مقدمة الأعمال الكاملة للطيب محمد الطيب ... بقلم: عبد الله علي إبراهيم

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-13-2024, 09:52 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة منصور عبدالله المفتاح(munswor almophtah)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-11-2010, 10:25 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مقدمة الأعمال الكاملة للطيب محمد الطيب ... بقلم: عبد الله علي إبراهيم



    مقدمة الأعمال الكاملة للطيب محمد الطيب ... بقلم: عبد الله علي إبراهيم
    الثلاثاء, 10 آب/أغسطس 2010 04:35
    [email protected]


    ونشرت هذه الأعمال هئية الخرطوم للنشر (الخرطوم الجديدة) وتم تدشينها بقاعة الصداقة يوم الأحد الماضي. ولن تجد في المقدمة ذكراً ل "بيت البكا" وهو كتاب جديد للمرحوم قدم له الدكتور محمد عبد الله الريح.


    الطيب محمد الطيب (1940 - 2007م): عبادة في الهرج
    ظهر بيننا الطيب محمد الطيب، الباحث المُصقع في ثقافة البادية والريف العربي الإسلامي السوداني، فجأة في نحو 1965 بشعبة أبحاث السودان بكلية الآداب بجامعة الخرطوم. كنا جماعة: سيد حريز وأحمد عبد الرحيم نصر ومصطفى إبراهيم طه، وزعيمنا الدكتور يوسف فضل حسن. كنا مفتونين بـ(الفولكلور) الذي كلّفتنا الجامعة بجمعه وتبويبه ودرسه. ولم يكن أياً منا قد تخصَّص فيه فاتّسم عملنا بالتجريب والشَّغَف، وكان تاج كل ذلك شعور عميق بالزمالة. لم تكن تنعقد حلقة تسجيل مع مادح أو همباتي شاعر أو راوية تاريخ إلا وجدتنا حضوراً جميعاً نشدُّ أزر بعضنا بعضاً.
    وفجأة ظهر بيننا الطيب "قاطع حبلو" من مقرن النيل ونهر العطبرا بجهة بلدة الدامر. قال إنه محب لـ(الفولكلور) وقد طلّق أشغاله كلها وقرّر التفرغ لجمع الأدب الشعبي. لا أذكر أننا سألناه عن مسيرته التعليمية، ولست متأكداً إلى يوم المسلمين هذا كم استحصل الطيب من علم المدارس. وكان واضحاً أنه رجل نيِّر ولكنه صِفْر اليدين من الشهادات. وأذكر أنه قال إنه كان مندوب أهله في المقرن في مجلس ريفي شندي الذي تَبِعت له المقرن، وقال إنه كان تاجراً أو تشّاشاً.
    ولم يترك لنا الطيب باباً لمثل هذا السؤال فقد أخذنا بمحفوظاته من التراث وبأدائه بصوت طربنا له. وسعى يوسف في أروقة الجامعة يطلب له وظيفة لم تخطر على بال بيروقراطي وهي (جامع فولكلور) بأجر مجمّد قيمته 50 جنيهاً، وكان مرتب أي منا لا يتجاوز الستين. وقبلت به الجامعة. ووفرت له الشعبة عربة جيب رقمها 5 خ 8731 ومسجلاً (ريكورد) ألمانياً ماركة قروندق وسائقاً (دنقلاوياً) أنيساً هو السيد حسن خير الله، ودفتر بنزين صالح لملء تنك العربة أو شراء صفائح الوقود من أي طرف في السودان.
    كانت هذه هي الفترة التي توسعت فيها حصائل الطيب من ثقافة الجماعات السودانية في الحضر والبادية، وفي العرب و(العجم). ووجد منفذاً لنشر هذه الحصائل في (سلسلة دراسات في التراث السوداني)، التي طبعناها بالرونيو كالشيوعيين والجمهوريين. ومكّنت هذه الفترة للطيب أن يقف على الخريطة الثقافية لضروب المأثور وملكات رواته ومؤدّيه، وأن يكشف عن (الضفيرة) النسيقة التي تربط آداب الجماعات السودانية. وكانت هذه الحصائل زاده في رحلته المثيرة في برنامجه التلفزيزني الذي هفت له الأفئدة وتخطفته الأسماع عبر سنوات: (صور شعبية) وكتبه الأخرى مثل (فرح ود تكتوك) و(الإنداية) و(المسيد) و(دوباي).
    جاء الطيب إلى إثنوغرافيا (الوصف الثقافي) لثقافة السودانيين العرب المسلمين، الموصوفين كخليط عربي إسلامي أفريقي سفاحي المنشأ، في وقت كانت عورة دراستها بمناهج التخليط قد بانت. فالمنهج الذي كان سائداً اقتصر على التنقيب عن عنصرها وفرزها، وردّها ردّاً بسيطاً إلى مظانّها المرجَّحة: العربية الإسلامية أو الأفريقية. وانتهت مثل هذه الدراسة إلى اصطياد شوارد، أو حربها، أعقمت تلك الثقافة من كل حيوية في الترميز والمعاني والحيل.
    ومعلوم أن ثقافة السودانيين العرب من الثقافات المزيج، أو الأمشاج، بقرينة خلطة عناصر عربية مسلمة وأفريقية فيها. والثقافات الخليط بخيسة الحظ في النظرية الثقافية. فهذه النظرية لا تحتفل بالثقافة الأمشاج، لأنها -في انشغالها بالصفاء والأصالة- تزدريها وترى فيها تشويشاً على رادار النقاء الذي تمتحن به الظواهر. فقد حَرّمَت هذه النظرية، في قول الأنثروبولوجي الأمريكي جيمس كليفورد صاحب كتاب عاذرة الثقافة، امتزاج الفكر والجسد عبر الأعراق. ورأت في المزيج سفاحاً من سقط الثقافة. وتولى الترويج لمنهج السفاحية وتطبيقه في دراسة الثقافة العربية الإسلامية كل من هارولد ماكمايكل (1882 ــ 1969م)، السكرتير الإداري للحاكم العام الإنجليزي للسودان في عشرينات القرن الماضي، وصاحب كتاب العرب في السودان (لندن 1967م)، والقس سبنسر ترمنغهام صاحب كتاب الإسلام في السودان (1946)؛ فهما يرياننا نحن السودانيين الشماليين سفاحيين وسَّخنا بياض العرب وكدنا نجعل من الإسلام وثنية أخرى. لقد آذى منهج السفاحية دراسة الثقافة العربية الإسلامية عندنا أذىً كثيراً، فقد مكّن لتخليد نظرية الأوابد، والأوابد هي تعريب الدكتور عبد الله الطيب للمصطلح الإنجليزي (Survivals) ويريدون به بقايا من حطام ثقافة سادت ثم بادت ولكنها انوجدت في ثقافة معاصرة لا يعرف لها أهلها وظيفة ولا كُنهاً. ولتقريب المعنى، فرسم الصليب على جبين المولود يقال إنها مما تبقّت من المسيحية السودانية الآفلة، ويضعه مسلمون الآن على جباه مواليدهم بغير ربط بينه وبين المسيحية.
    جاء الطيب إلى وصف الثقافة العربية الإسلامية السودانية على فترة كانت الغاية من درسها هو رد عناصرها الخليط إلى أصولها: عربية مسلمة كانت أو أفريقية. وبذلك هبط المنهج بهذه الثقافة من نظام ترميزي معقَّد إلى مجرد (مستودع تاريخي) غاصٍّ بالشواهد الدامغة على المنشأ العربي أو الأفريقي لمفرداتها. وتحوَّل الناس بمقتضى هذا المنهج إلى حملة سلبيين لسِفْرهم الثقافي. والأصل في أهل الثقافة أن يساوموا بها، رمزياً، حقائق يومهم وتاريخهم، وتتّسع بها حيلتهم ليمخروا عباب الحياة بكفاءة وطمأنينة. وبالنتيجة لم تتعدَّ دراسة الثقافة العربية الإسلامية تفنيط رموزها الهجين. وقد رأينا الحبر الكثير الذي أريق من خبراء وهواة بقصد تأصيل الشلوخ وسَيْرة البحر بالجريد والطهارة الفرعونية. وقد شطَّ هؤلاء في الخلاف حول مناشئ تلك الممارسات، كما هو العهد في مثل من يتبعون مناهج الأوابد.
    وجاء الطيب إلى ساحة وصف هذه الثقافة بفحولة منعشة. فكتاباته مثل (ذاكرة قرية) و(الإنداية) أو (دوباي) أو (المسيد) بمنجاة من منهج سوق الدليل من الفلكلور لإثبات عروبة السودان أو أفريقيته. فهو لم يخرج ليطعن في أيٍّ منهما أو ليثبتهما. فعروبة من سعى لوصف ثقافتهم هي من المعلوم بالضرورة. فهم مصدّقون في أنسابهم. وكان هذا قراره كإثنوغرافي. وتتفق معه في ذلك نظريات ثقافية مستحدثة تلزم الإثنوغرافي بأخذ رأي الجماعة في هويتها محمل الجد. فليس دوره أن يغالطها، بل أن يعرف الملابسات السياسية والاجتماعية التي تبنت فيه هذه الهوية دون غيرها. ولم يكترث الطيب بعد قراره الإثنوغرافي بأخذ عرب السودان بما قالوا من أنهم عرب بغير أن يروي قصة عن حياتهم التي يعيشونها حتى النخاع تستغرق قارئها وتمتعه.
    فلا تخالط الطيب شبهة في عروبة أهل كتابه (ذاكرة قرية) أو عربية (الإنداية) كحانة للأنس، أو عربية عروض نظم بادية السودان التي درسها في (دوباي)، أو إسلامية مدرسة أو كتاب القرآن الذي فصّله في (المسيد). وهذه واقعية علم الإثنوغرافيا. فباحثها لا يتطفّل في شأن لا يعنيه؛ وهو تكذيب مبحوثيه وإقامة الدليل والبرهان على فساد اعتقادهم عن أنفسهم.
    ولما أدار الطيب ظهره للخصومة حول أصول النظم التي درسها انفتح أمامه باب العلم بها من جهة أدائها وسدنتها وجمهرتها ووظائفها. فكان دأبه كإثنوغرافي أن يحيط بالظاهرة الثقافية التي يدرسها إحاطة السوار بالمعصم. وهي الإثنوغرافيا التي سماها كليفورد قيرتز بـ"الوصف الكثيف" الذي لا يترك في وصفه للثقافة المعنيّة شاردة ولا واردة. وهي قراءة زكّاها قيرتز على ضوء فهمه للمطلب من درس الثقافة. فهو يقول إننا ندرس الثقافة لبلوغ المعنى منها، وليس يهمنا قوانين تكوّنها أو انتشارها التي يحسنها العلم التجريبي. وكان من رأيه أن العمل الميداني لجمع المواد الثقافية مغامرة غراء. فهو لم يصمّم لتكييف الإجراءات من مثل التودد للجماعة المدروسة، أو اختيار الرواة أو المخبرين أو تدوين النصوص أو الاحتفاظ بمذكرة تدوِّن فيها ما مرَّ عليك خلال يومك. هذه إجراءات لربما حجبتنا عن العمل الميداني الذي هو ضربٌ من الجهد الفكري. إنه مغامرة فيَّاضة في الوصف الكثيف لعناصر الثقافة المدروسة. والقصد من هذا الوصف الكثيف أن يعظم عوالم الخطاب الإنساني. وهذا ما سنرى أنه كان شاغل الطيب في تآليفه.
    كانت النصوص الثقافية التي انشغل بها الطيب قبله (فولكلوراً)، فردها للثقافة بوصفه الإثنوغرافي الكثيف. فقد سبق كليفورد قيرتز نفسه إلى القول بأن الفلكلور كان ثقافة قبل أن (تسخطه) آلهة أهل الشوكة، فتهبط به من مقام الثقافة إلى درك أدب العامة الذي هو الفلكلور. فليس من مأثور يولد فولكلوراً، وإنما يصبح فلكلوراً بفعل فاعل. فالفلكلور هو ثقافة موطوءة، انفرطت من حول مركزها، وتهافتت بعد أن تسيَّدت عليها صفوة غازية أو وطنية أصبحت ثقافتها هي المعيار وما عداها أضغاث عامة. لقد كفت أن تكون ثقافة بالعنوة.ووجدنا الطيب مثلاً يتوقّف دون وصف (دوباي) البادية السودانية بـ(الفلكلور) طالما كان تعريف الأخير هو مجهولية المؤلف. فدوباي العرب السودانيين ليس مجهول المؤلف، كما هو الأصل في المأثور المنسوب للفلكلور. فالبادية السودانية ضنينة بإرثها تتناقله منسوباً إلى قائله برغم كرِّ السنين.
    فكتابه (دوباي 2000م)، الذي درس الميزان العروضي لنظم البادية العربية السودانية، باعترافه، هو حملته لاسترداد هذا المأثور العربي الإسلامي من مصائر الخمول الفلكلوري. فقد اعتقد مثل أهل النيل الأوسط ومدنه ووسائط إعلامهم أن مأثور البادية النظمي الغنائي كله (دوبيت) -وهي مما أذاعه المتعلمون من قراء الأدب العربي- فجال الطيب تلك البوادي على (رجل باحث) فلم يجد بينهم من يسمى نظمه (دوبيت). فهو عندهم (دوباي) وهو من عبارة (دوب)، وترد في مثل "دوب لي" أو "لأمي" أو "لعربي" في دلالة الحنين والتشوق. ولما ظل الطيب -بحكم عادة المدينة- يصف في رحلاته الباكرة مأثور البادية بالدوبيت أخذه المرحوم الشيخ الصديق أحمد طلحة بالشدة قائلاً: "الغنا دا اسمه عندنا (الدوباي) ومن أراد الدوبيت فليذهب إلى ناس البحر (النيل الأوسط والبندر)". وهذه (مقاومة) من صاحب تقليد ثقافي يرى الآخرين يسعون لخلعه عن مصطلحه. وهذا الخلع أول أشراط التهافت والتهميش. والتفت الطيب بعد أن حرَّره الشيخ من جهله بالدوباي ليقول بأن الدوبيت الفارسي معناه قيامه على بيتتين، ووزنه العروضي، حين شاع في النظم العربي، غير وزن الدوباي.
    وما استعدنا للنص العربي البدوي قوامه حتى ساقنا بعفوية إلى جذوره في العروض العربي وتشقيقاته المحيِّرة. فالدوباي السوداني رجز يختلط أحياناً بوزن الكامل. وفيه زيادة هي مقطع زائد أو مقطعان يسبقان تفعيلات كل شطر يسميها العروضيون العرب (خزماً). وكل نظم بادية أواسط السودان رجز. وبلغ من سليقة البداة السودانيين العروضية وفطرتهم أن سموا الناظم بإطلاق (راجز). فكثر نظم العرب في الرجز فصار وزناً شعبياً، وهو مناسب للقطع لا الطوال. (ولكن الطيب عاد بآخرة ليقول بأن الدوباي شبيه بالهزج ويميل أحياناً للمتدارك بل يأتي في بعض صوره بمجزوء الوافر).
    وحين نفى الطيب مصطلح (دوبيت) الصفوي عن النظم الشعبي البدوي أطلق جني التنوّع والسخاء الإبداعي في مضماره. فوجد بجانب الدوباي (المربع أو الجراري في كردفان) أشكالاً من النظم غاية في الرشاقة والتعبير عن الحاجيات النغمية لمبدعيها. فالشاشاي (ضرب من سير الحيوان ومن معانيها السير شوقاً للأهل والأحباب) . فالشاشاي (ضرب من سير الحيوان ومن معانيها السير شوقاً للأهل والأحباب) هي أغنية العمل لنشل الماء من البئر، وأهزوجة لدقاقي العيش "دق التقا"، وعازقي الأرض من المزارعين، وعمال المراكب، والجمالين، والحطابين، وللجلالات العسكرية، ولطحن العيش، وأغاني كرامة البنات ومعابثتهن في الأعراس بين فريق العريس وفريق العروس، ودودار الطيور، وهدهدة النوم،وجمع الفزعة. كما يسع الشاشاي أغاني السيرة وأناشيد الصوفية التي تنشد سيراً على الأقدام كمثل ما يفعل القادرية. وقس على ذلك ضروب النظم الأخرى مثل البوباي والهوهاي والجابودي والسومار والبنينة. ولبعضها تسميات أخرى في بادية شمال كردفان مثل الطمبور والجراري والتوية والجالسة ولبادا والهسيس. فانظر كيف ازددنا غنى وعلماً بنظم البادية بمجرد أن أسقطنا حزازة مدينية عشوائية.
    رأينا كيف كشف الطيب عن ذوق البادية العربية السودانية وإيقاعها لمجرد أنه لم يرَ في مأثورها فولكلوراً موطوءاً غربت شمسه بحلول الحداثة. ورأيناه يطلق فسيفساء هذا الذوق العروضي من عقال ضغينة مدينية أخرى استبدلت مصطلح ذوق البادية بمصطلح جزافي من الأدب العربي. وحزازات المدينة والصفوة حيال العامة لا حصر لها. وقد وفر لنا كتاب الطيب (فرح ود تكتوك حلال المشبوك 1974م) نافذة لصناعة هذه الضغائن الصفوية. ومن ذلك أنها سيئة الظن بالريف، وتعتقد أن عقلنا الرعوي ــ الريفي هو الأصل في محنة السودان المزمنة. فهذا العقل البري متمكِّن حتى من صفوتنا يستبد بها حتى لو شرَّقت وغرَّبت واستطعمت من مائدة الحداثة الغربية.
    ومع شيوع فكرة فساد العقل الرعوي إلا أنها لم تخضع بعد لفحص نظري أو ميداني نختبر بهما صدقيتها كتفسير جائز للخيبة السودانية. وبناءً عليه فالفكرة في أحسن أحوالها من فطريات الثقافة. فهي مجرد حزازة على حياة البداوة ينشأ عليها من ولدوا في القرى والبندر، وفاقم منها تشرُّب هؤلاء الفتية الحداثة الغربية التي البداوة عندها جاهلية أولى، ولا يتحضَّر الناس ويتمدَّنون إلا بعد أن ينفض الناس أيديهم عنها.
    تتحدث صفوتنا كما رأينا عن (عقل بدوي) جامع مانع، رجعي، لو شئت، أو عقيم. فنجد الطيب حمته إثنوغرافيته الماهرة من ارتكاب هذا الظن السيئ بأهل الريف. فالطيب يكتب عن الريف من فوق نصوص وسعت كل شيء. وهذه بركة الوصف الإثنوغرافي الكثيف الذي الثقافة عنده أسفار الناس وذوقهم وسعة حيلتهم وأشواقهم وتوادّهم وتباغضهم، لا شواهد ميتة على أصولهم.
