العودة للإسلام كحجة قصوي للشرعية، لمواجهة الحركات الدينية التي تتبني شعارات تعبوية مثل العدالة والحرية والمساواة، التي من شأنها أن تكون مزاحما لشعارات السلطة، كما جري ذلك في تونس في العهد البورقيبي وغيرها. وفي الأثناء لم تحاول تلك الأنظمة صياغة وعي محلي، تكون فيه للدين الإسلامي خصوصية مغايرة لما تم مع المسيحية في الغرب. فأفرز ذلك التعامل خللا في التشكيل الهووي لعديد الأقطار، سيسهم لاحقا في بلورة ظاهرة الإسلام السياسي ودفعها للصدارة، باعتبارها محاولة لإصلاح التشوه الهووي. أما الشق الثاني من الأنظمة التي رفضت التعامل مع الغرب الرأسمالي، وجراء عدم اقتدارها علي تواصلها أيضا، في ظل استقلالية غير منحازة، فإنها وجدت نفسها مجبرة لموالاة الشق المخالف للغرب، وهي الكتلة الاشتراكية سابقا، والتي اقتادتها برؤاها الوجودية والفلسفية والسياسية سرا وعلنا. فأصبحت النظرة الدونية والمختزلة للدين هي السائدة، بصفته إحدي الأجهزة الإيديولوجية الرجعية، أو إحدي المراحل الواجب تجاوزها من حيث بناء الهوية الحديثة، وهي فلسفة مقلِدة خضعت للعدوي الخارجية أكثر من كونها مساءلة للأساسات الحضارية. الأمر الذي أبقي الثروة الدينية، ولأمد طويل، تحت ضربين مختلفين ومتشابهين: واحد يمارس منطق التناسي، والثاني منطق التطهير للساحة من إيديولوجيا الماضوية والإقطاع، علي حسب ما روِج، حتي تهيأ الواقع سوسيولوجيا لتفجر ظاهرة الإسلام السياسي. يلخص جون بول شرناي هذا التطور الحادث في مؤلفه علم اجتماع الإسلام المنشور بدار هاشات في باريس، سنة 1994، ص: 47 بقوله: يحضر المشروع الإسلاموي بوجهين: الأول بصفته إعادة تعبئة ذهنية وأخلاقية فاعتلين، والثاني بكونه تأكيدا للذات ضد الخارجي، وضد الانحرافات الداخلية النابعة عن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية . وبعد ما يزيد عن نصف القرن من غليان الظاهرة وطرح نفسها بديلا اجتماعيا وسياسيا، تبقي أعوص الاختبارات التي تتحدي الفكر والواقع. مما يدفع للإقرار بأن إحدي مستلزمات حقبة ما بعد الإسلام السياسي تملي التخلي عن العقدية الأرثوذكسية عند تنزيل الطروحات النظرية في الفضاء الاجتماعي، وإضفاء البعد النسبي البشري علي أي طرح، وعدم التعامل معه في تنزيله الحياتي، كإجبار أو إلزام غيبي وفوقي، وإنما بصفته تجربة بشرية متشكلة داخل التاريخ. وهو ما يضع الفكر اليوم أمام تحديين مصيريين: ـ تحدي الذات منها وإليها، ونعني به ما يحضر من شتي الأسئلة المحرجة المتولدة عن التحام الذات بضغوطات واقع مأزوم ومستنفر، ممتد من الظاهري الاجتماعي، إلي الباطني الداخلي، المتعلق بالفكري والمشاعري، والذي ليس للفرد من تهدئة لروعه فيه إلا استلهام نماذج برانية، كان الأولي أن تصاغ الإجابات لها ضمن منطق واقعية المكان. ـ والتحدي الثاني، وهو الأعمق، ما ارتبط منه بالآخر الغربي أساسا، الذي صار يزحف مع مطلع كل يوم جديد لقضم العالم الإسلامي وتشكيكه في كيانه وفي فلسفة كيانه، بعد تحميله مسؤولية أخطر الشرور التي تتهدد الكون. وللخروج من هذه التحديات تبقي المراجعة الإبستيمية إحدي الممارسات المستلزمة لتشخيص الأدواء وتجاوزها. فرغم ما يفرزه الديني في شتي قطاعاته من تحديات وما يولده من تشكيات بين مختلف الدول العربية، نلحظ عدم إيلاء أي اهتمام علمي جاد لبحث منشأ وآثار ومستقبل هذه المسائل علي الكيان الجمعي، وبقاء التعامل مع الواقع الديني وانحصاره في حيز العنف السلطوي والخطاب الإيديولوجي. أمام مختلف التحديات التي تحاصر الواقع الديني، يتجلي الترشيد المنهجي الذي تؤسس له السوسيولوجيا الدينية طرحا واعدا في قراءة الظاهرة الدينية ومراودتها، لما يمثله من تجاوز للاحتكار المعرفي اللاهوتي، ذي الخاصيات العمودية المحدودة، وفكاك من ثنائية الإسلامويـالعلماني، التي سيست النظر في حقل الديني، فليس من الصواب أن يتواجد الدين داخل الاجتماعي ويتواصل نسج منظومة الوعي به خارج الاجتماعي. - نقلا عن (القدس العربي) اللندنية
|
|
|
|
|
|