    وخلافاً للعمومية التي تصف بها الصفوة المحدثة الريف وتختصره في (عقل بدوي) طائش تجد الطيب (يفكِّك) الريف فيستنبط منه عقولاً شتى. فأدخل الشيخ فرح ود تكتوك (1147هـ ــ 1734م)، الولي الصالح بقبر يزار شرقي مدينة سنار بولاية سنار، في جدل درامي أو مناظرات مع دوائر ريفية عديدة، أخذ فرح عليها أشياء من ثقافتها كما أخذت هي عليه أشياء. ووضح أن الريف ليس عقلاً واحداً أحد. ولا نعرف إن كانت تلك المناظرات التي بثّها الطيب في كتابه مما وقع حقاً، أو هو مما رتّبه الناس للمتعة أو تفنن فيه الطيب نفسه. وبدا الشيخ فرح في هذه الحوارات ممثلا للمزارعين (الحراتة) حتى قال له أحد الزبالعة (وهي طريقة زعم خصومها أنهم باطنية وحاربوهم حرباً شديدة) في مناظرته: "قصِّر حديثك يا طالب الدنيا يا رفيق الزراع" ووصفه آخر في معرض تبخيسه بأنه "فرح الحرات"، وفرح شديد الاعتزاز بالنسبة إلى المزارعين. ومن أقواله:
    المال يا حراته (حرث)
    يا وراته (وراثة)
    أو
    الحرات بريده ربنا القدوس
    قدحو في الملم (المجمع) يبقى دوام مدعوس (ممتليء حتى يربى)
    في الدنيا جابولو الفي العِيَّب (وعاء من الجلد الرقيق) مدسوس
    وإن مات ساقوهو لجنة الفردوس
    فالشيخ لم يتحرَّج عن العمل بيده ناعياً على مشائخ آخرين تبطّلهم وانشغالهم بالدنيا واعتمادهم على الأتباع في كسب الرزق. وربما كره هذه الصفة في الزبالعة الذين دوّخهم بالمناظرات.
    من الجهة الأخرى تجد الشيخ في حرب شديدة ضد المتبطلين بالوراثة فترفعوا عن العمل. وتجسدت ظاهرة الترفع عن العمل اليدوي في شخصية ملقبة بـ(ود أب زهانة)، الذي قيل إنه عاصر الشيخ فرح في آخر أيامه. واسم (ود أب زهانة) هو المنسدح حمد المنسدح، نشأ في أسرة مؤثرة، وربته جدته لأمه، ولم يصلح في علم أو حرفة، وورث جدته وأباه فصار مزواجاً لا علم له بعدد ذريته أو أسمائهم، يحب النفخة والفخر، سمّيعاً، وأتى الدهر على ماله، وتفرق ولده. ومن رأي الطيب أن نسله هم مصدر (الزهانية) التي تجدها بمقدار بين السودانيين.
    ولبيان هذه (الزهانية) التي تجري في أمثال سودانية شائعة يرسم الطيب صورة قلمية ليوم عاطل من أيام ود أب زهانة ويرصِّعه بتلك الأمثال الداعية للتبطُّل مثل "نوم الضحى يطوِّل العمر"، "من تغدّى تمدّى ولو الحرب دائرة"، "الحي رَزَق الحي"، "ربنا عايش الدودة بين حجرين"، "النوم خريف العين"، "إدّيَّن وإتبيَّن"، "رزق الليل ضيق"، و"الدين فوق الكتوف والأصل معروف". وستجد في الوقت نفسه في أدب فرح الحرّات أمثالاً جهيرة بتمجيد ثقافة العمل والكسب مخالفة لود أب زهانة. وهذه الأمثال المتناقضة من أوضح الدلائل على أن البادية، ككل جماعة بشرية، ليست على ذهن واحد في جدلها الذي لا ينقطع حول السبل والغايات.
    ولقي فرح عنتاً من ثقافة التبطُّل. فسأل أحد أتباع ود أب زهانة حواراً لفرح عن شيخه. وسماه "###### الدنيا يجري جري الوحوش" ولا يقع إلا على مقدار رزقه. فلما علم فرح بالمناقشة قال لحواره إن لقيت الزبلعي مرة أخرى قل له:
    "إنت الفارغ
    اللاك حاش ولاك زارع".
    ومن جهة ثالثة فالشيخ الزارع باغضٌ لحياة البداة. فهم لا يثقون في الزراعة لخشيتهم أن يأكلها الطير، أو تنتابها الآفات فيحل البلاء. فهم يقولون: "الساعة ولا الزراعة"، أي أن قيام الساعة أهون من العمل في الزراعة. ولما علم فرح أن منشأ المثل هم البداة قال:
    "الجمالة (البدو)
    الدنيا عدوها جوالة
    والآخرة فاتوها بي حالا".
    وبدا لي أن الطيب لما تطرّق لكراهة البادية للعمل اليدوي خلط بين فروسية البادية التي قوامها (النهيض) و(أكل حق الناس)، وبين البدو الذين يستنكرون حياة الحرات أي المزارع. فعرض في هذا السياق لأغانٍ من بقاع سودانية مختلفة أراد بها توضيح ثقافة الفروسية التي تستخفّ بالعمل اليدوي لأنها تقلع (تستولي على) حق الناس عنوة واقتدرا في نُظُم عُرفت بـ(النهاضة)، أو (القيمان) أو (الهمباتة) وحتى (الجنجويد)، في رواية، وقد مثلّوهم بصعاليك العرب. وللدكتور شرف الدين الأمين عبد السلام كتاب جيد في المشابه بين التقليدين في الصعلكة. ولكني وجدت أن أكثر ما جاء به الطيب لبيان مجاجة الفروسية للعمل اليدوي هو غناء في تمجيد الرعي واستهجان الزراعة. ومعلوم أن الفروسية شديدة الصلة بالبادية والرعي. فالراعي (يتصعلك) في مقام (الفزعة) لاسترداد حقه، أو (النهيض) لأخذ حق الناس. من أمثال ما جاء به الطيب:
    ناس الجنى فروعا (جنى الفرع: عطفه وماله، أي المزارع)
    وآ ندم أمه وجوعا
    عجبي الشال ممنوعا (ممنوعا هي السلاح الذي لا تحمله إلا بإذن الحكومة)
    وكدي لبيلا رتوعا (وبيلا موضع بعيد ليمجد إبله في القشة البكر)
    أو:
    ما طق هشابة وما بياكل اللابه (الهشابة شجرة الصمغ. وطقها هو جرحها ليسيل الصمغ من جذع الشجرة).
    جدي الريل مرعاه في الجرابة (وجدي الريل كناية عن الإبل والجرابة هي الأرض المخصبة).
    جاء الطيب في وصفه الكثيف لنص فرح ود تكتوك بأصوات قوى الريف الحية والمتبطلة في جدل حثيث حول الغاية من الحياة ومثال النجاح فيها. واستطاع بدرمجة dramatization
    هذا الجدل أن يبثّ في نصّه حيوية للريف لم تخطر لماركس وأرباب الحداثة الذين وصفوه بـ(البله) idiocy. وهذا المأخذ الماركسي على الريف ربما كان الأصل في سوء الظن به الفاشي في صفوتنا حتى لم تر في الريف غير عقل واحد ناضح بالغباء والرتابة.
    ويقع كتاب الطيب (ذاكرة قرية)، الذي هو شهادته عن تربيته في مقرن عطبرة، في سياق نقده القويِّ للحداثة التي أخذناها وكالة لا أصالة. وقد قدمت للكتاب في موضعه في هذه الطبعة الكاملة، أو شبه الكاملة لأعمال الطيب. وقلت بأن دافعه لكتابته كان الغيرة من المدينة الضلّيلة. فقد رأى العزة بالغرب وسوء الظن العميق بإرثنا. وكتب (ذاكرة قرية) غيرة من المدينة (الغربية) التي وسمت كل شيء بميسمها فأنشأت أجيالاً سودانية "خالية الذهن عن تاريخها". ولينظر القارئ تفصيل هذه الفكرة في مقدمة كتاب (ذاكرة قرية).
    والطيب كذلك لم ينشغل بمقادير أفريقية المدرسة القرآنية أو عربيتها حين كتب عنها (المسيد) وهو لغة في تلك المدرسة أو الخلوة في ارتباطها بحرم من مسجد وشيخ. فلما بدأ البحث عن المسيد في السودان ألقى بنظرة مقارنة إلى بلدان أفريقية. لم يفعل ذلك تربُّصاً بتلك المقادير من التأثيرات الثقافية وكيميائها التي شغلت من سبقوه في دراسة النصوص العربية الإسلامية في السودان، بل لأن المؤسسة وجِدت هناك بالأصالة. لم ينشغل في تحليله بأي جانب من المؤسسة انتمى لأفريقيا أو للعرب، بل بمنزلة هذه المؤسسة -التي ترعرع هو في أكنافها- التعليمية في صحوة المسلمين المعاصرة التي رغبت في العودة إلى المدرسة القرآنية طلباً لتعاطي الحداثة بقوة وبأصالة.
    لم يحتج في دراسة المسيد بغير تلفُّت لعربيته أو أفريقيته لأكثر من زيارة لمسيد ود الفادني جنوب الخرطوم ليرى أفريقية الثقافة الإسلامية العربية في السودان. فبين داخليات المؤسسة العشرين هناك وجد واحدة لهوسا نيجيريا وثانية لإريتريا، وثالثة لفلاتة، ورابعة للفلاتة أم بررو، دعك عن داخليات أخرى لجماعات سودانية مسلمة غير عربية (التاما، مساليت، التنجر). ووجد في مطلع السبعينيات بالمسيد 6 طلاب من الكاميرون و11 من نيجيريا، و2 من النيجر، و3 من السنغال، و9 من تشاد و5 من زائيرأ و2 من غينيا بيساو. كما تطرق إلى اختلاف تعليم العربية في الخلوة لغير الناطقين بها بصورة تأخذ من لغتهم وتتدرج بهم في تعليم اللغة القرآنية الجديدة. ووجد أن قراءة الدوري الشائعة في السودان حتى طبعنا مصحفاً بها يعم أفريقيا المسلمة. ثم وجد أن يوم الأربعاء هو يوم قبول الطلاب الجدد في الخلوة في أفريقيا قاطبة اقتفاء للأثر: "ما بدئ أمر بيوم الأربعاء إلا كان حقاً على الله أن يتمه"، وهو اليوم عند بعضهم الذي خلق الله فيه النور.
    وكتاب (الإنداية) -وهي الندي لشرب الكحول- ذؤابة في إثنوغرافيا الطيب الكثيفة. وكانت تربية المؤلف كلها قامت على كراهة الأنادي (مفردها إنداية). فقد كانت جدته تقول له في موضع التهديد: "أكان أخليك يا ولد أرهز (أرقص) في الدهلة (طبل ضربه علامة على بدء الشرب لذلك اليوم) وأصفي المريسة في الأنادي". ولم يسعفه إلا فضوله الفطري والمكتسب ليعرف هذه المؤسسة المنكورة عن كثب. وتحيَّل الطيب بحِيَل العمل الميداني كلها ليلقى القبول بين رواد الأنادي. ولم يمنع هذا من طرده مرة بتهمة أنه بصّاص من مخبري الحكومة.
    استغرقت كتابة (الإنداية) ست سنوات طرق فيها أبواب أنادي السودان قاطبة، أو كاد. فغزرت مادته، ولم ينشغل إلا بصورة سطحية بأفريقية عناصر الإنداية أو عربيتها، مثل قوله إن مسلمي السودان استمروا على عادة الشرب لدخولهم الإسلام بمورثاتهم الخرافية والوثنية. وليست هذه بأبدع ما جاء في (الإنداية). ما انشغل به وأجاد هو عوالم الإنداية التي يغشاها الناس ندامى وخصوماً، عَلاًّ ونهْلاً، يسترقون من شظف الدنيا سويعة (يفرِّقون) فيها، كما نقول في الإنس والترويح.
    وسع الطيب عن الإنداية علماً كثيفاً وعرضه بصورة أخاذة. فرصع وصف الإنداية بوقفات درامية انحل فيها السرد واكتسب النص صفة المسرحية بأسماء سكارى ومزاجات ولغة مسرحية يتواجه فيها رواد الحان منافسة في الشرب، أو في العطاء للمغنيات، أو في المعرفة بأصول ثقافة الإنداية مثل نصيحة من دخلها. ومن هذه النصيحة مثلاً أن تجلس على سرجك حتى لا يتخطفه رائد سكران اختلط عليه سرجه بسروج الآخرين، أو ألاّ تفوت كأسك لأنه يكشف عن ضعف في طاقة المرء الاستيعابية. لقد بلغ الطيب بـ(الإنداية) الغاية من الإثنوغرافيا، وهي أن تقص علينا قصة مشوقة.
    وهذا الباع الإثنوغرافي الطويل مما أحسن إطراءه الدكتور عون الشريف في مقدمته للطبعة الثانية من الكتاب، قال إن الكتاب "بوابة عريضة من المعرفة بأحوال جانب مهم ومثير من أهل السودان". ولقد وافى ذلك غرض الطيب من كتابه، إذ قال إن الصفوة لن تبلغ غايتها من الإصلاح متى خاطبت غمار الناس من "منصاتها الخطابية" متفادية عسر التغلغل إلى مثل رواد الأنادي ومعرفة عوالم طربهم وأنسهم.
    فالإنداية التي قد تصرفها كبؤرة ضوضاء غاصة بالثقافة. فالتاريخ مُستَدعى فيها. كما أن صلاتها بمزارات الصوفية المقدسة؛ نقيضها في ما نتصور، واشجة. مما يسترعي الانتباه مثلاً قانون الإنداية في نخب الشرب، المريسة، الثلاث الإتيكيتية. فهي مسماة على ملوك دولة الفونج، أول دولة إسلامية بالسودان (1504-1821م). فأول الأنخاب هو كأس عمارة أميز ملوك الفونج، والكأس الثانية باسم دكين المشهور من أولئك الملوك أيضاً. أما الثالثة فباسم قلبوس أحد أشهر قادة الفونج. فيمكن للشارب أن يكتفي بعمارة ودكين، إما إذا شرب قلبوس ولم يشارك في (العَدَل) -نصيب الشارب في تكلفة الشراب وتوابعه- بطلب من الساقية فإنه يطرد شر طردة.
    ومع ما يبدو من جفاء قاطع بين الإنداية والدين أو المسيد إلا أن الأولى اكتشفت بأنها لا تصلح إلا بالثانية. ولا يقع على هذا التناغم إلا من تكبّد العمل الميداني وغاص في المؤسسات يشبعها وصفاً. ففي جلسات الشرب يحلف الواحد منهم بـ(المريسة) قائلاً: "وحات الحرام دا". ومن جهة أخرى فصاحبة الإنداية إن أصابها كرب استنجدت بولي. وهي تفعل ذلك لا رهبة منه بل تحت التهديد بأنه إن لم يسعفها حملت برمة مريسة إلى قبره احتجاجاً على تأخُّره. وللشيخ إدريس ود الأرباب (1650-1507)، الولي المعروف ومزاره بالعيلفون من ضواحي الخرطوم، دور في دراما الإنداية لا مهرب له منه. فالأنادي تقدم كأس الشيخ إدريس سماحة وضيافة. فللشيخ برمة (إناء فخاري) هي أول ما يملأونه بعد استواء المريسة. وتوضع هذه البرمة في صحن الإنداية شراباً مجانياً للمساكين من قدامى الرواد الذين شاخوا وفقروا. وقيل إن هذه البرمة أصلها نذر التزمت به شيخة إنداية ما إذا سلم جماعة ما، وصار عادة.
    خلافاً للدارسين قبله في حقل الثقافة العربية الإسلامية في السودان أخذ الطيب عروبة أهلها بغير غلاط. فاتصالهم بالعرب الأقدمين عنده حقيقة لا مرية فيها، توثقها أنساب لا مطعن فيها لأن "الناس أمناء على أنسابهم"، كما جاء في الأثر. فهم عنده "يعيشون العربية لغة وسلوكاً وذوقاً"، فعروبة أهلها في أفريقية عنده لا حاجة للبرهان عليها ولا تبديل لها.
    أنا زعيم بأن الطيب مات سعيداً ودعك من المنغصات. فلم تعد صورة (الفلكلور) بعده كما كانت قبله. لقد نعم بحب الناس عاديين وغير عاديين لأنه التمسهم كحملة ثقافة لا مهرب منها، بينما قامت بعثة الصفوة الغربية وحتى الإسلامية على تفريغ الناس من ثقافتهم (التقليدية) الفاسدة لحقنهم بالحداثة أو العقيدة الصحيحة. لقد حسدته كثيراً متى كنا على سفر أو زيارة على تعرُّف الناس عليه بالفطرة وإقبالهم عليه كشركاء في مشروعه، يسألونه عن الأنساب أو صحة نطق اسم مدينة أو مزارات ولي. وكنت أستمع إلى حواراتهم معه يديرونها على قدم المساواة، وكنت أنطوي منهم على صفويتي الحبيسة ولغتي الكاسدة. كان الطيب يعلم علم اليقين حب الناس له. بل ومناصرتهم له. لم يكن الطيب لينجز أكثر برنامجه التلفزيوني (صور شعبية) لولا سخاء مشائخ وتجار وأحباب موّلوا زياراته الميدانية لبقاعهم وأحسنوا إليه. وهذه سنة في الإحسان إلى أهل المشروعات الثقافية لم تقع لصاحب مشروع ثقافي حديث قبل الطيب. وكان الطيب غنياً بهذه الصحبة عن تكفُّف الدولة العادلة والظالمة.
    كان كثير من الناس يزكّي الطيب محمد الطيب بالنظر إلى عِظَم مأثرته وتواضع كسبه العلمي (لم يتجاوز المدرسة الابتدائية) بقولهم: "لو تلقى علماً جامعياً لفاض وأربى". ويتوهم القائلون، على حسن نيتهم، نقصاً في الطيب لا دليل لهم عليه سوى عقيدتهم في أن الإحسان لا يقع إلا بالتعليم النظامي والترقي فيه. فجعلوا كسب الطيب المرموق كفاحاً حجة للتعليم النظامي لا حجة عليه. ففحولة الطيب ومباحثه في عمق الروح السودانية، متى لم نفسدها، بمثل التقوُّل أعلاه، كفيلة بوضع يدنا على علل تعليم المدارس المستحدثة التي تجفِّف ملكات خريجيها. فمأثرة الطيب مجروح الشهادات في عرف المحدثين، وتأسياً بنفسه، أنه لم يشترط لتعاطي الثفافة شهادة موثّقة أو لساناً متحذلقاً. لقد جعل الأميين صنّاع ثقافة، وسألهم بتواضع جم أن يملوها عليه، وفعلوا وفعل. وزدنا بذلك إنسانية هي ما يبقي على هذا البلد الطيب برغم الشرور التي أحدقت به طويلاً.
    انصرف جهد الطيب غير المقلّ لرد الاعتبار للريف. لقد فرض على المدينة أن تصغى لثقافة الريف بوسائل ذكية. يكفيه (صور شعبية) التلفزيوني الذي شدّ الأسماع والأنظار إلى ثقافة مظنون أنها من "هبل الريف"، في قول ماركس. وأصبح الريف به يلقي قولاً حسناً للمدينة. لقد أراد لمأثور المدينة والريف أن يتكاملا، لا أن يتشاكسا عملاً بفطانة النبوة. فقد روي أن زاهراً بن حرام كان يهدي الرسول صلوات الله وسلامه عليه من البادية. وكان الرسول يرد الهدية بأحسن منها من حاضرة المدينة. فقال عن زاهر: "إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه". فتأمل جدل الحلف النبوي.

                  

08-11-2010, 11:52 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقدمة الأعمال الكاملة للطيب محمد الطيب ... بقلم: عبد الله علي إبراهيم (Re: munswor almophtah)

    كلنا يحتاج لفشة أولى أو لبكر ثم لتنى وما يخلفه.. كتابة كثيفة عميقه
    راصده لكل محاور الإبداع عند ذلك المبدع الذى تفرغ للإصغاء للمسموع منه
    ولمشاهدة المعروض وقراءة المكتوب والتنقيب بصبر وصدر الباحث الفطن العارف
    بأن بالكأس باق.. إستطاع عبدالله على إبراهيم ذلكم الشاهد على أعظم مراحل
    البذل والعطاء لذلكم الحارص الوفى المخلص لرسالته الإنسانيه فى ر صد مافى
    حواصل الأقوام من دواع للتراث ذلكم الطيب محمد الطيب الذى ساقته نواياه السليمة
    والمعافاة إلى كل إنداية وجو ليقف إلى خراج إنسانها ورصد سلوكه الإبداعى
    ومعرفة ما يستنسخ من قيم وأخلاق تظل عرفا وقانونا لكل طارق إلى أبوابها كما
    للبرامكه من من قيود وشروط وأطر تتحكم فى سلوك جلاسهم وأنسهم..لا بل ذهب
    إلى المسيد المتنوع بتنوع السحن والألسن والمتوحد باللغة القرآنيه وتراتيل
    الذكر وتلاوة الأوراد واتباع مناهج الشيوخ من حب فى المديح أو إدمان للنشيد
    أوعشق للنوبات بمختلف الإيقاعات وألوان الكرابات والرايات لا بل توغل كاتبنا
    فى الغوص فى أعماق المعارف الراسخه عن الدوباى بشاشايه وجراره وتويته
    وكدندايته وغيرها لا بل لم يبخل علينا بإبداء الحس الفولكلورى الواضح عند
    ذلكم الطيب إبن المقرن المجذوب الأتبراوى الرصين الذى لم يترك واردة ولا
    شارده إلا وأحصى خصائصها ودقق فى طرائق إستخدامها وعرف مقامها واحكم الحانها
    فأم كيكى والدلوكه والشتم والقرع والنحاس والنقاره وغيرها كان طيبنا
    لها بالمرصاد لا بل وثق عن العلائق والقرابات والروابط والمؤثرات وإن لم
    يكن من المعاصرين لحسبناه أسطورة كود أبزهانه الذى أبان حقيقته وأسمه وتاريخ
    ومكان نشأته وحالته التى كان عليها وتلك التى صار إليها..الشكر أجزله
    لأستاذنا الباحثه عبد الله علي إبراهيم الناذر بشيوخ أمه أن يكون كما كان
    الطيب أو أشد.. حارسا لكل القيم الثقافيه والمعرفيه لهذه الأمه حراسة الجند
    المخلصين والدعاء الخالص للباحثه الشعبى الأشعبى لما يحب ويهوى أستاذنا الطيب
    محمد الطيب له من الكريم اللطف والفوز بالفردوس......


    منصور

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 08-11-2010, 11:54 PM)
    (عدل بواسطة munswor almophtah on 08-12-2010, 00:01 AM)

                  

08-12-2010, 11:51 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقدمة الأعمال الكاملة للطيب محمد الطيب ... بقلم: عبد الله علي إبراهيم (Re: munswor almophtah)

    ما تركه الطيب محمد الطيب تقنين لواقع وتوثيق لحقائق مجتمع من خلال تراثه
    وفلكلوره وعاداته الراتبه وثقافاته المتبائنه تعددا والمتناغمه توحدا لتبجيل
    كل قيمه وأعرافه وأخلاقه المقدسه فكتاب الطيب محمد الطيب ليس أقل قداسة عرفية
    وبحثيه عن كتابى الشونه وطبقات ود ضيف الله علما بأنه وقف على كلا التجربتين
    وقوف الباحث المدقق..............




    منصور
                  

08-13-2010, 06:42 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقدمة الأعمال الكاملة للطيب محمد الطيب ... بقلم: عبد الله علي إبراهيم (Re: munswor almophtah)

    مقدمة الأعمال الكاملة للطيب محمد الطيب ... بقلم: عبد الله علي إبراهيم
                  

08-13-2010, 07:09 AM

Elfatih Noureldayem
<aElfatih Noureldayem
تاريخ التسجيل: 03-19-2009
مجموع المشاركات: 21

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقدمة الأعمال الكاملة للطيب محمد الطيب ... بقلم: عبد الله علي إبراهيم (Re: munswor almophtah)

    أستاذى
    هذا الانسان العلامه الطيب محمد الطيب
    قامة وهامة وعلم من علاماء الادب والفلكلور السودانى
    بحثت كثيرا عن برامجه التى قدمها في التلفزيون والاذاعة
    شكرا لهذا التوثيق
    وسأتابع معك البوست للتوثيق والحفظ
    شكرا جزيلا
                  

08-14-2010, 12:15 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقدمة الأعمال الكاملة للطيب محمد الطيب ... بقلم: عبد الله علي إبراهيم (Re: Elfatih Noureldayem)

    الأخ Elfatih Noureldayem


    السلام والرحمه والشكر لك على التصفح وعلى ابداء الرأى ونشاطرك القول بذاك
    فهو كفيل بأن ينال كل طرائق البحث والتنقيب عن أثاره المكتوبه والمسموعه
    وتلك التى كانت وقفا على الخواص ياخ رمضان كريم وواصل متابعتك ربما يأتى
    أحدهم بما تريد.....................



    منصور
                  

08-17-2010, 02:11 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقدمة الأعمال الكاملة للطيب محمد الطيب ... بقلم: عبد الله علي إبراهيم (Re: munswor almophtah)

    أما يستحق الطيب محمد الطيب الوقوف له والوقوف على ما ترك من مكنون
    التراث وثمين الفولكلور




    منصور
                  

08-19-2010, 06:10 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقدمة الأعمال الكاملة للطيب محمد الطيب ... بقلم: عبد الله علي إبراهيم (Re: munswor almophtah)

    الشيخ إدريس ابوفركه وود أم مريوم واليعقوباب والغبش والشيخ الجعلى راجل
    كدباس وتفاصيل يطول الوقوف عليها نزع فى الأدب الصوفى السريانى منه والظاهر
    بطرائق البحاث يقابل ويقارن ويفارق ويؤرخ من مصادر متنوعه وموثوق فى ما
    تقول لا بل ياتى بكل الروايات والحكاوى المصحوبه بكرامات أولئك العباد الزهاد
    وذكر ما قيل فيهم كالكباشى القيدو فى شبلو






    منصور
                  

08-19-2010, 06:22 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقدمة الأعمال الكاملة للطيب محمد الطيب ... بقلم: عبد الله علي إبراهيم (Re: munswor almophtah)

    ياالفوتك مو دحين .. رثائية الطيب محمد الطيب


    الأحد, 28 فبراير 2010 15:26 | الكاتب: د.محمد عثمان الجعلي


    الطيب محمد الطيب: "متاوقة مشاترة" من نوافذ مغايرة


    البروق ومدد الحروف:

    برق الطاء:
    خبيب أخو الأنصار نعم المعاهد تـــقي نقي القلب عابد
    دعا دعوة تنهد منها القواعد شهيد لجنات النعيم مشاهد
    يسير إلى الجنات سبقا بفارط

    برق الميم:
    تــلونا كتاب الله للآي ندرس وبـــالحمد سبحنا له ونقدس
    ومن حولنا الأعداء بالمكر تهمس وندعو عليهم وهو سهم مقرطس
    وإن يمكروا فالله بالمكر عالم
    برق الطاء:
    على حمزة تبكي البواكي وماتني على حمزة ليث الحروب الخبعثن
    وما مـــر يوم كحمزة محزن على المصطفى يا للشهيد المؤبن
    فلو عاش ما خر الحسين بمأقط
    (العلامة عبد الله الطيب المجذوب :برق المدد بعدد وبلا عدد)



    توطئة وإستئذان:
    هذه كلمات في مقام رحيل أخي وأستاذي الطيب محمد الطيب..استأذن القاريء الكريم إن وجد غلبة للجانب الشخصي في بعض أجزاء هذا العمل ..كغيري من العشرات بل المئات من أبناء الشعب السوداني كانت لنا مع الطيب علائق هي لوشائج الدم أقرب ...كان لنا بمثابة الأخ الشقيق يظللنا بدفء آصرته ويمنحنا وجوده الآسر وحضوره البهي درقة متينة من الأنواء والتصاريف ...كنا نقدمه في أفراحنا ككبيرنا وكان يتوسطنا ويتقدمنا في اتراحنا كأنه واحد منا....نلنا بفضل الله نعمة أخوته واستاذيته ونصحه وتوجيهه فليأذن القاريء إن وجد الإخوانيات تحتل حيزا في مقام الحديث عن رجل عام كالطيب محمد الطيب وعزائي في ذلك إنني اكتب عن الطيب و"أتاوق" "متاوقة مشاترة" من نوافذ متعددة أقلها النافذة العامة والتي كتب عبرها العديد من الأخوان بحذق ومهارة ومحبة للراحل الكبير.

    الهمباتي الأخير:
    "أُمّاتِي القِبيلْ بي حِنّهنْ لجّـنّي
    كَرفة وقَلدة كيف شوق اللّبن رَجّني
    حُزناً جاني في مَيْع الصِّبا يلَجِّني
    أطلعْ مِنِّي يا جلدي المِنمِّل جِنيِّ
    واطلعْ مِنِّي يا حُزناً بِقى مكَجِّني"
    (محمد طه القدال: مسدار أبو السرة لليانكي ...والله نسأل أن يتغمد بواسع رحمته أخانا المرحوم تاج السر سليمان فقد كان مبتدأ المسدار وخبره في آن)


    من غير قدال يمكن أن أستسمحه في أن يعيرني قافيته الفريدة زاملة أعالجها تحويرا وتبديلا لتقلني هربا من "حُزناً جاني (مع الزمن) يلَجِّني" ومن "حزنا (من كترتو) بقى مكجني" ..حزن عميق أنوء به واستردفه وأنا اجهد وسعي في دروب البحث المكد عن مفردات تقيل عثرتي في التعبير عن فقد أخي الطيب محمد الطيب.

    وقفت أمام عتبة باب المقال فأستحضرت صورة صاحبي الطيب ...استعدت "كنتور" شخصية الرجل متفحصا فلم أجد مفتاحا أليق ولا وصفا أروع وأدق يعبر عن مجمل صفاته المهنية والشخصية والإنسانية مما جادت به قريحة اثنين من عمالقة الشعر الشعبي المعتق ....وجدت مبتغاي في مربعات عبد الله حمد ود شوراني والصادق ود آمنة بت النور فالتزمت خيمتهما ...الشاعران الفحلان برعا في وصف الطبيعة والبشر والخلائق جميعا ...أعدت قراءة محاورتهما ومجادعتهما وهما يفخران ب"الطربان" و"القدين" فلم اتبين أكانوا حقا يصفون ويمدحون زواملهم أم البشر الذين يحبون ...تأمل معي حب ود شوراني للطربان جمله:

    "كتح الصافي علاك يا اب سناما رك
    أبوك فارط الجدي الأخد الروينا وجك
    على ست الصبا الدكانا قاطع اليك
    رايف وفكفك الحسكة أم حديدا شك"

    وتأمل شعر ود أمنة وفخره بالقدين:

    "بعد اتفاضل الزهمول وسوطو جبك
    جريك عنا وسرعك برق ونايبك كك
    عادة جدك السوسيو عليها عرك
    بعيد زي غايس البرق اب هطيلا تك"

    ك"الطربان" نال الطيب حظه من "صافي" الزاد المعرفي الحقيقي فقد نهل من معين الشعب الثقافي الماهل الذي لا ينضب وموارد علمه التي لا سواحل لها ...نال الطيب حظه الوافر من علوم البشر والدنيا ..ف"كتح" منه واستسقى ... غادر صفوف التعليم النظامي باكرا ملتحقا بفصول مدارس الحياة ...مدرسته الكبرى كانت البشر ...أوغل في حياتهم ،تقاليدهم ،علاقاتهم وسلوكياتهم فنال حظه من كل ذلك ثقافة ودراية وعلما وإنسانية ...الطيب كان مثالا حقيقيا للمثقف العضوي كما رآه قرامشي ..أخذ من الناس فأنتج وأعاد الإنتاج لأصحابه في جدلية سامية وراقية راكزة على تعظيم القيم المضافة وإشاعة فائض القيمة.

    على صعيد الكسوب والتعلم والكد والاجتهاد أخد الطيب "الروينا" وجك ...كان "البرنجي" دائما وذلك عين ما لاحظه الفكي عبد الرحمن عن الطيب...في عملنا الموسوم "الحواشي على متون الإبداع" وفي الحاشية الخامسة تحديداً بعنوان "بل لله درك أيها الفلاح الفصيح أو :إتحاف الزمان بمقامات الفكي عبد الرحمن"..علقت على كلمة رفيعة البيان محكمة العبارة سطرها الفكي في شأن الطيب اسميتها "المقامة الطيبية"...قال الفكي :"الطيب محمد الطيب، طيبان يتوسطهما محمد، فأل حسن، الفجر حي على الفلاح، وجاء للحياة فلاح في البدن والعقل والروح، لم يحبو فمشى، ويمشي فما تتعب رجلاه، يروح، يجمع،يعد، يعرض فيمتع، الطيب في ذاكرة البلد". ..نعم الطيب "أخد الروينا وجك"... "جك" الطيب مجتهدا في دروب التراث مستهدفا كشف المستور في علاقات البشر والمجتمعات وذلك هو "ميس" سعيه وجهده ..ذلك هو الميس "القاطع اليك"...هرول الطيب "رايفا" متلفتا لمظان الحكمة الشعبية ومكامن الإبداع الشعبي وقد تحرر من كل كوابح البحث وموانعه ففكفك كل "حسكة" مانعة وملجمة لكل باحث طليعي أصيل.

    جهد الطيب الذي لم يتوقف لأربعة عقود في دهاليز مسارب التراث لا أجد له وصفا أعمق من وصف الصادق ود آمنة لزاملته "جريك عنا وسرعك برق ونابيك كك"...الجري والسرعة وتعب الجوارح كلها من عناء الترحال المتواصل لكشف المجهول .. عقبت على مقولة الفكي عبد الرحمن السابقة بقولي :" الطيب محمد الطيب شيخ زمزمي معتق نهل من حياض معرفة حقيقية لا يغيض ماؤها واستظل بجنان علم أصيل لا ينقطع فيؤه .. "يمشي فما تتعب رجلاه، يروح، يجمع، يعد، يعرض فيمتع" .. بالحيل .. بالحيل ..الطيب هو كاهن التراث وحامل مفاتيح ملغزات وخبايا الفولكلور ....حرس التراث وظل اميناً عليه منافحاً دونه ...رحمة الله تغشى أخانا الطيب الذي ذرع البلاد من حلفا لتركاكا ومن دار فور الحرة النبيلة لكل قبيلة على التاكا أو كما قال صلاح .. الطيب ذلك المليء أخوة حتى النخاع والمليء شهامة حتى مراتب من تغنى فيهم "طبيقه" وخدينه مبارك حسن بركات أخذاً من "بيت قصيد" الموروث الشعبي:
    "الجنيات بلاك في الحلة آفة عيش
    وود المك دا راجلاً بيعزم على المافيش"

    بين اليقظة والرؤيا: ود كدودة والماغوط وبينهما ستي نور

    قبل وفاته بشهرين وحين علمت بتردي حالته الصحية عاودني بل "تاورني" ذلك الاحساس الحزين البائس الذي غشاني وانا أجالسه الصيف الماضي بمنزل العمدة الأستاذ صديق علي كدودة المحامي بحي العباسية بأمدرمان ... كان يبدو متعبا ...كان متكئا ...وجهه للحائط وقد أولانا ظهره...كنت عند دخولي عليهم قد لاحظت إن بريق عينيه الغريبتين الذكيتين بدأ لي شاحبا .. سألته "الطيب انت تعبان"؟"..رد علي ولم يلتفت ناحيتي "لع"..قلت له :"متأكد؟".."قال لي بضيق شديد :"قلت لك لع"...قال لي صديق :"زولك بخاف من المرض ومن الموت"...قال لنا الطيب وهو ما زال يقابل الحائط:"يموت حيلكم".

    وهو في حالته تلك أوسعناه (صديق وأنا) أسئلة سخيفة وقصصا مريبة ومكايدات "قليلة حياء" ..تلك هي عادتنا التي لم يكن ليمنعنا عنها غضبه الحقيقي او المصطنع ولا عوارضه الصحية التي تلاحقت في السنوات الأخيرة...مطلق وجوده، متعافيا أو عليلا، ظل يهيء لنا سوانح وفرص محاولات مستحيلة للعودة للطفولة الأولى ...ونحن نطقطق حبات مسبحة العقد السادس يحلو لنا أن نستعيد (لا بل نعيد تركيب) أيام صفاء ولت واختطفتها تصاريف الحياة ...نستعيدها في حضور الطيب .. في حضوره البهي المشع وفي غياب الأغراب يحلو مجلسنا ..نمارس كل ألوان الطيش والنزق ..كل ما نخفيه عن الآخرين، الأقربين منهم والأبعدين، نمارسه أمام الطيب الذي يبدو سعيدا وأنا والصديق نتعارك أمامه ...نمارس "الجهالة" المقصودة لذاتها...كان يستهوينا أن نستدرجه لبعض ما يكره وكل ما نهوى ونحب ... في ظل تقدم العمر وانحسار هوامش الفرح وتباعد ايقاعها وتعدد منغصاتها كان وجود الطيب يوسع لنا ضيق الصدور ويرفع لنا ما كان متدنيا من أحوال النفس ...يحاول ان يكون جادا ...لا يتركه صديق ...الطيب كان يحب صديق حبا قل أن تجد له مثيلا ...يعجبه فيه ذلك الذكاء الفطري وروح الفكاهة الأصيلة والكرم ..يعجبه فيه تلك الخلطة الربانية العجيبة...خلطة تجمع بين شجاعة حد التهور ودمعة طرف العين ...تجمع بين فصاحة اللسان والإبانة الكاملة باللغتين من جهة وبين قدرة مهولة وكامنة على إدعاء التهجي وعلى الرطين باللهجات وتقمص سمات "البوامة" ...خلطة تجمع بين السترة الأفرنجية الكاملة والعمامة "صقير قيل" و"خوسة" الضراع...كل ذلك يعجبه في العمدة ود العمدة ولكن مبلغ حبه لصديق أنه مثل الطيب حكاء من طراز فريد ..صديق حكاء من طبقة "حاج الصديق وزن عشرة" الذي سنعرض له قبل ختام كلمتنا هذه وتلك طبقة مستحيلة ....مجلس الحكي الذي يتناوبه و"يتشالبه" صديق كدودة والطيب والفكي عبد الرحمن ومحمد عبد الله الريح وعبد الحليم شنان لا يشتهي جليسه وزائره بعده إلا الشهادة والموت!.

    حين أحس اللواء عبد الوهاب الجعلي بأن الطيب قد مل جهالتنا ######فنا المتواتر انهي السجال بالعسكرية القديمة:"خلاص ياخي أمنع الكلام" فامتثلنا للأمر ...قال الطيب مخاطبا عبد الوهاب :"يا أمباشي قوم أنت امش أهلك وبالمرة سوق أخوك دا معاك أصلو وكت يلقى صديق طبعوا الخربان خلقة قاعد يزيد خراب" ..التفت إلى صديق قائلا:" قوم انت يا أفندي وديني البيت"...وانا اغادر منزل صديق ظهر تلك الجمعة تملكني تماما شعور قوي كريه بأنني ربما أكون قد رأيت "اخوي" الطيب للمرة الأخيرة.

    يوم وفاته هاتفتني أبنتي ستي نور من السودان ...أدركت من صوتها أن هناك أمرا جللاً...كانت ككل أهل بيتي وبيوت أبناء وبنات حاج أحمد أبي نعتبر الطيب واحد منا ...قالت بحزن حقيقي وصوت باكي وحشرجة بائنة "البركة في الجميع يا بوي عمي الطيب محمد الطيب مات"....لم تزد ولم أطلب الأستزادة ...ترددت ولم أقل لها نعم كنت أحس واتسمع نعيب غراب البين مذ رأيته في الصيف الماضي في منزل صديق كدودة ...وأنا أضع الهاتف تلك العصرية الباهتة اللون الماسخة الطعم تذكرت الماغوط حين أنشب السرطان أنيابه وأظافره في جسد سنية صالح زوجته والتي كانت بالنسبة له أما واختا وأبنة ...خطر لي الماغوط وهو يكتب بيد راعشة "سياف الزهور: مقطع من موت واحتضار سنية صالح":
    "يا رب
    في ليلة القدر هذه،
    وأمام قباب الجوامع والكنائس،
    اللامعة والمنتفخة كالحروق الجلدية..
    أساعد الينابيع في جريانها
    والحمائم المشردة في بناء أبراجها
    وأضلل العقارب والأفاعي
    عن أرجل العمال والفلاحين الحفاة
    ولكن.. أبق لي على هذه المرأة الحطام
    ونحن أطفالها القُصَّر الفقراء"

    رحل الطيب وبقينا نحن أطفاله القصر الفقراء
    رحل الطيب ولا تزال كهولتنا تنادي على توق مستحيل لأيام سعادة كان من الممكن إعادة استنساخها في حضور الطيب
    رحل الطيب فهرولت متولية ساعات الصفاء و"الخوة" أمام أيام زحف آليات السوق وحاسبات الربح والخسارة التي جاءت بكامل منسجها ونولها لتغزل علاقات البشر
    رحل الطيب فجفت أقلام الحديث الذكي ورفعت صحائف الكلم الشجي الخلي الذي يخضر القلوب ويرهف الإحساس فيمنع عنه جلافة الخلق ويدرأ عنا شر فساد الطبع
    رحل الطيب فاحتلت أرواحنا جيوش البلادة والسأم وهي تنتشر كما جدري الشمومة متسربة في خياشيم الأيام ورئة المجالس
    رحل الطيب فعم الحزن ديارنا وازددنا كبرا على كبر وعجزا على عجز

    رحل الطيب بعد رحلة إبداع عظيمة وبعد معاناة طويلة مع العلل ...لعل جمال بخيت كان يعنيه وهو يحكي عن السفر الطويل:

    "سفرنا طويل ....وضاع الصبر والتساهيل
    وتيار الأماني ضاع
    لا دا مركب ولا دا شراع
    ولا معنى لأي دموع
    ولا معنى لاي وداع
    دفعنا العمر في الرحلة
    وهيه رحيل
    سفرنا خلاص ما عادش طويل"
    (جمال بخيت: سفرنا طويل : ديوان شباك النبي على باب الله)

    صيوان العزاء:
    الفاتحة:
    فاطمة ذو النون
    الأقمار البنيات الثماني
    أنساب الطيب وأصهاره وأهله وعشيرته

    الفاتحة:

    للاحياء:
    عبد الوهاب الجعلي
    صديق على كدودة
    محمد عبد الله الريح
    صالح محمد صالح
    أمين عبد المجيد
    أحمد حسن الجاك
    صلاح أحمد إدريس
    محمد المهدي بشرى
    محمد طه القدال
    عبد المحمود محمد عبد الرحمن
    حسن أبو عائشة
    مهدي شيخ إدريس
    محجوب يحي الكوارتي
    المهلب علي مالك
    عبد الرحيم عبد الحليم

    البقية في حياتكم وربنا "يجبر الكسر" و يصبر الجميع ولكن ...حرم "فرقة الطيب ما بتنسد"

    لأرواح:
    الفكي عبد الرحمن
    عبد الحليم شنان
    محمود دبلوك
    نفيسة بت أحمد الجعلي شقيقتي

    ها قد جاءتكم روح الطيب ...جاءتكم منشدة حائية السهروردي:
    أبدا تــحن إليكم الأرواح ووصالكم ريحانها والراح
    وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم والــى لذيذ لقائكم ترتاح

    ها قد جاءتكم فلعلها تجدكم ،باذنه تعالي، في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ..اللهم آمين.

    أب كريق التراث ودود وعر الفلكلور :المتاوقة من نوافذ قطار كريمة:

    عام 1977 تعرفت عليه ...في محطة السكة الحديد بالخرطوم في طريقي لعطبرة ...ذلك الزمان كان لا يزال للسكة حديد شيء من عافية مستمدة من عافية البلد النسبية العامة ..كان لها مكتب كنترول وحجز ودرجة أولى ونوم ... في انتظار المغادرة جاءني عبد الوهاب أخي بيده اليسرى التذكرة والحجز وبيده اليمنى الطيب محمد الطيب في طريقه للدامر..."عثمان ربنا اكرمك بالطيب ودي ما بتتلقى بالساهل".

    سلام حباب...وأصطنعنا جهوزية السفر ...الصحف والمجلات ...فمكتبة محطة السكة الحديد بالخرطوم كغيرها من موانيء التسفار ونقاط تقاطع المواصلات كانت حافلة بألوان الثقافة المحلية والعربية والاجنبية...وما كنت احتاجها والطيب رفيق السفر ولكنها غفلة الأفندية.

    وقفنا في أنتظار قطار كريمة...بعد لأي هلت بشائره والناس يتدافعون ...خرج من الورشة للمحطة متهاديا وكأنه يسير على أيقاع "دليب" خافت ..تجاوز خط المناورة ملتمسا الخط الرئيس...بدأ في التهاديء مبطئا وكأنه ساقية تتوقف قواديسها تدريجيا لرهق "الأرقوق" وقد "ساق فجراوي" ...توقف القطار بعد أن اهتزت جوانبه ....دخل الناس ودخلت الحقائب و"المقاطف" ...رويدا رويدا هدأ المكان ...أخذ قطار كريمة نفسا طويلا ...تنحنح ...شهيق وزفير ..أطلق صافرتين طويلتين ومن ثم على بركة الله مجراها ومرساها...الناس يرتبون أوضاعهم داخل القمرات ...يحاولون ما استطاعوا تأمين أكبر حيز لهم في القمرات...يبدأون الرحلة بالشجار..."يا خوانا عندنا مرة كبيرة وعيانة خلوها معاكم"..."والله الفجة دي حاجزنها لي جماعة أهلنا ماشين يركبوا من بحري"..."طيب خلوها معاكم لا من نصل بحري"..."المرأة الكبيرة تدعي المرض ويحسب من رآها أنها لن تصل بحري ناهيك عن كريمة...حين أحست بأن لا جدوى من الأستعطاف طرحت ثوب التمسكن وأدعاء المرض جانبا وأسفرت عن شلوخ "لا وراء" وعن نفس حار "لا قدام" :"نان اول أنتو القطر دا اشتريتوهو ولا ياكن متلنا راكبين بالأجرة؟"..."باركوها يا جماعة ..باركوها يا جماعة""..قبل أن يصل القطار محطة بحري كان رفاق السفر قد تآلفوا وبدأوا طقوس التعارف السوداني..."انتو من ناس وين؟".."تعرفوا ناس عبيد الله ود أحميدي؟"..."يا سلام أكان كدي نحن أهل ...أها عبيد الله يبقى للحاجي دي ود عمها لزم".

    محطة بحري وناس بحري والختم ....دق دق دق ... كان أسمها الحلفاية ...وبعدين يا خي شغل بحري وقبلي دا ما حقنا .. القبلي عندنا في السما ما في الواطة قاعدين نقول "القبلي شايل" ...في الواطة نحن ناس سافل وصعيد ..بحري يعنى شمال دي أظنها بت ريف .. ضحك الطيب وهو يقول ما شفت في "المسلسلة" المصرية يقول ليك "شقة بحرية ترد الروح ترمح فيها الخيل ..فيها تلات مطارح وعفشة مية"...دق دق دق ..بحري والحلفاية وود ضيف الله ...الختم ود سيدي عثمان ..وقفنا عند ود ضيف الله واسترسلنا في الحديث عن بحري والمراغنة.
    ما بين محطة الخرطوم بحري ومحطة الكدرو تحدثنا عن أهرامات المدينة ..سيدي علي وتجاني الماحي ونصر الدين السيد وسليمان فارس "السد العالي" وخضر بشير وعبد المعين وعوض شمبات ومحجوب محمد صالح وبابكر عباس والجاك عجب ...مدينة ورموز...كان محور حديثنا هرم بحري الأول الختم ود سيدي عثمان برمكي أشراف مكة ..أستاذ الطريقة الختمية سيدى على الميرغنى .. ظل رابضاً في أعالي المدينة شامخاً كأسد طيبة بعرينه بحلة خوجلى يطل على المدينة من عل من بين ضريح السيد المحجوب وبيان الحسن أب جلابية .. أدار الحركة السياسية الوطنية من بين طيات الثقافتين العربية والافرنجية ومن خلال ترديد:
    "صلوا علي صلوا علي بحر الصفا المصطفى"
    صلوا عليه وآله أهل الوفاء
    عصريات الجمعة في مدينة بحري كانت مسرحا عظيما لإنشاد متواصل لخلفاء السادة المراغنة ..."السفينة" بموجها المتلاطم من المحبين تصدح ب "صلوا على" ...الأنشاد الكورالي في هذا القصيد النبوي يبلغ شأوا إعجازيا ...ينسرب صوت المقدمين ليستلم مصاريع الأبيات من الكوارل دون فواصل للأقفال فيبدو القصيد عملا ملحميا من الطراز الأول.

    الخلفاء يرددون وينغمون "عليك صلاة الله يا خير من سرى" وقد توشحوا ترانيم "الهاء البهية والنون نصف دائرة الأكوان" .. حين كان أهل المغرب يوارون ملكهم الحسن الثاني مثواه الاخير كانوا ينشدون عليك "صلاة الله يا خير من سرى"...الأبيات لسيدي الأمام الأكبر محي الدين بن عربي ...شطرها للختمية سيدي محمد سرالختم الميرغني وشطرها لأهل المغرب مشايخ التيجانية خلفاء سيدي أبو العباس أحمد التيجاني ...وتبقى في الحالين على ذات اللحن والأيقاع ... "عليك صلاة الله يا خير من سرى" إحدى درر القصيد النبوي العابر للقارات والجامع لحب المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام... نعود لبحري والخلفاء ينغمون "عليك صلاة الله " وقد توشحوا بأسرار الحروف وقد عبق البخور وسرت قشعريرة الوجد الصوفى المتسرب من نفحات مقام "ستي مريم" في سنكات وضريح "الحربية" فى أعالى كرن وأغوردات .. مولانا الحسيب النسيب السيد على الميرغنى لم يكن رجل دين ومن أقطاب الصوفية فقط ،وكذلك لم يكن سياسياً مرموقاً حصيفاً فقط، ولم يكن محسناً منفقاً فقط .. ولكنه كان كل ذلك واكثر .. على الميرغني كان في شخصه وأهابه الفردي وبعيداً عن أطر الطريقة الصوفية والحزب السياسي رجلاً مؤسسة .. حول ضرايح أسلافه خططت المدينة شوارعها وحددت "ميسها" .. فى اتجاه الضرايح أديرت "مايكرفونات " المديح المطنب وفى اتجاهها أيضاً أديرت "مايكرفونات " الهجاء المسهب .. وفى الحالتين صارت الخرطوم بحرى "أم الدوائر" الإنتخابية وبيت قصيد السياسة وصنعاء الرأى والمشورة .. لوجود على الميرغنى كان حى "الختمية" وبسببه قام حى "الميرغنية"...دق دق دق .. و"نظرة يا أبو هاشم"....وانا أتحدث عن بحري كان الطيب يتحسس مطمورته الفلكلورية..هذا رجل يجيد الإنصات بذات قدرته الفذة على الحديث...مداخلاته عن رموز بحري أضاءت لي ما اعتم واستشكل في ذاكرتي عن مدينتي.

    رحلة القطار طويلة بحساب الزمن والمحطات ...قصيرة بحسبان قيمة رفيق السفر وفوائد التسفار معه.. ..خرجنا من بحري الختم إلى الكدرو ومن ثم شرع صاحبي في الإفاضة ....كتاب الطبقات...لجهلي وجهالتي لم أتركه يتبحر ..كنت قد اقتنيت نسخة الكتاب التي حققها العالم الكبير يوسف فضل...ووقعت في أخطاء الأفندية الأبجدية ...كعادتهم حين يلمون بطرف خبر بدأت الحديث ...كان يستمع طويلا ثم يسأل أسئلة قصيرة رصاصية ثم يعاود الأستماع ...كان "كمينا" لم أتبينه أول الأمر...لم أكن أدري أنه يتربص بقدراتي ومعارفي ....غريبة نحن ناشئة الأفندية نتكلم كلنا في آن ..لعله النفس القصير ...الأفندية "يتشايلون" الكلام ويرقعونه كل من الجزئية التي يعرف ....هذا الذي أنا في حضرته رجل مكير ...ظل ينظر إلى وأنا كمن رمى به بعير ود شوراني للأرض اتحدث ولا أتوقف .. لم يكن حديثا ..شيء من "هضربة"...دق دق دق .. بعد سنوات طويلة علمت أن الرجل كان يرمي شراكه لأم قيردون الحاجة:
    أم قيردون يا الحاجة
    بت الملوك يا الحاجة
    ترعى وتلوك يا الحاجة
    في الهمبروك يا الحاجة

    "القينقرد يا الحاجة" ..."بحرك شرد يا الحاجة" ...الحيلة عند العرب وما تعلمته من دهاء "مسرة بت الشيخ" ودبارة "زينب بت بشارة" "حبوباتي" اللتان اشرفتا على تنشئة ود المرحومة كفتني شر مقطع الأقفال "دودك ورد يا الحاجة"... الدهاء والدبارة شفعتا لي فحمدت الله على ما أنعم به علي من "حبوبات" نجيضات مستفيدا من تجاريب الفكي عبد الرحمن مع أم قيردون وعلى تسهيل نجاتي من شرك الطيب محمد الطيب..كررت الحمد والشكر إذ القطار يصرخ لاهثا طالبا الماء لجوفه ونحن على مشارف الشيخ الكباشي.

    من بحري الختمية لقبة الكباشي القادرية ...الشيخ العارف بالله إبراهيم الكباشي "خصيم السم"......إرزام الطبول واللغة السيريانية ذات الأسرار الربانية:
    "سككن ساكت
    قلب قادوسو
    جرارقو اتحاكت
    كباشينا
    تهت في لجة
    "كافو" دار الكون ما فضل فجة
    من وساع جاهو"

    الكباشي وود نفيسة...ود نفيسة وعبد الله الشيخ البشير .. عبد الله الشيخ البشير والطيب...الطيب يتوهج مترنما:
    "جيت فوق جبلو
    ما بقيت قبلو
    الكباشي القيدو في شبلو
    شوفو من النور كيف لبس حللو
    يسقي سر الله
    من بطن قللو"

    مدد يا الكباشي ..مدد يا ود نفيسة ...مدد يا عبدالله الشيخ البشير ...مدد يا الطيب .."يا فندي شوف جنس النضمي دا.."يسقي سر الله من بطن قللو"..يرددها الطيب بترنيم وتوقيع صوفي خالص..خاصية عرفتها فيه فيما بعد ..حين يعجبه الكلام يردده لنفسه ولمستمعيه..حدثني الطيب عن الطريقة القادرية وعن سيدي الباز الأشهب قطب بغداد وسلطان الأولياء عبد القادر الجيلاني ..."ساكن بغداد في كل بلد سوالو اولاد" ...حدثني عن الكباشي "القيدو في شبلو"...حديث ممتع منكه بلوامع القصص وزبدة الكرامات....أخذنا الحديث فإذا زاملة الحديد على مشارف الجيلي.

    عند الجيلي كان زادي المعرفي قد نضب أو كاد ..عرفت خطأي ..أخطأت في اختيار الموضوع والمحاور...والقطار يتأهب لدخول محطة الجيلي علمت يقينا أن الثعلب قد أوقعني في فخه المنصوب بحذق ودراية إعرابي "مدردح" يمشي في الصحاري ومضارب الصي مستعينا بالنجوم..."أدي العنقريب قفاك وخلي بنات نعش في المسيمع وأبرى العرجا"... دق دق دق .. محطة الجيلي والليمون والجوافة وقصة كتاب "الإنداية" ... كنت من ولعي به قد حفظت مقاطع كاملة منه ...قلت أصحح ما وقعت فيه من أخطاء وسوء أدب في حضرة الأستاذ ..حدثته عن أعجابي بوصف الكتاب لمائدة القمار عند عرب البطانة:

    "جيتك".."حبابك"..."أنزل ".."نزلت"...الصاقعة ..حرم طقاه...الكرسابة...
    "تاني جيتك"..جنيهين..
    جمل جمل ..جيتك..حبابك..تف ..تستاهل يا ابو التاية علا جملي حرم ما بسوقو راجل.
    أبو التاية: علي الطلاق أسوقو في عين الجعيص ..دا قمار ما لعب.
    كرار : قت لك ما بتسوقو ..كضاب كان راجل أمش عليهو .
    أبو التاية:كب أنا أخو أم عارض
    كرار : وين يا ود الك....
    أبو التاية: تمها حرم أسع أدلي أيدك بالسيف.
    كرار : ود ال######.
    كاع طاخ طراخ أمسك الزول .. أنتل منو الخوسة ..فك العصا..الحق..خرت الخوسة..يا سلام الراجل اتعوق..الحقة يا أخوانا.. جيب الصعوط سد الدم..كتر الصعوط الدم دا كتر.. المصلي على النبي كلو يمرق حقتو ..جاي."

    لطلب العفو لم أكتفي ب"تسميع" القطعة عن ظهر قلب بل زدت عليها بأن جعلت منها فاصلا مسرحيا ساعدني فيه أنها أصلا صورة حية نابضة بالحركة لا تحتاج لشيء من فنون الإخراج .."أنا أخو أم عارض" كلمة خطيرة وبليغة دونها الدم و"الخوسة"... ضحك الطيب طويلا فحمدت ربي على أن "البرطلة" قد شفعت لي وتأكد لي أن مكر الأفندية غالب بأذن الله...الامتحان العسير ومكر الأستاذ ومكر الأفندية كان من الدروس التي علمني أياها الطيب ...كلما أوشكت أن أفتي في موضوع لم استعمره بالكامل رجعت لي صورة الطيب بقطار كريمة عام 1977 والقطار ينهد ما بين الكباشي والجيلي فأحمد الله مختارا ذهب السكوت.

    الجيلي والزبير باشا ود رحمة الجميعابي وجزيرة واوسي وأهلها المحس أولاد الشيخ إدريس ود الأرباب ...الطموحات التي لم تعرف حدودا ...بحر الغزال والنور عنقرة فارس الخلا ...تكمة بن زنقابور سلطان النيام نيام ونسيبه..بت مسيمس وأبو شوره شعرائه...مصر والخديوي وحرب القرم بين روسيا وتركيا ... سليمان الزبير وإدريس أبتر وغردون الصيني ...الثورة المهدية ونفي الزبير إلى جبل طارق..معركة توشكي وإنكسار جيش ود النجومي..رواية الطيب لسيرة الزبير باشا ود رحمة التي سمعتها في قطار كريمة ونحن نغادر محطة الجيلي قرأتها مكتوبة فيما بعد عندما عربها واعدها السفير خليفة عباس العبيد من نص المقابلة الصحفية للبريطانية فلورا شو ويحمد للدكتور حيدر إبراهيم نشر هذا العمل الكبير والهام.

    دق دق دق ...جبل جاري (قري) و"حلال المشبوك في الشيخ فرح ود تكتوك" وحكاية .... دق دق دق ..."أنت يا جنا بتحضر في شنو؟" ...بحضر في إدارة الاعمال ...الأنظمة الإدارية وكلام في البيروقراطية ...يا خي البيروقراطية دي راقدة عند أهلنا ...المرة متمسحة (أي راقدة كالتمساح) راقدة والجدادة جنبها ما بتنهرها ...المرة تقعد تكورك ...تعالي يا بت ..تعالي يا بت ...تعالي يا بت قولي للجدادة دي كر".."الجدادة وكر" يا رحمة الله ما سمع بها شيخنا ماكس فيبر ولا عالجها "الأسطوات الكبار" ميرتون وسيلزنيك وقولندر ومن تبعهم بإحسان وبغير إحسان ..."الجدادة وكر" فاتت على عباقرة التنظيم الاجتماعي ...كتابات تالكوت بارسونز الملغزة المستفزة الملغومة واجتهادات اليهودي الشاطر إمتاي اتزيوني وسي رايت ميلز .. مساكين فاتتهم السانحة ولم يمتطوا قطار كريمة مع الطيب محمد الطيب ...."الجدادة وكر" وتنظيم العمل والتخصص الوظيفي و"الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية" الكتاب العمدة لفيبر...كلام كبار سهرنا لحفظه وأزعجنا بشأنه الأنجليزي المؤدب ابن الناس صديقي فرانك بلاكلر واستاذي الاستعماري العتيد البروفيسور دنيس جابمان...جابمان كان من غلاة المحافظين متيما بإنجلترا القديمة محبا لونستون تشرشل آخر العتاة الجبارين ...تشرشل كان ضابطا صغيرا في جند الفريق هربرت كتشنر في "كتلة" كرري ...أسمى كتابه "معركة النهر"...حصد المكسيم الآلاف من جيش المهدي والأمير المقدام إبراهيم الخليل يصيح بمن بقي من المحاربين المجاهدين "سدو الفرقة ..سدو الفرقة"... تشيرشل قال عن جيش المهدية أنه أنكسر تحت قضبان القطار ...ويقول سيدي عبد الله الطيب المجذوب :" كان مجذوب بن أبي بكر مجاهدا حين التقت "خيل اللات بخيل الله" ذاك وصفه حين التقت خيل كتشنر برجال عثمان دقنة :
    قلبي مشتاق مشتاق للإمام مهدي الله طبي القاسما

    محطة الرويان ...وتتواصل حكايات المهدية ...وفجأة تعطس زاملة الحديد ...تش تش تش ...سيك ..سيك سيك...توقف الراوي عن الحديث الممتع متسائلا: القطر دا مالو؟ ..يتاوق من نافذة القطار ...المحطة قالوا فيها مناورة ..اكسبريس حلفا داخل ....أنزل يا جنا نشوف لينا شاي ... دق دق دق ... قلت كيف عن تشرشل؟ ..أيوه المهدية الجديدة ... الإمام عبد الرحمن وعكير الدامر...هنا جن صاحبي الذي كان وقورا ...وقف بعد أن كان جالسا:
    عهدنا معاك كنداب حربة ما بتشلخ
    وصرة عين جبل بي صاقعة ما بتفلخ
    كان إيدينا فيك من المسك تتملخ
    السما يتكي وجلد النمل يتسلخ

    الله أكبر ولله الحمد ...الله أكبر ولله الحمد ..."اخدلو هوشة "..."عمي بعشوم أعرض غادي"....أثبت بابكر بدري في "حياتي" رسالة ود النجومي الباهية البهية لجرانفيل باشا وهو يحاول أغرائه واستمالته بأن يوغر صدره عقب عزل الخليفة له وتعيين يونس الدكيم مكانه ...لم تنطلي الحيلة على الأمير المجاهد فأملى على كاتبه رسالته البليغة الدالة الشافية:" انا بايعت المهدي وخليفته على الجهاد وسأستمر مجاهدا فإن قتلناكم نجد عندكم ما حكيت لنا في كتابك وإن قتلتمونا لا تجدوا عندنا إلا جبة متروزة وحربة مركوزة".... "جبة متروزة وحربة مركوزة" ...الله أكبر ولله الحمد ويعرض الطيب في القطار ...في "من نافذة القطار" (الذي استعير اسلوبه في العرض) قال عبد الله الطيب عن الأنصاري الأشوس العوض ود عبد العال :"كان يجلس في مجلس الفقيه عبد الله في طرف ...ملتزما سمت التلميذ من الأدب على سنه المتقدمة، كان ضئيل الجسم صليبا عيناه تشعان بتحفز ينبيء عن حقيقة معدنه وفي يده "فرار" كان يقاتل به أيام كان مع الانصار ولم يفارقه حتى بعد "كسر القبة وقلب الجبة".

    محطة الميجا والطيب يسترجع حديث بابكر بدري وعبد الله الطيب ولكنه يصر على أخد "السندة" عند عكير ...يردد "السما يتكي وجلد النمل يتسلخ"....حين أعاد إنشادها أحسست بأن رفيقي صاحب بيعة حقيقية ...رددها مرارا وبأنفعال أنصاري صميم ..هاش هوشة انصاري بايع في قدير وحاصر هيكس في شيكان وشارك في بناء الطابية المقابلة النيل...فيما بعد علمت محبة الطيب لعكير يجمعهما العهد المهدوي ومسقط الراس في دامر المجذوب... على متن قمرة بديعة في قطار كريمة وما بين محطتي الميجا وحوش بانقا أدخلني الطيب محمد الطيب مدرسة عكير الشعرية وعالمه الشخصي المتعدد الألوان ... الطيب يحفظ شعر وحكايات عكير بحب ووله...لعكير من الشعر أطياف ومن اللغة أفواف وله في الناس معارف وبالدنيا عرف...عندما أحب جاءت كلماته جزلة مغايرة شديدة الطرب:
    يا مولاي بشكيلك شقاي وغلبي
    حظي الديمة من ند الأنيس قافلبي"
    في كل شعرنا الغنائي،قديما وحديثا، لم أجد وصفا يبلغ الإعجاز كأبيات عكير:

    أخدر ليهو ضُل فوقو المحاسن شرّن
    وأفلج فاطرو زي برق السواري إتكرّن
    إتقسّم مقاطِع في المشي وإتحرّن
    زي فرخ القطا الأماتو ركّن وفرّن

    في وصف الطبيعة قال عكير فحفظ الطيب وأنشد وقطار كريمة الشايقي يتسمع طربا:
    الحُقَن إتملن والدابي جاتو فضيحتو
    ومو خاتي إن مرق ضاقت عليهو فسيحتو
    إندشَّ السرح وكرفت هواهو منيحتو
    والمحريب شَهَقْ فتّح قزايز ريحتو

    وفي الحكمة أنشد عكير فأشجاني الطيب بأبياته :
    بيت المحل إن طار....يرك فوق محلو
    ودساس العرق ......نسل المراح من فحلو
    يسوي الزين معاك ......عسلن مدور نحلو
    ويجبرو علي الفسل سالف جدودو الرحلو


    ما بين الميجا وحوش ود بانقا أصلحنا مجلسنا فجلست كما العوض ود عبد العال في مجلس الفقيه عبد الله...تركت المسرح للطيب وسياحة عظيمة في ما أنتج: "تاريخ قبيلة المناصير"، "تاريخ قبيلة البطاحين"،"حياة الحمران من آدابهم"، "حلال المشبوك في الشيخ فرح ود تكتوك"...المحاورات معه لا تنتهي وقصصه لا تمل ...العبقرية في إدغام الجغرافيا بالتاريخ إذ السودان الشمالي أمامنا كتاب مفتوح وقطار كريمة يتهادي ...وكلما أوغل في السير أمعن صاحبي في محاضرته ...يعاود الرجوع لعكير والأمام عبد الرحمن:
    فيك طبع الأسد صالحت او حاربت
    وفيك طبع البرامكة بعدت او قربت
    فيك طبع الملوك شرقت او غربت
    وفيك طبع الحكيم لقمان حلل وربطت

    دق دق دق ....القطار يتهادى على وقع حديث الطيب وأقاصيصه التي لا تنتهي ولا تمل ...قدرته على الحكي وتقمص الشخصيات موهبة ربانية لا تهبها المدارس ولا مناهج التعليم ...شيء رباني ...دق دق دق...برنامج صور شعبية وفكرته ..عبد الوهاب موسى والطيب محمد الطيب ودق دق دق ..حين أسترجع إضافات صور شعبية في إطار جهود بناء ثقافة التنوع تعود بي الذاكرة لقطار كريمة ومحطات ما قبل شندي ... تلك المحطات وما تعلمته من شيخي الطيب ظلت في ذاكراتي وسيظل ...كانت هي أساس المادة التي اشتغلت عليها وانا أكتب عن الطيب بعنوان "التراث رجلا: الطيب محمد الطيب والتركيبة السودانية : ما قبل ود ضيف الله وما بعد حنان بلو بلو" والتي تضمنها عملنا "رحيل النوار خلسة"..واستأذن القاريء الكريم في أن استعيد بعض ما أشرت إليه هناك وأن اعمل فيه ما يتناسب من تبديل وتعديل ....الطيب محمد الطيب ..انطق الاسم يأتيك التراث "دخاخين دخاخين" ..الطيب محمد الطيب ..قل الاسم تتراءى لك مقدمة برنامج "صور شعبية" : صبي الشرق ملاعب السيف، "الحكامة" تشدو ب "الكان داكا ..سيدي سيد الأراكا" معددة مناقب سيدي الخليفة حسب الرسول ود بدر..عريس وعروس بكامل الرونق والبهاء ..جدلة وحريرة وتوب سرتي وحناء ..قرمصيص ونخل وفأل حسن، صبيان الخلوة بألواحهم والشرافة، جماعة حمد النيل يرزم طبلهم وقد استبد الوجد بمقدمهم الذي يدور حول نفسه بتوازن وثبات هو خليط من حرفية راقصي "البولشوى" ومهارات لاعبي السيرك الصيني ..الطيب محمد الطيب قلها واستشرف تراث أمة...صور شعبية كان دليلا راسخا على "التجانس العملى" لأهل السودان واحد المشروعات الثقافية الرائدة على صعيد ترسيخ مفاهيم التراضي والقبول الأثني كمدخل أساسي لبناء الأمة السودانية متعددة الثقافات.

    قطار كريمة وحوش ود بانقا وبرنامج "صور شعبية" الذي قدمه الطيب طوال ثلاثين عاما وبمهنية واحترافية عالية ..."صور شعبية: برنامج عالمي تتشرف به التلفزيونات ذات الحسب والنسب والأرومة ..يحسب للطيب وللبرنامج أنه كان من الرواد في اقتحام هذا العالم على المستويين العربي والأفريقي...لو قدر لصور شعبية أن يعرض في تلفاز محترم من طبقة "البي بي سي" و"سيفليزاشين" لنال أرفع الجوائز ولزار منتديات ومزارات الإعلام والأفلام الوثائقية بل لعل الملكة اليزابيث الثانية كانت أنعمت على الطيب بوسام الإمبراطورية بدرجة فارس ..أو من يدرى، علها كانت ستنعم عليه بلقب "سير" ..برنامج "صور شعبية" ومدلولاته لم يتبينها أهل "ساس يسوس" وتلك فاجعة ..الطيب نقل السودان من منطقة لأخرى فأزال العجب والاستغراب وساهم في خلق الوعي "بالأمة السودانية" ..لم يترك الطيب أمراً محيراً ذا خصوصية إلا وحل عقدته فأضحى على يديه شأناً عاماً...لو لم يقدم الطيب للشعب السوداني إلا صوره الشعبية لكان ذلك وحده انجازاً يدخله زمرة أهل الفضل ولكان كافيا ليتبوأ الطيب مقعدا متقدما في نادي "جديرون بالاحترام".

    محطة حوش ود بانقا...كرامات وقصص وروايات ودق ..دق ..دق ..يبتسم الطيب ورفيقه يهيل الثناء على مجهوداته ومثابرته وجلده ... قطار كريمة يترنم بإضافات الطيب والمحطات تترى والقطر الشايقي يترنم بغناء التومة بت محمود وفاطني بت همت :
    جاب لي توب أسمو الحمام طار
    وجاب لي فركي دموع التجار
    وجاب لي كركب في البيت غيار

    إكراما للقوز ابتدعت السكة الحديد نظام "السندات" ...عند سندة القوز شرع صاحبي في الإفاضة عن الشايقية الذين جاوروا الجعليين واحتلوا بعض مناطقهم ... أول دروسي في الأثنوغرافيا على المسنوى الذاتي التطبيقي كانت على يد الطيب محمد الطيب وهو يسألني لماذا محمد عثمان الجعلي شايقي؟ ... تحول من الذاتي للعام وهو يحكي بمعرفة ودراية تامة هجرة الشايقية القسرية بأمر "الترك" لأرض الجعليين وجنوبها حتى مشارف الخرطوم بحري والحلفاية ...على يديه فهمت مسببات وجود الحوشاب والعونية والسوراب في غير مناطق الشايقية التقليدية ...الكثير مما رواه الطيب لي في قطار كريمة عام 1977 عن هجرة الشايقية وإعادة توطينهم في البسابير وحجر العسل ونسرى وود حامد وحجر الطير وود الحبشي فسره لي فيما بعد العمدة الفخيم محمد العوض ود بليلو غشت قبره شابيب الرحمة والغفران وأنا اجالسه عند ود كدودة وزادني به علما شيخنا ياسين ود زايد حفيد الشيخ الهدي بالكدرو.

    سندة القوز...القوز أكثر أسماء المناطق شيوعا في السودان... من عجب أن بمحافظة القنفذة السعودية منطقة أسمها القوز ...وفي الإمارات وبإمارة دبي تحديداً تشتهر القوز بالمنطقة الصناعية...أعود إلى قطار كريمة ونحن على مشارف سندة القوز... أقول له اسم القوز دون إضافة يتحول لأسم محلي فقط يعرفه أهل المنطقة ولا يتعداهم ولكنه يصير معرفة تامة بالإضافة ... لاهل الخرطوم القوز هو قوز ود دياب...لمناطق شندي القوز هو قوز المطرق قوز العلم حيث العلم القديم ..هناك أيضا قوز رجب وقوز كبرو ..في الشمالية تتكاثر القيزان ..قوز قرافي وقوز ود هندي ...توقف الطيب عند قوز شندي والفجيجة والصالحين من آل صغيرون والسادة الركابية... ومن ثم عرج على قيزان الشايقية ومن ثم الشايقية وتوقف عند غناء الشايقية...قطار كريمة والطيب يسترجع غناء أصول الشايقية من منابته في تنقاسي والقرير والغريبة والكرو والدهسيرة والزومة...لحمة الشايقية تهيمن عليه في مناطق شندي وضواحيها ...للطيب صوت رخيم يغني همسا وبخجل من شعر ست زينب بت الزلال ومستورة بت سعد الله:
    ناس أمي كمان شنو
    آ زول ناس أمي كمان شنو

    في سنوات لاحقة وحين يستبد به الطرب ويقع في أحابيل إغوائنا بالطمسة كان الطيب يردد بصوت جميل خافت مقاطع من غناء الشايقية والمناصير الملغوم:
    أم دقري
    الليلة يا ام دقري تبرشتي
    الليلة يا ام دقري تبرشتي
    وتجيبي حق التموين تجي

    والقطار يهديء من سيره على مشارف شندي بدأت الخص سمات الرجل المهول...المحطة والثالثة ظهرا... مناديل مطرزة في ركنها القصي سهم كيوبيد... ...طاقية حمراء ..طعمية حارة وكتلة المتمة الحارة ....دق دق دق....شندي والمتمة ...إسماعيل باشا والدفتردار والمك نمر...محمود ود أحمد وعبد الله ود سعد ...قلت اقتص من صاحبي الجعلي المهدوي فترفع عن مهاتراتي والزمني حدي ....كان درسا في إمكانية تجيير المحبة الخاصة والمعتقد الخاص لصالح الوطن والامة ...ظل ذلك ديدن الطيب طيلة الأربعة عقود التي عرفته فيها ...سودانيا كامل الأهلية ...سوداني رتب مكوناته واعتقاداته ومعتقداته بتراتبية لا تقدم الفرد على المجموعة ولا المجموعة على الأمة ...المكونات الفردية عنده، ككل حكيم رائد، أوعية دافعة ومغذية لحب الوطن أديما وبشرا وثقافة ..جعليته وأنصاريته صيرتاه سودانيا راقيا مترفعا عن القضايا الجزئية والاهداف الصغرى متجها بكلياته لما هو أبقى وأرسخ وهو السودان الجامع في وحدة التنوع القائمة على التراضي والاحترام المتبادل.
    في عمله المستنير "الحامض من رغوة الغمام" أورد المدقق الموثق كمال الجزولي نص الحوار بين الزاكي طمل وخليفة المهدي كما رواه نعوم شقير.. الزاكي طمل يقول:
    ".. وأمدرمان يا مولاى ليست بلادنا حتى نقف فيها وندافع عنها،فالأولى بنا أن نأخذ رجالنا وأسلحتنا ونرحل إلى كردفان، فإذا لحقنا جيش الحكومة إليها،وهو لا يفعل ذلك إلا بعد استعداد كثير وزمن طويل،هجرناها إلى (شكا) وهى (دارنا)،فإذا جاءنا إليها قاتلناه ودافعنا عن (وطننا) حتى انتصرنا أو متنا"! .....نعم،لم يكن الخليفة مغالياً حين استشاط غضباً على هذا الارتداد الجهير من (السودان) إلى (شكا)،من وسع (الوطن) إلى ضيق (القبيلة)،فأصدر أمره الفورى لمن على يمين الزاكى:
    ـ "شيِّلو ام اضان"!
    أى ألطمه على صفحة وجهه،ففعل. ثم لمن على يساره:
    ـ "وأنت أيضاً"
    ففعل. ثمَّ أمر به،فجرُّوه إلى (الساير) وكبلوه بالحديد،وسيِّدى الخليفة يضرب كفاً بكف مستعجباً:
    ـ "يا سبحان الله،يستقبح عبد الله ود سعد الفرار،ويقاوم جيشاً ضخماً كجيش محمود بثلاثمائة رجل لأجل (حِلة) واحدة،ونحن رجال المهديَّة وأنصارها نجبن عن حرب جيش الكفرة المخذول لأجل (السودان) كله؟! أنا سأحارب حتى أنتصر أو يقتل جيشى كله فأجلس على فروتى عند قبة المهدى وأسلم أمرى إلى الله" .

    بمثل الدروس المستفادة من هكذا حوار استثنائي خرج الطيب من تجاريبه العميقة متجاوزا سخافاتي في إيقاد فتنة بين القبيلة والطائفة فردني وهو يحدثني عن رموز مدينة شندي وتركيبتها السكانية ....للطيب صبر وجلد غريبين وهو يسعى للحصول على المعلومة التراثية وتدقيقها ومن ثم حفظها ..في بحثه الدءوب عن المعلومة التراثية الطيب لم يكن ينتمي إلى جيله ولا إلى الأجيال السابقة القريبة ..ينتمي إلى السلف البعيد الذي كان يضرب أكباد الإبل مسيرة الأسابيع والشهور للحصول على المعلومة المتناهية الصغر أو لتدقيقها ..يلاقى الطيب كل هذا النصب والكبد في زمن لم تتوفر فيها نتائج ثورة المعلومات ولم تكن قد اخترعت فيه محركات البحث الإلكترونية من طبقة "قوقل" والتي تأتيك بالمعلومة قبل أن يرتد طرف الكي بورد.

    رحلة القطار ما بين التراجمة وكبوشية وجبل أم علي والعالياب حتى الدامر كانت اخصب فترات الرحلة المجيدة.,..تنوعت احاديث الطيب ما بين "التراجمة" المعنى و"ترجمة السرياني" "و"التراجمة" القبيلة التي جاءت من تخوم مدينة الرسول يثرب...كبوشية والحضارات القديمة في "البجراوية" والنقعة والمصورات...أصول الغناء السوداني الحديث وريادة كبوشية عبر محمد ود الفكي وعبد الله الماحي.. ود الفكي واختراق الغناء المديني الامدرماني ...عبد الله الماحي وروائع الحقيبة ...عبد الله الماحي يشدو ب " يا أماني وجار بي زماني لو اراكم اصبح سعيد" و"متي مزاري اوفي نزاري واجفو هذا البلد المصيف"...الشعر لمحمد ود الرضي .. ود الرضي والعيلفون وأم ضوا بان والدبيبة... الطيب وود الرضي والجاغريو ومبارك حسن بركات...الجاغريو و"طار قلبي".... الطيب آخي مبارك وأحبه....مبارك آخر سلاطين الغناء... يصهلل مبارك وهو يسرج بالغناء سابحا في بحور شيخه ود الرضي إذ يشدو ب"تيه وإتاكا" و"ليالي الخير" ...يرجع الطيب لكبوشية والتاريخ القديم والمجد الغابر ... دق دق دق ...العالياب وأهل الخلاوي والذكر والمديح ...من المحطة تبدو شامخة مئذنة جامع الدقوناب ووتسمع الأذن المحبة روائع الشيخ أحمد الدقوني وإبنيه طيفور وبابكر في مدح المصطفى ...ينشدون "من مكة ليل عرج" ويثنون ب "الصلاة والسلام على روح سراج الكون".

    والقطار على مشارف الدامر ...بدأت أراجع سيرة الطيب ...في إيجاز بليغ لخص عبد الله علي إبراهيم جهد الطيب محمد الطيب وإبداعاته في عالم التراث والفلكلور بكلمته النيرة الموسومة "الطيب طويل التيلة" فقال: "مثل الطيب لا تهز الحكومات ''إن قصرت وإن طالت'' له قناة. فعطايا الحكومة هي حيلة أصحاب المشروعات قصيرة التيلة. أما مخاطرة الطيب الثقافية فقد كانت من النوع طويل التيلة. ومشروعيتها أصلاً في رد المجتمع الآبق، حكومة ومعارضة وشعبا، عن الحق والعدل والسماحة إلى الجادة بالاستنجاد بحكمة من الماضي وبركته. فهي مما لايؤجل حتى ينقضي أجل الحكومة الظالمة بانتظار الحكومة العادلة. فمشروع الطيب هو باب في التوتر الإبداعي الذي يتمخض عنه المجتمع الجديد. فهو مشروع للنهضة لا للمقاومة ولا يفل حديده حديد. وصاحب مثل هذا المشروع ''مَدعِي مهمة'' أي مصاب بها لا فكاك له منها"..الا إن عبد الله قد أوجز في الكلام فأفاض في المعنى. وللتأكيد فقط نشير إلى إضافات الطيب المتميزة في عمله الكبير "المسيد" والذي زار فيه ما لا يقل عن عشرة دول باحثا ومنقبا ومتعقبا لتاريخ المسيد هذا غير رحلاته التي لم تتوقف داخل السودان لذات الغرض...لقد كان الطيب حقا وصدقا "طويل التيلة".

    عند تأهبه للنزول في محطة الدامر علمت يقينا بأن المولى قد أكرمني بالطيب كما قال أخي ونحن في بداية الرحلة ...كرم المولى غمرنى وانا آنس بالطيب أخا ورفيقا وصديقا وأستاذا لأكثر من عقود ثلاثة من الزمن الجميل ....قبل مغادرته أهداني الطيب زبدة تجربته وخلاصة نتائجه....علمني وسأظل شاكرا له ما حييت أهمية التراث ومركزيته في شتى المعارف الإنسانية ... "ما تبقى على كلام الخواجات وبس ...حرم شغلك دا كلو أساسو عندك هنا...لازم تقرأ وتستوعب تاريخ السودان ..شوف عندك مناشير المهدي ...أمش لي أبو سليم عندو كنوز ...شوف سعادة المستهدي للكردفاني ..أسال عن كاتب الشونة..أقرأ بابكر بدري ..حتى يوسف ميخائيل وسلاطين شوف شغلهم ...شغل الإدارة حقك دا راقد عندنا في البلد ...علم الإنجليز فيهو النجيض أغرف منو وما تاباهو لكن الني للنار"....الني للنار .. الني للنار....أفاض في التذكر والتوجيه وهو يهم بمغادرة القطار أدركت نعمة الله على بأن هيأ لي معرفة الرجل البحر والإنسان الكبير والأستاذ الضليع.

    بهار الإخوانيات: محن الطيب وشخصياته ذات العجب:

    مالك يا الزمن سويتنا في هوله
    لبست الناس تياباً حاشا مي هوله
    من حسسك تبش دماعنا مبهولة
    اللي الله راحت بقت البواجهوله
    (ود الرضي)

    في كلمة شافية له عن المرحوم الطيب كتب الأستاذ كمال الجزولي :" كم كان، فى زمانه، حديد المشاغبة، شديد اللماحيَّة، منتجاً حاذقاً لبهار الاخوانيَّات اللاذع وعطرها النفاذ! "..كم كان كمال مصيبا...توفيت شقيقتي وأمي وسندي نفيسة بت احمد الجعلي .. أقيم العزاء بدارها بمدني ..الدنيا رمضان ...حضر الطيب فيمن حضر...حضر في سيارة واحدة مع صديق كدودة ومحجوب كوارتي ...بعد المغرب هموا بالرجوع ... ونحن نسير معهم إلى حيث سيارة محجوب أخرجوا مساهمتهم في الفراش ...لاحظنا أن هناك صراعاً بين محجوب وصديق.... السبب؟ المبلغ الذي مع الطيب لا يبلغ المائة ألف وهو ما دفعه الآخران...الطيب طلب من محجوب إكمال المبلغ ...صديق هدد محجوباً بأنه إذا أكمل له المبلغ لن يرجع معه ...عندها كنا قد وصلنا السيارة...قال الطيب لعبد الوهاب :"يا امباشي هاك دي ستين ألف الباقي بلحقوا ليكم في فراش الخرطوم وكتين تجو باكر"...رفض عبد الوهاب تجزئة المبلغ وصاح فيه: "يا خي ما بتخجل جاي ملح وفاطر فطور رمضان في صينية ناس الخرطوم وترمستين شاي وترمسة قهوة وحبة سكري وحبتين بندول وداير تدفع مساهمتك في عزاء نفيسة الجعلي بالقسط؟"...بينما زميلاه يضحكان أمسكني من يدي وقال :"أنت يا كا البتفهم.. وانت جيت الليلة من بره وما حضرت عيا المرحومة ...شوف أولا بالتبادي أنا المرحومة دي دافع ليها في مرضا الأخير مية ألف"..صاح فيه عبد الوهاب:"خمسين بس "...رد الطيب بسرعة :"حرم خمسين مرتين"..قال عبد الوهاب:" لا.. الخمسين التانية دي بنات الجعلي حلفن منها"...رد عليه بصوت عالي:"حلفن؟ ...والله يا حكاية حلفن..يا خي حرم لو ما الكريم ستر بنات الجعلي كانن خرتن أصابعي مع القروش"..التفت إلى :" خليك من الأمباشي ...مية للمرحومة في مرضا ودحين ستين يبقن مية وستين ... وانا وجماعتي باكر في فطور رمضان عند الأمباشي"... توقف قليلا ورفع يديه :"الفاتحة يا أولاد حاج أحمد ..حرم بعد نفيسة راسكم أتقطع" ..وركب السيارة....هذا رجل صالح يألف ويؤلف...كان يعرف مدى الحزن الذي يعترينا فعالجه بترياقه ومنتوجه الخاص من بهار الأخوانيات....كان يدرك تماما فداحة فقدنا فأخذنا بعيدا عن دنيا الحزن قريبا من تخوم النسيان والتأسي.

    من أخوانيات الطيب "محكمة صديق" هذه محكمة صورية "موك" ...مقرها منزل الأستاذ صديق كدودة وهو القاضي...الأتهام والدفاع يتناوب تمثيله الطيب محمد الطيب والفكي عبد الرحمن وصالح محمد صالح والفاضل سعيد...يأخذون الامر بالجدية كلها ...المرافعات التي أطلعت عليها تمثل مستوى استثنائيا في الادب الرفيع... طلبت منهم التوثيق فرفضوا ربما لطبيعة "المناوشة" وما قد يكتنفها من استخدامات للغة خاصة عند الهجاء ...كشعر الكتيبة راحت مرافعات محكمة صديق ...أتاني الطيب مرة في دبي وكان مما جلبه مسودة مرافعة يعدها وصالح محمد صالح ضد الفكي عبد الرحمن والفاضل سعيد...قال لي:" همتك معانا يا خي أنا عند رجعتي راجياني محكمة حارة دحين ايدك معانا"...قرأت المسودة فوجدت فيها جهدا بلاغيا كبيرا ....هؤلاء القوم يعيشون يومهم ويتواصلون اجتماعيا ويقضون مهامهم الأدبية العامة ولكنهم يروحون عن نفسهم في نهاية الأسبوع بالطريقة التي يرون انها تسعدهم...حاولت جهدي أن اتحصل على المرافعات ولم أفلح...جربت أن أسرق بعضها ولكن الطيب كان "نجيضا كعادته"...المحكمة تنتهي بالحكم الذي يصدره صديق ولا مجال للأستئناف أو الطعن.

    لمن يعرفون الطيب يعلمون يقينا قدرته على الفكاهة العملية وقدرته على اكتشاف الشخصيات ذات العجب...الطيب قدم للناس العشرات من الشخصيات الغرائبية ولعل أبرزهم عقيد الخيل وحاج الصديق وزن عشرة وعبد الباسط أب سماحتن جوه وود الخبير...كل واحد منهم عالم كامل بذاته وشخصية لها العجب.

    الطيب أخذ عقيد الخيل بعربته ذات صباح...كان عقيد الخيل يطمح في أن يكون فنانا له شأن ...ذهب للطيب محمد الطيب ليقدمه لوسائل الإعلام...عندما ألح على الطيب لم يجد بدلا من أن يأخذه بعربته يوما وبدل أن يتجه به للإذاعة اتجه به لمتحف التاريخ الطبيعي حيث مديره محمد عبد الله الريح الذي كان يقدم برامجا تليفزيونية في مطلع الثمانينات ...أنزله الطيب أمام المتحف وأوصاه:" دخولك التلفزيون في يد ود الريح ...أصلك ما تمرق كان ما قابلته واخدك للتليفزيون ...لو قالوا ليك ما في أصلك ما تمرق ...أنا العلي عملتو والباقي عليك"...أنزله وغادر المكان ....أحب ود الريح عقيد الخيل وعلاقته به عرفها الناس من خلال:
    يا بوليس المدينة
    مدير الفن بقى لى غبينة
    ما عرفتو زول ما عرفتو طينة

    أو من خلال ربابته التي زينها وصدح على انغامها:
    الملكة الختت الأختام
    وعرفت "فلان" ظـلام
    رحم الله عقيد الخيل وأحسن إليه.

    في مجالس الطيب محمد الطيب عرف الناس حاج الصديق أو "وزن عشرة" ..الصديق "وزن عشرة" عليه رحمة الله رجل بجماعة، حصيف، ماكر، ذكى، فكه صاحب دعابة عظيمة ونكات عملية .. "وزن عشرة" مادح ومؤدى وممثل وحكاء بقدر لا يصدق ..قادر على أداء الأدوار الناطقة بصورة إعجازية وقادر في ذات الوقت على أداء التمثيل الصامت "البانتومايم.في كلمته عن الطيب محمد الطيب أشار كمال الجزولي إلى تجربته (والطيب) في حضرة الصديق وزن عشرة ...يقول كمال:
    "وليبدأ العرض فى ليلة لا نظننا ننساها ما حيينا،تكشف فيها حاج الصِدِّيق عن مسرحىٍّ شديد الثقة فى نفسه، والتوقير لفنه. إنطلق يضحكنا ضحكاً كالبكا،وفينا مشايخ ما تنفكُّ أناملهم تداعب حبَّات مسبحاتهم،على أنفسنا وعلى الدنيا من حولنا،ببديع مفارقات يلتقطها،بعين الفيلسوف الناقد وخيال الفنان الخلاق،من شوارع القرية والمدينة،ومن بيوت الأغنياء والفقراء،ومن مناسبات الافراح والاتراح،ومن دقائق تجليَّات مشاعر المزارع حين يحلُّ أجل سداد الديون،بينما تتأخر صرفيات الحوَّاشات،ومن مواسم الحج،بكل ما تزدحم به من سحنات ولغات ولهجات وطائرات وقطارات وبواخر،بل ومن مَشاهِد أسفار قاصدة من مغارب الشمس إلى مشارقها،بأقدام حافية مشققة،وببعض كِسرات خبز مجفف،وبصغار مرتدفين فى ظهور الأمهات. وكان حاج الصِدِّيق يتنقل بين المَشاهِد،فى قمَّة براعته،باقتدار وسلاسة،مُقلداً عويل الريح،وبكاء الرضيع،وثغاء الماعز،وصفارة القطار،وبوق السيارة،وهدير محرِّك الطائرة،وزمجرة مفتش الغيط المحتشد بسلطته،######ط المزارع المغلوب على أمره،وغنج زوجة التاجر القروىِّ الثريِّ تحاول تسريب طلباتها الباذخة إلى حافظة نقوده المنفوخة! كان يفعل ذلك وحده،خلواً إلا من قسمات وجهه المرنة،واختلاجات جسده الناحل،وتوترات أطرافه المعروقة،وأقصى ما يختزن صدره الضامر من إرزام،وحباله الصوتيَّة من صداح. وكنا،من شدَّة تعجُّبنا منه،نكاد نطير إليه،طيراناً،من (صالة) السجادة إلى (خشبة) العنقريب،نعانقه،ونهنئه،وكذا نفعل مع الطيِّب،منتج عرض (الرجل الواحد) البهىِّ ذاك فى مسيد ود الفادنى،فقد مَنحَنا كلاهما،فى ليلتنا تلك،أعلى درجة من درجات الفرح يستطيع إنسان أن يهبها لإنسان".
    الطيب كان راوية عظيماً لقصص و"محن "الصديق وزن عشرة...كان صديقه يأتيه بالأخبار والقصص التي لا تشبه أخبار الناس وقصصهم...كنت أزعج الطيب بطلب قصص وزن عشرة ولكنه لم يكن يمل ترديدها مع قدرة عالية على إضافة هوامش متجددة على المتن الأصلي للرواية والقصة تزيدها حلاوة وطلاوة وأسرا للمتلقي.

    عبد الباسط "أب سماحة جوه" وجه آخر من وجوه إبداع الطيب...كتبت عنه وأنا أتناول سيرة محمد عبد الله الريح في عملنا "الحواشي على متون الإبداع" ...في الحاشية عن ود الريح كتبت:"الطيب محمد الطيب أدخل ود الريح عالم عبد الباسط "أب سماحتن جوه" غشت قبره شآبيب الرحمة والغفران .. كان ذلك في بداية السبعينات .. لم يكن الرجل وسيماً بل كان على عكس من ذلك .. لكنه كان مادحاً عبقرياً .. ينطلق "أب سماحتن جوه" في المديح فيغيب عن الدنيا بالكلية بينما يصيح فيه الطيب محمد الطيب : "قلع .. قلع " أى أخرج الصوت من داخلك .. في حالاته وانفعالاته تلك كان "أب سماحتن جوه" "يقلع" حقيقة .. بل كان يقلع إلى شرفات من الوجد لا تدانيها شرفات .. حينها تبين سماحته ووسامته الداخلية.

    ود الخبير شخصية أخرى لها العجب..حين أتى به الطيب لصور شعبية كان الرجل في الثمانين...عاش المهدية ...طفق يحدث الناس عن أحوال الشايقية عندما اتاهم يونس ود الدكيم حاكما..تحدث عن "الزبلعة" وأساليب الشايقية في التحايل على أوامر "سيدي يونس" خاصة فيما يتصل بالمزاج والكيف... كان يحكي وهو غير قادر على تصور معنى ان يكون ضيفا في التليفزيون وعلى الهواء مباشرة..أثناء الحكي أراد ان يتناول حقة التمباك ...صاح فيه الطيب "عمي محمد بعدين بعدين ..نحن في التليفزيون"...رد ود الخبير:"يعني شنو في التليفزيون؟"...إزداد الطيب عصبية :"الناس اسع قاعدين يشوفونا"...رد ود الخبير :" ناسا من وين؟ ووين قاعدين؟"...علم الطيب أن المعركة خاسرة فاستخدم القوة لمنع الشيخ الثمانيني من استعمال الصعوط المتلفز ...كان الطيب يبتسم أمام الكاميرا ويده تضغط على جيب ود الخبير لمنعه من "السفة"...بعدها بعشرات السنين كنت أمازحه بقصة ود الخبير... ود الخبير كان دليل الطيب لأنداية الشايقية ..كان صاحب باع طويل في مجالسها..هو صاحب "التوسل الشهير"...التوسل هو إعلان مجلس الشرب في الإنداية عند جماعة ود الخبير ...يصف الطيب دور ود الخبير في كتاب الإنداية ويورد نصوص توسله :"يقوم ود الخبير بافتتاح الجلسة رسميا ويدخل سبابته اليسرى في أذنه ويشرع في التوسل: ياالبشير في السبلاب، يا ميرغني وعبد الوهاب، يا راجل الظليطاب، يا أبزرقا كوكاب، يا وداعة الله في الحسيناب،يا ضبيع في الكشوماب، يا محي الدين في القدوراب يا العند الله قراب......يا حامد أبو امونة أب سفة بي عطرونة يا البطب المجنونة "....ثم يتوسل بالنساء:" يا مريسيلا بت الأرباب يا الساكنة رأس الساب يا ليبة ونفرين ويا بنات باشا الاتنين...يا أمات زيرا في الأرض شبرين يا المابتقابضن في دين أمات نورا يبق من الجمعة للأتنين".

    كلمات في وداع الطيب:

    طيلة أكثر من عقدين من الزمان كان لقاء الطيب أحد دوافع التشوق الزائد لقضاء الصيف بالسودان ...خلال الأعوام الماضية فجعت في فقد أخوالي (مجازا وحقيقة) الفكي عبد الرحمن ومحمود دبلوك ومن ثم رحل محمد الأزهري وحليم شنان وتبعه الطيب ...هؤلاء كانوا جماعتي وأهل ودي وحبي ومكان احترامي وتقديري ..بينهم ومنهم ومعهم تعلمت ما لا توفره المؤسسات ولا الدولة...هذا الرهط من الرجال حباه المنان محبة الناس والقدرة على إشاعة الود والعاطفة ..يأسرونك بفيض من اللطف والبشاشة الآسرة المطمئنة...رحلوا تباعا ونعلم يقين الله أنهم من طبقة ونوعية قل ان يجود الزمان بمثلها...نحمد الله كثيرا ان هيأ لنا معرفتهم واخائهم ولله ما اعطى ولله ما اخذ.

    في فقد مثل الطيب أراجع سير من أعطوا الوطن والناس ..وانا أكد لأجد كلمات تليق بوداع أخي وأستاذي الطيب تقاطعت كلماتي مع ابيات مضيئة للراحل الكبير جيلي عبد الرحمن وهو يرثي المناضل الكبير والوطني العظيم حسن الطاهر زروق ....يقول جيلي:

    "زنابق مترعة الرائحة
    زهرة الليل تخجل لا تأتلق
    وأنت تغيب وراء الأفق
    أنيس
    تجادلني رحمة وحياء
    تطالعني فجأة
    تغادرني فجأة
    وكل الفصول وعمري النزق
    فداء الذي قد تناءى
    وصلى ثناء لأقطارها النائحة
    وأشعل فينا ضحى البارحة"

    كجيلي عبد الرحمن وحسن الطاهر زروق وأرتال من شرفاء أهل السودان رحل أخي وصديقي الطيب محمد الطيب ...رحل الطيب تزين جيده قلائد الإنجاز الوطني المتميز وكساوي الشرف الشعبي الموشاة بحب الناس،مطلق الناس...كغيره من مشاعل المعرفة والنور والخير والجمال غادرنا الطيب ...رحل ولا شهادة فيه تعلو على شهادة العبقري صلاح أحمد إبراهيم في أمثاله ممن أفاضوا على أهل السودان من ذاتهم وإبداعهم وفنهم ...أعمال الطيب كأعمال أمثاله من الطليعيين يستظهرها السودان وأهله في كلمات صلاح الراسخة الباقية في الناس ما بقي العطاء وما بقي الوفاء:

    هذه أعمالُنا مرقومةُ ُ بالنورِ على ظهرِ مطايا
    عبََرت دنيا لأخرى، تستبقْ
    نفذ الرمل على أعمارنا إلا بقايا
    تنتهي عُمراً فعُمرا
    فهي ند يحترق

    ما انحنتْ قاماتُنا من حِمْلِ أثقال الرزايا
    فلنا في حَالكِ الأهوالِ مَسْرى وطُرُق
    فإذا جاء الردى كََشّرََ وجهاً مُكْْفهراً
    عارضاً فينا بسيفِ دمويّ ودَرََق
    ومُصّرا
    بيدٍ تحصُدنا
    لم نُبدِ للموتِ ارتعاداً وفََرقْ
    ...
    نترك الدنيا ولنا ذِكرُ ُ وذكرى
    من فِعالٍ وخلُق
    ولنا إرثُ من الحكمة والحِلم وحُبِ الآخرين
    وولاءُ حين يكذبُ أهليه الأمين
    ولنا في خدمة الشعب عَرَق

    ( صلاح احمد إبراهيم :نحن والردى)
                  

08-19-2010, 06:45 AM

محمد عبد الرحيم جمعة
<aمحمد عبد الرحيم جمعة
تاريخ التسجيل: 12-18-2009
مجموع المشاركات: 815

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقدمة الأعمال الكاملة للطيب محمد الطيب ... بقلم: عبد الله علي إبراهيم (Re: munswor almophtah)

    الأستاذ/ منصور
    تحايا وسلام ورمضان مبارك عليكم وتصوموا وتفطروا على خير.
    لقد تصفحت على عجل طيب الكلم وصادق القول عن الطيب الطيب وبحول الله لي عودة متأنية.
    شكرى لك استاذى على ما أتيت به عن الأستاذ/ الطيب محمد الطيب.
                  

08-19-2010, 07:33 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقدمة الأعمال الكاملة للطيب محمد الطيب ... بقلم: عبد الله علي إبراهيم (Re: محمد عبد الرحيم جمعة)

    يا أيها المحمد عبد الرحيم جمعة السلام ورحمة الله عليك والأسره
    ورمضانكم مقبول ومباركه فيه الأعمال والأقوال والأفعال وربنا يعيده
    على الجميع بخيراته وأبتهالاته..الطيب محمد الطيب شارة وشامه فى
    جبين الثقافه السودانيه تستوقف أيا كان منا وتحت كل الظروف فعنده
    تفك الطلاسم ونشعر بقداسة التعويذات ونعرف معانى الأشياء وممارساتها
    ودلالاتها فالنفير وطقوسه وأهازيجه والحزن ووسائل التعبير عنه بدنقر
    أو قرع أو نقارة أو نحاس والفرح وطرائق التعبير عنه بعفويه والإندايه
    وطرائق حياتها لمن يعتادها ويرتاد دورها ثم الفقره والكرامات
    وخرق العوائد وما إلى ذلك سبيلا فيا عزيزى الطيب محمد الطيب هلامى
    المداخل فكلما غصت فى عمق من أعماقه تجدد لك عمق آخر وهكذا
    دواليك..الشكر لك على الإنفعال بجذبة المجذوب شيخنا الطيب محمد
    الطيب ولك السلام والدعاء................................







    منصور
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de